نعم المصلى (18) أنبياء وصحابة دفنوا في بيت المقدس
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س18/ مَن مِن الأنبياء والصحابة دفنوا في فلسطين؟
من خصائص ومميزات تلك الأرض الطيبة المباركة، أن عددا من الأنبياء والأصفياء ممن سكنها وعاش فيها قد دفن في ترابها، وقسم آخر ممن لم يتسن لهم العيش والسكن والمرور، أو ماتوا خارجها أوصوا بالدفن فيها، في إشارة لحرصهم واستحبابهم الدفن في الأرض المقدسة.
إبراهيم عليه السلام هاجر من العراق إلى مدينة حبرون في فلسطين والتي تسمى الآن الخليل، واستقر فيها وأسس مجتمعا موحدا قائما على أساس تحقيق العبودية لله عز وجل، وتوفيت سارة فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، واشترى مغارة في مزرعة ودفنها فيها.
ولما مات إبراهيم عليه السلام، تولى دفنه إسماعيل وإسحق في نفس المغارة التي اشتراها ودفن فيها امرأته سارة، وعندما مرض إسحق ومات عن عمر مائة وثمانين سنة، دفناه ابناه العيصو ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها إبراهيم.
ذكر أهل السير أن يعقوب عندما دخل مصر كان عمره مائة وثلاثين سنة، وأقام بمصر سبع عشرة سنة، ثم لحق بربه وسنُّه مائة وسبعة وأربعون عاماً، فاستأذن يوسف عليه السلام ملك مصر في الخروج مع أبيه يعقوب ليدفنه عند أهله بفلسطين، فأذن له، وتم دفن يعقوب عليه السلام ببلدة (حبرون) المسماة بالخليل اليوم، بجوار جده إبراهيم وأبيه إسحاق عليهما السلام.
يوسف عليه السلام من شدة تعلقه بالأرض المقدسة، ولم يتيسر له العيش فيها والتعبد بعد النبوة، أوصى علماء بني إسرائيل أن ينقلوا عظامه معهم عند انتقالهم إلى فلسطين، وكان يعلم بأنهم سيتركوا مصر، وحصلت بعد وفاته معجزة فهو كريم حيا وميتا عليه السلام.
لَمَّا سار موسى ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ ضلُّوا الطَّريقَ فقال: ما هذا؟ فقال علماؤُهم: إنَّ يوسفَ لمَّا حضَره الموتُ أخَذ علينا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ ألَّا نخرُجَ مِن مصرَ حتَّى ننقُلَ عِظامَه معنا، قال: فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه؟ قال: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ، فبعَث إليها فأتَتْه فقال: دُلِّيني على قبرِ يوسُفَ، قالت: حتَّى تُعْطيَني حُكْمي، قال: وما حُكْمُكِ؟ قالت: أكونُ معك في الجَنَّةِ، فكرِهَ أن يُعْطِيَها ذلك، فأوحى اللهُ إليه أن أعطِها حُكْمَها، فانطلَقَتْ بهم إلى بُحَيرةٍ مَوضعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالتِ: انضُبوا هذا الماءَ فأنضَبوه، قالتِ: احتفِروا واستخرِجوا عِظامَ يوسُفَ، فلمَّا أقَلُّوها إلى الأرضِ إذ الطَّريقُ مِثلُ ضوءِ النَّهارِ.[1]
المشهور أن يوسف عليه السلام دفن في مدينة نابلس في فلسطين، لكن لا يعلم مكان قبره وعينه تحديدا، ولا حتى بقية قبور الأنبياء، وكما يذكر أن نبي الله شعيب مدفون في حطين بطبرية.
بوب الإمام البخاري بابا بعنوان" باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها"، ثم ذكر حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: « أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ المَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ» "، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ».
وكما تعلمون أن موسى عليه السلام مات في فترة التيه، بعد خذلان قومه من دخول الأرض المقدسة، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ نَحْوِهَا بَقِيَّةُ مَا تُشَدُّ إِلَيْهِ الرِّحَالُ مِنَ الْحَرَمَيْنِ وَكَذَلِكَ مَا يُمْكِنُ مِنْ مَدَافِنِ الْأَنْبِيَاءِ وَقُبُورِ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ تَيَمُّنًا بِالْجِوَارِ وَتَعَرُّضًا لِلرَّحْمَةِ النَّازِلَةِ عَلَيْهِمُ اقْتِدَاءً بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.[2]
وهكذا لما لم يتسن لموسى عليه السلام دخول الأرض المقدسة وتحريرها من الوثنيين، سأل الله أن يدفن بأطرافها، ومن قارب الشيء فله حكمه.
وهذا فيه إشارة واضحة ودلالة كبيرة على مكانة تلك الأرض المقدسة في نفوس الأنبياء في حياتهم وبعد مماتهم، قال النووي: وَأَمَّا سُؤَالُهُ الْإِدْنَاءَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَةِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَدْفُونِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاءَ وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْسَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فَيَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ وَفِي هَذَا اسْتِحْبَابُ الدَّفْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَوَاطِنِ الْمُبَارَكَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ مَدَافِنِ الصَّالِحِينَ والله اعلم.[3]
داود عليه السلام الذي أسس مملكة عظيمة قائمة على التوحيد في بيت المقدس مات فيها ودفن فيها، وورثه سليمان عليه السلام الذي كان موته معجزة كبيرة، لأنه فضح ادعاء الجن علمهم بالغيب، {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[4].
من المهم هنا التنبيه على أن أعيان قبور الأنبياء لا تثبت ولا تعلم، إلا قبر نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن نفرق بين المكان والبقعة والمدينة التي دفن فيها وعين القبر نفسه، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
زكريا ويحيى عليهما السلام يشتهر أنهما قتلا وتذكر روايات في ذلك، إلا أنه لم يثبت هذا بدليل صحيح، لكن لا شك في وفاتهما في الأرض المقدسة وعلى الغالب دفنا فيها.
كان للصحابة عناية كبيرة في بيت المقدس، فشدوا الرحال إليها وسكنوها وتعبدوا بها، وتوفي ودفن عددا فيها منهم:
- عبادة بن الصامت، أول من ولي قضاء فلسطين سكن بيت المقدس ودفن فيها.
- شداد بن أوس سكن بيت المقدس، ومات بها في أيام معاوية، وقبره في مقبرة باب الرحمة بالقرب من سور " المسجد الأقصى ".
- سَلَامَةُ بْنُ قَيْصَرٍ الْحَضْرَمِيُّ، قيل له صحبة، وكان إمام المسلمين في الصلاة بعد الفتح والياً لمعاوية على بيت المقدس، ومات ببيت المقدس وقبره بها.
- فيروز الديلمي أو الحميري، من فُرس اليمن، سكن بيت المقدس، ويقال أنه مات بها وقبره بها.
- أبو أبيّ الأنصاري، وهو ممن صلى إلى القبلتين، سكن بيت المقدس، ويُعَد في الشاميين، وهو آخر من مات من الصحابة ببيت المقدس رضي الله عنهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] السلسلة الصحيحة برقم 313.
[2] فتح الباري (3/207).
[3] شرح النووي على مسلم (15/128).
[4] (سبأ:14).