على هامش النقد
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
النماذج البشرية المهموسة!
للأستاذ سيد قطب
حينما يذكر هذا التعبير (نماذج بشرية) تتواكب على النفس، وتخطر في الخيال، عشرات أو مئات أو ألوف من السحن المتمايزة، والملامح المتغايرة. سحن الأجسام والطبائع، وملامح النفوس والجوارح، من هؤلاء البشر الذين نلتقي بهم في الحياة اليومية، أو نسمع عنهم في القصص والتاريخ، أو نستشرف إليهم في الأساطير والخيال وكل نموذج من هذه النماذج (أصيل) في بابه - حين ننظر إلى الحياة بعين فنان - وكلها جدير بأن (يسد خانته) ويؤدي دوره على المسرح الحافل الرحيب الذي تعرض فيه الحياة شتى النماذج وشتى الأدوار. فإذا أردنا أن نضيق من هذه النظرة، فننظر بعين الفرد الإنساني ورغباته وميوله وما يحب في هذه الحياة وما يكره من الطبائع والأشكال؛ فلنا حينئذ أن نحب نموذجاً ونؤثره على نموذج؛ ولكن ليس لنا أن نطلب من النماذج الأخرى جميعاً أن تستحيل إلى المثال الذي نحبه؛ لأن في هذا تضييقاً لمسرح الحياة! ولكن الأستاذ (مندور) كما يستهويه لون واحد من ألوان الأدب، لا يفرق بين الجيد والرديء من أمثلة، ما دام الجيد والرديء فيه ملونا بهذا اللون الخاص الأثير عنده المحبب لديه.
يستهويه كذلك لون واحد من ألوان النماذج البشرية، وهو (الشخصيات المهموسة) التي لا تجهر مرة واحدة في حياتها، والتي تنزوي دائماً وتتضاءل وتتفانى وتخنس، والتي يتوافر فيها الحنان أو الحنين في همس واستخفاء ولقد كتب في مجلة الثقافة بضع مقالات يستعرض فيها أعمالا في القصة والرواية لأدباء مصريين وأوربيين.
والقارئ لهذا الاستعراض لا يحتاج إلى كبير عناء ليعرف أن آثر شخصية من شخصيات القصص قد أنس إليها وأحبها، وأطنب في عرضها والتذ هذا الإطناب.
هي شخصية (فيليستيه) التي صورها الروائي الفرنسي الكبير (فلوبير) في قصة بعنوان: (قلب ساذج) تلك الشخصية التي يقول عنها هو: (في عنوان القصة، وفي اسم البطلة ما يشخص هذ الأنموذج المؤثر.
ولو أنك طلبت إلي أن أترجم هذا الاسم وكان ذلك من حقي لما وجت خيراً من (أم السعد) فإنا نحس في هذا اللفظ سذاجة القلب وطيبته. (فليستيه) خادمة من خدم الريف.
عقل محدود وقلب رحب.
وعن هذه المفارقة يشع نبل حياتها المتواضعة الحزينة.
مثلها كمثل كلب أمين لأن الأمانة من طبعه، يقاتل دون سيده، ولقد يمسه الأذى ويعود من المعركة لا يذكر إلا ما به من جراح يحيها ألمه.
) ولا علاقة لي هنا بقيمة هذه القصة من الناحية الفنية ولا بمقدار إجادة المؤلف في رسم هذه الشخصية.
وإنما يعنيني فقط إعجاب الأستاذ مندور بشخصية معينة إنها ليست مصادفة عارضة أن تكون شخصية (فيليستيه) أو (أم السعد) هي أحب شخصية من شخصيات القصص إلى الأستاذ مندور بما فيها من (سذاجة وطيبة) و (بحياتها المتواضعة الحزينة) وبما فيها من شبه بالكلب الجريح (تحيى آلامه جراحه).
وأن يكون آثر ألوان الأدب لديه هو (الشعر المهموس) والنماذج التي اختارها خاصة من هذا الشعر بما فيها من (نفس تئن) و (موسيقى حزينة).
وأن تكون دعوته إلى الأدباء، هي الهمس والتواضع والاختفاء.
وأن يكون المتنبي والعقاد بما فيهما من فحولة وضخامة وجهارة من الشخصيات التي لا تقع بينه وبينها ألفة في الأدب أو الحياة! إنما هي تلبيه لمزاج خاص يهفو إلى الحنان والحنين، ويستنيم إلى الهمس و (الوشوشة) والتهويم! ولم تكن كذلك ملاحظة عابرة تلك التي لاحظتها على (مزاجه) فاجتماع هذه المصادفة، إنما يوحي بدلالة خاصة واضحة! ولا أعيد هنا ما سبق لي تقريره من حاجة الذي يتصدى للنقد إلى أن يوسع آفاقه فينظر إلى ألوان الأدب والى نماذج الشخصيات وأنماط الطبائع من زوايا كثيرة مختلفة، لا من زاوية واحدة صغيرة فشخصية (فيليستية) بصفاتها تلك، قد تكون شخصية محبوبة تستدعي العطف والرثاء، ولكن الحياة ليست مطالبة أن تحيل الناس جميعاً (فيليستيهات)! لتعجب الأستاذ مندور فهناك شخصيات جهيرة جاهرة، وشخصيات عظيمة شاعرة بما فيها من عظمة، وشخصيات ضخمة جبارة، وشخصيات طاغية عاتية؛ بل هناك شخصيات مريدة شريرة، وشخصيات دعية داعرة.
وكلها جديرة بريشة الفنان.
وليس نموذج آخر في عرف الفن ولا في عرف الحياة.
ولم يقع أن التذ الأستاذ مندور نموذجاً آخر من هذه النماذج البشرية الكثيرة أو عني باستعراضه فيما كتب ولهذا دلالته بلا جدال! و (الأدب المهموس) قد يكون لوناً محبوباً من ألوان الأدب - مع وجوب التفرقة بين الصحيح منه والمريض - ولكن الحياة ليست مطالبة كذلك أن تحيل الفنون جميعها همساً، لأنها لا تستطيع أن تحيل الطبيعة كلها همسات خافتة أو حشرجات لاهثة لتعجب الأستاذ مندور، فالحياة أرحب من ذلك وأكبر وأعرف بقية الأنماط المختلفات! وتشاء المصادفات أن يكتب الأستاذ مندور في عدد الرسالة الماضي كلمة في الرد عليّ، فتنضح بدليل جديد على هذا المزاج الخاص حين يقول: (وأما عن النثر فما أظن القراء في حاجة إلى أن أدلهم على أن (رثاء أحد الشبان لأمه) الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن (بأمي) لأمين مشرق.
فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل.
وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون (بأُسرة) أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر (فستانها العتيق) و (يديها اللطيفتين) و (وقع قدميها حول سريره) و (غابة السنديان) وما إلى ذلك من فتات الحياة)؟ وأريد أن أتجاوز عن شئ من الالتواء في اختيار الأستاذ مندور لإحساس واحد من أحاسيس الشاب المصري في رثاء أمه ليس هو أبرز أحاسيسه تجاه الفاجعة، وحشده في مقابل هذا الإحساس الواحد خلاصة أحاسيس أمين مشرق كلها ليصل إلى غرض خاص في الموازنة! أريد أن أتجاوز عن هذا الالتواء في العرض، وأكتفي بأن أضع بإزائه تصرفي في عرض رأيه هو، وعودتي في المقال الثاني من مقالاتي إلى توضيح هذا الرأي كاملاً بفقرات ونصوص حين أحسست أنني في مقالي الأول لم أعرضه العرض الكافي لتحقيق الأمانة الأدبية! أتجاوز عن هذا لأتحدث في لب الموضوع فأثبت أولاً للقراء ذلك النص الذي يعنيه من رثاء الشاب المصري لأمه: (من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا، ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟ إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان، بل أصبحوا يقولون: هذا فلان، وهذا أخوه، وهاتان أختاه!) هذا هو الإحساس الذي لا يعجب الأستاذ مندور: شعور الأبناء - بعد أمهم - بأنهم فقدوا عنوانهم في الحياة أمام أنفسهم وأمام الناس، وأنهم لم يعودوا يعرفون من هم، بل لا يعرفون ما هم! وفي هذا الرثاء أحاسيس أخرى صادقة عميقة.
تجاوزها ولم يشر إليها؛ ففيه الإحساس بالتناثر، والإحساس باليتيم، والإحساس بالغربة في الحياة كلها.
وفيه الأسى على صور الأمومة الحية النابضة حين يقول: (من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب.
ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود) وحين يقول: (عندي لك أنباء كثيرة.
كثيرة جداً ومتزاحمة.
تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك، وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة: أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدثك بما جد لنا في غيبتك من أحداث، وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها.
وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة يا أماه إلا حين أقصها على سمعك.
ولكن هيهات فسيدركها الفناء.
وستغدوا إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى) هذه الأحاسيس، وهذه الصور لا تعجب الأستاذ مندور: (ولا إيقاع فيها ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في الاختيار للتفاصيل) ولا تدل بحال من الأحوال ذكر (الفسطان العتيق) ولا (اليدين اللطيفتين) ولا (وقع القدمين حول السرير) ولا (غابة السنديان) لماذا؟ لأن في القطعة الأولى معاني كبيرة وأحاسيس عميقة، وليس فيها (فتات).
ولهذا دلالته القوية فيما نحن بصدده.
فهنا مزاج موكل بالأحاسيس الصغيرة الهامسة والمظاهر التافهة الساذجة، لا يستقل حسه بإحساس ضخم، ولا بصورة مركبة، ولا يطيق أن يرى في الحياة إلا الأطياف الباهتة، ولا أن يسمع في الطبيعة إلا الهمسات الخافتة.
وتلك الجزيئات المفردة تستلفت نظر المرأة بشدة في الحياة، ونظر ذوي الأمزجة الخاصة كذلك والأستاذ مندور كرجل ذي مزاج خاص مطلق الحرية في أن يختار ما يطيق حمله وما يستطيع أن يقله، ولكنه لا يصلح حكما يشرع للآخرين من أقوياء البنية القادرين على حمل ما يؤوده حمله، وعلى إدراك ما يقصر عنه حسه! أما ما قاله عن الأستاذ محمود حسين إسماعيل فليس اليوم مجال الحديث فيه؛ وحتى التسليم به لا يؤثر في الحكم على الشعر المصري كله سيد قطب