شرح العقيدة التدمرية [20]


الحلقة مفرغة

سننتقل إلى فصل جديد في طرق الإثبات، وسنأخذه على سبيل الإيجاز والتلخيص، والفصل فيه قواعد وأصول وتفصيلات لهذه الأصول، ولا يهمنا التفصيلات والأمثلة؛ لأن فيها نوعاً من الصعوبة الذي قد يتسبب في تشويش الفهم.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام لم يكتب لطلاب العلم وأهل السنة فقط، بل كتب لصنفين: للمتكلمين، ولمن تأثر من طلاب العلم بمذاهب المتكلمين في أسماء الله وصفاته، أما عامة طلاب العلم فهذا لا يصلح لهم، وليسوا بحاجة إليه، إلا القواعد العامة كما ذكرت.

وفي هذا الفصل لا نحتاج إلى أن نقرأ، وإنما نحتاج إلى أنكم تتبعون معي القواعد في مظانها، ثم نتجاوز جزءاً كبيراً من الفصل.

والشيخ رحمه الله تعالى هنا يتكلم عن الطرق المشروعة وغير المشروعة في مسألة إثبات أسماء الله وصفاته وأفعاله، والنفي كذلك، لكن هنا ركّز على الإثبات، وسيأتي كلامه على النفي فيما بعد.

فيقول: إن طرق إثبات أسماء الله وصفاته هي الطرق الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة، وما تضمنته من قواعد وأصول شرعية وعقلية، ثم الطرق العقلية التي توافق البراهين القرآنية، والتي جاءت بتثبيت الطريقة الشرعية.

وإثبات الأسماء والصفات لله عز وجل أولاً: يعتمد على السمع، أي: على الوحي، والوحي له في الإثبات طريقتان:

الطريقة الأولى: إثبات تفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله ومفرداته، مثل: العلم، والحكمة، والإرادة .. ونحو ذلك.

الطريقة الثانية: إثبات قواعد أو أصول الكمال لله عز وجل التي تتضمن الأسماء والصفات والأفعال.

والثاني: هي الطرق العقلية التي يقول بها العقلاء، والتي توافق قواعد الشرع، فقد تكون غير واردة في الكتاب والسنة، لكنها صحيحة في السبر والاستقراء، وفي التمعن والتدبر، وفي صريح العقل السليم والفطرة، إذ هي أصول يستدل بها عقلاء الناس على إثبات الكمال لله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله على جهة الإجمال، وفي بعض التفاصيل، وليس كل التفاصيل؛ لأن العقول لا سبيل لها في إدراك التفاصيل بأسماء الله وصفاته في كل الأمور، فالعقول السليمة تُدرك الإجماليات، وبعض الأمثلة على التفاصيل التي توافق الشرع، فهذا ما أراد أن يقوله الشيخ في أول هذا الفصل.

يقول رحمه الله تعالى: [ وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه ].

يشير الشيخ هنا إلى طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، أو حتى المنتسبين لأهل السنة الذين يثبتون -بزعمهم- كل صفة ترد مع نفي التشبيه، حتى بما لا يليق، ولذلك تكلموا في الأعضاء والأفعال غير اللائقة بحق الله، فقالوا: نثبتها، مع أنها لم ترد في الكتاب والسنة، بل إن العقول السليمة تنفر منها، لكن قالوا: نثبتها من غير تشبيه، وصاروا يثبتون كل شيء من غير تشبيه، ويظنون أن كلمة (من غير تشبيه) تنفي النقص عن الله، وهذا غير مسلّم لهم، فالفريقان كل منهما نقول له: مجرد نفي التشبيه لا يجوز، سواء من الجهمية والمعطّلة الذين أثبتوا بعض الأسماء والصفات، وقالوا: من غير تشبيه، وزعموا بذلك أنهم يريدون نفي حقيقة الصفة، أو يدخلون تحت هذا نفي حقيقة الصفة، أو الذين بالغوا في الإثبات، من المشبّهة ومن بعض جهلة أهل السنة، والذين أثبتوا ما لا يليق بحق الله عز وجل في الاستواء والأعضاء .. وغيرها، يعني: أنهم ذكروا لوازم الاستواء، وقالوا: نُثبت ذلك من غير تشبيه، والشيخ يقول لهم: إن هذا خطأ، بل نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه، إذ لا مانع من ذلك، لكن أيضاً هذا الإثبات إذا أخرجناه عن نصوص الكتاب والسنة فلا نُثبت إلا ما يقتضي الكمال، ونقول: صحيح أن من الكمالات ما نعبّر عنه بألسنتنا، ولم يرد في الكتاب والسنة، لكنه كمال لا غبار عليه، فهذا يُثبت لله عز وجل.

أما تفصيلات الأسماء والصفات والأفعال فلا تُثبت على وجه يشعر بالنقص لله عز وجل، إلا ما ثبت في الكتاب والسنة، ولذلك الشيخ ضرب أمثلة: بالبكاء والحزن والجوع والعطش، وبعضهم حينما ذكر حديث: (جعت يا عبدي فلم تطعمني) فتعالى الله عن أن يثبت ذلك على هذا النحو، مع أن مثل هذا السياق جاء صراحة من غير تأويل، وذلك تعبيراً عن حاجة عباده الذين يحتاجون إلى إطعام، وهذا واضح من السياق، ومثله: حديث الهرولة، فالصحيح والراجح أنه لا يُقال: هرولة من غير تشبيه، فحديث الهرولة مرتبط بأفعال العباد، ولذلك تفسيره ليس غيبياً، فلا يجوز أن يقول قائل: نثبت الهرولة من غير تشبيه، ولا يقال: الله أعلم بمراده، بل نثبت اللازم الظاهر من النص، ولا يعد هذا من التأويل؛ لأن التأويل يتعلق بالغيب البحت، أما أمر مربوط بعالم الشهادة، أو مربوط بمجازاة العباد ربطاً مباشراً من غير تأويل ولا مجاز ولا استعارة .. ولا نحو ذلك، فهذا تفسيره يعتبر حقيقياً للنص، فهو تعبير عن مجازاة العبد؛ لأنا نعلم أن الإنسان لا يعبد الله بالمشي ليجازى بالهرولة، وليس المشي في حد ذاته عبادة، وإنما من أتاني ماشياً، أي: سائراً على ما شرع الله من العبادات والواجبات والفرائض فإن الله يجازيه بأعظم مما فعل، فعُبِّر عن هذا بالمشي، وعُبِّر عن تلك بالهرولة، وهذا نص فريد من نوعه، ومثله: حديث الملل عند بعض أهل العلم، وكذلك نصوص أخرى جاءت بسياق عالم الشهادة، وجاءت في سياق المجازاة، وليست غيبية خالصة.

أما بقية النصوص الأخرى فتُعلّق بأفعال الله عز وجل وصفاته؛ لأنها غيبية خالصة، ويقال فيها: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير تمثيل، ونقول: على ما يليق بجلال الله عز وجل، مع وجوب معرفتنا بأنها حقيقة؛ لأن الله عز وجل لم يتكلم إلا بالحق، ولا يُخبر إلا بالحق.

ثم ذكر أيضاً الضحك والفرح والحزن في أشياء ثبتت فيها النصوص، ولا يقال: الجوع مثل الضحك، أو العطش مثل الضحك، أو البكاء مثل الضحك، فالضحك أمر غيبي بحت، ويُثبت على ما يليق بجلال الله عز وجل، لكن ما لم يرد لا بد أن يخضع للقاعدة الأخرى.

قال رحمه الله تعالى: [ فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع - يعني: الوحي- أثبته دون ما لم يجئ به السمع ].

هذه أيضاً قاعدة ناقصة؛ لأن من الكمالات التي تثبتها الفطرة السليمة والعقول لله عز وجل ما لم يرد به السمع على جهة التفصيل، فهذا على جهة الإجمال يُثبت لله عز وجل، فالسمع لا شك أنه خبر صادق، وهو جاء بالنفي والإثبات، وأيضاً الخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، بمعنى: أنه إذا لم يأت خبر في كمال من الكمالات لا يعني أنه لا يثبت ذلك الكمال لله، فالله عز وجل ما ذكر لنا جميع كمالاته، وإنما ذكر نماذج منها، حتى إنه في حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)، لا تعني الحصر، بل هناك أدلة قاطعة تدل على أن لله عز وجل من الكمال والأسماء والصفات والمحامد ما لم يرد في الكتاب والسنة، كما جاء في حديث الشفاعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأدعو الله بمحامد يلهمني الله إياها)، يعني: بكمالات، ليحمد الله بها في ذلك اليوم العظيم، فهذا دليل على أن الكمال لله عز وجل ليس محصوراً بما ورد في الكتاب والسنة، بل كمال الله لا يحصر، ولذلك قد تدرك العقول السليمة أن كمال الله لا حد له، ولا يُحد بمفردات قد وردت في الشرع، بل ما ورد في الكتاب والسنة هي نماذج من كمال الله، مما يحتاجه البشر وتستوعبه أذهانهم.

إذاً: الاعتماد في النفي على كون الشيء لم يرد به السمع خطأ، بل كما يجب إثبات كل كمال الله عز وجل كذلك يجب نفي كل ما ينافي الكمال لله عز وجل، حتى لو لم يرد نفيه في الكتاب والسنة، والإثبات من جانب أوسع من النفي، والنفي من جانب أوسع من الإثبات، فإذا نظرنا إلى مفردات الصفات والأسماء والأفعال نجدها في الإثبات أكثر، وإذا نظرنا إلى القواعد فنجد النفي أكثر، مثل قاعدة: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فهذه أوسع؛ لأنها تنفي كل نقص، وهذا الذي جعل بعض الناس تشتبه عليه عبارة بعض السلف حينما قالوا: إن القرآن جاء بإثبات مجمل ونفي مفصّل.

وفي عبارة أخرى: إن الشرع جاء بإثبات المفصّل ونفي المجمل. فإذا نظرنا إلى مفردات الأسماء والصفات والأفعال نجد التفصيل في الإثبات أكثر، وإذا نظرنا إلى القواعد نجد التفصيل في النفي أكثر؛ لأنه رد على مقالات أمم الكفر الباطلة التي قالت في الله عز وجل قولاً عظيماً، وقولاً شنيعاً، فجاء رد أقوالهم بقواعد دون التعريج على الأمثلة؛ لأن الأمثلة لا يحتاجها الناس، أي: أن صاحب العقل السليم والفطرة المستقيمة يكفيه أن تُعرض عليه قواعد نفي النقص عن الله عز وجل، بل إنه من غير اللائق أن يبالغ الإنسان في النفي، فالله عز وجل يُثبت له الكمال وتُنفى عنه النقائص، فيُثبت له الكمال جملة وتفصيلاً، وتُنفى عنه النقائص على جهة الإجمال، إلا إذا جاء لتفصيل موجب، كأن يتكلم متكلم بكلام غير لائق، فيرد عليه بمثل كلامه، وإلا فالأولى أن الإنسان لا يكثر من الأمثلة في نفي النقائص عن الله عز وجل، ولذلك تجدون مثل العبارات التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية من نفي البكاء والعطش والأعضاء، لا يأتي بها إلا عندما تأتي قواعد الرد فقط، وعند الرد على أناس خاضوا في هذه الأمور وابتلوا بها، ولذلك نصيحتي لكل طالب علم متخصص في العقيدة ألا يُعرّض الناس في الدروس لمثل هذه الأمور بدون موجب ضروري، كأن تكون مقتضى الدرس الذي يدرسه، أو أتت على لسان أحد، ومن هنا يفصّل من أجل نفي الشبهة، أما أن يكون تقريراً أمام عامة الناس، أو أمام عامة طلاب العلم، أو حتى طلاب العلم المبتدئين في العقيدة، فالأولى والأجدر أن يتحاشى التفصيلات في نفي النقائص؛ لأن ذكرها سوء أدب مع الله عز وجل.

بقية كلام المصنف هو تقرير لهذا، ولذلك قال بعدها رحمه الله تعالى: [ فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة للّه فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر ]. هذه قاعدة عظيمة جامعة.

يعني: أن السمع والعقل السليم جاء بإثبات صفات الكمال لله عز وجل، وأيضاً السمع والعقل السليم والفطرة المستقيمة أتيا بنفي النقص بقاعدتين:

الأولى: ما يضاد الكمال لله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، فهذا ينفى عن الله عز وجل.

الثانية: نفي أن يكون لله كفء ونظير وند مطلقاً.

فهاتان القاعدتان تلتقي فيهما جميع قواعد نفي النقائص عن الله عز وجل.

ثم ذكر الشيخ الرد على القرامطة، هؤلاء الذين يعيشون في وساوس وأوهام وأمراض.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به ].

هذه قاعدة جديدة متفرعة عن القواعد السابقة، إذ إن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، لكن على نحو مختلف، فالكمال الذي ثبت للمخلوق كمال نسبي محدود يعتريه الضعف والنقص والفناء والخلل، بينما الله عز وجل له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص.

هذه القاعدة تنطبق على ما يسمى بالمفردات والجزئيات، فإذا قلنا: إن الله عز وجل ثبت له العلم، ومن البشر من أعطاه الله علماً على وجه الكمال بين البشر، إذ إن أكمل الناس علماً هم الأنبياء، وأكمل الأنبياء علماً هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فعلمه محدود؛ لأن الله لم يطلعه من العلم إلا على الشيء اليسير، بعكس ما تدعيه أصحاب الطرق والفرق والأهواء، فليس عنده من علم الله إلا ما علّمه الله إياه، ولم يطّلع من أمر الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فإذاً علمه محدود، مع أنه يُقال فيه: أكمل الخلق علماً.

إذاً: هذا العلم يُثبت لله على صفة الكمال، ويُثبت للمخلوقين على صفة يناسبهم، وكذلك الحكمة والإرادة .. وغيرها، إذ هي كمالات، والله عز وجل يُكمل بها بعض خلقه، لكنه كمال نسبي، أما الكمال المطلق في جميع هذه الأمور .. وغيرها فهو لله سبحانه.

قال رحمه الله تعالى: [ وكل نقص تنزّه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك ] سواء ورد بالسمع -أعني: بالوحي- أو لم يرد؛ لأن الناس يحدثون من المقالات ومن الأوهام ومن الخيالات ومن الألفاظ ما لم يرد في الكتاب والسنة، لكن قواعد رد الباطل موجودة في الكتاب والسنة، مثل قوله عز وجل: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4] فهذه قواعد حاكمة لا يُفلت منها أي تصور إدراك مطرد عن البشر، فكلها ترد إلى هذه القواعد.

قال رحمه الله تعالى: [ والسمع قد نفى ذلك في غير موضع، كقوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب ] كما ذكر المحقق هنا: أنه أخرج الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب : (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك، فأنزل الله تبارك وتعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]).

لا يعني النسب هنا: نسب التوارث، وإنما هو التعريف بالرب عز وجل، ووصفه عز وجل.

ثم بعد ذلك تكلم عن تفصيلات وأمثلة لسنا بحاجة إليها، بل الأولى ألا نتعمّق في مثل هذه الأمور؛ لأن الشيخ رد بها على أناس ابتلوا بالوساوس والأوهام، وزبالات أفكار الفلاسفة وخيالاتهم.

قبل القاعدة السابعة قال رحمه الله تعالى: [ وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له - أي: لله عز وجل - ولا ما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع ].

على هذا التفصيل يشير الشيخ إلى مواضع أخرى، مثل: كتابه (درء التعارض) فقد فصّل فيه الشيخ هذه المسألة في مئات الصفحات، وكذلك كتاب: (منهاج السنة) بشكل أقل، وأيضاً في مواضع أخرى، كرسائل مفردة في الفتاوى، وسيأتي قراءة بعضها.

يقول رحمه الله تعالى: [ وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه ].

أي: جوامع تقرير هذه الأمور بالأصول الشرعية وبالنصوص، وتقرير هذه الأمور بالقواعد العقلية السليمة، وقواعد الفطرة نفياً وإثباتاً.

ثم قال رحمه الله تعالى: [ وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه].

قوله: (ولم يكن في العقل) يقصد بذلك: العقل السليم، وإلا فكل صاحب عقل مخلّط يستطيع أن يقول: إن عقله يقول ويقول.

قال رحمه الله تعالى: [ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم ].

إذاً: هذه قاعدة عظيمة وسليمة، من التزمها سلم دينه وسلمت عقيدته.

بيان معنى الأحاديث التي أتت بربط أفعال الله بأفعال العباد

السؤال: ما ذكرته حول حديث: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) نريد مزيد بيان وتوضيح، وهل هناك قاعدة تضبط بها مثل هذه النصوص؟

الجواب: الأحاديث التي جاءت بربط أفعال الله بأفعال العباد، سواء على سبيل المجازاة أو المشاكلة .. أو نحو ذلك، تعتبر مفسّرة بنصها، ولا يجوز في غالبها أن نثبت منها صفات؛ لأنها قد جاءت على وجه فُسِّر بها النص، وضربت في هذا بمثال الهرولة والملل، قال عليه الصلاة والسلام: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) فليس المقصود بالملل عند الله الملل الذي عند البشر، فالملل عند البشر صفة نقص، لكن الملل هنا جاء على سبيل المجازاة، وهذه القاعدة لا تُحكم بها الصفات الغيبية البحتة الأخرى؛ لأنها تخرجها عن الحقائق، بينما هذه التي وردت في سياق المجازاة حقيقتها يفهمها كل عاقل، حتى العامي يفهم أن قوله عز وجل: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) أنها حث على الطاعة، وليست متعلقة بإثبات الصفة، وإنما متعلقة بإثبات الجزاء؛ لأنها ربطت بالمخلوق، وكذلك ما يتعلق بنسبة بعض الأشياء إلى الله، كنسبة البيت إلى الله عز وجل، ونسبة الناقة، فلا يعني أن نقول: نصف الله عز وجل بهذه الصفات؛ لأنها جاءت على سبيل التكريم والتشريف، وفسّرناه بهذا التفسير لأنها رُبطت بعالم الشهادة، فبيت الله إذا كان المقصود به الكعبة عرفنا ما معنى كونه بيت الله، وكذلك الناقة أيضاً، فقد قيل لها ناقة الله؛ لأن الله عز وجل جعلها محل امتحان واختبار لأولئك القوم، وأعطاها مميزات وخصائص، فكرّمها وميّزها، فجاء الاختصاص على سبيل التشريف والتكريم.

الشفاعة العظمى وبيان وقتها

السؤال: ما هو دعاء الشفاعة؟ ومتى وقته؟

الجواب: حديث الشفاعة الكبرى والعظمى حديث طويل، وقد ذكر فيه عليه الصلاة والسلام ما يحدث للأمم يوم القيامة من القيام الطويل تحت الشمس، وأنهم يستشفعون بمن يشفع لهم أمام الله عز وجل لفصل القضاء بينهم، وأنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، حتى يمروا بأولي العزم جميعاً، فيكون آخرهم عيسى عليه السلام، فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، فيأتي تحت العرش فيسجد طويلاً ويدعو الله بمحامد يلهمه إياها في ذلك الموقف العظيم، وأيضاً يدل عليه دلالة أوضح قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في العلم غيب عندك)، أي: أن من أسماء الله المستأثرة به ما تكون في علم الغيب، وليس كل ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته تعتبر حصراً لها، بل إن أسماء الله عز وجل لا حصر لها من حيث الكمال والعدل.