الصداقة.. ما لها وما عليها
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الصداقة.. ما لها وما عليها
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)
الإنسانُ كائنٌ اجتماعي، ولا بدَّ له من صديق يؤنسُه في الشدائد والملمَّات..
يَعُوده إذا مرِض، ويسأل عنه إذا غاب، ويصحبُه في العسر واليسر والفقر والغنى..
لا بدَّ له من صديق يحقق له العهدَ والميثاق..
والمؤمنُ يألف ويؤلف، لا يعتزل الناس إلا إذا كان في مخالطتهم وقوعٌ في محرَّم.
جاء في الحديث القدسي: ((إنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي))[1].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يومَ لا ظل إلا ظله..." ومنهم: "رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))[2].
وقد بحث الناس عن صديقٍ هذه صفاتُه، فلم يجدوا إلا القليل.
يقول بعضهم:
إنْ غبتُ عنهم فشرُّ الناس يشتمني ♦♦♦ وإنْ مرضتُ فخيرُ الناس لم يَعُدِ
ويقول آخرُ:
تصفحتُ إخواني فكان أقلَّهم ♦♦♦ على كثرة الإخوان أهلُ ثقاتي
قد يصطفي الإنسانُ صديقًا يفضي له بظاهره وباطنه، ويبوح له بأسراره، وما أن يعلم منه ذلك حتى يتربص به.
من هنا كان على الإنسان أن يصادق مَن تمَّ يقينُهم، وأشرقت أرواحُهم، فهذه صفات لا يخشى منه سوءًا.
إنَّ الصداقةَ عنوانُ سلوك الإنسان، ومقياسُ شخصيته، تارةً تصلُ بالإنسان إلى ذروة الرفعة، وتارة تهبطُ به إلى أدنى الدركات.
وقد قيل: إذا أردت أن تعرف هِمَّةَ الإنسان ورجاحةَ عقله وبُعدَ نظره وسَعةَ أفقه؛ فانظر إلى مقارنيه:
اخترْ قرينَك واصطفيه تفاخرًا ♦♦♦ إنَّ القرين إلى المقارن يُنسَبُ
خلاصة المحامد:
إنَّ الصديق يتصف بخلاصة المحامد..
يأمر بالبِر ويدعو إليه..
يئدُ المساوئَ ويشجعُ الاعتدالَ..
الصديقُ الصادقُ رقيقٌ في عتابه وعقابه..
الصديق ينبغي أن يكون حكيمًا غيرَ فاسق ولا منافق ولا مبتدع.
ولله درُّ القائل[3]:
ولا تصحبْ أخا الجهلِ
وإيّاكَ وإيّاهُ
فكم من جاهلٍ أردى
حليمًا حين آخاهُ
يُقاسُ المرءُ بالمرء
إذا ما المرء ماشاهُ
وللشيء على الشيء
مقاييس وأشباهُ
وللقلب على القلبِ
دليل حين يلقاهُ
وقيل قديمًا: قُلْ لي مَنْ تصاحب، أقُلْ لك مَن أنت.
وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا مَن يكتمُ سرَّك، ويستر عيبَك، فيكون معك في النوائب، ويؤثرك بالرغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك.
إنَّ أخاكَ الحقَّ من كان معكْ
ومن يضرُّ نفسَه لينفعكْ
ومن إذا ريبُ زمان صَدَعَكْ
شتَّت فيك شملَه ليجمعكْ
وقال جعفر الصادق رحمه الله: لا تصحبِ الكذابَ؛ فإنَّك منه على غرور، وهو مثلُ السراب، يقرّب منك البعيد، ويبعد عنك القريب.
ولا تصحب الأحمقَ؛ فإنه يريدُ أن ينفعك فيضرك.
ولا تصحب البخيلَ؛ فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه.
ولا تصحب الجبانَ؛ فإنه يسلمك ويفر عند الشدة.
ولا تصحب الفاسقَ؛ فإنه يبيعك بأكلة أو أقل.
قيل: وما أقل؟ قال: الطمع بها ثم لا ينالها.
وقال لقمان الحكيم لولده: جالسِ العلماء، فإنَّ القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض بوابل المطر[4].
وصدق من قال:
لا خيرَ في ودِّ امرئٍ متلوّنٍ
حلوِ اللسانِ وقلبُه يتلهبُ
يلقاك يحلفُ أنه بك واثقٌ
وإذا توارى عنك فهو العقربُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً
ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
ومن آداب الصداقة:
أن يكون الصديق ذا خلُق كريم، قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
وفي الحديث: ((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم مَن يخالل))[5].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((المرء مع من أحب))[6].
وفي حديث آخر: ((لا تصاحب إلّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ))[7].
يقول ابن المسيب رحمه الله: عليك بإخوان الصدق؛ فإنهم زينة في الرخاء، وعُدَّة في البلاء.
واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في دينك الذين يخشون الله.
وقال أحد الصالحين: اصحب من إذا خدمته صانك، وإذا صحبته زانك، وإذا مددت يدك بخير مدّها، وإذا رأى منك حسنة عدَّها، وإذا رأى منك سيئة سدَّها..
اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن نزلت بك نازلة واساك[8].
وصدق الشاعر حيث قال:
عن المرء لا تسألْ وسَلْ عن قرينه ♦♦♦ فكلُّ قرين بالمقارن يقتدي
كما ينبغي أن يكون الصديق عدلًا من أهل الرجاحة، يستر معايب صديقه ولا يغلظ عليه بالقول ولا ييأس معه في الإصلاح.
كما يجب أن يتسم بالوفاء، فالكريم ينصح، واللئيم يفضح..
الكريم ينشر محاسن صديقه، ويرد عنه غيبته؛ ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12].
الصديق لا ينسى مودَّة صديقه، والحر مَن راعى وداد لحظة، ولم يكثر اللوم والعتاب.
يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا ♦♦♦ صديقَك، لم تلقَ الذي لا تعاتبُهْ
الصديق يلتمس لصديقه الأعذار، ولا يلجئه إلى الاعتذار، ويقبل منه إذا اعتذر..
الصديق يكرم صديقه، وينسى زلاته، ويصفح عن هفواته..
الصديق لا يظن بصديقه السوء؛ فالظن أكذب الحديث، وهو لا يغني من الحق شيئًا..
الصديق ينصح برفق ومودَّة، ويكون وفيًا متواضعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215].
وللصداقة أثر في كل مخلوق، ألا ترى كلبَ أهل الكهف عندما رافق الفتية المؤمنين تربّى بمصاحبتهم، فلم يهجم عليهم؛ بل كان بمنزلة الحارس الأمين، فذكره الله في خير كتاب أُنزل: ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ [الكهف: 18].
وبعد:
إنْ أُسِّست الصداقةُ على الحب في الله صلَحت وأثمرت في الدارين؛ لأنَّ الله عز وجل يمنح المتحابين فيه ظل رحمته وكريم منازله، أمَّا إذا كان حب الدنيا هو الأساس، فإنَّ أبناء الدنيا هم الخاسرون.
[1] رواه مسلم في صحيحه برقم 2566.
[2] البخاري 660، ومسلم 1031.
[3] ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ديوانه، دار كرم بدمشق ص 95.
[4] انظر: إحياء العلوم للغزالي 2/187.
[5] رواه الترمذي بسند حسن، صحيح الجامع 3545.
[6] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 6169.
[7] رواه الترمذي بإسناد لا بأس به، صحيح الجامع 7341.
[8] انظر: خلق المؤمن، د.
مصطفى مراد، دار الفجر 1426ه، القاهرة ص 384.