أرشيف المقالات

وقفة مع قول الله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
وقفة مع قول الله تعالى
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ...

آيات الصيام في القرآن (4)

كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل، لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية، فكان الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناسًا أتوا نساءهم، وأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، وأخبرهم أن ما بيَّنه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى؛ فلا يحل القرب منها ولا تعديها، وبيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة؛ ليعد بذلك المؤمنين للتقوى؛ إذ لا يمكن أن تكون تقوى، ما لم تكن شرائع تتبع، وحدود تحترم.
 
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].
 
تفسير الآية:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ﴾ بمعنى الإفضاء ﴿ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ بالجماع، نزل نسخًا لما كان في صدر الإسلام على تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ ﴾ تخونون ﴿ أَنْفُسَكُمْ ﴾ بالجماع ليلة الصيام، وقع ذلك لعمرَ وغيره، واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ قبل توبتكم ﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ ﴾ إذ أحل لكم ﴿ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ جامعوهن ﴿ وَابْتَغُوا ﴾ اطلبوا ﴿ مَا كَتَبَ اللَّهُ ﴾؛ أي: أباحه من الجماع أو قدَّره من الولد ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ الليل كله ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ﴾ يظهر ﴿ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾؛ أي: الصادق؛ بيان للخيط الأبيض، وبيان الأسود محذوف؛ أي: من الليل، شبَّه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ ﴾ من الفجر ﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾؛ أي: إلى دخوله بغروب الشمس ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ ﴾؛ أي: نساءكم ﴿ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ ﴾ مقيمون بنية الاعتكاف ﴿ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ متعلق بعاكفون، نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود ﴿ تِلْكَ ﴾ الأحكام المذكورة ﴿ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ حدَّها لعباده؛ ليقفوا عندها ﴿ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ أبلغُ من: لا تعتدوها، المعبَّر به في آية أخرى ﴿ كَذَلِكَ ﴾ كما بين لكم ما ذكر ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ محارمه[1].
 
أسباب النزول:
• قَوْلُهُ تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]:
قال ابن عباس في رواية الوالبي: وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرُم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية[2].
 
• قَوْلُهُ تعالى: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]:
أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدي قال: أخبرنا أبو عمرو الحيري قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا أبو غسان قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نزلت هذه الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187] ولم ينزل: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار؛ رواه البخاري عن ابن أبي مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن أبي مريم [3].
 
اللغة[4]:
• ﴿ الرفث ﴾ بفتحتين: كلام يقع وقت الجماع بين الرجال والنساء، يُستقبح ذكره في وقت آخر، وأطلق على الجماع للزومه له غالبًا، وفي المصباح: رفث في منطقه رفثًا من باب طلب، ويرفِث بالكسر لغة.
والرفث: النكاح؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وفي الأساس واللسان: وقيل: الرفث بالفرج الجماع، وباللسان المواعدة للجماع، وبالعين الغمز للجماع.
والأصل في تعدية الرفث بالباء، وإنما جاءت تعديته في الآية بإلى؛ لتضمينه معنى الإفضاء.
 
• ﴿ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾: تخونون أنفسكم وتنقصونها حظها من الخير، واشتقاق الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب، وفيه زيادة وشدَّة.
 
شرح الكلمات[5]:
﴿ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾: الليلة التي يصبح العبد بعدها صائمًا.
 
﴿ الرَّفَثُ ﴾: الجماع.
 
﴿ لِبَاسٌ لَكُمْ ﴾: كناية عن اختلاط بعضكم ببعض؛ كاختلاط الثوب بالبدن.
 
﴿ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾: بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله لكم ذلك.
 
﴿ بَاشِرُوهُنَّ ﴾: جامِعوهن، أباح لهم ذلك ليلًا.
 
﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ﴾: اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة.
 
﴿ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ ﴾: الفجر الكاذب، وهو بياض يلوح في الأفق؛ كذنَب السِّرْحان.
 
﴿ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ﴾: سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تمامًا.
 
﴿ الْفَجْرِ ﴾: انتشار الضوء أفقيًا ينسخ سواد الخيط الأسود، ويعم الضياء الأفق كله.
 
﴿ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾: منقطعون إلى العبادة في المسجد تقربًا إلى الله تعالى.
 
﴿ حُدُودُ اللهِ ﴾: جمع حد، وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلًا أو تركًا.
 
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ ﴾: أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك؛ ليهيئهم للتقوى، التي هي السبب المورث للجنة.
 
من هداية الآية[6]:
1- إباحة الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
 
2- بيان ظرف الصيام، وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
 
3- بيان ما يمسك عنه الصائم، وهو الأكل الشرب والجماع.
 
4- مشروعية الاعتكاف، وخاصة في رمضان، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف؛ حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها.
 
5- استعمال الكناية بدل التصريح فيما يُستحيا من ذكره، حيث كنى بالمباشرة عن الوطء.
 
6- حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده.
 
7- بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود، وهي تقوى الله عز وجل.
 
8- ثبت بالسنة: سنة السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر.



[1] تفسير الجلالين (1 / 39).


[2] أسباب النزول ت الحميدان (1 / 49).


[3] أسباب النزول ت الحميدان (1 / 52).


[4] إعراب القرآن وبيانه (1 / 268).


[5] أيسر التفاسير؛ للجزائري (1 / 166).


[6] أيسر التفاسير؛ للجزائري (1 / 168).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢