شرح العقيدة التدمرية [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد.

فلا زلنا في دروس العقيدة في المجلد الثالث من الفتاوى، وقد وصلنا إلى الأصل الثاني، وقبل أن نشرع في الدرس أحب أن أشير إلى قاعدة مهمة يجب أن يستصحبها المسلم دائماً عندما يتأمل أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولا سيما طالب العلم، وكما تعرفون هذه الرسالة، أعني: (رسالة التدمرية) جلها أو أغلبها في تقرير الصفات لله عز وجل والرد على المخالفين، ولا شك أن هذا أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أعظم أصل في تقرير أسماء الله وصفاته وأفعاله التي يجب أن يعتقدها المسلم، ثم ما يستتبع ذلك من ضرورة الدفاع عن العقيدة ونفي أقوال المبطلين والجاهلين والمتأولين بأسماء الله وصفاته، والرد على المخالف -كما تعلمون- أصل عظيم من أصول الإسلام، لكن مما يجب على طالب العلم بأن يستصحبه عندما يخوض في مسائل الخلاف مع أهل الأهواء والبدع في أسماء الله وصفاته قاعدة عظيمة جداً، وهي: ألا ينسى أن المقصود بتقرير أسماء الله وصفاته والدفاع عنها إنما هو تعظيم الله عز وجل، وليس مجرد المعرفة العلمية، أو مجرد استعراض قوة المسلم أمام المخالفين، أو قوة أهل السنة أمام المخالفين، أو عرض الحجج وقوتها، فليس هذا هو المقصود، وإنما هذه وسائل، فالكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله تقريراً ودفاعاً إنما هو وسيلة لتعظيم الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، وإلى دعاء الله بذلك، وعليه فيجب أن تكون الغاية الأولى عند تعلم هذا الأصل: توحيد الله عز وجل وتعظيمه وإجلاله، وعبادته على هذا الأصل، أي: دعاء الله بأسمائه وصفاته كما أمر الله عز وجل.

كما أن أسماء الله وصفاته لا بد أن تُثمر ثمرتها في قلب المسلم، لا سيما طالب العلم الذي يتكلم عن هذه الأمور على جهة التفصيل، فيجب أن يمتلئ قلبه من خلال استعراضه لأسماء الله وصفاته وأفعاله، ونفي الباطل والنقص عن الله عز وجل، والمحبة لله، والخشية له، والرجاء منه، ثم ما يستتبع ذلك من اليقين والإنابة والتوكل، وسائر الأعمال القلبية التي لا بد أن تُثمر ثمرتها في الجوارح وعلى اللسان.

وهذا الأصل -كما قلت- ينبغي أن يكون بدهياً، لكن مع ذلك لا بد من التنبيه له بين وقت وآخر؛ لأن طالب العلم إذا اشتغل بالردود فربما يقسو قلبه، فتنصرف همّته إلى مجرد الرد ومقارعة الحجة بالحجة، فيغفل عن أن يتأثر قلبه وتتأثر جوارحه ولسانه بتعظيم أسماء الله وصفاته وأفعاله.

ولذلك نجد بعض المشتغلين بهذا العلم أو بهذا الجانب يغفلون عن هذه القاعدة، والشيخ رحمه الله كما تعلمون لا يزال يرد على الذين ينفون الصفات، سواء أولئك المعطلة كالجهمية والفلاسفة والغلاة الذين ينفون الأسماء والصفات، أو من دونهم ممن يؤولون أو ينفون البعض ويثبتون البعض. والشيخ الآن سيقرر الأصل الثاني في الرد عليهم على النحو التالي:

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وهذا يتبين بالأصل الثاني، وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات ].

من أجل أن نربط الأصل الثاني بالأصل الأول، فقد قرر الشيخ في الأصل الأول أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وكان هذا رداً على المؤولة أكثر مما هو رد على النفاة، ثم هنا سحب نفس القاعدة في الرد على المعطّلة النفاة، فكما يقال: إن القول في بعض الصفات كالقول في البعض، كذلك يقال هنا: إن القول في الصفات كالقول في الذات؛ لأن كثيراً من غلاة المعطّلة لا ينفون الذات أو خصائص الذات، مثل: الوجود، فهي أهم خصائص الذات عندهم، ولذلك هم لا ينفونها، والوجود لابد أن يقبل الوصف، وما قبِل الوصف فلا بد أن يكون ذاتاً.

قال رحمه الله: [ وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات ].

وكذلك الأفعال؛ لأن الشيخ يجمل، والأفعال داخلة في الصفات، والصفات كما تعلمون على نوعين: صفات ذاتية، وصفات فعلية.

فالصفات الذاتية مثل: اليد، والوجه، والصفات الفعلية مثل: النزول، والاستواء.

بواعث أهل الأهواء والبدع لإثارة السؤال عن كيفيات الصفات

قال رحمه الله: [ فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ ].

وقبل أن يرد الشيخ على هذا القول أحب أن أنبه إلى أنه باستقراء آراء أهل البدع والأهواء والافتراء، سواء منهم الغلاة الملحدة، مثل: الفلاسفة والباطنية، أو من دونهم من المعطّلة الذين انتسبوا إلى الإسلام، أو من دونهم من المؤولة، كل هؤلاء يوردون هذا السؤال، لكن إيراده منهم هو على وجوه كثيرة، وأهم البواعث لإيراد هذا السؤال -حسب الاستقراء- في نظري ثلاثة بواعث:

الأول: أن يكون هذا السؤال من المشبهة المجسمة، وخاصة الرافضة الأوائل، فقد كانوا مشبهة، فيقولون: لا بد أن يكون الاستواء كاستواء المخلوق -تعالى الله عما يزعمون- وإلا فكيف استوى؟!

وهذا السؤال بدعي لا يجوز بحال، لكنه غالباً ينشأ من أهل الباعث الأول، أي: من أهل التشبيه.

الثاني: أن يكون السائل من أهل التأويل والتعطيل، كالجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وهؤلاء ينشرون هذا السؤال من أجل إنكار الصفة، يعني: أن غايتهم عكس الأولين، ولذلك إذا أرادوا أن يحرجوا المثبت ويجرّوه إلى التأويل -إذا كان جاهلاً- قالوا له: كيف استوى؟ فإذا فسّر الاستواء، قالوا: إذاً أنت شبّهت؛ حتى يلزموه بالتأويل أو التعطيل، وعلى ذلك كان أول ما نشأ السؤال على وجه واسع من المعطّلة بعد المشبّهة.

الثالث: إثارة هذه الأمور عند من لم يفقه العقيدة، ومنشأ ذلك: الجهل والشك والريب، سواء من السائل أو ممن أثيرت عنده هذه المسائل فاضطر أن يسأل، ولذلك نجد أن الذين يسألون هذه الأسئلة إما متعالم مغرور من أصحاب الفلسفة والتجهّم وأهل الكلام، وإما من جاهل لا يعرف كيف يثبت، فينشأ عنده السؤال عن إشكال.

إذاً: البواعث عندنا كثيرة، لكن أهمها التشبيه، ثم أهل التعطيل والتأويل يثيرون هذا السؤال من أجل إلزام الناس بالتشبيه، ثم بالتأويل والتعطيل، أو يكون من جاهل أو شاك، أو نحو ذلك ممن يخوضون في هذه المسائل على غير وجه شرعي.

جواب من سأل عن كيفية صفة من صفات الله

قال رحمه الله: [ فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟

قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه.

وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟

قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟!

وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متّصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم ].

بعد أن بين الشيخ كيفية الرد على مثل هذه الأسئلة -وسيفصل أيضاً بشكل أوسع- أحب أن أذكر بالقاعدة الأصلية التي أراد الشيخ أن يُرجع الناس إليها، وهي قاعدة السلف التي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة السلف، وأهل الاستقامة من الراسخين في العلم وأتباعهم من أهل السنة والجماعة إلى قيام الساعة، هذه القاعدة الأصلية التي من اعتقدها لا يمكن أن ينشأ عنه أصلاً هذا السؤال، ولا حتى الباعث للسؤال، وهي: أن الأصل في أسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه؛ لأن الإثبات مبني على قوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، مع ما ورد قبل ذلك في أول الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

وكذلك نفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والنفي جاء مفصلاً ومجملاً، فإن الله عز وجل نفى النقائص عن نفسه إجمالاً، ونفى ما رماه به أهل الباطل تفصيلاً، وعلى هذا فإن المسلم إذا أخذ بقاعدة الإثبات مع قاعدة النفي سلمت عقيدته، ولم ينشأ عنده أصلاً السؤال عن الكيفية ولا الباعث على السؤال.

إذاً: الباعث على السؤال إما أن يكون من مشبّه، وإما أن يكون من معطِّل، وإما أن يكون من جاهل.

فالجاهل يُعلّم، والمعطِّل والمشبه يرد عليهما قولهما؛ لأنهما خرجا عن القاعدة.

قال رحمه الله: [ فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ ].

وقبل أن يرد الشيخ على هذا القول أحب أن أنبه إلى أنه باستقراء آراء أهل البدع والأهواء والافتراء، سواء منهم الغلاة الملحدة، مثل: الفلاسفة والباطنية، أو من دونهم من المعطّلة الذين انتسبوا إلى الإسلام، أو من دونهم من المؤولة، كل هؤلاء يوردون هذا السؤال، لكن إيراده منهم هو على وجوه كثيرة، وأهم البواعث لإيراد هذا السؤال -حسب الاستقراء- في نظري ثلاثة بواعث:

الأول: أن يكون هذا السؤال من المشبهة المجسمة، وخاصة الرافضة الأوائل، فقد كانوا مشبهة، فيقولون: لا بد أن يكون الاستواء كاستواء المخلوق -تعالى الله عما يزعمون- وإلا فكيف استوى؟!

وهذا السؤال بدعي لا يجوز بحال، لكنه غالباً ينشأ من أهل الباعث الأول، أي: من أهل التشبيه.

الثاني: أن يكون السائل من أهل التأويل والتعطيل، كالجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وهؤلاء ينشرون هذا السؤال من أجل إنكار الصفة، يعني: أن غايتهم عكس الأولين، ولذلك إذا أرادوا أن يحرجوا المثبت ويجرّوه إلى التأويل -إذا كان جاهلاً- قالوا له: كيف استوى؟ فإذا فسّر الاستواء، قالوا: إذاً أنت شبّهت؛ حتى يلزموه بالتأويل أو التعطيل، وعلى ذلك كان أول ما نشأ السؤال على وجه واسع من المعطّلة بعد المشبّهة.

الثالث: إثارة هذه الأمور عند من لم يفقه العقيدة، ومنشأ ذلك: الجهل والشك والريب، سواء من السائل أو ممن أثيرت عنده هذه المسائل فاضطر أن يسأل، ولذلك نجد أن الذين يسألون هذه الأسئلة إما متعالم مغرور من أصحاب الفلسفة والتجهّم وأهل الكلام، وإما من جاهل لا يعرف كيف يثبت، فينشأ عنده السؤال عن إشكال.

إذاً: البواعث عندنا كثيرة، لكن أهمها التشبيه، ثم أهل التعطيل والتأويل يثيرون هذا السؤال من أجل إلزام الناس بالتشبيه، ثم بالتأويل والتعطيل، أو يكون من جاهل أو شاك، أو نحو ذلك ممن يخوضون في هذه المسائل على غير وجه شرعي.