إلى متى الغفلة؟


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعــد:

حياكم الله في هذا المجلس، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً.

أيها الإخوة الكرام: هذه موعظة لنفسي قبل أن أعظكم، والإنسان منا -نسأل الله العافية- يغفل، وتصيبه بعض الأحيان الغفلة، ولعله ما ينتبه منها إلا بعد أن يفوت وقت الندم، ومن الناس من يعيش في غفلة ما ينتبه منها إلا ساعة الوفاة: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق:22] فيعيش في الدنيا -نسأل الله العافية- بين الأكل والشرب والنكاح والمأكل والملبس، أهم شيء عنده في الحياة أن يؤثث البيت أضخم أثاث، هذه غايته، أمنيته أن يتزوج الواحدة والاثنتين والثلاث، فلا هم أعلى من هذا، همه في الدنيا أن يلبس أحسن الملابس، ويعتلي أعلى المناصب، ويجمع الأموال يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3].. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

الموت يأتي ويقطع الآمال

من الناس من ينتبه في ساعة الوفاة، كان يجلس مع أهله كل ليلة يسامرهم، ويضاحكهم، ويلاعب أولاده، وعدهم بالسفر في الصيف، وعد البنت الصغيرة بلعبة، أما الزوجة فوعدها بالذهب والفضة، والملابس الوفيرة، أحلام وأوهام يعيشها ويعيِّش أولاده بها، نام وقال لزوجته: أيقظيني الساعة السابعة للعمل، أين صلاة الفجر؟ ليست بحسبانه، وليست في باله، أيقظيني للعمل، نام في تلك الليلة، والمسكين كان على موعدٍ لا يعلم عنه شيئاً، انتبه وفزع! رأى شيئاً بجنبه قال: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت. ما الذي جاء بك؟! قال: جئت أنتزع الروح.. انتظر قليلاً.. لم يريد الانتظار؟ أتعرف يا أخي الكريم؟ عنده أمانات ما أرجعها لأهلها، عنده ذنوب ومعاص إلى الآن ما تاب منها، انتظر قليلاً: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] صاح فإذا أهل البيت يجتمعون، فزعت الزوجة وقامت -وهذه القصة واحدة من قصص كثيرة تحصل للناس- فزعت الزوجة: ما الذي بك؟ ما الذي جرى؟ -لا يستطيع أن يجيبها، هو الآن في همٍ آخر، هو الآن في علمٍ آخر، هو الآن في حياة أخرى، يا أخي الكريم! ما تدري أنت بها؟- وإذا بالأولاد يجتمعون عنده، وإذا بالأب وبالأم يأتون، ينظر إليهم ولكن -للأسف- لا يستطيع أن يجيب أحداً منهم كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ القيامة:26-28] تخيل هذا المنظر.. البنت على صدره تبكي، تقول: يا أبي! ألم تعدني تلك الليلة بهذه اللعبة؟ لمَ لا تجيب؟ الابن يقول: يا أبي! وعدتنا بالسفر، لمَ الآن لا تجيب يا أبي؟ تقول له الزوج: يا فلان! لمن تتركنا؟ أما الأم فإنها تبكي وتقول: يا بني! غادرتنا صغيراً، أما الأب فقد جاء بالطبيب، والحالة عنده بكاء وفزع وعويلٌ ولعلها نياحة: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] تقول: لمَ هذه السكتة؟ أقول لك: لعلها العبرة قد خنقت القارئ، ولعلها فترة فكر ونظر في هذا المشهد العظيم وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:27-28] علم أنه يفارق، يفارق ماذا؟ هل يفارق مصحفاً كان يقرؤه؟ لا. هل يفارق صلوات في آخر الليل؟ لا. إلا من رحم الله، هل يفارق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله؟ لا. إلا من رحم الله.

تعرف ماذا يفارق؟ يفارق سيارة جديدة، يفارق أثاثاً وفيراً، يفارق -يا أخي الكريم- زوجة لم يتمتع بها، يفارق ذلك البيت الذي بناه وأثثه ولكن لم يسكنه إلى اليوم وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:28-29].

رجل كان يعيش في حلم لم ينتبه منه، كان يقود سيارته مسرعاً -كحال أكثر الشباب هذا الزمن- والموسيقى قد ارتفعت، والأغاني قد تولع بها، ويعيش في عالمٍ آخر يفكر في عشيقة أو حبيبة، أو في أغنية، أو همٍ يحرق قلبه، وفجأة انقلبت به السيارة، وجاءه ذلك الشرطي، وسحب جثته، فعلم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، أتعرف ماذا قال؟ قال: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر، ثم فارق الدنيا وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:27-29] -تقول لي: لِمَ دخل سقر؟- مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43] ما كان يصلي، ولا يذكر الله جلَّ وعلا، وما كان يعكف على قراءة القرآن.

الآن وقد قربنا من شهرٍ كريم -أيها الأخ الكريم- أسألك بالله: متى ختمت القرآن آخر مرة؟ لو دخل بيننا ملك الموت ونزع هذه الروح، هل أنت الآن مستعد؟ هل صليت خمس صلوات اليوم في جماعة بخشوعٍ وخضوع؟ هل أنت اليوم لم ترتكب محرماً إلا وتبت منه، عندك ذنوب سابقة، هل تبت منها؟ هل تخلصت منها؟ مظالم بينك وبين البشر، هل تحللت منهم؟ هل أنت الآن مستعد؟ أم أنك سوف تقول إذا جاءك الملك: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لماذا؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:100] أعمل صالحاً، يا رب! أرجعني فقط وأنا والله ما أرفع رأسي عن السجود، الآن عرف الحقيقة، الآن انتبه من النوم، الآن تيقظ من تلك الغفلة، ولكن لا ينفعه رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] يرجع حتى يقبل بناته؟ أو حتى يسلم على أمه أو يودع أباه، أو يوزع أمواله؟ لا. أتظن أنه يرجع حتى يبني البيت أو يسكنه؟ لا والله. بل يرجع لقضية واحدة لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100].

الآن كن أنت هذا الرجل، أسألك بالله منذ رمضان الماضي إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ كم مرة قرأته قراءة تدبر؟ فالقضية ليست قراءة، بل القضية تدبر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

من الناس من ينتبه في ساعة الوفاة، كان يجلس مع أهله كل ليلة يسامرهم، ويضاحكهم، ويلاعب أولاده، وعدهم بالسفر في الصيف، وعد البنت الصغيرة بلعبة، أما الزوجة فوعدها بالذهب والفضة، والملابس الوفيرة، أحلام وأوهام يعيشها ويعيِّش أولاده بها، نام وقال لزوجته: أيقظيني الساعة السابعة للعمل، أين صلاة الفجر؟ ليست بحسبانه، وليست في باله، أيقظيني للعمل، نام في تلك الليلة، والمسكين كان على موعدٍ لا يعلم عنه شيئاً، انتبه وفزع! رأى شيئاً بجنبه قال: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت. ما الذي جاء بك؟! قال: جئت أنتزع الروح.. انتظر قليلاً.. لم يريد الانتظار؟ أتعرف يا أخي الكريم؟ عنده أمانات ما أرجعها لأهلها، عنده ذنوب ومعاص إلى الآن ما تاب منها، انتظر قليلاً: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] صاح فإذا أهل البيت يجتمعون، فزعت الزوجة وقامت -وهذه القصة واحدة من قصص كثيرة تحصل للناس- فزعت الزوجة: ما الذي بك؟ ما الذي جرى؟ -لا يستطيع أن يجيبها، هو الآن في همٍ آخر، هو الآن في علمٍ آخر، هو الآن في حياة أخرى، يا أخي الكريم! ما تدري أنت بها؟- وإذا بالأولاد يجتمعون عنده، وإذا بالأب وبالأم يأتون، ينظر إليهم ولكن -للأسف- لا يستطيع أن يجيب أحداً منهم كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ القيامة:26-28] تخيل هذا المنظر.. البنت على صدره تبكي، تقول: يا أبي! ألم تعدني تلك الليلة بهذه اللعبة؟ لمَ لا تجيب؟ الابن يقول: يا أبي! وعدتنا بالسفر، لمَ الآن لا تجيب يا أبي؟ تقول له الزوج: يا فلان! لمن تتركنا؟ أما الأم فإنها تبكي وتقول: يا بني! غادرتنا صغيراً، أما الأب فقد جاء بالطبيب، والحالة عنده بكاء وفزع وعويلٌ ولعلها نياحة: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] تقول: لمَ هذه السكتة؟ أقول لك: لعلها العبرة قد خنقت القارئ، ولعلها فترة فكر ونظر في هذا المشهد العظيم وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:27-28] علم أنه يفارق، يفارق ماذا؟ هل يفارق مصحفاً كان يقرؤه؟ لا. هل يفارق صلوات في آخر الليل؟ لا. إلا من رحم الله، هل يفارق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله؟ لا. إلا من رحم الله.

تعرف ماذا يفارق؟ يفارق سيارة جديدة، يفارق أثاثاً وفيراً، يفارق -يا أخي الكريم- زوجة لم يتمتع بها، يفارق ذلك البيت الذي بناه وأثثه ولكن لم يسكنه إلى اليوم وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:28-29].

رجل كان يعيش في حلم لم ينتبه منه، كان يقود سيارته مسرعاً -كحال أكثر الشباب هذا الزمن- والموسيقى قد ارتفعت، والأغاني قد تولع بها، ويعيش في عالمٍ آخر يفكر في عشيقة أو حبيبة، أو في أغنية، أو همٍ يحرق قلبه، وفجأة انقلبت به السيارة، وجاءه ذلك الشرطي، وسحب جثته، فعلم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، أتعرف ماذا قال؟ قال: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر، ثم فارق الدنيا وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:27-29] -تقول لي: لِمَ دخل سقر؟- مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43] ما كان يصلي، ولا يذكر الله جلَّ وعلا، وما كان يعكف على قراءة القرآن.

الآن وقد قربنا من شهرٍ كريم -أيها الأخ الكريم- أسألك بالله: متى ختمت القرآن آخر مرة؟ لو دخل بيننا ملك الموت ونزع هذه الروح، هل أنت الآن مستعد؟ هل صليت خمس صلوات اليوم في جماعة بخشوعٍ وخضوع؟ هل أنت اليوم لم ترتكب محرماً إلا وتبت منه، عندك ذنوب سابقة، هل تبت منها؟ هل تخلصت منها؟ مظالم بينك وبين البشر، هل تحللت منهم؟ هل أنت الآن مستعد؟ أم أنك سوف تقول إذا جاءك الملك: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لماذا؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:100] أعمل صالحاً، يا رب! أرجعني فقط وأنا والله ما أرفع رأسي عن السجود، الآن عرف الحقيقة، الآن انتبه من النوم، الآن تيقظ من تلك الغفلة، ولكن لا ينفعه رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] يرجع حتى يقبل بناته؟ أو حتى يسلم على أمه أو يودع أباه، أو يوزع أمواله؟ لا. أتظن أنه يرجع حتى يبني البيت أو يسكنه؟ لا والله. بل يرجع لقضية واحدة لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100].

الآن كن أنت هذا الرجل، أسألك بالله منذ رمضان الماضي إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ كم مرة قرأته قراءة تدبر؟ فالقضية ليست قراءة، بل القضية تدبر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

الله عز وجل أنعم عليك بالنعم، فهل أديت شكرها؟ كم من الناس من هو عقيم لا يلد له، يتمنى أن يسمع كلمة (أبي) فتجده يتمناها، ويحترق قلبه عندما يرى أولاد المسلمين وهو ليس له ولد، أعطاك الله الولد، وأعطاك الذرية، وكبرت الذرية فهل شكرت الله فيها؟ هل حجبت البنات؟ اتق الله فإنهن سوف يتعلقن برقبتك عند الله جل وعلا يوم القيامة. من أتى لهم بالتلفاز، أليس هو أنت؟ من أدخل للبيت تلك الملاحق القذرة، أليس هو أنت؟ سوف تأتي يوم القيامة وتُسأل عن هذا وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12] هل الآن أبصرت؟! الآن لا ينفعك البصر، هل الآن سمعت؟ أين أنت في الدنيا فهي وقت العمل؟ الآن لا ينفعك شيء في يوم الحسرة ويوم التغابن.

يا أخي الكريم: كن مستعداً وصادقاً مع نفسك، لا تقل مثلما قال فلان: في العمر متسع، وإذا جاء رمضان إن شاء الله أو وقت الحج أتوب، أو لما يحصل كذا وكذا سوف أصلح، هل تضمن أن تدرك ذلك اليوم؟

أبو العتاهية وهارون الرشيد

دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد وقد مدح الناس قصره، فقال له: ماذا تقول أنت يا أبا العتاهية؟

قال أنا أقول:

عش ما بدا لك سالماً     في ظل شاهقة القصور

قال الملك: هه، يعني زد، ما أعظم هذا الشعر!!

يجري عليك بما أردت      من الغدو من البكور

ففرح الملك فقال:

فإذا النفوس تغرغرت      بزفير حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً      ما كنت إلا في غرور

فبكى الملك حتى سقط على الأرض من البكاء، ثم لما أفاق قال للجنود وللحرس: اهتكوا الستر، وأغلقوا الأبواب فإني راجعٌ إلى بيتي القديم.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [آل عمران:185] مصيبتنا -والله- في الدنيا، حتى بعض الصالحين مصيبته في الدنيا، حتى بعض من يتظاهر بالالتزام مصيبته في الدنيا، كبَّر وما زال قلبه في البيت، سجد ومازال يفكر في الدوام، يقرأ القرآن وهو يتذكر زوجته وأشغال البيت، إنا لله وإنا إليه راجعون، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

عمر بن عبد العزيز أمام القبور

الخليفة عمر بن عبد العزيز هل سمعتم به؟ إنه أمير المؤمنين، هذا الرجل صار أميراً للمؤمنين، أتعرف ماذا فعل؟ كان يأتيه أحد الولاة، فيدخل في بيت -أو كوخ أمير المؤمنين أمير المؤمنين يسكن كوخاً!- فيسأله أمير المؤمنين عن أحوال الرعية وعن شئون المسلمين -لا يغيب عن المسلمين- فلما انتهى قال الوالي: أما الآن فإني سائلك يا أمير المؤمنين عن أهلك وولدك، قال: انتظر، وكان في الغرفة سراج، فأطفأ السراج وأظلمت الغرفة فقال الوالي: لم فعلت هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا السراج من أموال المسلمين أشعلته لأسأل عن أحوالهم، أما أن تسألني عن أهل بيتي وأولادي فلا يحق لي أن أشعل هذا السراج، إنه من أموال المسلمين. كان لا يملك إلا ثوباً واحداً، إذا غسلته زوجته فاطمة يجلس في البيت لا يخرج حتى يجف اللباس ثم يخرج إلى الناس ويلبسه.

هذا الرجل في يوم من الأيام صلى بالناس العيد إماماً، وبعد الصلاة مرَّ على مقبرة فنزل عن بغلته -هذا موكبه- وعنده بعض أصحابه، فقال لمن عنده: انتظروا، فذهب إلى المقبرة وأخذ ينظر إلى القبور أسألك -أخي الكريم! وأطلب منك طلباً: اذهب للمقبرة في غير يوم جنازة، لا تقل: أذهب لجنازة قريب أو صاحب، لا. اذهب يوماً من الأيام لوحدك هكذا، وانظر إلى القبور، وكلمها، هل يجيبك أحد؟ سلها هل يرد عليك أحد؟- قال عمر وهو ينظر إلى المقابر: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ أيها الموت -يكلمهم- ماذا صنعت بهم؟ فلم يجبه أحد، ثم خرَّ على ركبتيه وهو يبكي ويردد شعراً فيقول:

أتيت القبور فناديتها     أين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبرٌ     وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناسٍ مضوا      أما لك فيما مضى معتبر

فإذا به يبكي بكاءً مراً حتى اجتمع الناس حوله، حتى هدأ رحمه الله.

إنها القبور، إنه منزلك يا أخي الكريم! مر عليه يوماً من الأيام وتفحصه، هل تحمل معك أثاثاً؟ أو يدخل معك فيه أحد؟ بعد أيام ولعله بعد لحظات سوف تسكنه وأنت لا تدري، غفلة وأي غفلة!

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] القضية أكبر من هذا، لو كان موتاً لكان هيناً، يقول الشاعر:

فلو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت راحة كل حيٍ

ولكنا إذا متنا بعثنا     ونسأل بعدها عن كل شيء

عثمان يبكي إذا رأى القبور

القضية أكبر من الموت يا أخي الكريم! القضية هي ما بعد الموت.

عثمان بن عفان رضي الله عنه ثالث الخلفاء، إذا وقف على المقبرة بكى، يروى أنه كان يختم القرآن كله في ليلة، وقد أنزل الله فيه آيات هي: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] هذا هو العلم الحقيقي، العلم الذي يوصلك إلى خشية الله ومخافته، عثمان قتل وبيده مصحف، قال له الصحابة: نقاتل عنك؟ قال: دعوهم، فدى الأمة بدمه، قال: دعوهم واتركوهم. خوارج كفَّروا عثمان، كفروا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، اقتحموا عليه الباب -انظر إلى الوقاحة- ودخلوا وهو يقرأ القرآن، وزوجته عنده فطعنوه تسع طعنات، طعنه الشقي وقال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر، وكذب والله، فالتسع كلها ليست لله عز وجل، ألله قتل عثمان؟ أعوذ بالله! لما قتل سال الدم على المصحف، فبكت زوجته على أمرٍ واحد، قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].

دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد وقد مدح الناس قصره، فقال له: ماذا تقول أنت يا أبا العتاهية؟

قال أنا أقول:

عش ما بدا لك سالماً     في ظل شاهقة القصور

قال الملك: هه، يعني زد، ما أعظم هذا الشعر!!

يجري عليك بما أردت      من الغدو من البكور

ففرح الملك فقال:

فإذا النفوس تغرغرت      بزفير حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً      ما كنت إلا في غرور

فبكى الملك حتى سقط على الأرض من البكاء، ثم لما أفاق قال للجنود وللحرس: اهتكوا الستر، وأغلقوا الأبواب فإني راجعٌ إلى بيتي القديم.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [آل عمران:185] مصيبتنا -والله- في الدنيا، حتى بعض الصالحين مصيبته في الدنيا، حتى بعض من يتظاهر بالالتزام مصيبته في الدنيا، كبَّر وما زال قلبه في البيت، سجد ومازال يفكر في الدوام، يقرأ القرآن وهو يتذكر زوجته وأشغال البيت، إنا لله وإنا إليه راجعون، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

الخليفة عمر بن عبد العزيز هل سمعتم به؟ إنه أمير المؤمنين، هذا الرجل صار أميراً للمؤمنين، أتعرف ماذا فعل؟ كان يأتيه أحد الولاة، فيدخل في بيت -أو كوخ أمير المؤمنين أمير المؤمنين يسكن كوخاً!- فيسأله أمير المؤمنين عن أحوال الرعية وعن شئون المسلمين -لا يغيب عن المسلمين- فلما انتهى قال الوالي: أما الآن فإني سائلك يا أمير المؤمنين عن أهلك وولدك، قال: انتظر، وكان في الغرفة سراج، فأطفأ السراج وأظلمت الغرفة فقال الوالي: لم فعلت هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا السراج من أموال المسلمين أشعلته لأسأل عن أحوالهم، أما أن تسألني عن أهل بيتي وأولادي فلا يحق لي أن أشعل هذا السراج، إنه من أموال المسلمين. كان لا يملك إلا ثوباً واحداً، إذا غسلته زوجته فاطمة يجلس في البيت لا يخرج حتى يجف اللباس ثم يخرج إلى الناس ويلبسه.

هذا الرجل في يوم من الأيام صلى بالناس العيد إماماً، وبعد الصلاة مرَّ على مقبرة فنزل عن بغلته -هذا موكبه- وعنده بعض أصحابه، فقال لمن عنده: انتظروا، فذهب إلى المقبرة وأخذ ينظر إلى القبور أسألك -أخي الكريم! وأطلب منك طلباً: اذهب للمقبرة في غير يوم جنازة، لا تقل: أذهب لجنازة قريب أو صاحب، لا. اذهب يوماً من الأيام لوحدك هكذا، وانظر إلى القبور، وكلمها، هل يجيبك أحد؟ سلها هل يرد عليك أحد؟- قال عمر وهو ينظر إلى المقابر: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ أيها الموت -يكلمهم- ماذا صنعت بهم؟ فلم يجبه أحد، ثم خرَّ على ركبتيه وهو يبكي ويردد شعراً فيقول:

أتيت القبور فناديتها     أين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبرٌ     وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناسٍ مضوا      أما لك فيما مضى معتبر

فإذا به يبكي بكاءً مراً حتى اجتمع الناس حوله، حتى هدأ رحمه الله.

إنها القبور، إنه منزلك يا أخي الكريم! مر عليه يوماً من الأيام وتفحصه، هل تحمل معك أثاثاً؟ أو يدخل معك فيه أحد؟ بعد أيام ولعله بعد لحظات سوف تسكنه وأنت لا تدري، غفلة وأي غفلة!

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] القضية أكبر من هذا، لو كان موتاً لكان هيناً، يقول الشاعر:

فلو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت راحة كل حيٍ

ولكنا إذا متنا بعثنا     ونسأل بعدها عن كل شيء