أرشيف المقالات

القوة المادية والإيمان بالمثل العليا

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
للدكتور محمد يوسف الهندي لئن سجل تاريخ القرن الماضي انقضاضاً من الأمم الغربية المتفوقة على الشعوب الشرقية الكثيرة العدد، فقد شاهد الجيل الحاضر تنافساً بين الدول الغربية - تنافساً قد أدى صراعين عالميين.
وها هو ذا شبح الحرب الثالثة يلوح في الأفق، ويقض مضاجع الإنسانية جمعاء، لا فرق في ذلك بين الذين (لم يريقوا ملء محجم) وبين الذين (دقوا بينهم عطر منشم). وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى نية الأقوياء المنتصرين إلى إنشاء نظام يكفل للعالم السلام والهدوء على ما قالوا، ولكن هذا النظام لم يكن في الواقع يكفل شيئاً غير الأوضاع القائمة إذ ذاك لصالح الذين كانوا يرون من حقهما احتكار السيادة على العالم، ولذلك انهار ذلك النظام على أيدي من رأى أن ينازعهم ها الحق بالقوة (وقد أعيدت التجربة نفسها) مع إدخال بعض التحسينات بعد الحرب الأخيرة). وقد صادف هذا الاتجاه - أعنى اتجاه الأقوياء إلى إبعاد إمكان الحرب فيما بينهم - نضج الوعي في الشعوب الأسيوية والأفريقية المستعمرة، فبدأ مفكروها وقادتها يبحثون عن الوسائل التي يمكن بها لتلك الشعوب التخلص من نير الاستعمار واسترداد السيادة على بلادهم، وقد واجه جميعهم مشكلة قهر القوة الغاشمة لتحقيق الحق الأعزل، وإنها لدراسة ممتعة جدا ان يقوم الواحد بين الاجوبة مقارنة بين الأجوبة التي أتى بها زعماء الشرق الحديث في الأقطار المختلفة على هذا السؤال، وخلاصة القول أن عدداً غير قليل من الذين كانت زعامتهم ترتكز على مقدرتهم لاستشارة الجمهور فقط تجنبوا رسم خطة محدودة في هذا الصدد، بل إنما استتروا بخطب بلاغية وتصريحات جدلية هي عبارة عن التمسك بالحق والعدالة والتهديد بالإضرار ببعض مصالح المستعمر هنا وهناك.
أما الذين سما فكرهم إلى درجة الفلسفة وتنظيم خطة عامة بعيدة المدى فانقسموا قسمين: بعضهم انتهج نهج الاستهانة بقوة السلاح وتعيير القوى باستعمال القوة والعنف، حينما هب البعض الاخر إلى مقاومة القوة بالقوة أملين بأن كثرة العدد تفوق وفرة العدة.
وقد جرب كثير من الشعوب الشرقية الخطة الأخيرة ولا سيما في بداية عهد الاستعمار فرأت عواقبها وخيمة، ولذلك أقبلت على الخطة الأولى فدرستها بإعجاب وإن لم تقبلها كمبدأ للحياة القومية. ولنستعرض الآن آراء إقبال، الفيلسوف الشاعر الذي احتفل منذ قريب بالذكرى الثالثة عشرةلوفاته، في المسائل التي قدمناها آنفاً.
لا يفوت إقبالاً أبداً أن يحذر من الاستخفاف بالقوة أو إهمال أية وسيلة من وسائل الحصول عليها، فهو لا يتأثر مطلقاً مما يوجه بعض الناس إلى الإسلام من نقد على روح الجهاد فيه: بل يقول: (إن الذي يرتجف العالم من بطشه وسفكه هو أولى بأن يلقن مبدأ ترك الجهاد.

لقد تدججت أوربا بالسلاح للدفاع عن أبهة الباطل.

إذا كانت الحرب شراً في الشرق فهي لا بد وأن تكون شراً في الغرب أيضاً.

أما محاسبة الإسلام والصفح عن أوربا فذلك ليس من الحق في شيء). وكذلك يسخر إقبال من خطة تعبير القوة بالقوة حينما يقص علينا قصة قطيع من الغنم وقع فيه الأسد، فتقدمت شاة كانت قد أوتيت دهاء لتتزعم القطيع، فامتنعت في نفسها بأنه من المستحيل أن تتحول الأغنام أسوداً إلا أنه يكن أن ينحط الأسد إلى درجة الأغنام، وذلك بحمله على الاستحياء من نفسه وقوته، فبدأت تلك الشاة تلقن الأسد مبدأ الاعتزاز بقوة الروح وتركاللحوم واكل العشب والإيمان بأن الجنة قد خصصت للضعفاء، وأن القوة في الحقيقة نقصان.
وهكذا إلى ان وجد الأسد في هذه المواعظ انعكاساً لميله هو إلى الراحة والدعة، فانحط إلى درجة الأغنام وهو يحسب أن ذلك الانحطاط إن هو إلا مدنية وحضارة! فهذه الخطة في رأي إقبال ليست إلا رياءودهاء - الدهاء الذي (يزداد وينمو بطبيعة احال في العبودية) والاضطهاد) - ولا يستعمل هذه الخطة إلا الضعيف الذي يئس من كسب القوة، وهو إنما يغرر ويضلل بها قوياً قد مال إلى الاستكانة. ولكن دعوة إقبال لا تقتصر على (إعداد القوة) - ولا أقوال (تمجيد القوة) كما فعل بعض الفلاسفة الألمان - بل، وهذه هي النقطة المهمة، وهو يدعو أيضاً إلى البحث عن القيم الأخلاقية والمثل العليا في الحياة الإنسانية والإيمان بها والعمل لها، حتى لا يكون استعمال القوة إلا الحفظ ونشر تلك القيم والمثل التي تكفل الخير للعالم! أما إذا وجدت القوة منفصلة عن القيم الأخلاقية والمثل العليا فلا شك أنها تعود شراً لا شر بعده كما يتمثل ذلك الشر في إعمال الإسكندر وجنكيز.
إذن فالقوة في حد ذاتها ليست شراً ولا خيراً، بل إنما يحكم عليها بهذا أو بذاك بالنسبة إلى وجود الغايات النبيلة أو انعدامها فيمن يملكها.
ومن الضروري في هذا المقام أن نوضح أن إقبالاً لا يدعو إلى التهور أو الثورة المرتجلة التي لا تتعدى الإضراب عن العمل وتحطيم عربات الترام وما إلى ذلك من اعمال الهدم والتخريب، لا بل هو يدعو إلى إعداد القوة بالطرق العلمية والفنية - (بالتسلط على قوى الفطرة) بعبارته هو - أي بنفس التي هي الميزة الكبرى للحياة الغربية والتي هي أوثق صلة بنبوغ الغربيين من الزي الغربي والحروف اللاتينية واستباحة الرقص والخمر.
ولا يخفى أن هذا الطريق الذي يدعو إليه إنما هو طريق شاق طويل يحتاج إلى التأني والصبر والجلد، ولذلك نراه ينبري في أشد الأوقات حرجاً ف يبالي بأن تهمة أحد بممالأة المستعمر وينصح مواطنيه (بإبقاء الطرب على فم الدن حتى يدرك الخمر النضج) أي بالتريث ومواصلة العمل إلى أن يستكملوا العدة.
وخلاصة القول أنه كان يدعو إلى إعداد القوة التي تكفل الإنشاء والتعمير وخلق الأوضاع الجديد، لا إلى مظاهر قوة التخريب وإلحاق بعض المتاعب بالمستعمر التي هي بمثابة ما تلجأ المرأة الناشز من زوجها في بعض الاحيان ليس إلا. ولا يصعب أننستنتج مما سبق نظرة إقبال إلى المحاولات التي بذلت ولا تزال تبذل التنظيم الأمن الدولي، فهو الذي قال عن عصبة الأمم البائدة إنها (منظمة أقامها بعض لصوص الأكفان لتقسيم القبور فيما بينهم) وقال عنها أيضاً إنها (حظية الإفرنج العجوز تعتمد على تمائم إبليس لبقائها لبعض الوقت) - ونظرة إقبال هذه مبنية على انه لا يرتاح أبداً إلى القوة، سواء أكانت تلك القوة قائمة على السيف والرمح أم القنبلة الذرية، في يد من ليس عنده وداع من الإيمان بالقيم الأخلاقية والمثل العليا وهو أيضاً يرى أن لا خير يرجى للإنسانية من أية محاولة للتحديد والإشراف على وسائل القوة لأن الذي يضمر الخبث يعكر صفو المن ولو بدون أسلاح، بل الخير كل الخير في أن تجتمع القوة المادية والإيمان بالمثل العليا في أمة أو أمم من العالم حتى نزجر بالقوة من تلقاء نفسها عن التمادي في الطغيان، وفي الوقت نفسه تكون تلك القوة ضماناً لنشر وتقوية المثل العليا في العالم، وحفظها من أن تنهك على يد أي طاغية أثيم. ثم يعبر إقبال عن رأيه الذي وصل أليه لا عن طريق التعصب للعقيدة التي ورثها عن أبيه، بل عم طريق البحث العلمي والفكر الفلسفي، من أن الامة الإسلامية هي التي تمتاز من بين جميع الأمم بالقيم الأخلاقية والمثل العليا التي تجعلها جديرة بأن تتزعم قضية الأمن والسلام في العالم.
إلا إنها في القوت الحاضر تفتقر إلى القوة وذلك نتيجة لإهمالها الوسائل العلمية والفنية التي توجد القوة وكم يتمنى إقبال لو اجتمع للأمة الإسلامية، إلى جانب المثل العليا، القوة التي تسندها وتؤازرها حتى تتمكن هذه الأمة من أن تلعب دوراً فعالاً لرخاء الإنسانية ورفاهيتها.
وكثيراً ما يردد إقبال وقعة إسلام التتار، فإن التتار، قبل أن يسلموا، كانوا يمثلون القوة المحضة، أما المسلمون فقد ظلوا إبان انهزامهم حفظة للقيم الأخلاقية العزل من القوة حتى أسلم التتار، فكان ذلك بمثابة قران سعيد بين القوة والمثل العليا، كأن الإسلام استبدل سيفاً جديداً صارما بسيف مفلول، وهكذا استمرت عظمته بضعة قرون أخرى ولكن على الأمة الإسلامية واجباً آخر وهو العمق في دراسة المبادئ الإسلامية والتشبث بها، والإخلاص لها ريثما تتقدم بخطى ثابتة لاستكمال القوة، وذلك لأن الضعيف ربما يفقد الثقة في نفسه وفي مبادئه.
وهل من شك إن الأمة الإسلامية إن هي تخلت عن مبادئها فحصولها على القوة سوف لا يكون ذا مغزى كبير.
ولعل مظاهر التخلي عن المبادئ السامية تخاذل الشعوب الإسلامية لأغراض تافهة خسيسة، واعتبارت دبلوماسية مغرضة.
ألا فلتسترد هذه الأمة الثقة بنفسها والايمان بمبادئها حتى تثبت جدارتها لمزاولة القوة في سبيل خير الإنسانية. وأخيراً تتلخص مأساة (إنسان العصر الحاضر) عند إقبال في قوله: العشق ينقصه والعقل ينهشه لا يستطيع قياد العقل بالنظر دور الكواكب لا يخفى على درك لا يستطيع هدى في عالم الفكر العشق هو الإيمان بالمبادئ العليا.
والعقل هو التقدم في العلوم والفنون.
والنظر هو العور بالمسئولية أمام الله. محمد يوسف

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١