الخروج ... صورٌ وتاريخ


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

معاشر المؤمنين! جرى الحديث من فوق هذا المنبر في جمعٍ ماضية عن منهج أهل السنة في الإصلاح، ومنهج أهل السنة في معالجة الأوضاع وإنكار المنكرات والمحافظة على بيضة الأمة، والعناية بالمجتمع حتى لا تزل قدمٌ بعد ثبوتها، أو يخطئ أحدٌ بقصد الإصلاح، فيكون كمن رام نفعاً فضر من غير قصدٍ، ومن البر ما يكون عقوقاً، وأول مواضيع هذا المنهج ما سبق الحديث حوله في خطبة كان عنوانها (الجور بالقول) ثم لحقه خطبتان الأولى بعنوان: (عندما يختل الأمن) والثانية: (دور الحاكم والمحكوم في الأمن) وهذه الخطبة الأخيرة في هذا الموضوع.

أيها الأحبة! تعلمون أن منهج أهل السنة والجماعة قائمٌ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قائمٌ على الغيرة لله ورسوله، والنصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم قائمٌ على تقدير المصالح، فربما ارتكبت أدنى المفاسد لدفع أعلاها، وربما فوتت أدنى المصالح لتحقيق ما هو أعظم منها، والحديث اليوم عن صورٍ من التاريخ، اجتهد فيها المجتهدون، وكان بعضهم لا شك مريداً وجه الله والدار الآخرة، لأجل الإصلاح وإنكار المنكر، وقطع الشر ودابره، ولكن يبقى منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الذي ينبغي لزومه في كل منشطٍ ومكره، وفي كل عسرٍ ويسر، وفي كل صغيرٍ وكبير إذ أن الخروج عن المنهج مهما كان صلاح الخارجين عنه، ومهما كان قصدهم وتأويلهم في ذلك، سواء علموا أنهم في خروج عن المنهج أم لم يعلموا، سواءً اجتهدوا فأصابوا أو أخطئوا، المهم أن ندرك أن الالتزام بهذا المنهج يحفظ للأمة مصالح عديدة، وإن الإخلال بتطبيقه أو بمفرداته ربما أدى وأفضى بالأمة إلى هلاكٍ وعاقبة لا تحمد، أيها الأحبة، على مر عصور التاريخ بعد انقضاء زمن النبوة على نبينا أفضل الصلاة والسلام، ثم تبعه بعد ذلك منهج الخلافة الراشدة، تولى خلافة الأمة بعد رسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، وقتل إمام المسلمين شهيداً في المحراب، بفتنةٍ سبأية يهودية، ثم تلا الأمر وتولاه بعد ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على فتنة تصيبه، ثم تولى الأمر بعد ذلك علي بن أبي طالب ، وكان شهيداً من شهداء أهل الجنة، ثم تعاقبت بعد ذلك على أمم المسلمين خلافاتٌ وقياداتٌ وإماراتٌ متعددة، كان فيها من الفتن بين المسلمين أنفسهم، كان فيها من القتال بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي ما حمدت عاقبته بكلام أئمة السلف وليس بكلام المتأخرين في هذا العصر.

السبب في خروج بعض الطوائف

أيها الأحبة! قد يقول قائلٌ وما السبب في خروج تلك الطوائف في العصور الغابرة على قياداتها، وعلى إماراتها، وعلى الولاة في زمنها؟

أيها الأحبة! الجواب في ذلك جليٌ واضح، فالذين أحسنوا المقاصد، وصلحت نواياهم كانت ذكريات الخلافة الراشدة بما فيها من العدل والأمن والطمأنينة وشوكة الدين وغلبة المعروف ماثلةً بين أعين كثيرٍ من المسلمين، كانوا يتمنون أن تعود الأمور كما كانت عليه، وليس هذا بأماني من أراد، فقد ورد في كل عامٍ ترذلون وتنقصون ولا تزيدون.

إن الحنين دائماً إلى النماذج الراشدة، مستمرٌ، إن الحنين دائماً مستمرٌ إلى صور الأمن الذي لا يكدره فزع، والعدل الذي لا يشوبه ظلم، والعطاء الذي لا تقطعه منّة، ولكن سنة الله في العباد وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119].

أيها الأحبة! حينما اختل المنهج الشرعي أصيب المسلمون بخيبة أملٍ كبيرة وبمرارة ومعاناةٍ شديدة، حينما بلغ الأمر إلى إماراتٍ ربما أنكر المسلمون منها أموراً كثيرة.

فعلى سبيل المثال: في زمن الدولة الأموية لما حلت الخلافة ونزلت إلى بلاط يزيد بن معاوية ، حل في قلوب الناس ما حل، ومن الذين خرجوا ولم يرضوا بواقعهم، ولم يرضوا بإماراتهم ومجتمعاتهم، أقوامٌ رأوا ظلماً أو نوعاً منه أو أنواعا، فقصدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتهدوا في إصلاح ما فسد لا يريدون إلا الخير والإصلاح، ولكن كانت العاقبة وخيمة سيئة عليهم وعلى مجتمعاتهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بـالحرة وبـدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، فالخروج على الولاة كان منذ زمنٍ قديم إما من أقوامٍ رأوا ظلماً وعدواناً أو منكراً فأرادوا تغييره، أو أقوامٍ يرون أن لهم في الخلافة حظاً ونصيباً فيريدون أن يعود الأمر إليهم، وبالجملة فالخارجون على الولاة إما خوارج أو محاربون أو البغاة، وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلباً للملك والإمامة بتأويلٍ سائغٍ أو غير سائغ، فيسمون بغاة. حتى وإن خرجوا بتأويلٍ سائغ يسمون بغاة، وإن خرجوا بتأويلٍ غير سائغٍ فيسمون بغاة، ومن الذين خرجوا أقوامٌ أهل عدلٍ خرجوا على أئمة جور، كما قال الحافظ ابن حجر : قسمٌ خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، ومن أجل ترك عملهم بالسنة فهؤلاء أهل حقٍ، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة بـالحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وإن التاريخ لناطقٌ شاهدٌ بما حل بهؤلاء رضي الله عنهم وجمعنا بهم في الجنة.

سبب طرق هذا الموضوع

أيها الأحبة! خذوا أول الأمثلة على مساوئ الخروج وما حصل للأمة فيه، وقبل أن أسوق ذلك، أريد أن أنتزع وسوسة شيطانية ربما جالت في ذهن بعض السامعين الآن أو بعد آن ليقول قائلٌ: وهل رأى هذا الخطيب أقواماً يعدون لخروج، أو سمع بهم أو رصدهم؟! أقول ولله الحمد والمنّة ما عرفنا في هذه الجزيرة أقواماً أعدوا للخروج أو دعوا إليه أو خططوا له، وإنما القصد بيان منهج أهل السنة في سلسلة مضى أولها واليوم ختامها، وليس الحديث عن أي شيء بالضرورة يعني أنه خلف الكواليس يخطط أو يدبر له، بل ومن الضرورة أن نتحدث عن مثل هذا وأن نحذر منه، لأن الأمر كما ورد في خطبٍ ماضية أنه ربما نقل بعض الشباب مناهج مستوردة لبلدان ربما صلح لأوضاعها ما فعل فيها، أقول ربما صلح أو لم يصلح، أما هنا فلزوم هذا المنهج الذي مر بنا أوله واليوم ختامه، من الضرورة أن نعتني به وأن نعتقد، وأن نناظر ونجادل بالحسنى كل من خالفنا فيه؛ لأن في ذلك أماناً وضماناً لسلامة المجتمع، وصلاح الأمة وبقاء بيضة هذه الأمة على ما هي عليه، مع القصد في إنكار المنكر فيها وزيادة المعروف فيها.

أيها الأحبة! قد يقول قائلٌ وما السبب في خروج تلك الطوائف في العصور الغابرة على قياداتها، وعلى إماراتها، وعلى الولاة في زمنها؟

أيها الأحبة! الجواب في ذلك جليٌ واضح، فالذين أحسنوا المقاصد، وصلحت نواياهم كانت ذكريات الخلافة الراشدة بما فيها من العدل والأمن والطمأنينة وشوكة الدين وغلبة المعروف ماثلةً بين أعين كثيرٍ من المسلمين، كانوا يتمنون أن تعود الأمور كما كانت عليه، وليس هذا بأماني من أراد، فقد ورد في كل عامٍ ترذلون وتنقصون ولا تزيدون.

إن الحنين دائماً إلى النماذج الراشدة، مستمرٌ، إن الحنين دائماً مستمرٌ إلى صور الأمن الذي لا يكدره فزع، والعدل الذي لا يشوبه ظلم، والعطاء الذي لا تقطعه منّة، ولكن سنة الله في العباد وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119].

أيها الأحبة! حينما اختل المنهج الشرعي أصيب المسلمون بخيبة أملٍ كبيرة وبمرارة ومعاناةٍ شديدة، حينما بلغ الأمر إلى إماراتٍ ربما أنكر المسلمون منها أموراً كثيرة.

فعلى سبيل المثال: في زمن الدولة الأموية لما حلت الخلافة ونزلت إلى بلاط يزيد بن معاوية ، حل في قلوب الناس ما حل، ومن الذين خرجوا ولم يرضوا بواقعهم، ولم يرضوا بإماراتهم ومجتمعاتهم، أقوامٌ رأوا ظلماً أو نوعاً منه أو أنواعا، فقصدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتهدوا في إصلاح ما فسد لا يريدون إلا الخير والإصلاح، ولكن كانت العاقبة وخيمة سيئة عليهم وعلى مجتمعاتهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بـالحرة وبـدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، فالخروج على الولاة كان منذ زمنٍ قديم إما من أقوامٍ رأوا ظلماً وعدواناً أو منكراً فأرادوا تغييره، أو أقوامٍ يرون أن لهم في الخلافة حظاً ونصيباً فيريدون أن يعود الأمر إليهم، وبالجملة فالخارجون على الولاة إما خوارج أو محاربون أو البغاة، وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلباً للملك والإمامة بتأويلٍ سائغٍ أو غير سائغ، فيسمون بغاة. حتى وإن خرجوا بتأويلٍ سائغ يسمون بغاة، وإن خرجوا بتأويلٍ غير سائغٍ فيسمون بغاة، ومن الذين خرجوا أقوامٌ أهل عدلٍ خرجوا على أئمة جور، كما قال الحافظ ابن حجر : قسمٌ خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، ومن أجل ترك عملهم بالسنة فهؤلاء أهل حقٍ، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة بـالحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وإن التاريخ لناطقٌ شاهدٌ بما حل بهؤلاء رضي الله عنهم وجمعنا بهم في الجنة.

أيها الأحبة! خذوا أول الأمثلة على مساوئ الخروج وما حصل للأمة فيه، وقبل أن أسوق ذلك، أريد أن أنتزع وسوسة شيطانية ربما جالت في ذهن بعض السامعين الآن أو بعد آن ليقول قائلٌ: وهل رأى هذا الخطيب أقواماً يعدون لخروج، أو سمع بهم أو رصدهم؟! أقول ولله الحمد والمنّة ما عرفنا في هذه الجزيرة أقواماً أعدوا للخروج أو دعوا إليه أو خططوا له، وإنما القصد بيان منهج أهل السنة في سلسلة مضى أولها واليوم ختامها، وليس الحديث عن أي شيء بالضرورة يعني أنه خلف الكواليس يخطط أو يدبر له، بل ومن الضرورة أن نتحدث عن مثل هذا وأن نحذر منه، لأن الأمر كما ورد في خطبٍ ماضية أنه ربما نقل بعض الشباب مناهج مستوردة لبلدان ربما صلح لأوضاعها ما فعل فيها، أقول ربما صلح أو لم يصلح، أما هنا فلزوم هذا المنهج الذي مر بنا أوله واليوم ختامه، من الضرورة أن نعتني به وأن نعتقد، وأن نناظر ونجادل بالحسنى كل من خالفنا فيه؛ لأن في ذلك أماناً وضماناً لسلامة المجتمع، وصلاح الأمة وبقاء بيضة هذه الأمة على ما هي عليه، مع القصد في إنكار المنكر فيها وزيادة المعروف فيها.

خذوا نموذجاً من النماذج التي خرجت على يزيد بن معاوية كانت قاصدة الإصلاح لا غير، خرج الحسين بن علي وتعرفونه أنه سيد شباب أهل الجنة لا نسوق هذا الكلام قدحاً في ذات الحسين أو كلاماً في عرضه رضي الله عنه وأرضاه، والحسين بالمناسبة قد غرر به وخُدِع من قبل أهل العراق فكان في تلك الوقعة ما كان، لما نبأ وفاة معاوية إلى المدينة ، كان الوالي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، فأرسل الوليد إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير فدعاهما إلى البيعة لـيزيد ، فقالا: بالغداة إن شاء الله نبايع على رءوس الناس، ثم خرجا من عنده، فدعى الحسين برواحله وتوجه نحو مكة، وركب ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه برذوناً له وأخذ طريق الفرع، قرية من نواحي المدينة حتى قدم مكة.

واستقر الحسين في مكة وبدأ الناس يفدون إليه ويلتفون حوله ويعظمونه، وبدأت الرسائل ترد عليه من العراق ، من الكوفة ، يدعونه إليهم لينصروه ويحاربوا به الدولة اليزيدية، وكأن هذه الكتب لاقت أذناً صاغية من الحسين ، كانت الولاية لـمعاوية ثم تولى الأمر بعد معاوية يزيد، وكان يزيد غير مرضيٍ في نظر الكثير من التابعين والصحابة رضوان الله عليهم.

الحاصل أن الرسائل وردت إلى الحسين رضي الله من الكوفة يدعونه لنصرته ومقاتلة يزيد ، وكأن هذه الكتب لاقت أذناً صاغية من الحسين ، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة لأخذ البيعة له قبل وصوله، وبالفعل وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبدأ يأخذ البيعة للحسين ، وبايعه ثمانية عشر ألفاً من الرجال الأشداء الأقوياء ذوي الشوكة والسلاح والآلة، فكتب مسلم إلى الحسين: أن اقدم إلينا فقد بايعنا لك ثمانية عشر ألفاً، وفي ذلك الوقت كان يزيد بن معاوية قد ولى عبيد الله بن زياد على الكوفة فقتل عبيد الله بن زياد -والي يزيد - قتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب -رحمه الله- وفي ذلك الوقت كان الحسين في الطريق إلى العراق، ففوجئ الحسين بجيش عبيد الله بن زياد يمنعه من الدخول إلى الكوفة ، بل أصر عبيد الله بن زياد يفاوض ويحاور الحسين ويأمره أن يسلم نفسه أسيراً إلى ابن زياد لتسليمه إلى يزيد بن معاوية ، وهكذا نشبت على أرض كربلاء معركة غير متكافئة وقاتل الحسين بجيشه الصغير قتالاً شديداً، وكان الحسين رضي الله عنه رجلاً مغواراً شجاعاً ما أقبل على ميمنة إلا فلها، وما أقبل على ميسرة إلا كسرها، وما أقبل على جمعٍ إلا شتته وأباد خضراءه ولكن سنة الله غالبة في كل حال.

خسارة آل البيت في هذه المعركة

كانت نهاية المعركة خسارة أليمة لآل البيت رضوان الله عليهم وللمسلمين أجمعين، قتل فيها من آل أبي طالب اثنان وعشرون رجلاً، واستشهد الحسين رضي الله عنه، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفساً، وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: قُتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلهم من أولاد فاطمة، وعن الحسن البصري أنه قال: قُتل مع الحسين ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم شبه، الله أكبر، والله لا أحد يشك أن الحسين وآل بيت رسول الله أفضل وأجل وأعلى منـزلة من يزيد ومن مع يزيد، ومع ذلك فإن سنة الله إذا ولي الأمر إمام فينبغي للقوم أن يطيعوه، سيما وإذا ظهر وثبت أن الخروج عليه مفضٍ إلى فتنة عظيمة، كما كان في هذه الحال، وليس من مقاصد هذا السياق حتى لا يتأوله متأول أو يقوله قائل أننا ننتقد الحسين بن علي رضي الله عنه، وإنما لننظر أن نتيجة الخروج ما كانت مسددة وما كانت موفقة، وستأتي بقية الشواهد لتثبت أن كل خروجٍ على إمامٍ وعلى والٍ انعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد، واجتمع الناس عليه، حتى ولو كان في المسلمين من هو خيرٌ منه وأصلح منه وأتقى لله منه وأخشى، أن نهايتها غير محمودة العاقبة.

الخروج الثاني على يزيد

وخذوا هذا المثال الآخر وهو وقعة الحرة ، وما أدراكم ما الحرة ؟ لما عزم بعض أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية ووافقهم على ذلك أكثر أهل المدينة وفيهم القراء والفقهاء والعلماء، ولماذا أرادوا خلع يزيد ؟ اتهموه بشرب الخمر أو شيء من أمور اللهو، قال ابن تيمية : لم يكن يزيد مظهراً للفواحش كما يحكي عنه خصومه، وقال ابن كثير في البداية والنهاية : أكثر ما نقم على يزيد في عمله شرب الخمر، فأما قتل الحسين فإن يزيد لم يأمر به ولكنه لم يسؤه.

اتفق أهل المدينة على الثورة وأمروا عليهم الأمراء، وأخرج أهل المدينة واليهم عثمان فقتلوه، وأخرجوا جميع بني أمية من المدينة، وعندما علم الخليفة يزيد بما حصل قرر على الفور مهاجمة المدينة وإرجاعها خاضعة إلى طاعته، فجهز جيشاً عدته عشرة آلاف جندي وجعل أميرهم مسلم بن عقبة المري، يسميه أهل السنة مسرف بن عقبة لأنه أسرف في الدماء، وأسرف في استباحة رقاب القراء، وأسرف في استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طلب يزيد بن معاوية من أميره الذي بعثه لإخضاع المدينة ، طلب من مسلم بن عقبة أن يدعو أهل المدينة ثلاثة أيام فإن رجعوا إلى الطاعة تركهم وإلا فليقاتلهم، ثم طلب منه أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وقال له: إذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف لا تُبْقِ منهم، أجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم وإياك أن تبقي عليهم، هذه من الفتن التي ربما سعى الواحد فيها بكلمة وهو لا يدري، أو بخطوة وهو لا يدري، وقد جاءنا في منهج نبينا صلى الله عليه وسلم حال الفتن أن من كان ماشياً فليقف، ومن كان واقفاً فليقعد ومن كان قاعداً فليضطجع هروباً وبعداً ونأياً عن مثل هذه الفتن، قدم مسلم بن عقبة، بل مسرف بن عقبة، لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة 63 هجرية فاقتتل الناس ساعة والنساء والصبيان يصيحون وينوحون على قتلاهم، وجعل مسرف بن عقبة يقول من جاء برأسٍ فله كذا وكذا، ومن جاء بأسيرٍ فله كذا وكذا، وجعل يغري أقواماً لا دين لهم، فقتلوهم إلا قليلاً وقتلوا ما لا يحصى ولا يعد، واستبيحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، حصل فيها من المآسي والفظائع وجالت الخيل في المدينة يقتلون وينتهبون والخيل تجول في كل جهة قتلاً ونهبا، حتى لم يبق من الناس أحدٌ يرفع سيفاً أو يرمي بسهمٍ أو يلوح بنبلٍ، وقد نقل الواقدي عن عبد الملك بن جعفر قال: سألت الزهري كم بلغ القتلى يوم الحرة قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجهاء الناس فسبع مائة قتيل، وأما سائر من قتلوا غير هؤلاء فقد بلغوا عشرة آلاف، عشرة آلاف وسبعمائة قتيل في فتنة كان باعثها رضوان الله، كان قصدها وجه الله، كان باعثها الغيرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهي متى؟ عام ثلاثة وستين للهجرة، يعني بعد موت النبي بثلاثة وخمسين سنة، وقتل الحسين قبلها بأقل من ذلك، فما بالنا في هذا الزمان بعد موت نبينا، أو من هجرة نبينا (1414هـ) إن الأمر جدُّ خطير يا عباد الله، ولأجل ذا نعيد ونزيد ونكرر ونقول لجميع الشباب خاصة، ولجميع أهل الخير والآمرين وذوي الغيرة الذين ما علمنا في قلوبهم إلا حب الله ورسوله، وما علمنا في قلوبهم إلا الغيرة على دين الله وكتابه وسنة نبيه نقول:

من الضرورة أن نستحضر هذه الحوادث، وأن نتذكر تلك الوقائع حتى لا يجرفنا الحماس أو تمضي بنا العاطفة إلى أمرٍ لا نحمد عاقبته، ولو بكلامٍ نقوله في مجلسٍ بمجرد الحديث وتبادل الآراء في تلك الوقعة التي استباح بها مسرف بن عقبة المري مدينة رسول الله أصيب نساءٌ وصبيان بالقتل، وقتل جماعة من وجوه قريش والأنصار وخيار الناس من الصحابة وأبنائهم، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يروي قائلاً: قتل يوم الحرة ثمانون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد ذلك بدري، وعن ابن وهب بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، من حملة كتاب الله جل وعلا، وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على وقعة الحرة فقال عن يزيد : وهذه من كبائره ولهذا قيل لـأحمد بن حنبل رحمه الله أتكتب الحديث عن يزيد قال: لا، ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل، وقال ابن كثير : وقد وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة ما لا يحد ولا يوصف، ومما لا شك فيه أن من قام على يزيد بن معاوية لو كانوا يعلمون أن الأمور ستئول وتفضي إلى ما آلت إليه من قتل بعض الصحابة والقراء ووجهاء المهاجرين والأنصار؛ ما رفعوا سيفاً وما أشاروا بنبلٍ أبداً .

كانت نهاية المعركة خسارة أليمة لآل البيت رضوان الله عليهم وللمسلمين أجمعين، قتل فيها من آل أبي طالب اثنان وعشرون رجلاً، واستشهد الحسين رضي الله عنه، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفساً، وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: قُتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلهم من أولاد فاطمة، وعن الحسن البصري أنه قال: قُتل مع الحسين ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم شبه، الله أكبر، والله لا أحد يشك أن الحسين وآل بيت رسول الله أفضل وأجل وأعلى منـزلة من يزيد ومن مع يزيد، ومع ذلك فإن سنة الله إذا ولي الأمر إمام فينبغي للقوم أن يطيعوه، سيما وإذا ظهر وثبت أن الخروج عليه مفضٍ إلى فتنة عظيمة، كما كان في هذه الحال، وليس من مقاصد هذا السياق حتى لا يتأوله متأول أو يقوله قائل أننا ننتقد الحسين بن علي رضي الله عنه، وإنما لننظر أن نتيجة الخروج ما كانت مسددة وما كانت موفقة، وستأتي بقية الشواهد لتثبت أن كل خروجٍ على إمامٍ وعلى والٍ انعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد، واجتمع الناس عليه، حتى ولو كان في المسلمين من هو خيرٌ منه وأصلح منه وأتقى لله منه وأخشى، أن نهايتها غير محمودة العاقبة.

وخذوا هذا المثال الآخر وهو وقعة الحرة ، وما أدراكم ما الحرة ؟ لما عزم بعض أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية ووافقهم على ذلك أكثر أهل المدينة وفيهم القراء والفقهاء والعلماء، ولماذا أرادوا خلع يزيد ؟ اتهموه بشرب الخمر أو شيء من أمور اللهو، قال ابن تيمية : لم يكن يزيد مظهراً للفواحش كما يحكي عنه خصومه، وقال ابن كثير في البداية والنهاية : أكثر ما نقم على يزيد في عمله شرب الخمر، فأما قتل الحسين فإن يزيد لم يأمر به ولكنه لم يسؤه.

اتفق أهل المدينة على الثورة وأمروا عليهم الأمراء، وأخرج أهل المدينة واليهم عثمان فقتلوه، وأخرجوا جميع بني أمية من المدينة، وعندما علم الخليفة يزيد بما حصل قرر على الفور مهاجمة المدينة وإرجاعها خاضعة إلى طاعته، فجهز جيشاً عدته عشرة آلاف جندي وجعل أميرهم مسلم بن عقبة المري، يسميه أهل السنة مسرف بن عقبة لأنه أسرف في الدماء، وأسرف في استباحة رقاب القراء، وأسرف في استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طلب يزيد بن معاوية من أميره الذي بعثه لإخضاع المدينة ، طلب من مسلم بن عقبة أن يدعو أهل المدينة ثلاثة أيام فإن رجعوا إلى الطاعة تركهم وإلا فليقاتلهم، ثم طلب منه أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وقال له: إذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف لا تُبْقِ منهم، أجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم وإياك أن تبقي عليهم، هذه من الفتن التي ربما سعى الواحد فيها بكلمة وهو لا يدري، أو بخطوة وهو لا يدري، وقد جاءنا في منهج نبينا صلى الله عليه وسلم حال الفتن أن من كان ماشياً فليقف، ومن كان واقفاً فليقعد ومن كان قاعداً فليضطجع هروباً وبعداً ونأياً عن مثل هذه الفتن، قدم مسلم بن عقبة، بل مسرف بن عقبة، لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة 63 هجرية فاقتتل الناس ساعة والنساء والصبيان يصيحون وينوحون على قتلاهم، وجعل مسرف بن عقبة يقول من جاء برأسٍ فله كذا وكذا، ومن جاء بأسيرٍ فله كذا وكذا، وجعل يغري أقواماً لا دين لهم، فقتلوهم إلا قليلاً وقتلوا ما لا يحصى ولا يعد، واستبيحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، حصل فيها من المآسي والفظائع وجالت الخيل في المدينة يقتلون وينتهبون والخيل تجول في كل جهة قتلاً ونهبا، حتى لم يبق من الناس أحدٌ يرفع سيفاً أو يرمي بسهمٍ أو يلوح بنبلٍ، وقد نقل الواقدي عن عبد الملك بن جعفر قال: سألت الزهري كم بلغ القتلى يوم الحرة قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجهاء الناس فسبع مائة قتيل، وأما سائر من قتلوا غير هؤلاء فقد بلغوا عشرة آلاف، عشرة آلاف وسبعمائة قتيل في فتنة كان باعثها رضوان الله، كان قصدها وجه الله، كان باعثها الغيرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهي متى؟ عام ثلاثة وستين للهجرة، يعني بعد موت النبي بثلاثة وخمسين سنة، وقتل الحسين قبلها بأقل من ذلك، فما بالنا في هذا الزمان بعد موت نبينا، أو من هجرة نبينا (1414هـ) إن الأمر جدُّ خطير يا عباد الله، ولأجل ذا نعيد ونزيد ونكرر ونقول لجميع الشباب خاصة، ولجميع أهل الخير والآمرين وذوي الغيرة الذين ما علمنا في قلوبهم إلا حب الله ورسوله، وما علمنا في قلوبهم إلا الغيرة على دين الله وكتابه وسنة نبيه نقول:

من الضرورة أن نستحضر هذه الحوادث، وأن نتذكر تلك الوقائع حتى لا يجرفنا الحماس أو تمضي بنا العاطفة إلى أمرٍ لا نحمد عاقبته، ولو بكلامٍ نقوله في مجلسٍ بمجرد الحديث وتبادل الآراء في تلك الوقعة التي استباح بها مسرف بن عقبة المري مدينة رسول الله أصيب نساءٌ وصبيان بالقتل، وقتل جماعة من وجوه قريش والأنصار وخيار الناس من الصحابة وأبنائهم، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يروي قائلاً: قتل يوم الحرة ثمانون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد ذلك بدري، وعن ابن وهب بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، من حملة كتاب الله جل وعلا، وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على وقعة الحرة فقال عن يزيد : وهذه من كبائره ولهذا قيل لـأحمد بن حنبل رحمه الله أتكتب الحديث عن يزيد قال: لا، ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل، وقال ابن كثير : وقد وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة ما لا يحد ولا يوصف، ومما لا شك فيه أن من قام على يزيد بن معاوية لو كانوا يعلمون أن الأمور ستئول وتفضي إلى ما آلت إليه من قتل بعض الصحابة والقراء ووجهاء المهاجرين والأنصار؛ ما رفعوا سيفاً وما أشاروا بنبلٍ أبداً .

ثم هذا نموذجٌ آخر عبد الله بن الزبير الفارس الشجاع المغوار، الذي لما مرت أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وقد دخل عليها ثم قال: يا أماه إني أخشى أن يمثلوا بي -أي يجعلوه مثلة ويصلبوه- فقالت: يا بني! شد عليك سراويلك حتى لا تنكشف عورتك، واعلم أن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح.

لله درها من أمٍ شجاعة مغوارة تعلّم وتغرس في أبنائها الشجاعة، ولكن تأويل ابن الزبير أو ما كان من ابن الزبير رضي الله عنه ما كان محمود العاقبة فيما جرى له رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة.

عبد الله بن الزبير لما حصل ما حصل من شأنه ثم صلبه الحجاج عليه من الله ما يستحق، جاءت أسماء وهي كفيفة قد عمي بصرها تتحسس ولدها مصلوباً فقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، تشير وتصور أنه ما زال على حصانه بطلاً مغواراً، فلما علم الحجاج بمقولتها أمر بأن ينـزل ابن الزبير من الخشبة ثم أرسل الحجاج إلى أسماء أن تأتي إليه فقالت: والله لا آتيه! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فعرفناه، وأما المبير فلا نراه إلا الحجاج، فلما سمع بمقولتها جاء إليها قال: سمعت يا أم أنك تقولين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فـمسيلمة وقد عرف، وأما المبير فعرفناه فما هو إلا الحجاج، قال: نعم أنا مبير المنافقين، قالت: كذبت قال: الحجاج يا أم إن ابنك ألحد في بيت الله، والله يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].

أيها الأحبة! إن ما قيل وما سطر لا يمكن أن نسمح أن يُنال فيه من عبد الله بن الزبير بكلمة ولو صغيرة أو كبيرة، ولكن ابن الزبير لو علم رضي الله عنه واستقبل من أمره ما استدبر ما كان ليقدم على هذا، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.

عندما جاء نعي يزيد بن معاوية ، لما مات يزيد سنة أربعٍ وستين قام ابن الزبير فدعا إلى نفسه وبايعه أكثر الناس وحكم الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام ، ولكن لم يستوثق له الأمر ومن ثم لم يعده بعض العلماء في الخلفاء وعد دولته زمن فرقة، فإن مروان قد غلب على الشام ثم مصر وجرت أمورٌ طويلة وحروبٌ مزعجة، وجرت موقعة مرج راهط وقتل ألوفٌ من العرب وقتل الضحاك ، واستفحل وعظم أمر مروان إلى أن غلب مروان على الشام ، وسار في جيشٍ عرمرم فأخذ مصر واستعمل عليها ولده عبد العزيز بن مروان ، ثم دهمه الموت فقام بعده ولده الخليفة عبد الملك بن مروان فغلب عبد الملك على العراق مع الشام، ثم بعث عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، بعث الحجاج إلى ابن الزبير فحاصر ابن الزبير في مكة ونصب المجانيق على جبل أبي قبيس، وعلى جبل قعيقعان فكان الأمر العجيب الخطير يا عباد الله.

المجانيق تضرب في وسط بيت الله، المجانيق تقصف جدران الكعبة، فلم يكن أحدٌ يقدر على أن يطوف بالبيت من شدة قصف المنجنيق، من شدة تلك الفتنة، فأسند ابن الزبير ألواحاً من الساج على البيت وألقى عليها الفرش والقطائف، فكان إذا وقع حجرٌ وقع عليها ونبا عن البيت وكان الناس يطوفون دون الألواح واستمر حصار الحجاج لـابن الزبير في مكة ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة وبيت الله يضرب بالمنجنيق، في تلك الفتنة القديمة، وانتهت تلك المأساة بقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ووالديه وأرضاه.

عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديداً؛ جعلوا يتسللون ويهربون إلى الحجاج ، وهكذا شأن الذين يسيرون في الدهماء والغوغاء، أو إذا خرج خارجٌ أو زعم زاعمٌ أن سيخرج تكاثر الناس حوله، فإذا انكشف الأمر وكشفت الحرب عن ساق:

ستعلم حين ينكشف الغبارُ     أخيلٍ تحت رجلك أم حمار

حينما تشتد الأمور ما أقل من يصمد ويثبت، ولذا فلكل من ظن أن الكثرة هي سبيل للتغيير أو الإصلاح فليعلم أن الكثرة لا تغني شيئاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.

عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير لما قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديدا وجعلوا يتسللون إلى الحجاج، وجعل الحجاج يصيح: أيها الناس! علامَ تقتلون أنفسكم؟ من خرج إلينا من ابن الزبير فهو آمنٌ عندنا، لكم عهد الله وميثاقه، ورب هذه البنية ورب هذا البيت لا أغدر بكم ولا حاجة لنا في دمائكم، قال: فقام الناس يتركون ابن الزبير ويتسللون أكثر من نحو عشرة آلاف قال: فلقد رأيت ابن الزبير وحيداً ما معه أحد.

وعن إسحاق بن أبي إسحاق قال: حضرت قتل ابن الزبير وجعلت الجيوش تدخل على ابن الزبير من أبواب المسجد فكان كلما دخل قومٌ من باب حمل عليهم وحده حتى يخرجهم، يقتل من يقتل ويجرح من يجرح ويطرد من يطرد وكان ابن الزبير شجاعاً شجاعاً شجاعاً ربما ضرب الرجل ضرب بصاحبه فقتلهما جميعاً، وربما اخترط بسيفه رجلين في ضربة واحدة، لم يكن له مثيلٌ في الشجاعة، إلا من فاقه من الصحابة وأشجع القوم صلى الله عليه وسلم، قال: فكان كلما دخل عليه قوم حمل عليهم حتى أخرجهم، فبينما هو على تلك الحال إذا وقعت شرفة من شرفات المسجد على رأسه فصرعته وسقط وهو يتمثل

أسماء يا أسماء لا تبكيني

لم يبق إلا حسبي وديني

وصارمٌ قد لان في يميني

يعلق الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء على ذلك فيقول: فيا ليت ابن الزبير كف عن القتال لما رأى الغلبة، بل ليته لا التجئ إلى البيت ولا أحوج أولئك الظلمة والحجاج لا بارك الله فيه، إلى انتهاك حرمة بيت الله وأمنه، فنعوذ بالله من الفتنة الصماء، هذا من كلام الذهبي في سير أعلام النبلاء .

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الخلفاء : صلبوا ابن الزبير منكسا، وأخرج مسلم في صحيحه أن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر على عبد الله بن الزبير وهو مصلوبٌ فقال: السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير.

الله أكبر هذا كلام عبد الله بن عمر وقف على ابن الزبير رضي الله عنه وهو مصلوب فيقول: أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، يعني أنهاك أن تطلب البيعة لنفسك، وآمرك أن تسمع لمن أعطاه المسلمون البيعة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2800 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2648 استماع
توديع العام المنصرم 2643 استماع
حقوق ولاة الأمر 2628 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2548 استماع
من هنا نبدأ 2492 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2432 استماع
الغفلة في حياة الناس 2432 استماع