أرشيف المقالات

الشعر والأمل والحياة

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
الشاعر لا يستفيق من هموم الدنيا وأكدارها ومصائبها وأحزانها إلا إذا جلس إلى مكتبه وأمسك بيراعه، فطار به خياله بين الأزهار والأنوار، وتنقَّل به بين مسارح الأفلاك، ومسابح الأسماك، ووقف به تارةً على الطلول الدوارس يبكي أهلها النازحين وقُطَّانها المفارقين، وأخرى على القبور الدوائر يندب جسومها الباليات، وأعظمها النخرات، كما يقول المنفلوطي. والإنسان كائن عجيب، ومعقد التركيب، يقتله واقعه الذي يعيشه، وتنتابه السآمة إن ظل على حاله، وقد يهيأ الله له فسحة الأمل، ويعطيه ذائقة الأدب وكلاهما زاد يتزود به، وعون يعينه، حتى يسير في طريق الحياة إلى آخر المشوار. والشعر موهبة ليست لكل البشر، ولكن تذوقه والأنس به متاح للناس أجمعين، ولولا الشعر لأجدبت الحياة، وأصبح العيش فيها كدراً لا يطاق. الشعر يسري عن النفوس، ويغذي بذرة الحياة، ويقدح في قائله وسامعه زناد الحيوية والنشاط، ويجعله متفاعلاً مع محيطه، مشاركاً في بناء مجتمعه. وليس مهمة الشعر فقط تنقية وتنظيف التعبير اللغوي، والحفاظ على تراث الأمم، وإنما له دور كبير في تهذيب النفوس، وزرع التفاؤل فيها، ومحاربة اليأس والقنوط. قال أحد الفلاسفة : " الشعر هو الأفكار التي تتنفس، والكلمات التي تحترق". ولن يكون مجافيا للحقيقة من يقول: إن مهمة الشعر هي تعقيم واقعنا المتخثر بالكلمات، فالشعر يداوي الجراح التي يحدثها العقل كما يؤكد أحد الحكماء. أما الأمل فالناس فيه شركاء، ولا يمكن أن يوجَد بين قلوب البشر قلبٌ لا يخفق بالآمال، فالأمل هو الحياة الشعورية العامة التي يشترك في العيش بظلالها جميع الناس، أذكياء وأغبياء، فُهماء وبُلداء؛ والأمل هو السدُّ المنيع الذي يعترض سبيل اليأس، ويقف دونه أن يتسرَّب إلى القلوب، ولو تسرَّب إليها لزهد الناس العيش في هذه الحياة الحسية التي لا قيمة لها في أنظارهم، ولا لذَّة لها في نفوسهم، ولطلبوا الفرار منها إلى الموت تسليًا بالتغيُّر والانتقال، وتلذذًا بالتحول من حالٍ إلى حال. تقول الكاتبة القطرية د.
عائشة سلمان: "لو لم يكن هناك أملٌ في أن تشرق الشمس، وأن يأتي الصباح بتباشيره، وأن يغرّد الطير ويتنقل من مكان لآخر، لضاقت حياتنا...
الأمل كالشمعة التي تنير دربك، الأمل يجدّد تقبلنا للعيش والتفاعل والتكيف، فنبدأ من جديد، يحيي فينا روح التفاؤل والسعادة، يقوينا ويجعلنا نتحلّى بالصبر. إن الأمل نعمة من الله تُوجَد في النفس المطمئنة الراضية التي تعلم أنه لولا أملها وثقتها بالله قبل كل شيء لضاقت الدنيا بما وسعت، لا تجعل اليأس والضيق يكبلانك ويقيدان حركتك فتصبح محبطًا غير قادر على شيء...
إن الأمل يجدّد حياتك ويزيد مناعتك لحب الحياة، ونفسك ومن حولك، فكم من مريض، حارب مرضه بالأمل، وكم من حزين، استطاع أن يجتاز أحزانه بالأمل!.". لكن الناس في الأمل يتفاوتون إذ أن عقل العاقل يحول بينه وبين استمرار الطيران في فضاء الخيالات الذهنية، والمغالطات الشعرية، فيعود لما بين يديه من المحسوسات، ويمنعه علمه بأحوال الدنيا وشئونها ومعرفته أنَّ الهموم والأحزان لازمةٌ من لوازمها لا تنفك عنها أن يؤمل منها ما ليس في طبيعتها من دوام السعادة واستمرار السرور والهناء، فلا يطلب سَعة العيش من وراء الأمل كبقية المؤملين. قال الشاعر : إن للآمال في أنفسنا لذة تنـعـشُ منـها ما ذَبـل لذة يحلو بها الصبر على غَمَرات العيشِ والخَطب الجلل إذن الأمل باعث على الحياة ودافع لاستمرارها، ومن منا لم يسمع ببيت الطغرائي: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وقال الآخر: يُجَاهدُ المرءُ والآمالُ تدفعهُ وليس يظفرُ إِلا بالذي قُدِرا فكن جميلاً ترى الوجود جميلاً واستبشر بوعد لله لك، عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير، فكن دوماً شاكراً في سرائك، صابراً في ضرائك، ويومها لن تعدم حمداً وعاقبة حسنة. وما أحسن قول ابن الرومي : أَملي فيه ليأسي قاهرُ فلذا قلبي عليه صابرُ وهو المحسِن والمجمِل بي وأنا الراجي له والشاكر

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١