أرشيف المقالات

الخلف بين حتمية الغلط ومعضلة التدليس - محمد بوقنطار

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .

تتفاوت مقاييس الجرأة من شخص إلى آخر في باب ما يريد أن يلزمك به في مقام المحاججة والإقناع، في مقابل نسف ما تعتقده ولا يعتقده، وتؤمن به ولا يؤمن به وتتعبد به كأصيل نافع ويراه كمتقادم محجر لوسع واسع.
وربما استطاع البعض في ظل هذا التفاوت أن يهديك سمًا في ملفوف قارورة بينة الرسم والاسم والحسم، وتكون حينها مخيرًا بين الفرار والردى وهما الأمران أحلاهما مر، بينما قد يحتاج البعض الآخر في ظل عين التفاوت أن يفزع وهو ينازع إلى أن يهديك سمًا في ملفوف حلاوة عسل وليس للردى حينها بديل فرار أو تولي إدبار.
وربما استحضرنا في غير اتهام وضابط تفريق بمفرق تقريبًا للصورة وصية ربنا لنا في مواجهة طائفتي الكفر والنفاق، إذ قرر لمعشر المؤمنين في مواجهة الأولى أمره تعالى بقوله جل جلاله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} [المائدة:3]، بينما قرر للقائد القدوة في مواجهة الثانية أمره بقوله سبحانه: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4].
ولعل إعمال قاعدة التفاوت السالف ذكرها هو الذي حذا ببعض الخصوم بشهر آليات إنكارهم وعدم التزامهم بنصوص الوحي واعتبارها نصوصًا بشرية لا قيمة لها ولا قداسة وإنما هي نصوصٌ أدبيةٌ يتوجب إخضاعها لقواعدِ النقدِ الأدبي كما نصَّ على هذا ناصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النص- دراسة في علوم القرآن) إذ قال: "إن النص القرآني وإن كان نصًا مقدسًا إلا أنه لا يخرج عن كونه نصًا، فلذلك يجب أن يخضع لقواعد النقد الأدبي كغيره من النصوص الأدبية"، وإن كان هو نفسه وقبل أن يجف حبر كتابة هذا الاجتراء قد سجل بمنسوب نفس الحبر صفاقة أخرى أكثر اعتداءً وافتراءً وذلك في كتابه: (نقد الخطاب الديني)، إذ ذهب هذه المرة في اتجاه تقرير أن: "القرآن بشري وليس من كلام الله".
كما حذا بالبعض الآخر إلى نهج سياسة اللف والدوران إذ حملته محركات أفكاره إلى أن يرفع شعار (الوحي مقدس والتأويل حر)، فاختار أن يناور باسم مشاريعِ تجديدِ الخطابِ الديني أو إعادةِ قراءةِ الفكر الإسلامي إعمالًا لقاعدة (أن النص قالب بغير مضمون) وفي هذا يقول الترابي في كتابه (تجديد الفكر الإسلامي): "وكل التراث الفكري الذي خلّفه السلف الصالح في أمور الدين هو تراث لا يُلتزم به وإنما يُستأنس به"، ولربما حملت عبارته شيئًا من التلطف الذي سجل غيابه عند الكثير من شواكل فكره الذين تجاوزوا دثار التلميح إلى عراء التصريح بتغليطهم فهم الصحابة أو الفهم الصحراوي البدوي للقرآن والسنة كما يطيب لهم النبز.
وهنا نحب أن نقف عند حتمية الخطأ الذي هو لازم من لوازم بشرية الصحابة ولا إنكار لهذا في دائرة التواطؤ والاتفاق عليه، إذ لم يخرق هذا الاتفاق أحد من المتقدمين أو المتأخرين، ولعل وقوفنا يتجاوز هذا المسلّم به لنستفسر بعده عن حجم هذا الخطأ وعن عمدية الوقوع فيه من عدمها وكذا صفة الاجتهاد الملازمة لأصحاب الفضل المطلق، فضل صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك الجيل الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، إذ أن غالب ما نقلوه عنه أخذوه عن فيه الشريف مشافهة بل وأدركوا مقصده بتوجيه منه عليه الصلاة والسلام، وعرفوا منه مناسبة وروده وأسباب نزوله، وبلغوه بعد فعل متابعة وتجريد إخلاص وخاتمة فوز وفلاح بكل أمانة وصدق وعدالة وثقة إلى جيل التابعين الذين هم أقرب القرون إلى النبي عليه الصلاة والسلام والذين أخذوا عن أصحابه تركة إرثه بعلو سند ومنقبة لقي ومعاصرة.
وقد شهدت الأدلة العقلية على اتفاق أقوال الصحابة في الأصول حيث لم يحصل بينهم اختلاف تضاد في أصول الاعتقاد وأصول العبادات وأصول النظر والاستدلال، كما شهدت الأدلة النقلية على فضلهم وعدالتهم وسبقهم في كل مزية إذ قال الله جل جلاله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ التوبة :100].
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح هو السؤال الذي يغوص في عمق هذا الثناء الرباني والذي يبحث عن حقيقة بثه في القرآن يتلى أناء الليل وأطراف النهار وهل كان المرجع في تكراره امتياز عرق أو جنس أو رسم أو اسم، أم كان من جهة التفضل المرجع في ذلك ما سجله هؤلاء السابقون من مراتب عليّة ومقامات سنية لمطلق تسليمهم للنصوص من جهة تصديق الخبر وامتثال الطلب وعلو همتهم في الصبر والمصابرة والرباط والمرابطة؟
وهل مراعاة النصوص في مقام التعبد فعلًا وتركًا وحبًا وبغضًا بتعديل الصحابة وتوثيق نقلة الوحي يلزم منه القول رجمًا بالزيف تقديسهم والانحناء أمام أخطائهم المنفوخ في كمها وكيفها من جهة فقدان المناخيل العقدية عند الحوم حول حمى أسفار الرفض وزيارة حوزات تراث التشيع المقيت والنهل من مدخول تركة الاستشراق؟
وهل الأخذ بفهم الصحابة لنصوص الوحي فعلًا حال دون اجتهاد من توفرت فيه شروط الاجتهاد عند معشر المخالف لمنهجهم بله المتفق معهم المستوعب لمناحي تدينهم وفهمهم لمراد الله ورسوله، ونحن نرى ونسجل لله وللتاريخ وجود ركام معرفي جديد متجدد في علم التفسير وعلم الحديث دراية ورواية وعلم الفقه وأصوله، تصفية لهذا الكل من شوائب الضعيف والموضوع والخرافي والمرجوح ومحاولة خلق تربية تردف هذه التصفية المباركة؟
ولعل الواقف مع أسلوب التباكي وكذا الصراخ الذي يرفع شعار إسقاط فهم السلف والقول بالظنية المطلقة لدلالة النص الشرعي وأنه كما قال أركون: "القرآن مفتوح على جميع المعاني ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفذه بشكل نهائي" يحسب هذا الواقف أن ساحة الفهم المنشودة لم تسجل بعد بداية ولوغها النجس في إناء الشبهات، وأن فهم السلف لا يزال يحول بين القوم وهذه البداية التي مات أركون دون تحقيق سقف مطلبها الذي لخصه يومًا ما من أيام ولغه النجس إذ قال: "إن القراءة التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرد والتسكع في كل الاتجاهات إنها قراءة تجد فيها كل ذات بشرية نفسها".
وعلى أي فالمنصف المتجرد لا يفهم من إرادة إقصاء فهم السلف فقط محاولة إيجاد فهم بديل جديد للخلف يقوم على أنقاض ما تم نسفه، بل إن هذا النسف وإن وقع تحققه فالمراد منه إراحة ما هو فعلا موجود في ساحة الفكر الإسلامي من فهم وقراءة ثانية لنصوص الوحي من عبء مزاحمة تميّز فهم السلف وغلبته وظهوره وقوته وسرعة تسلله إلى محاريب صدور الخلق وتشرب الفطر السوية لمعينه النقي وكذا سرعة انتشاره بين صفوف الخلق عربهم وعجمهم، في مقابل ما يعانيه المستنبت الدخيل من إغراب وأفول وغثائية توشك أن تذهبَ جفاءً أو تموت قبل الاستهلال الأول.
ألم يقل بشر المرّيسي: "ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن فأقروا به في الظاهر ثم اصرفوه في الباطن" وعليه:
ألم يفسر القرامطة الباطنية الصيام بكتم الأسرار، والحج بالسفر العقلي والروحي، والزكاة بإيصال الحكمة إلى المستحق، والجنة بالتمتع بملذات الدنيا ، والنار بالتزام الشرائع والدخول تحت أثقالها؟
ألم يفسر المعتزلة قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [ النساء :164] بقولهم كلّمه أي: جرحه بمخالب الحكمة؟
ألم يجعل الصوفية حجتهم في الرقص قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]؟
ألم يسوّغ أحد القبوريين المغاربة المعاصرين فعل الحضرة والشطح الصوفي بدليل مفاده قول الله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]؟
ألم تفسر الرافضة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] بقولهم البقرة عائشة وحاشاها؟
ألم يفسر الفلاسفة الملائكة والشياطين بقوى النفس الطيبة والخبيثة؟
ألم يفسر بعضهم قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنه لا نبي بعدي» بأنه تبشير بنبي سيأتي بعده اسمه (لا)؟!
ألم يعلق أركون على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للفطر في رمضان في وقت الحرب قائلًا: "ونحن كذلك في حرب مع التخلف"؟
ألم...
ألم...
وكم من شبهة كفانا كرّها وعْد الحفظ الرباني للوحيين وتقرير الحكم الحاسم عند التقاء الصفين صف الحق وصف الباطل مصداقًا لقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
ولولا هذا الوعد لحصل ذلك الاحتمال؛ احتمال زوال الجبال وفساد الأرض من مكرهم واتباع الحق لأهوائهم من جنس قول قائلهم أركون: "إن القول أن هناك حقيقة إسلامية مثالية وجوهرية مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم ليس إلا وهمًا أسطوريًا لا علاقة له بالحقيقة والواقع".
وقول قائلهم نصر حامد أبو زيد: "وبفرض وجود دلالة ذاتية للنص القرآني فإنه من المستحيل أن يدعي أحد مطابقة فهمه لتلك الدلالة".
ولربما؛ بل أكيد؛ أن من جملة الآحاد الذين استحال عليهم مطابقة فهمهم للدلالة الذاتية للنص القرآني -على حد زعم هذا الدعي- رسول الله صلى الله عليه وسلم! كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وخلد الله ذكر الإيمان وسيد المؤمنين في سورة المؤمنون التي كان من بعض شهاب رصدها شهادة رب العباد في ركز هذا النوع من العباد؛ إذ قال جل وعلا: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71].

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن