حقيبة السفر - إحسان مغزاوي
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
أجمع حقائبي رأس كل سنة ودبرها، أرتب متاعي داخلها، أضع فيها كل مطامحي وما أرجوه تمامًا كما أصفف ثيابي.. آخذ الألم والحزن كما آخذ الأمل والسعادة، أصطحب معي دعوات والدتي التي ترافقني بخطوات مثقلة إلى باب المنزل وعبراتها أسبق من قدميها، عبرات أهون علي أن أنشر نصفين من أن أراها، لتبقى صورتها تلك ترافقني طيلة مدة الغياب.
أبي أيضا يزعجه مشهد حقائبي المسندة إلى الحائط في رواق البيت، فأنا تعودت دائمًا تجهيزها ليلاً لأرحل معها فجرًا، وفي كل مرة أتركها في الركن نفسه كأنه لا مكان آخر يرفعها، هكذا هي الأقدار، دومًا تأسرنا على عادات لا ندري أنحن من اختارها أم هي التي ألزمتنا بها؟! وما إن كانت عفوية بريئة أم أنها تشير إلينا بشيء ما قد لا نصل إليه مطلقًا!
رغم ندرة كلامه وقلة تحرك لسانه إلا أنني أسمع هواجس أبي التي لا يخفى علي ما تكنه، ليكتفي ببعض النصائح المكررة التي حفظتها كما يحفظ هو خوفه علي: "رد بالك على روحك وليدي، صلي صلاتك وإبعد على المشاكل، هنيني ربي يهنيك ولدي"، هذا أثمن عطاياه بالنسبة لي.
أسير في ثنايا مدينتي مغادرًا وأنا أمر بوجوه قد لا ألتقيها إن أنا عدت، أو قد أجدها على حال غير الذي أراه اليوم، منظر أولئك الشيوخ الجالسين تحت ظلال أحد الجدران يشدني إليه، إذ تعودت رؤية جدي بينهم في وقت مضى فأصبحت لا ألمح إلا مكانه الذي بقي فارغًا على غير العادة، كأنه يعيش حداده بصمت مع حبات الرمال التي توسدها من يتوسد الآن رمالًا أخرى في مكان آخر، يظهر أن الجمادات أيضًا مليئة بالوفاء وتغير على محبوبها.
ذلك الجدار الذي يحتضن الأجداد لم يخبر يومًا معنى السفر، فالكل عابر سبيل إلا هو، إلا أنه لو نطق لما كفته دقائق الوجود وساعات الكون لإنهاء قصص رويت وكان هو شاهدًا عليها، لكن القصص ذهبت ورواتها رحلوا وبقي هو يستأنس بعجائز أعياهم انتظار الأجل.
أجر حقيبتي بين السبل والدروب، بين سكون الدجى ومشارف الضياء في صمت قاهر لا يكسره سوى صوت عجلات الحقيبة، وأنفاسي المتسارعة التي أثارها الإعياء من حمل المتاع، ولا يسبح في ذهني حينها عدا دعوات أمي وعبراتها ونصائح أبي ونظراته، فأتوقف قليلاً جامعًا أنفاسي وأقول في نفسي: "الحياة لا بد لها من مسير وصبر، هذا ما يجب أن يكون"، أمسك حقيبتي وأمضي.