أرشيف المقالات

الفرص الضائعة - محمد العبدة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
  في عام 1095م كان بابا روما (أوربان) يخطب في مدينة (كلير مونت) الفرنسية حاثا الجماهير التي احتشدت في ساحة المدينة على التجهز لإنقاذ القدس من أيدي البرابرة ( المسلمين)، ومن ثم احتلال فلسطين ، ودعاهم أن يجعلوا الصليب على جباههم وفي صدورهم، وأخذ (أوربان) يتنقل بين المدن والبلدان داعيا للحروب الصليبية.
وتشكلت الحملة الصليبية الأولى ، ووصلت إلى القسطنطينية، واستقبلهم الملك البيزنطي استقبالا حسنا ووعدهم بالمساعدة بعد أن اقسموا له يمين الولاء، وتعهدوا بأن يردوا للدولة البيزنطية كل الأراضي التي يستطيعون استردادها من المسلمين، وفي عام 490 هـ (1097).
وصلت أخبار هذه الحملة إلى السلطان ( قلج ارسلان) صاحب مدينة قونية من بلاد الروم (تركيا اليوم) وانزعج السلطان الشاب لهذه الأخبار، وخشي منها أسوأ العواقب، وقرر الوقوف في وجهها، ولكن هذه الجحافل الكثيرة، تغلبوا عليه واجتازوا بلاده، واستطاعوا أخيرا الوصول إلى مدينة أنطاكية وهي من المدن الرئيسية في بلاد الشام .
وصمدت أنطاكية، وصمد قائدها المدافع عنها (ياغي سيان)، صمدت المدينة لتسعة أشهر، وهي تستنجد بملوك الدول المجاورة: ملك دمشق (دقاق) وملك حلب (رضوان) وابن منقذ صاحب قلعة شيزر قرب حماة، وابن ملاعب صاحب حمص؛ولكن ما من مجيب، كل واحد من هؤلاء يخاف من الآخر، ويخشى من حدوث انقلاب عليه أثناء غيابه، والأسوأ من كل ذلك هو ضعف الحس الجهادي، وضعف الشعور بالمصلحة العامة؛ كانت الإرادات والعزائم واهنة، ولم ينظروا إلى عواقب نجاح الحملة الصليبية على العالم الإسلامي وعلى أنفسهم.
كان صاحب الموصل (كربوقا) وبأمر من السلطان السلجوقي هو الوحيد الذي وصل إلى أسوارأنطاكية، ولكنه وصل متأخرا بعد أن سقطت إنطاكية بيد الأعداء، ومع ذلك كانت هناك فرصة لأن الصليبيين وجدوا المدينة فارغة من المؤن، فدب فيهم الجوع حتى أكلوا الجلود والأعشاب، بل أن بعضهم عندما سمع بقدوم الجيش إسلامي ركبوا السفن في نهر العاصي وولوا هاربين ولم يستغل حاكم الموصل هذه الفرصة وتراخى في حسم المعركة وتفرق الجيش الذي جمعه، وأصبحت إنطاكية إمارة صليبية.
بعد سنوات من هذه الحادثة الأليمة، عزم سلطان السلاجقة (محمد بن ملكشاه بن الب ارسلان) على مقاومة الفرنجة،وكلف صاحب الموصل الأمير مودود، القيام بذلك، وكان هذا الأمير معروفا بالتقوى وحب الجهاد في سبيل الله.
فقدم الشام بجيشه والتقى مع صاحب دمشق (طغتكين) وقررا مهاجمة الصليبيين، كان ذلك في عام (507) هـ أي بعد ستة عشر عاما من وصول الصليبيين وفي مكان يسمى ألأقحوانه قريب من حطين، نشبت المعركة وقتل من الفرنجة ألفان من أبطالهم وأعيانهم، وغرق كثير منهم في بحيرة طبريا، واختلط الدم بالماء وامتنع الناس عن الشرب أياما وافلت الملك الصليبي (بلدوين) بعد أن قُبض عليه ولم يعرفوه، ولحق المسلمون بالفلول المنهزمة التي لجأت إلى غربي طبرية وظلت قابعة هناك ستة وعشرون يوما، واجتمع بدو المنطقة عازمين على إبادتهم، وبلغت طلائع المسلمين بيت المقدس ويافا ولكنهم اكتفوا بالمناوشات ولم يكمل الفتح، وضاعت الفرصة وانتظر العالم الإسلامي طويلا لتحقيق النصر في حطين (صلاح الدين) وحتى عندما اتفق مودود وطغتكين للعودة إلى القتال في السنة التالية، لم ينفذ ذلك لأن الخنجر الباطني الإسماعيلي كان قد اغتال الأمير مودود في الجامع الأموي في دمشق ، مما أدى إلى تفرق الجيش وتبدد الآمال، ويعلق ابن الأثير على هذه الحادثة فيقول: " حدثني والدي قال: كتب ملك الإفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود: إن امة قتلت عميدها، يوم عيدها (يوم الجمعة ) في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها" .
وإن كان من المستبعد أن يرسل ملك القدس هذه الرسالة، ولكنها تعكس الشعور العام الذي أصاب المسلمين وسكان دمشق خاصة.
وفي العصر الحديث: في عام 1921 كان الزعيم الريفي محمد بن عبد الكريم الخطابي ينتصر على أسبانيا انتصارات باهرة، ففي معركة (أنوال) فقد الأسبان (17000) من جنودهم وضباطهم، ودوت أخبار هذه المعركة في جميع أنحاء العالم، ولم يكن أي جيش أوروبي قد ذاق مثل هذه الهزيمة الساحقة، وانضمت فرنسا المستعمرة للمغرب العربي، انضمت إلى اسبانيا وفتحت جبهة مع الريفيين، وصبر الريفيون صبرا يفوق الوصف.
وتحملوا ما لا يطاق من قصف المدفعية وضرب الطائرات وسقط سبعون من معسكرات فرنسا، فاضطربت وقامت وقعدت وتحالفت بريطانيا معهم وقاموا بحصار (آجدير) عاصمة ابن عبد الكريم، وضربوا المدينة الصغيرة بالقنابل والغازات السامة، واضطر الزعيم الريفي للتسليم، ونفي إلى جزيرة في المحيط الهندي. دخل الأسبان إلى (آجدير) وهم يحتلون حتى اليوم مدينتي (سبتة ومليلة) في منطقة الريف، الجزء الشمالي من المغرب المطل على البحر المتوسط.
ويكتب شكيب إرسلان معلقا على أحداث الريف: " وأما العالم الإسلامي فقد تخلى بأجمعه عن الريف، ولم يفكر في معاضدته بشيء، وذلك للأسباب الآتية: 1- انصراف كل من الأقطار الإسلامية إلى هم نفسه 2- فشو الاعتقاد في تركيا ومصر وقسم من بلاد العرب بأن سياسة الاتحاد الإسلامي شيء مضر بالمسلمين، وهذا رأي الحزب الذي تحالف مع الانكليز وتمنى فوزهم في الحرب العالمية الأولى. 3- الاعتقاد بكون نجاح الريفيين مؤقتا، وان لا بد أن تكون الطائلة الأخيرة للأسبان . وهكذا ضاعت الفرصة التي تتيح هزيمة دولة استعمارية والتخلص من تدمير الاستعمار لبلد إسلامي.
وتكتب جريدة (الديلي اكسبرس): " وسيطول الزمن حتى يأتي زعيم آخر، أو زعماء آخرون يزدرون بدولتين أوربيتين"، ويكتب مالك بن نبي: " فقد اثبت الأمير أن امبرطورية استعمارية يمكن النيل منها، وتحالفت الدول الاستعمارية لرأب الصدع المعنوي الذي أحدثه الأمير الريفي مع حفنة من الرجال..
في هيبة الأمم الاستعمارية" . ويكتب الصحفي الأمريكي (فانسيت شين) عن معركة الريف: " وصلت وسط عجيج الغارات الجوية التي تقوم بها طائرات فرنسا واسبانيا، ودخلت على ابن عبد الكريم في خندق بالخط الأمامي، إن روعة شجاعته لا حد لها، إيمانه بعقيدته لم يتغير على الرغم من الأخطار المحدقة به، ليتني كنت استطيع البقاء معه مدة أطول لأزداد تأملا ولأتعمق في دراسة هذه الظاهرة البشرية الفريدة، لقد كان إيماني يتجدد في قدرة الجنس البشري على الارتقاء إلى القمم، ثمة هنا ما هو أفضل من العبقرية، القدرة على تقدير القوى الجماعية وتوجيهها..."
لا شك أنها ظاهرة بشرية فريدة، لم تؤيد حتى تستمر وتؤتي أُكلها، وضاعت الفرصة كما ضاعت في الاقحوانة من قبل، فهل من طباع العربي أو من طباع المسلم قصر النفس وقلة الجلد والاستمرار، مع أن هدي الرسول (ص) كان حبه للعمل الدائم ولو كان قليلا، ويفضله على العمل الكثير المنقطع، كما وُصف في حديث عائشة (رض) قالت: " كان عمله ديمة" وبالمقابل نجد الغربيين لا يسأمون من طرح مشاريعهم ومتابعة أمورهم المهمة .
استفاد المسلمون في فترة الصلح الذي وقع بينهم وبين المشركين في صلح الحديبية، هذا الصلح الذي سماه الله سبحانه وتعالى (فتحا مبينا) قد أتاح للمسلمين نشر الدعوة والتنقل بين القبائل دون اعتراض احد، والدليل أن الذين حضروا الحديبية وبايعوا بيعة الرضوان كانوا ألفا وأربعمائة وبعد سنتين كان مع الرسول (ص) في فتح مكة عشرة آلاف.   لماذا لم يستفد المسلمون من الفرصة المواتية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويعمقوا العلاقة مع المسلمين الذين تحرروا من ظلم الروس، ويهتبلوا الفرصة لإقامة مؤسسات علمية واقتصادية ولكن الذي وقع هو أن أهل الخير والدعوة ذهبوا إلى تلك البلاد ليقدموا المساعدات النقدية التي لم يتعود الناس عليها هناك.
وفي هذه الفترة وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي كانت هناك أيضا فرصة كبيرة للدعوة في مشارق الأرض ومغاربها، فالغرب كان يعيش حالة من الازدهار والارتخاء وكانت الحرية متاحة للجميع، وقد بنيت المساجد، وأسست المراكز والمدارس، وصدرت المجلات... ولكن الفرصة لم تكتمل وتترسخ، فالنفر الذين قاموا بأعمال العنف أضاعوا الفرصة، ولم تكن أعمالهم في صالح الإسلام والمسلمين، بل وكأن العدو كان ينتظرها ليجدد الغارة على العالم الإسلامي، وأصبح المسلم وكأنه منبوذ القرن ومتهما أينما حل وأينما ارتحل.
وفي البلاد العربية، كانت الأفكار والأحزاب التي ظهرت في المنطقة، وهي أحزاب منبتة منقطعة عن تطلعات الأمة وعقيدتها، مثل القومية العربية والمؤدلجة ضد الإسلام والشيوعية والاشتراكية بكل مسمياتها وفروعها، هذه الأحزاب تهاوت وضعفت، وكان البديل الذي تتطلع إليه الجماهير هو الإسلام وكانت فرصةللعلماء والدعاة لتجذير الوجود والعمل لصالح الأمة وقد وقع شيء من هذا ولكنه لم يكتمل حيث قام بعض الإسلاميين بحركاتهم غير المدروسة وغير الواقعية والتي لم تقم دينا ولا دنيا.
إن الحديث عن الفرص الضائعة ليس من باب التلوم ولا من باب الترف الفكري، ولكنه من باب التفكير في الأخذ بالأسباب والعزائم، والتنبه للمستقبل.
إن الرؤية الصحيحة للأحداث وما ستؤول إليه، واقتناص الفرص ليست مما يقال فيها: وكيف لنا ان نعلم ما ستصير إليه الأمور، أو لم نكن نتوقع تبدل الأحوال بهذه السرعة.
وكأن هؤلاء يظنون أن لا تغير في الظروف والأحوال، وكأن الزمن قد توقف، وهذا ليس من طبيعة الأشياء (فأحوال العالم والأمم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو انتقال من حال إلى حال ).
الرؤية الصحيحة تأتي من معرفة السنن الإلهية في الأفراد والمجتمعات ودرجة إتقان هذه المجتمعات للأسباب وتأتي من العيون المبصرة إذا كان عندها رصيد كاف من دراسة القرآن الكريم وعند مجئ الفرصة المناسبة فإن اللحظة تساوي قرونا، وعندها تكون الزلة الواحدة تغرق سفينة الأمة بأسرها. الرؤية تأتي من الفطنة والكياسة والفراسة والمؤمن ينظر بنور الله. ومن الأمثلة أن هناك ما يشبه العرف التاريخي السياسي، وهو انه بعد هلاك طاغية متجبر عات فإن الذي يأتي بعده في الغالب يحاول التخفيف من آثار السابق وإعطاء الناس شيئا من الحرية، فلماذا لا تستغل إلى أقصى درجة؟
تنبه عالم الأندلس ابن حزم رحمه الله لهذا المعنى فقال: " إن إهمال ساعة يفسد رياضة سنة" . وتنبه لها الشاعر محمد إقبال من بعد فقال: "لحظة يا صاح إن تغفل ألف ميل يبعد المنزل" وقد صدق.
إننا لانتحدث عن الماضي ، فالفرص موجودة حاضرة في كل زمان ومكان ،فرئيس أمريكا السابق ( نيكسون ) اعتبر أواخر القرن الماضي ( الفرصة السانحة ) لأمريكا للهيمنة على العالم بعد غياب الاتحاد السوفييتي إن المتيقظ هو الذي يتنبه للفرصة ويترجمها عمليا ويسخرها لأهدافه التي هي النهوض بالأمة وتقدمها .
08-01-2010 م

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢