من أسباب الحياة السعيدة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد ..

أيها الأحبة في الله! السعادة مطلب كل إنسان، وما نظن أو نعتقد أن أحداً يبحث عن الشقاء، بل كل ما نراه من التطاحن والتسابق، إنما هو لتحقيق ونيل أكبر قدر من السعادة، ولكن المصيبة أن الكثير ممن يطلبون السعادة أخطئوا الطريق المؤدي إليها، ظنها قوم في المال، فقطعوا مراحل أعمارهم باحثين لاهثين وراءه، فلما حصلوه وجمعوه، كان هذا المال سبباً لشقائهم لا لسعادتهم، يقول الله عز وجل: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

وظن آخرون أن السعادة في تبوء المناصب، واحتلال الرتب، فحرصوا عليها وسعوا إلى تحقيقها، فلما نالوها لم يجدوا للسعادة طعماً، بل كانت ربما سبباً لشقائهم وعنائهم، وظنها آخرون في الأولاد وفي الزوجات، فلما جاء الأولاد كان الأولاد أيضاً سبباً لشقائهم وكانت الزوجات سبباً لشقائهم، إذاً أين السعادة -أيها الإخوة-؟

وقبل الإجابة لنسأل: ما هي السعادة؟

وبأبسط تعريف، يلم المجموع الشامل لمفهومها، وإلا فالسعادة معروفة عند كل شخص ولو لم يعبر عنها هي: راحة القلب، واطمئنان النفس، وسلامة الجسد من الآفات.

هذا الذي يكون جسده معافى، ونفسه مطمئنة، وقلبه هادئ فإن هذا يكون سعيداً، لكن لما اهتم الناس بالمال، فإنهم حققوا جزءاً من السعادة، وهي سلامة الجسد، ولكن لم يستطع المال أن يحقق سكينة النفس، ولم يستطع المال أن يحقق راحة القلب، بل كان المال عذاباً للقلب وللنفس.

وأذكر فيما أذكر، أنني زرت أنا وأحد المشايخ في الرياض ثرياً من الأثرياء، نطلب منه أن يتطوع بالتبرع في مشروع خيري، وكانت الزيارة في فصل الشتاء، في الليالي الباردة القارسة، فلما جلسنا معه وافق جزاه الله خيراً على أن يتبرع بالمشروع كاملاً، وودعناه، وقبل أن نخرج قال لنا: يا مشايخ! أنا عندي مشكلة حلوها لي.

قلنا: خيراً.

قال: والله لا أنام إلى أن يؤذن المؤذن لصلاة الفجر وأنا أتقلب على فراشي، لم أعرف طعم النوم.

قلنا: خيراً لماذا هل هناك مرض؟

قال: لا. لكن أموالي في الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، والسماء، والأرض، والبر، والبحر، وكلما قمت بحل مشكلة جاءت مشكلة ثانية، وطوال الليل وأنا وراء المال.

قلنا: أنت الذي عذبت نفسك، ماذا نفعل لك؟ لكن تريد أن تسلم من هذا المرض؟

قال: نعم. قلنا: علق مالك بربك، حتى يتعلق قلبك بالله، اكنز هذا المال عند الله.

قال: جزاكم الله خيراً، وخرجنا من عنده، وعند خروجنا مررنا برجل من العمال يعمل حمالاً يحمل الأثقال من السوق، وقد جمع الحبل الذي يربط به الأحمال تحت رأسه، وبسط تحته كرتوناً ونام، ومد أرجله وله شخير نسمعه على بعد أمتار، في غاية النوم، هذا صاحب الملايين لا يأتيه النوم، وهذا صاحب الكرتون نائم أربعة وعشرين قيراطاً.

إذاً المال سعادة أم عذاباً؟

بل هو عذاب، وتعال انظر هذا الفقير في الصباح، إذا قام بماذا يفطر؟ يأخذ له ثلاثة أقراص على صحن يأكلها مثل البعير، وذاك التاجر يفطر حبوباً ويتغدى حبوباً ويتعشى حبوباً.

إذاً ما قيمة المال؟ مجرد أرقام وأرصدة، لكن هل يحقق سعادة؟ لا.

ولست أرى السعادة جمع مال     ولكن التقي هو السعيد

فالسعادة هي راحة النفس، وهدوء القلب، وسلامة الجسد، أين توجد هذه كلها؟ هذه -أيها الإخوة- لا توجد في المال، ولا في المناصب، ولا في الرتب، ولا عند الزوجات ولا في الأولاد، وإنما توجد في شيء واحد ألا وهو في الإيمان بالله، والعمل الصالح لوجه الله، يقول الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97] هذا شرطه: من عمل صالحاً وهو مؤمن، ماذا يحصل له؟ قال عز وجل: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] ما هي الحياة الطيبة؟ إنها حياة القلب، ولو كان فقيراً والله إنه لفي حياة طيبة.

الصحابة رضي الله عنهم كان معظمهم فقراء، ولكنهم كانوا يحيون ويعيشون أعظم مستوى من السعادة، بل سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، وأفضل من سار على وجه الأرض سيد ولد آدم، كيف كان يعيش؟ سعادته كأكمل ما تكون على أعلى مستوى، أسعد البشر بربه وبدينه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أن حياته المادية كانت بسيطة إلى أبعد درجات البساطة، كان ينام على الحصير، ويسكن في غرف صغيرة لا تكفي للصلاة، إذا صلى في الليل وعائشة نائمة تكف أرجلها إذا سجد، وإذا قام بسطت أرجلها، ويربط على بطنه الشريفة الحجر من الجوع، حتى تلتقي المعدة وجدران المعدة حتى أنه لم يعد يشعر بالألم من الجوع، ويمر الشهر والشهران ولا توقد في بيت آل محمد نار، كم توقد اليوم في بيوتنا من النيران -أيها الإخوة-؟!! ليست ناراً واحدة، بل نيران، المطبخ مثل المعمل، هذا يقلي، وهذا يخبز، وكل هذا من أجل أن نأكل، وبعد ذلك هل وجدنا السعادة؟ هل حققت هذه المآكل والمطاعم والمشارب لنا سعادة؟ بل زاد الشقاء، وأكثرنا تجده يتوجع، وأمراض الناس الآن كلها من بطونهم.

الفشل الكلوي ما سببه؟ من اللحم، والقرحة المعدية من الأكل، والسكر من الأكل، والسمنة من الأكل، والذبحة من الأكل، كل هذا من الأكل، إذاً الأكل هل هو سعادة أم عذاب؟ عذاب، إذاً ما هي السعادة؟ قال عز وجل: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] قال العلماء: كان حياً لكن حياة خبيثة، هنا حياة ماذا؟ حياة طيبة، ما هي الحياة الطيبة؟ إنها حياة القلب، وحياة الإيمان، والدين، والصلة بالله، والصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحب في الله، والاستعلاء على الشهوات، والنصر على النفس، ورفض الحرام.

لو مررت على امرأة متبرجة، وغضضت بصرك فهذه هي الحياة، لكن لو أنك نظرت إليها تريد أن تبتلعها، تتلصص على محارم الله، أنت مسكين إذاً فحياتك خبيثة، حياتك قذرة، فالحياة الطيبة أن ترتفع إلى فوق، يقول تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] دنسها بالقاذورات، فقط تجده يقمقم -والعياذ بالله- أغاني، مسلسلات، أفلاماً، كرة،، لعباً، سهراً، أرصفة، تفحيطاً، ما هذا؟! ارتفع إلى فوق، ابحث عن الدين القيم، عن المبادئ، عن العقيدة، عن الصلاة، عن القرآن، عن الجنة، هذه هي الحياة: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

وبعد ذلك إذا مات قال عز وجل: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] ويقول عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] لا تطمئن القلوب إلا بدين الله، الأموال لا تطمئن القلوب بل تنفخ الجيوب، والأكلات لا تطمئن القلوب بل تطمئن البطون، والزوجات تطمئن الفروج، لكن قلبك هل تريده أن يطمئن؟ ألا بذكر الله، -أي: ألا بدين الله- تطمئن القلوب، قلوب أهل الإيمان الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29] قال العلماء: ما معنى طوبى هنا؟ قال بعضهم: طوبى هي الجنة، وقال آخرون: الحياة الطيبة، طوبى أي في الدنيا، وحسن مئاب أي: في الآخرة في الجنة -نسأل الله أن يطيب حياتنا وحياتكم في الدنيا والآخرة-.

كيف نحصل على السعادة؟

لا توجد السعادة إلا إذا عرف الإنسان أمرين، وبهما وجد السعادة كاملة بحذافيرها، أما إذا جهل الأمرين أو أحدهما، عاش شقياً، ومات شقياً، وبعث شقياً، وحشر شقياً، ودخل دار الأشقياء دار العذاب والنار والنكال -والعياذ بالله- هل هناك أشقى ممن يدخل النار -يا إخوان-؟ لا إله إلا الله! الآن لو وجدت شخصاً ليس في بيته عنده مكيفاً، يقول: والله يا شيخ أنا عيشتي شقية، لماذا؟ قال: لا يوجد مكيف، ودرجة الحرارة أربعين لا يصبر عليها، شقي.

حسناً.. الذي ليس عنده برد ولا شيء وإنما في النار، يقول الله عز وجل: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ:24-25] في النار، يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر:10] ينادون يوم القيامة، وهم يقادون إلى النيران، يحصل منهم حسرة ومقتاً واحتقاراً وازدراءً لأنفسهم، فينادون فيقال لهم: إن الله يمقتكم ويبغضكم ويزدريكم ويحتقركم أكثر مما تمقتون أنفسكم، لماذا؟ قال: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10] ترفضون الدين، ويوم القيامة يقولون: (ربنا) يعرفون الرب لكن بعد ماذا؟ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11] كنا أمواتاً فأحييتنا، ثم أمتنا ثم أحييتنا، واحدة يا رب، وهي الخروج من النار. قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11] هل هناك فكاك من النار؟ لا إله إلا الله! قال الله عز وجل: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12].

ما هذان الأمران الضروريان؟ وأرجو التركيز معي -أيها الإخوة- لأن القضية ليست قضية سماع، إنما قضية مصير، هي قضية سعادة أو شقاء، قضية عذاب أو نعيم، قضية جنة أو نار، هذه من أبرز قضايا الوجود، هي ليست سهلة، ما هي بصفقة ولا أرضية ولا عمارة، ولا امرأة تموت أنت وتتركها، أو تموت هي وتتركك، لا. هذه طريق شائكة، طريق صعبة، مسألة مهمة، ما هذان الأمران؟

الأمر الأول: أن تعرف من أنت.

الأمر الثاني: أن تعرف لماذا خلقت.

المصيبة كل المصيبة أن الناس لا يعرفون أنفسهم، كيف لا يعرف الواحد نفسه؟! يقول الناظم:

دواؤك فيك وما تبصر     وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر

أنت لست بالرجل السهل، ويقول ابن القيم :

قد هيئوك لأمر لـو فطنت له     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

هيأك الله لأمر عظيم، خلقك بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأرسل إليك رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأوعدك جنته إن أطعته، وتوعدك بناره إن عصيته، ثم تأتي فترعى مع الهمل، همك بطنك فقط، ماذا نأكل وماذا نتغدى وماذا نتعشى؟ وأين نذهب وعشاء وغداء، وأكياس تدخل وتخرج، وأكثر الناس اليوم ما شغلته إلا أكياس وزبالة، يدخل كيساً ويخرج الزبالة، لا يوجد بيت من بيوت المسلمين، إلا وحوله أكياس سوداء، وعاش المسلم وضاع بين الكيس والزبالة، شخص تقول له امرأته: هات معك، هات معك -تطلب حاجات- قال لها: أنت لا يوجد عندك إلا هات هات، لم تقولين يوماً من الأيام: خذ، قالت: خذ هذا إلى الزبالة.

إذاً من أنت أيها الإنسان؟ المصيبة كما قلت لكم: إن الناس لم يعرفوا ما حقيقة هذا الإنسان، إلا أبسط أجزائه، الإنسان مكون من خمسة أجزاء، عرف الناس واحداً وجهلوا الأربعة الباقية.

العناية بالجسد والسعادة

الجسد هو هذا الذي نعرفه كلنا، عظام مركبة عليها عضلات وأعصاب، وعليها لحم، وأجهزة: جهاز سمعي، وجهاز بصري، وجهاز تنفسي، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي، الأجهزة هذه عرفها الناس، والجسد جزء واحد فقط من الأجزاء، وهو أبسط الأجزاء، ولم يأت في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثناء على الناس على قدر أجسامهم، بل جاء الذم، قال الله في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4] وجاء الذم في السنة يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) أجل جسمك صغير أو كبير، أبيض أو أسود، طويل أو عريض، سمين أو ضعيف، هذا ليس له قيمة؛ لأنك لست الذي ركبت جسمك، ولا أنت الذي لونت جسمك، ولا أنت قمت بتطويله، الذي ركبك هو الله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6] لا كيفما تشاءون أنتم، هذا هو الجسد، هذا جزء واحد.

الناس الآن لا يعرفون من الإنسان سوى جسده، ولهذا فإن التركيز والأهمية في حياتنا على الجسد، إذا مرض الجسد ماذا نعمل؟

نأتي بالعلاج، وإذا انعدم العلاج في الرياض أين نجده؟ قالوا: علاجك في لندن، فإن كان معه أموال فإنه يحجز بسرعة، وإن لم يكن معه أموال فإنه يبيع بيته، وإن لم يكن عنده بيت فإنه يذهب يطرق أبواب المحسنين والدولة، فيقول: أنا مريض، لا بد أن أسافر، إذا مرض الجسد هذا دواؤه، بينما يمرض القلب والمسجد بجانبه فلا يذهب إليه، بل يأتي الطبيب، طبيب القلوب في المساجد، وتراه يتكلم عن أمراض القلوب، ولا يتطرق إلى كيفية معالجة القلوب من منظور شرعي، لأنه لا يعرف العلاج الشرعي؛ بل يعرف فقط الجسد، وإذا جاع الجسد أطعموه، وإذا عطش الجسد أسقوه، وإذا برد الجسد أدفئوه؛ ملابس شتوية، وإذا احتر الجسد بردوه: مكيفات، ومراوح، وملابس صيفية.

إذاً الحياة عند الناس الآن حياة الجسد، وهل أنت إنسان بجسدك فقط؟ لو أن القضية قضية جسد ففي الحيوانات من هو أكبر منك جسداً.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

قيمة الإنسان وسعادته بروحه

يقول العلماء: إن الروح هي الطاقة المحركة لهذا الجسد، الجسد مثل (الميكرفون)، ما الذي يشغل (الميكرفون)؟ الكهرباء، إذا نزعنا الكهرباء هل يبقى له قيمة، هل يكبر الصوت.

الثلاجة تقوم بتبريد الطعام، ما الذي يجعلها تبرد؟ الكهرباء، إذا نزعنا الكهرباء لم تعد تبرد الطعام، رغم أن الثلاجة موجودة.

الجسد يتحرك، والعين تبصر، من الذي يحركها؟ الروح، إذا صعدت الروح هل تبصر العين؟ العين موجودة لم يذهب شيء، لكن ذهبت الروح المحركة لها.

الأذن تسمع فإذا خرجت الروح لا تسمع، مع أن الأذن موجودة والجهاز السمعي موجود، تأتي فتصيح في سمعه فلا يسمعك، لماذا؟ الذي يحركها ليس موجوداً.

القلب يضخ الدماء، إذا خرجت الروح يقف القلب، لا يتحرك؛ لأنه لا يوجد محرك، وتسمعون الآن عن عمليات زرع الأعضاء، إذا مات الشخص أخذوا قلبه ووضعوه في شخص آخر، حسناً.. لماذا تحرك هناك ولم يتحرك هنا؟ لأن المحرك الذي هنا خرج وهي الروح، كليته فشلت هنا أخذوها وتحركت هناك، إذاً الحياة ليست في القلب ولا في الكلى، الحياة في الروح.

حسناً.. ما هي الروح؟ لا نعلمها، عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح قال الله له: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وهذه الروح من الأشياء التي استأثر الله بعلمها، ولا نعلم عنها شيئاً إلا بعض صفاتها، بأنها تخرج، وأنها تصعد وأنها إذا مات الإنسان صعدت روحه، ولهذا تجدون الميت إذا مات، فإنه يشخص ببصره، ويسن تغميضه، لماذا؟ لأنه إذا خرجت الروح تبعها البصر، وأن الروح تتوفى عند النوم، وتتوفى عند الموت، قال الله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ [الزمر:42] أي: يتوفاها فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] حسناً.. النوم هو وفاة، قد يقول شخص: كيف؟ نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا قمنا من النوم أن نقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) كنا قد متنا في النوم، والروح تخرج من الجسد، وتجلس قريبة منك، ولها صلة بالجسد تحركه لكن من بعيد، بالليزر -كما يقولون- أو (بالريموت كنترول) بعيدة عنك، ولكن تخرج منه حتى يستريح، إذا لم تخرج الروح لا يستريح الإنسان.

ولذلك عندما تأتي نائماً وتتكلم عند أذنه فلا يسمعك، تأتي عند عينه، وتضع أمامها شيئاً فإنه لا يراه، تضع عند أنفه شيئاً لا يشمه، تريده أن يشم ويرى ويسمع، قل له: يا فلان.. -أيقظه من النوم- فيقول: نعم، فتعطيه الطيب فيشمه، وتريه شيئاً فيراه، وتتكلم معه فيسمعك، لماذا؟ لأن الروح كانت بعيدة، وهي التي تشم، وهي التي تنظر وهي التي تسمع، فكيف تعلقها بالجسد؟ لا نعلم، هل هي موجودة أم غير موجودة؟ قال العلماء: لو تظل الروح في الجسد، لن يستريح الإنسان ولن ينام، ولن يستطيع أن يفعل شيئاً.

لو دخلت إلى بيتك وأنت متعب، ومثقل بهموم العمل، خصوصاً لو كان عملك مهنياً بدنياً، ودخلت إلى البيت وقلت: أبنائي! دعوني أنام، قالت لك امرأتك: هل تريد أن تستريح؟ قلت: نعم. أريد أن أنام، قالت: خذ راحتك، هذا السرير والمكيف فوقك شغال، لكن لا تنم، وكلما أغمضت عينك فتحت عليك الباب وقالت: استرح استرح، ما رأيك هل تستريح؟ لو تجلس على السرير ستين ساعة فلن تستريح، لكن لو نمت ثلاث أو أربع أو خمس ساعات ثم تقوم بعدها، وإذ بك تقول: لا إله إلا الله! الحمد لله، الحمد لله، استرحت وأصبحت نشيطاً، وقد رجع لك كل نشاطك، وكل قوتك، لماذا؟ لأن الروح خرجت، لو لم تخرج وتدع الجسد يستريح لما استراح أبداً.

هذه الروح لا نعلم عنها شيئاً، ويكفينا من العلم ما علمنا الله، قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وهي كما قلت لكم: بمنزلة الطاقة المحركة للجسد.

حقيقة النفس ووقايتها من الأمراض

إن النفس بمنزلة المستشار فهي التي تقدم الاستشارات للقلب، ومقاييس هذه النفس الاستشارية هي الشهوات، والملذات، والمتع، والراحة، والسهرة، والرحلات، هذه الأشياء النفس تحبها، إذا شاورت نفسك: نسهر؟ قالت نعم لا يهم، إذا شاورتها نأكل؟ وقالت: كل يا رجل، ننام؟ نم.

كل شهوة محببة تحبها النفس، بل كل أمر سيئ تحبه النفس وتأمر به، يقول الله: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] بالسوء أي: بالشر، هذه طبيعة النفس، لكن يأتي دورك لهذه الطبيعة النفسية، أن تقوم بتغييرها وبمجاهدتها إذا كانت أمّارة بالسوء، تريد أن تنام تقول لها: لا. انهضي وصلي، تريد أن تغني، تقول: لا والله لا تسمعين الأغاني، تريد أن تنظر إلى الحرام تقول: لا. وتغض بصرك، تريد الربا من أجل أن تصبح غنياً، تقول: لا. هذا حرام لا يمكن، وكلما أمرتك هذه النفس بلذة محرمة أو بشهوة ممنوعة قلت لها: لا. تفطمها، فإذا رأت أنك سيطرت عليها ترقت، وانتقلت من مرتبة النفس الأمارة بالسوء إلى مرتبة النفس اللوامة: وهي التي تفعل الخير ولكنها تحن إلى الشر، ثم تلوم على فعله.

أنت تفعل الخير بنفسك الطيبة، لكن أحياناً توقعك نفسك هذه في شر، فإذا عملته قالت النفس: لماذا تعمله، ما بك أنت ملتزم، أنت متدين، أنت مؤمن، لماذا تنظر إلى الحرام؟ لماذا تستمع إلى الأغاني؟ هذه نفس لوامة، فإذا لامتك وهي التي ورطتك قلت أنت: أنتِ التي أوقعتيني، والله لا أفعلها، فإذا جاهدتها مرة، ومرتين، وثلاثاً، وأربعاً، وعشراً، ارتقت إلى مرتبة النفس المطمئنة، التي اطمأنت إلى دين الله وسكنت إلى أمره، واستراحت بتنفيذ شرعه، وهنا تعيش أكمل عيشة، ولا يجد لك رب العالمين حينها مجال إلا أن ينقلك إلى الجنة، ويناديك عند الموت ويقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] ولذا يقول العلماء: إن مجال الإصلاح في حياتك هو إصلاح نفسك، قال الله عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:7-9] ويقول عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:40-41].

ودائماً النفس -بحكم طبيعتها الشريرة- ورغبتها في الخمول، وكراهيتها للقيود، تحب الانفلات، وتحب الدعة، وتحب عدم الإلزام بشيء، ولذلك ترى أنك إذا كنت طالباً في ليالي الامتحان، تنظر إلى الكتاب المقرر الذي فيه الاختبار غداً، تراه أكره شيء، كأنه حيات وعقارب أمامك، ولكن أي صحيفة أو مجلة أو كتاب آخر تريد أن تقرأه كله، لماذا؟ لأن النفس مكرهة على ذاك، وغير مطلوب منها هذا، فتميل إلى هذا وتكره ذاك، لكن ماذا تفعل أنت؟ إذا كنت عاقلاً وحازماً ولبيباً وذكياً، تقول: لا يا نفس، ليس عندنا اختبار في الصحيفة ولا في هذا الكتاب هذا، والله لا بد أن تقرأي الكتاب المقرر عليك غصباً عنك، فتستسلم لك، ولهذا فالنفس هذه يقول العلماء عنها: إنها مثل الدابة، إن وجدت خيالاً ماهراً، ركب عليها، وشد زمامها، وتركها تمشي ولم يجعلها تبرك، وإن لقيت خيالاً ضعيفاً، رمته وركبت عليه، ورفسته ومشت عليه، وكذلك أنت إن كنت مسيطراً على نفسك، تقهرها وتزجرها عن المعصية، وتجبرها على الطاعة، استسلمت وأذعنت، وهذا شأن السلف رحمهم الله، كانوا يجاهدون أنفسهم جهاداً عنيفاً، كان بعض السلف إذا فاته ورده من الليل، أخذ السوط وأخذ يضرب أرجله، وقال: والله إنك لأولى بالضرب من دابتي، ماذا يفعل هذا في الليلة الثانية هل ينام؟ يقوم، لماذا؟ لأن أرجله خائفة من العصا.

وآخر خرج يوماً من الأيام من بيته، فرأى بيتاً مرتفعاً فقال: لمن هذا البيت؟ قالوا: لفلان، ويوم أن رجع في الليل يريد أن ينام، قام يراجع ويحاسب نفسه على الأقوال التي قالها، فوجد هذه الكلمة فقال: أنت خرجت بعد الظهر اليوم، ورأيت عمارة وقلت: لمن هذه العمارة، قال: يا نفس ماذا تريدين بهذه الكلمة؟ تريدين عمارة مثلها، لا تريدين أن تشتغلي بطاعة الله، تريدين أن تشتغلي بما عند الناس، يقوم فيلومها، ثم قال: والله لأعاقبنك بصيام سنة، فصام سنة من أجل كلمة، هل ستعود نفسه توسوس له، حسناً هؤلاء عرفوا كيف يعالجون أنفسهم، جاهدوها مجاهدة صحيحة حتى أذعنت واستسلمت وسارت في ركاب الطاعة، واستسلمت لأمر الله تبارك وتعالى.

إذاً دورنا -أيها الإخوة- جهاد هذه النفس وعلاجها، وقصرها على الطاعة، وزجرها عن المعصية.

هذه النفس لها أساليب ووسائل في عملية تحسين الشر والمعاصي، مثلاً: الزنا تأتي النفس فلا تبديه لك بالصورة الطبيعية، ما هو الزنا؟ الزنا عار.. الزنا شنار.. الزنا إسقاط للاعتبار.. الزنا فصل من الوظيفة.. الزنا جلد في السوق كما يجلد الحمار.. الزنا -إن كنت محصناً وسبق لك الزواج- رجمٌ بالحجارة حتى تموت.. الزنا إدخال لك في قائمة السوابق.. الزنا إفساد لعرض مسلم.. الزنا إيجاد لولد غير شرعي يعيش بدون أب، ويبقى عالة على المجتمع.. من أجل شهوة تقضى في دقيقة أو دقيقتين أو خمس دقائق، هذا هو الزنا. إذا بدا لك الزنا بهذه الصورة هل تقبله؟ لا. لكن النفس الأمارة بالسوء لا تظهر الزنا بهذه الصورة، كل هذا تخفيه، وتقول: الزنا لذة.. الزنا متعة.. الزنا فرصة.. أنت دائماً مع امرأتك، لا. بدِّل غيرها.. كل طعام له لون.. وكل طعام له طعم، هذه حقيقة النفس، فإذا جاء العقل يقول لها: لا يا نفس! أنت مخطئة، الزنا كذا وكذا، تقول: صدقت، لكن هذا إذا اكتشفت، لكن يا رجل دبر نفسك، اعمله ولن يراك أحد، قال لها العقل: إذا لم يرني الناس الله يراني، قالت النفس: يا ابن الحلال! الله غفور رحيم، من أجل أن توقعك في هذه الجريمة، هذه أساليب النفس؛ لأنها أمارة بالسوء، لكن أنت خالفها وخالف النفس والشيطان واعصهما؛ لأن في معصية الشيطان والنفس، سعادتك في الدنيا والآخرة.

والنفس كالطفل إن تهملـه شب على     حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

هل رأيتم طفلاً صغيراً ينفطم على ثدي أمه هكذا من نفسه؟ لا. لو تركته يرضع لظل يرضع حتى وهو كبير، لكن افطمه بالقوة، ضع في فمه قليل صبغ أو قطراناً وعندما يأتي ويذوقه فإذا به مر، فيبكي يوماً أو يومين أو ثلاثة وانتهى، هكذا النفس، نفسك تحب الأغاني افطمها تنفطم، نفسك تحب النظر إلى الحرام افطمها تنفطم، لكن تظل ترضعها كل يوم فكيف تنفطم، لا بد -أيها الإخوة- من أخذ المسألة بجدية وبحزم وبقوة حتى تنفطم هذه النفس، على ترك الذنوب والمعاصي والآثام.

العقل ميزان المصالح والمفاسد

إن العقل يسميه العلماء: المستشار الثاني للقلب، ومقاييس هذا المستشار غير مقاييس النفس، النفس مقاييسها الشهوات، والعقل مقاييسه المصالح والمفاسد والآثار والنتائج، والمقدمات والضروريات، لكن قد يقول العقل شيئاً للقلب ويرفضه القلب بناءً على سيطرة النفس.

الآن أعطيكم مثالاً: كثير من الأشياء ندرك بعقولنا ضررها، ومع هذا نقع فيها، أنا أسأل الذي يركِّب الصحن المستقبل فوق بيته، أسأله بالله، ألا يدرك أن فيه ضرراً على دينه، وعقيدته، وأخلاقه، وأخلاق زوجته، وأخلاق ولده وأسرته؟

يقول: نعم. فيه ضرر.

حسناً.. لماذا تأتي بالضرر إلى بيتك؟

يقول: والله الأولاد أزعجوني، والمرأة رفضت، كل يوم وهي عند الناس، أنا آتي لها بهذا من أجل أن أتخلص منها ومن شرها.

إذاً فإن سيطرة النفس، وشهوة الزوجة، وشهوة الولد، أقوى من رأي العقل، رفض العقل وأتى بالصحن المستقبل وأمطر بيته وزوجته بكل ما يسخط الله ويغضبه، وخان الأمانة التي بينه وبين الله، أولادك أمانة وزوجتك أمانة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] إنها أمانة قال الله لك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] وأنت لم تقهم النار، بل اشتريت لهم النار، وأمطرت عليهم النار من فوق، العقل يقول: فيه ضرر، لكن النفس تقول: لا يا شيخ! الناس كلهم وضعوه على بيوتهم، انظر إلى الأخبار، ماذا يهمك من الأخبار؟ وزير الخارجية أنت؟ تريد الأخبار تنتقل من إذاعة إلى إذاعة، إن هذا يجعلك تنظر إلى المسلسلات، ويجعل أولادك يتعلمون منه الأخلاق السيئة، ويصبح قدوة أولادك، من يصبح شيخاً لأولادك؟ الممثلون والممثلات، تصبح ثقافة ولدك أو ابنتك: هل تعرف الممثل الفلاني، والمطرب الفلاني، والمغني الفلاني، واللاعب الفلاني؟ ولا يعرفون من الصحابة أحداً، ولا من الصالحين أحداً، ولا يعرفون من العلماء أحداً، إنما همومهم وتعلقاتهم وآمالهم وثقافتهم هذه الأشياء الضحلة، ويترتب على هذا جيل ضائع ضال لا يعرف الله حق المعرفة، كما هو حال أجيال الكفار -والعياذ بالله-.

أيها الإخوة! هذه الشرور هي زبالة أفكار الكفار، والقنوات تجلب عليك كل ما عند الكفار، وتركبه وتضع أموالاً فيه، وعقلك يقول لك: إن هذا ليس طيباً، لكن شهوة النفس تطغى على رغبة العقل.

مثال ثانٍ: التدخين: المدخن الآن يعرف أن الدخان ضار، ويقرأ على العلبة: التدخين يضر بصحتك، فننصحك بالامتناع منه، ومع هذا تجده يدخن.

العقل يقول لك: إنه ضار، والنفس تقول: يا شيخ! دخن وسوف تنجلي همومك، يا رجل! أنت عندك هموم ومشاكل، وإذا دخنت فإنك ترى الدنيا كلها، فرفض أمر العقل، واستجاب لشهوة النفس؛ لضعف عقله ولقوة سيطرة نفسه.

التدخين يضر بإجماع الناس، حتى الشركة تكتب عليه أنه مضر، كل شركة تصنع أي صنعة فإنها ترسل دعاية للصنعة التي تقوم بصناعتها إلا الدخان فإنهم أرسلوا دعاية ضد الصنعة، وكل طعام عليه تاريخ صلاحية ابتداء وانتهاء، إلا الدخان تجده منتهياً من يوم أن قاموا بصنعه، ليس له تاريخ صلاحية، ومع هذا لا أحد يسأل عن هذا، لو اشتريت علبة لبن بأربعة ريالات، ولقيت عليها تاريخ الصلاحية منتهياً، تأخذها أم تذهب فتشتكي وتمسك صاحب اللبن وتصيح عليه: كيف تبيع هذا الشيء وهو منتهي الصلاحية؟ هذه انتهت صلاحيتها في 30/12 واليوم نحن في شهر 2 وأنت تبيعها، وتأخذ اسمه وتبلغ البلدية، لكن عندما تشتري الدخان وقد انتهت صلاحيته في بلده، من يوم أن صنعوه، قالوا: هذا يضرك، لكن لا. سأدخن، لماذا؟ لأن العقل مرفوض الأمر، بينما النفس الأمارة بالسوء هي الآمرة، أمرت بشهوة الدخان، فنفذها الإنسان لضعف عقله، ولمرض قلبه.

ويقول العلماء: إن النفس إذا قويت مرض القلب، إذاً هي عملية موازنة، إذا سلم القلب وتقوى، ضعفت النفس، وإذا قويت النفس وسيطرت، ضعف القلب، ويبقى العقل يأتي بأفكار لكن لا أحد يطيعه، يأتي بآراء لكن لا أحد ينفذ آراءه. إذاً العقل هذا كيف نجعل آراءه سليمة؟ قالوا: ينور بنور الدين، والقرآن، ويتعلم العقل الأنوار من كتاب الله، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويهتدي بالتفكير وبالتأمل وبالنظر في الآيات الكونية، وفي الآيات القرآنية، إلى أن يصدِّر آراء صالحة مع إصلاح النفس، فتجتمع آراء النفس مع آراء العقل إلى القلب فيصلح القلب، هذا هو الجزء الرابع.

صلاح القلب واستقامته صلاح للبدن

الجزء الخامس والأخير والمهم في الإنسان وهو القلب سماه العلماء بهذا الاسم؛ لأنه ملك الجوارح، وسيد الأعضاء، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالمضغة؛ لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، والحديث في الصحيحين ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب) وهذا هو ميدان العمل على الإصلاح، لم تهتم الشرائع إلا بإصلاح القلوب؛ لأن القلوب تمرض كما تمرض الأجساد، والقلوب تعمى كما تعمى الأبصار قال الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله في القرآن الكريم أن القلوب تمرض، قال عز وجل: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] وقال: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] هذه كلها بيان على أن القلب يمرض، لكن كيف يمرض القلب؟

قالوا: مرض القلب هو عجزه عن القيام بوظيفته الآن العين إذا عميت قالوا: مريضة لماذا؟ لأنها عجزت عن القيام بوظيفتها، وهي الرؤية.

الأذن، ما هي وظيفتها؟ السماع، إذا لم تسمع قالوا: صمّاء مريضة.

اليد ما هي وظيفتها؟ الحمل، إذا عجزت عن الحمل قالوا: يد شلَّاء.

الرِّجل ما هي وظيفتها؟ المشي، إذا انكسرت الرجل وعجزت عن المشي، قالوا: رجله مكسورة مريضة.

والقلب ما هو وظيفته؟ معرفة الله، معرفة دين الله، معرفة رسول الله، إذا لم يعرف الله ولم يعرف دين الله ولا عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبه مريض؛ لأنه لم يقم بوظيفته.

ما أنواع مرض القلب؟

ثلاثة أمراض: مرض شبهة، ومرض شهوة، ومرض غفلة، هذه هي الأمراض التي تصيب القلب.

1- مرض شبهة: يورث شكاً في الدين.

2- ومرض شهوة: يورث تقديم الهوى على أمر رب العالمين.

3- ومرض غفلة: يورث نسيان الله والدار الآخرة، والجنة والنار، فيتقيد القلب، يصبح محاصراً من كل جهة، مريضاً بالشهوات ومريضاً بالشبهات ومريضاً بالغفلات، فيتعطل عن أداء وظائفه كاملة، ويبقى فاسداً: (وإذا فسدت فسد الجسد كله) إذا فسد القلب فسدت العين، وفسد اللسان، وفسدت الأذن، وفسدت اليد، وفسد الفرج، وفسدت الحياة، كلها، لماذا؟ لأن القلب فاسد.

إن شباب الصحوة الذين ترونهم الآن -أسأل الله أن يكثرهم ويبارك فيهم ويوفقهم- هذا شاب ملتزم ما الذي صلح فيه؟ لقد كان مغنياً أو لاعباً، أو لاهياً، أو عابثاً، أو قليل دين، أو قاطع صلاة، أو عاقاً لوالديه أو -والعياذ بالله- لا يعرف المسجد، ولا يعرف دين الله، لكن فجأة هداه الله، ما الذي صلح فيه أولاً؟ إنه قلبه، عندما صلح قلبه، قال لعينه التي تنظر إلى الحرام: والله لا تنظرين إلى الحرام، قالت: حسناً، وصار أكره شيء عنده الحرام. إذا رأى امرأة كأنه رأى عفريتاً، لقد كان يتلذذ بسماع الأغاني أما الآن إذا سمع أغنية تراه يصيح: أغلق، كأنها رصاصة دخلت في أذنه كان يكره الأذان، أما الآن فإن أحب شيء عنده إذا سمع: الله أكبر! أحب شيء عنده أن يدخل المسجد ويصلي، أحب شيء عنده يرى العلماء والمشايخ والدعاة، أحب شيء عنده أن يقرأ القرآن، ما سبب صلاح هذه الجوارح؟ إنه صلاح القلب.

إذاً عليك أن تسعى لإصلاح قلبك؛ لأنك لا تنتفع إذا لقيت الله إلا بقلبك السليم، يقول الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] سليم من ماذا؟ قالوا: سليم من الشك، والشبهة والشهوة والغفلة.

ما هي أمراض الشبهات؟ هي الشكوك التي يزرعها الشيطان في قلب الإنسان في قضايا العقيدة والإيمانيات: شك في الله، وفي رسول الله، وفي دين الله، وفي الجنة، وفي النار، وفي البعث، وفي عذاب القبر، وفي الملائكة، وفي الجن.

من الذي يزرع هذه الشكوك؟ إنه الشيطان ليزعزع عقيدتك، وأنت لم تؤمن بهذه القضايا جزافاً بل آمنت بها بناءً على وعد وخبر صادق من الله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]ً، من أحسن من الله قولاً، يقول الله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، أنت لم تؤمن بهذه القضايا من فراغ، ولا ورثتها، بل آمنت بها من كتاب عظيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جاءك به رسول هو أصدق البشر، والله ما على وجه الأرض من هو على الحق إلا المسلم، ولا يملك أحد وثيقة صحيحة من عند الله ليس فيها زيادة حرف أو نقص حرف إلا المسلم، كتاب الله المحفوظ، المتلو، المسطر في السطور، الذي قال الله فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فنحن نصدق بهذه الأخبار؛ لأن الله أخبرنا بها، يأتي الشيطان يزعزع، لكن إذا وجد منك اليقين انصرف، فمرض الشبهة أخطر مرض على القلب؛ لأنه يورث الشك، وإذا شككت في دين الله كفرت: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] قالوا: الفتنة هي الشك في دين الله.

مرض الشهوة أن تتصارع في نفسك، وتتصادم شهوات النفس مع أوامر الرب، مثل شهوة النوم عند صلاة الفجر، الله أمر أن تقوم لصلاة الفجر في الساعة الرابعة، وأنت في الساعة الرابعة تقول لك النفس: هذه أحسن ساعة للنوم، فصار صراع داخلي بين شهوة محببة وهي النوم، وبين طاعة مفروضة وهي الصلاة، مع من أنت؟ إن كنت قمت فأنت مع الله، وقلبك سليم، وإن نمت عن صلاة الفجر فقلبك مريض؛ لأنك أطعت شهوتك، ورفضت أمر خالقك ومولاك.

شهوة النظر إلى النساء، تمر وترى منظراً، وأنت إنسان، وعندك ميول ورغبات، وزين لك هذا الشيء، يقول الله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] أول شيء: النساء، لكن هذا المنظر يتعارض مع أمر من أوامر ربك، يقول تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] فأنت بين وازع ودافع، وازع ديني ودافع شهواني، الوازع الديني يقول: حرام، والدافع الشهواني يقول: انظر، لا يفوتك المنظر، إن غضيت بصرك إذاً قلبك سليم، وإن فتحت عينك إذاً قلبك مريض، وقس على هذا.

مرض الغفلة: وهو أن تنسى الله، ويشغلك الشيطان، بحيث لا يبقى عندك من الوقت شيء تذكر الله فيه، يقول لك: الآن عمل، وبعده غداء، وبعده نوم، وبعده شراء حاجات البيت، وبعد ذلك سهر، وأفلام، ولعب، وبلوت، وتستمر على هذا، هذا برنامج أكثر الناس من حين يصبح إلى أن يصبح اليوم الثاني لم يذكر الله، ولا يعرف مسجداً لله، ولا يعرف أنه مسئول عن دين الله، ولا يعرف أنه مطلوب منه أن يدعو إلى الله، ولا يعرف أن هناك جنة أعدها الله، ولا يعرف أن هناك ناراً توعده الله بها، إنه غافل، والغافل كما يقول العلماء: يجعل الله بينه وبين الهداية حجاباً، لا يمكن أن يهديه الله وهو غافل، يقول الله عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَق [الأعراف:146] يعني: سأصرف عن هدايتي وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146] لماذا يا رب؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146].

هذا هو السبب، السبب أن الله أعمى بصائرهم، يرون طريق الحق ولا يسلكونه، ويرون طريق الباطل ويسلكونه، لماذا؟ لأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين.

لكن كيف نعالج القلوب من هذه الأمراض الثلاثة؟

قال العلماء: علاج مرض الشبهة باليقين، اليقين الجازم على أخبار الله، والتصديق الكامل بها.

وعلاج مرض الشهوة بالصبر، بالصبر عن الشهوات، صحيح أن الزنا فيه لذة؛ لكن يوردك النار ويحرمك من الجنة، ذلك الرجل الذي قالت له المرأة: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فماذا أعطاه الله؟ نجاه الله من النار في الدنيا، وسينجيه الله من النار في الآخرة.

شهوة النظر إلى الحرام فيها لذة، لكن يقول: لا. أريد أن أنظر بهذه العين إلى وجه الله الكريم في الآخرة.

شهوة الأغاني فيها متعة، لكن أريد أن أسمع بهذه الأذن خطاب رب العالمين في الجنة والدار الآخرة.

شهوة المال الحرام فيها متعة، لكن لا. أريد أن يعوضني الله خيراً منه في الدنيا والآخرة، وهكذا عليك أن تقاوم الشهوات بالصبر، فاصبر، ولهذا جاء الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، وهو بمنزلة الرأس من الجسد، والذي لا صبر له لا دين له، ولا ينال شخص مطلوبه في الدنيا والآخرة إلا بالصبر.

الآن الطالب الذي لا يصبر على الدراسة والامتحانات، هل ينجح؟ لا. لكن لو صبر فإنه ينجح، حتى يحصل على وظيفة ويكون له راتب، لكن إذا لم يصبر على الدراسة، كان فاشلاً وضائعاً ومنحرفاً، كذلك الذي يريد أن ينال الجنة، لا بد أن يصبر عن الشهوات.

أما علاج الغفلة فيكون بذكر الله، وبقراءة القرآن، وبمجالسة العلماء، وبالإكثار من التفكير ومعرفة الهدف من خلقك -أيها الإنسان- هذا هو العلاج لهذه الأمراض الثلاثة، وقد جاءت في كتاب الله في قول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] أي: عن الشهوات وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] أي: عن الشبهات، يقول ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين، ثم قرأ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

الصبر عن الشهوات، واليقين على الشبهات، والذكرى ضد الغفلات، فإذا عالجت قلبك بهذه الأمور، سلم القلب، وإذا سلم القلب سيطر على النفس، ورفض أوامرها، وقرّب العقل وقَبِل استشارته، وصلحت الحياة، وصلح كل شيء فيه؛ عينك، وأذنك، ولسانك، وبطنك، وفرجك، ويدك، ورجلك، ووظيفتك، وزوجتك، وولدك، وتصلح حياتك كلها، لماذا؟ لأن القلب صلح، وإذا مت ولقيت الله عز وجل كان قلبك سليماً يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] هذا -أيها الإخوة- الأمر الأول الذي لا بد أن نعرفه، حتى تتحقق لنا السعادة وهو معرفة: من أنت أيها الإنسان؟

أنت جسد لا يتعلق به مدح ولا ذم، وأنت روح لا تعرف حقيقتها، وأنت نفس مطلوب منك أن تجاهدها، وأنت عقل مطلوب أن تبحث عنه، وأنت قلب مطلوب أن تعالجه، فعالج نفسك بالمجاهدة، ونور قلبك بالقرآن والسنة، وعالج قلبك بالصبر على الشهوات، واليقين على الشبهات، والذكرى ضد الغفلات.

الجسد هو هذا الذي نعرفه كلنا، عظام مركبة عليها عضلات وأعصاب، وعليها لحم، وأجهزة: جهاز سمعي، وجهاز بصري، وجهاز تنفسي، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي، الأجهزة هذه عرفها الناس، والجسد جزء واحد فقط من الأجزاء، وهو أبسط الأجزاء، ولم يأت في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثناء على الناس على قدر أجسامهم، بل جاء الذم، قال الله في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4] وجاء الذم في السنة يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) أجل جسمك صغير أو كبير، أبيض أو أسود، طويل أو عريض، سمين أو ضعيف، هذا ليس له قيمة؛ لأنك لست الذي ركبت جسمك، ولا أنت الذي لونت جسمك، ولا أنت قمت بتطويله، الذي ركبك هو الله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6] لا كيفما تشاءون أنتم، هذا هو الجسد، هذا جزء واحد.

الناس الآن لا يعرفون من الإنسان سوى جسده، ولهذا فإن التركيز والأهمية في حياتنا على الجسد، إذا مرض الجسد ماذا نعمل؟

نأتي بالعلاج، وإذا انعدم العلاج في الرياض أين نجده؟ قالوا: علاجك في لندن، فإن كان معه أموال فإنه يحجز بسرعة، وإن لم يكن معه أموال فإنه يبيع بيته، وإن لم يكن عنده بيت فإنه يذهب يطرق أبواب المحسنين والدولة، فيقول: أنا مريض، لا بد أن أسافر، إذا مرض الجسد هذا دواؤه، بينما يمرض القلب والمسجد بجانبه فلا يذهب إليه، بل يأتي الطبيب، طبيب القلوب في المساجد، وتراه يتكلم عن أمراض القلوب، ولا يتطرق إلى كيفية معالجة القلوب من منظور شرعي، لأنه لا يعرف العلاج الشرعي؛ بل يعرف فقط الجسد، وإذا جاع الجسد أطعموه، وإذا عطش الجسد أسقوه، وإذا برد الجسد أدفئوه؛ ملابس شتوية، وإذا احتر الجسد بردوه: مكيفات، ومراوح، وملابس صيفية.

إذاً الحياة عند الناس الآن حياة الجسد، وهل أنت إنسان بجسدك فقط؟ لو أن القضية قضية جسد ففي الحيوانات من هو أكبر منك جسداً.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

يقول العلماء: إن الروح هي الطاقة المحركة لهذا الجسد، الجسد مثل (الميكرفون)، ما الذي يشغل (الميكرفون)؟ الكهرباء، إذا نزعنا الكهرباء هل يبقى له قيمة، هل يكبر الصوت.

الثلاجة تقوم بتبريد الطعام، ما الذي يجعلها تبرد؟ الكهرباء، إذا نزعنا الكهرباء لم تعد تبرد الطعام، رغم أن الثلاجة موجودة.

الجسد يتحرك، والعين تبصر، من الذي يحركها؟ الروح، إذا صعدت الروح هل تبصر العين؟ العين موجودة لم يذهب شيء، لكن ذهبت الروح المحركة لها.

الأذن تسمع فإذا خرجت الروح لا تسمع، مع أن الأذن موجودة والجهاز السمعي موجود، تأتي فتصيح في سمعه فلا يسمعك، لماذا؟ الذي يحركها ليس موجوداً.

القلب يضخ الدماء، إذا خرجت الروح يقف القلب، لا يتحرك؛ لأنه لا يوجد محرك، وتسمعون الآن عن عمليات زرع الأعضاء، إذا مات الشخص أخذوا قلبه ووضعوه في شخص آخر، حسناً.. لماذا تحرك هناك ولم يتحرك هنا؟ لأن المحرك الذي هنا خرج وهي الروح، كليته فشلت هنا أخذوها وتحركت هناك، إذاً الحياة ليست في القلب ولا في الكلى، الحياة في الروح.

حسناً.. ما هي الروح؟ لا نعلمها، عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح قال الله له: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وهذه الروح من الأشياء التي استأثر الله بعلمها، ولا نعلم عنها شيئاً إلا بعض صفاتها، بأنها تخرج، وأنها تصعد وأنها إذا مات الإنسان صعدت روحه، ولهذا تجدون الميت إذا مات، فإنه يشخص ببصره، ويسن تغميضه، لماذا؟ لأنه إذا خرجت الروح تبعها البصر، وأن الروح تتوفى عند النوم، وتتوفى عند الموت، قال الله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ [الزمر:42] أي: يتوفاها فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] حسناً.. النوم هو وفاة، قد يقول شخص: كيف؟ نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا قمنا من النوم أن نقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) كنا قد متنا في النوم، والروح تخرج من الجسد، وتجلس قريبة منك، ولها صلة بالجسد تحركه لكن من بعيد، بالليزر -كما يقولون- أو (بالريموت كنترول) بعيدة عنك، ولكن تخرج منه حتى يستريح، إذا لم تخرج الروح لا يستريح الإنسان.

ولذلك عندما تأتي نائماً وتتكلم عند أذنه فلا يسمعك، تأتي عند عينه، وتضع أمامها شيئاً فإنه لا يراه، تضع عند أنفه شيئاً لا يشمه، تريده أن يشم ويرى ويسمع، قل له: يا فلان.. -أيقظه من النوم- فيقول: نعم، فتعطيه الطيب فيشمه، وتريه شيئاً فيراه، وتتكلم معه فيسمعك، لماذا؟ لأن الروح كانت بعيدة، وهي التي تشم، وهي التي تنظر وهي التي تسمع، فكيف تعلقها بالجسد؟ لا نعلم، هل هي موجودة أم غير موجودة؟ قال العلماء: لو تظل الروح في الجسد، لن يستريح الإنسان ولن ينام، ولن يستطيع أن يفعل شيئاً.

لو دخلت إلى بيتك وأنت متعب، ومثقل بهموم العمل، خصوصاً لو كان عملك مهنياً بدنياً، ودخلت إلى البيت وقلت: أبنائي! دعوني أنام، قالت لك امرأتك: هل تريد أن تستريح؟ قلت: نعم. أريد أن أنام، قالت: خذ راحتك، هذا السرير والمكيف فوقك شغال، لكن لا تنم، وكلما أغمضت عينك فتحت عليك الباب وقالت: استرح استرح، ما رأيك هل تستريح؟ لو تجلس على السرير ستين ساعة فلن تستريح، لكن لو نمت ثلاث أو أربع أو خمس ساعات ثم تقوم بعدها، وإذ بك تقول: لا إله إلا الله! الحمد لله، الحمد لله، استرحت وأصبحت نشيطاً، وقد رجع لك كل نشاطك، وكل قوتك، لماذا؟ لأن الروح خرجت، لو لم تخرج وتدع الجسد يستريح لما استراح أبداً.

هذه الروح لا نعلم عنها شيئاً، ويكفينا من العلم ما علمنا الله، قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وهي كما قلت لكم: بمنزلة الطاقة المحركة للجسد.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع