شرح العقيدة التدمرية [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلا زلنا في المجلد الثالث من الفتاوى في كتاب التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

المثال الأول: نعيم الجنة

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل

وأما المثلان المضروبان: فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عمّا في الجنة من المخلوقات من أصناف المطاعم، والملابس، والمناكح، والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً، وعسلاً، وخمراً، وماء، ولحماً، وحريراً، وذهباً، وفضة، وفاكهة، وحوراً، وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ].

أراد الشيخ رحمه الله هنا أن يبين قاعدة من القواعد التي سبق الكلام عنها في الصفات.

كما قد تكلم عن أصلين سابقين، الأول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، يعني: أن من أثبت شيئاً من الصفات الواردة في الكتاب والسنة لزمه أن يثبت الباقي؛ لأن الشبهات التي أثارها فيما ينفيه تندرج على ما أثبت، والأجوبة الشرعية والعقلية في نفي الشبهات تندرج على ما نفى كذلك.

الثاني: القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا فيه رد على صنف آخر، وهم الذين ينفون جميع الصفات ويثبتون لله عز وجل الوجود الذاتي أو الذات، فيقول: إن الإثبات فيما أثبتموه ينطبق على ما نفيتموه، والشبهات التي قلتموها في الصفات تنطبق على ما أثبتموه، وهو الذات، وبهذا تنتقض شبهات القول.

ثم ذكر أنه سيبين هذا بعد الأصلين السابقين بمثالين مضروبين:

الأول: نعيم الجنة، وبيّن أنه كما أننا نثبت ما جاء في كتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من حقائق في الجنة، فإن هذه الأوصاف والحقائق تشبه ما في الدنيا، ومع ذلك نحن نعتقد ونجزم أن حقائق نعيم الجنة وما ورد في تفصيلاتها، مثل: العنب والخمر واللبن وغيرها، أنها حقائق تختلف تماماً عن الحقائق التي في الدنيا، فهي حقيقة، وما في الدنيا حقيقة، لكن ما في الجنة أعلى وأعظم، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قد وصف نعيمها هذا الذي لا يمكن أن يخطر على قلب بشر بنفس الوصف الذي وصف به أحوال المأكولات والمشروبات الطيبة في الدنيا، فإذا كانت حقيقة ما في الجنة تختلف كيفياتها عن حقيقة ما في الدنيا مع اتفاق الألفاظ واتفاق المعاني العامة، فإن إثبات الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله كما ثبتت بالكتاب والسنة على وجه يختلف عن كيفيات الصفات المشابهة لها لفظاً في الدنيا، وهي صفات المخلوقين، وهذا أمر لا بد أن يقطع به العقل السليم.

الثاني: الروح، وسيأتي الكلام عنه في وقته إن شاء الله.

افتراق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر

قال رحمه الله: [ وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق، وهذا بيّن واضح.

ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق:

فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم.

والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل: طوائف من أهل الكلام.

والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة، والباطنية، والفلاسفة أتباع المشّائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر ].

هذا التقسيم يشمل مواقف الناس من كل أمور الغيب، وأعظم وأجل أمور الغيب ما يتعلق بالله عز وجل وتعظيمه سبحانه بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو أبعد الغيب عن مدارك الناس، أي: عن أن تدركه حواس الناس وعقولهم على وجه الكيفية، ومع ذلك كل الغيوب غائبة عن العقول، وغائبة عن الحواس، وغائبة عن المدارك.

إذاً: هذه المواقف الثلاثة التي ذكرها الشيخ هي مواقف الناس عموماً من الغيب كله، لكن نحن هنا نتكلم عن الجانب الأعظم من الغيب، وهو المتعلق بالله عز وجل.

تأويل الباطنية للأمر والنهي

قال رحمه الله: [ ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون من الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يُعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله.

وقد يقولون: الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات.

وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.

وهؤلاء الباطنية: هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى.

وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات.

والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرَك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما يُنزَّه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم].

المثال الثاني: الروح

[وهكذا القول في المثل الثاني وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تسل الشعرة من العجينة.

والناس مضطربون فيها:

فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن.

ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخلة في البدن ولا خارجة، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تُدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنه، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تُلحقها بالمعدوم والممتنع.

وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل.

قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها.

وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال].

يلاحظ أن أكثر كلام هؤلاء الفلاسفة على مختلف أنواعهم يدور على أوهام؛ لأن ما أشار إليه الشيخ من قولهم: بأن الكليات ممكنة الوجود. مجرد افتراض بنوا عليه أحكاماً، وبنوا على هذه الأحكام لوازم، وهذه اللوازم جعلوها تنسحب على الوحي الذاتي، وتنسحب على المقررات العقلية القطعية، بل حتى الأمور المعلومة في الرياضيات وغيرها.

إذاً: الفلاسفة في الأصل أنهم يعتمدون على الأوهام والتخرصات، وهم الذين أشار الله إلى صنف منهم بقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11] فالتخرُّص هو المنطلق الأساس في كل الأحكام الفلسفية في الأمور الغيبية عن مدارك العقول أو عن الحواس، وأن كل كلام فيها إنما هو ظن، والظن لا يُغني من الحق شيئاً، ولذلك لا نعرف الفلاسفة -هؤلاء الذين يتكلمون في الإلهيات- أنهم قد أصابوا الحق في شيء، فإن وافقوا ما جاء في الكتاب والسنة فذلك ليس من عندهم، بل إن أكثر ما قالوه يخالف الكتاب والسنة..

ومن براهين بُعدهم عن الحق وأنهم لا يصيبونه:

أولاً: أنهم لا يملكون البرهان القاطع لإثبات أوهامهم؛ لأن الأمور الغيبية غير قابلة للتجربة ولا الأمور الحسية.

ثانياً: أن كبارهم الذين يُعتبرون أصحاب مذاهب مستقلة لا يمكن أن يتفقوا، إلا أن المقلد يتبع بعض الشيوخ، والحقائق لا تتعدد، إذاً ليس عند الفلاسفة حقائق.

وبرهان ذلك: ما نقرؤه عنهم في أقوالهم في الروح، فكلها أقوال خطأ، والروح لا يمكن أن يصل فيها الإنسان بعقله وذكائه وبعلمه إلى قول قاطع، ولذلك لما سأل أهل الكتاب والمشركون عن الروح، قال الله عز وجل: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] حتى ما علّمنا الله إيّاه من حقائق الغيب هو قليل بمقابل ما لم نعلمه؛ لأن الله عز وجل ما أطلعنا من أمور الغيب الكبرى إلا على ما نحتاجه، وما لنا فيه مصلحة، وما عدا ذلك -وهو أكثر الغيب- محجوب في علم الله، ولا يمكن أن تصل إليه مدارك الناس ولا عقولهم ولا تجاربهم، لا الحسية ولا العقلية، وكذلك الغيب الذي أُخبرنا به من الكتاب والسنة لا يمكن للناس أن يأتوا فيه بجديد إطلاقاً، فلا يزيدون فيه ولا ينقصون، ولا يتحكمون فيه بقول أكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وكل ما قيل في الأمور الغيبية هو رجم بالغيب، سواء من الفلاسفة أو من غير الفلاسفة.

قوله: (الكليات) أي: التصورات الكلية أو العامة، مثل: قول الفلاسفة بأنه لا يمكن أن يكون هذا العالم -المخلوقات الحسية- ناتجاً عن عاقل! وهذه كلية عند كثير من الملاحدة بما فيهم الشيوعيين.

وقد قيل لهم: لماذا؟

قالوا: لأن فيها ما لا يجوز أن يكون، إذ أنه يقع في حياة الناس ظلم، ويقع في حياة الناس فساد، وهذا لا يمكن أن يكون على عاقل.

وهذا تصور فاسد، لكن مع ذلك تُعتبر تصوراً كلياً لا ينبني عليه حكم، ولذلك عنون أحد معاصريهم كتاباً له بـ(العالم ليس عقلاً)؛ لأنهم بنوا على افتراض وهمي، وهذا الافتراض إضافة إلى أنه فاسد، فهو أيضاً مجرد افتراض عقلي عام.

قال رحمه الله: [ واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك: أن الروح -التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة- ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ].

أقوال الناس في الجسم

قال رحمه الله: [وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ: (الجسم) للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي.

فإن أهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، وقال تعالى: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247].

وأما أهل الكلام فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المفردة.

ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية.

ومنهم من يقول: ليس مركباً من هذا ولا من هذا، بل هو مما يُشار إليه، ويُقال: إنه هنا أو هناك.

فعلى هذا إن كانت الروح مما يُشار إليها ويتبعها بصر الميت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا خرجت تبعها البصر، وإنها تقبض ويعرج بها إلى السماء) كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح.

المقصود بضرب المثل بالروح

والمقصود: أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة، تصعد وتنزل وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها.

فإذا كان من نفى صفات الروح جاحداً مُعطّلاً لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفي صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات ].

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل

وأما المثلان المضروبان: فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عمّا في الجنة من المخلوقات من أصناف المطاعم، والملابس، والمناكح، والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً، وعسلاً، وخمراً، وماء، ولحماً، وحريراً، وذهباً، وفضة، وفاكهة، وحوراً، وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ].

أراد الشيخ رحمه الله هنا أن يبين قاعدة من القواعد التي سبق الكلام عنها في الصفات.

كما قد تكلم عن أصلين سابقين، الأول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، يعني: أن من أثبت شيئاً من الصفات الواردة في الكتاب والسنة لزمه أن يثبت الباقي؛ لأن الشبهات التي أثارها فيما ينفيه تندرج على ما أثبت، والأجوبة الشرعية والعقلية في نفي الشبهات تندرج على ما نفى كذلك.

الثاني: القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا فيه رد على صنف آخر، وهم الذين ينفون جميع الصفات ويثبتون لله عز وجل الوجود الذاتي أو الذات، فيقول: إن الإثبات فيما أثبتموه ينطبق على ما نفيتموه، والشبهات التي قلتموها في الصفات تنطبق على ما أثبتموه، وهو الذات، وبهذا تنتقض شبهات القول.

ثم ذكر أنه سيبين هذا بعد الأصلين السابقين بمثالين مضروبين:

الأول: نعيم الجنة، وبيّن أنه كما أننا نثبت ما جاء في كتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من حقائق في الجنة، فإن هذه الأوصاف والحقائق تشبه ما في الدنيا، ومع ذلك نحن نعتقد ونجزم أن حقائق نعيم الجنة وما ورد في تفصيلاتها، مثل: العنب والخمر واللبن وغيرها، أنها حقائق تختلف تماماً عن الحقائق التي في الدنيا، فهي حقيقة، وما في الدنيا حقيقة، لكن ما في الجنة أعلى وأعظم، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قد وصف نعيمها هذا الذي لا يمكن أن يخطر على قلب بشر بنفس الوصف الذي وصف به أحوال المأكولات والمشروبات الطيبة في الدنيا، فإذا كانت حقيقة ما في الجنة تختلف كيفياتها عن حقيقة ما في الدنيا مع اتفاق الألفاظ واتفاق المعاني العامة، فإن إثبات الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله كما ثبتت بالكتاب والسنة على وجه يختلف عن كيفيات الصفات المشابهة لها لفظاً في الدنيا، وهي صفات المخلوقين، وهذا أمر لا بد أن يقطع به العقل السليم.

الثاني: الروح، وسيأتي الكلام عنه في وقته إن شاء الله.

قال رحمه الله: [ وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق، وهذا بيّن واضح.

ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق:

فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم.

والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل: طوائف من أهل الكلام.

والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة، والباطنية، والفلاسفة أتباع المشّائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر ].

هذا التقسيم يشمل مواقف الناس من كل أمور الغيب، وأعظم وأجل أمور الغيب ما يتعلق بالله عز وجل وتعظيمه سبحانه بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو أبعد الغيب عن مدارك الناس، أي: عن أن تدركه حواس الناس وعقولهم على وجه الكيفية، ومع ذلك كل الغيوب غائبة عن العقول، وغائبة عن الحواس، وغائبة عن المدارك.

إذاً: هذه المواقف الثلاثة التي ذكرها الشيخ هي مواقف الناس عموماً من الغيب كله، لكن نحن هنا نتكلم عن الجانب الأعظم من الغيب، وهو المتعلق بالله عز وجل.

قال رحمه الله: [ ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون من الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يُعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله.

وقد يقولون: الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات.

وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.

وهؤلاء الباطنية: هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى.

وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات.

والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرَك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما يُنزَّه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم].




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة التدمرية [22] 3155 استماع
شرح العقيدة التدمرية [12] 2923 استماع
شرح العقيدة التدمرية [5] 2916 استماع
شرح العقيدة التدمرية [26] 2794 استماع
شرح العقيدة التدمرية [9] 2782 استماع
شرح العقيدة التدمرية [13] 2726 استماع
شرح العقيدة التدمرية [17] 2719 استماع
شرح العقيدة التدمرية [2] 2715 استماع
شرح العقيدة التدمرية [3] 2687 استماع
شرح العقيدة التدمرية [4] 2562 استماع