شرح العقيدة التدمرية [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فبعون الله وتوفيقه نبدأ درسنا اليوم إن شاء الله في المجلد الثالث ضمن الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وأوله: كتاب التدمرية؛ وسمي بذلك لأنه ألفه في (تدمر) من بلاد الشام، وهو من الكتب التي تعتبر مرجع التأصيل والتقعيد في منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات والقدر.

قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه:

[ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين ].

هذان الأصلان يدور عليهما أكثر الكتاب، بل كل الكتاب، والكلام في التوحيد والصفات منشؤه الخبر، أو يدخل تحت الأخبار، والمقصود بالخبر هنا ما أخبر الله به، وما علمه خلقه أو بعض خلقه، سواء من الأمور المعرفية الفطرية، ككثير من أمور توحيد الربوبية، فإنها علمية، سواء جاءت عن طريق الوحي أو مقتضى الفطرة، فهي خبرية علمية، وأكثر تفاصيلها إنما جاءت عن طريق الخبر، يعني: عن طريق الوحي، لكن مع ذلك يدخل فيها بعض الأمور العلمية الفطرية التي فطر الله الناس عليها.

والآخر: وهو توحيد الأمر والطلب، ويدخل فيه توحيد الشرع والقدر، وتوحيد الإلهية كله، وهو مبني على الشرع، أي: مبني على شرع الله وما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: عندنا أصلان: الأول: ما يتعلق بالتوحيد الخبري، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وكثير من مسائل القدر؛ لأن القدر سيدخل في جانبين: في جانب الأمر، وفي جانب الخبر.

والثاني: التوحيد العملي الإرادي، وهو ما يتعلق بتوحيد الإلهية الذي يرتكز على الأمر والشرع.

قال رحمه الله: [ وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لاسيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات ].

قوله: (ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر) يشير بذلك إلى الخائضين في هذه المسائل بحق وبباطل، فهم أصناف:

الصنف الأول: وهم من أكثر الناس خوضاً فيما لا يعلمون، فقد خلطوا الحق بالباطل، فيخطر لهم خواطر بعضها يوافق الحق، وكثير منها داخل في الظنون والأوهام والتخرصات، وكثير من هؤلاء هم من أهل الكلام الذين يسمون بأهل النظر من الفلاسفة ومن سار على نهجهم، أو على بعض مناهجهم من المتكلمين، كمتكلمة الفرق من المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي جاءت بعدها، والتي تسمى بالفرق الصفاتية الكلامية، وكذلك من دخل منهم أو معهم في هذا المجال من متكلمة الخوارج ومتكلمة الشيعة الرافضة ومتكلمة القدرية ومتكلمة المرجئة وغيرهم، فكلهم يجمعهم وصف واحد، أعني: وصفهم بأنهم أهل النظر.

كما قد يدخل في أهل النظر أيضاً: من نظر على مقتضى القواعد الشرعية من أهل السنة والجماعة الذين تصدوا لهذه المناهج الكلامية، فقد يوصفون بأنهم أهل نظر من هذا الجانب، لا أن مناهجهم مناهج أهل النظر، فهم قد استعملوا بعض الأمور التي تتعلق بالنظر -كالتفكير- في الدفاع عن الحق وفي رد الباطل.

لكن إن أطلق: (أهل النظر) فالمقصود به غالباً أهل الكلام الذين خاضوا في كثير من مسائل الدين بغير حق، وذلك بمجرد المناهج الفلسفية أو النزعات العقلية أو الأوهام والتخرصات كما قلت، وأغلبهم يشملهم قول الله عز وجل: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11].

الصنف الثاني: أهل العلم، والمراد بهم أهل العلوم الشرعية؛ لأنه غالباً إذا أطلق (أهل العلم) فالمراد بهم أهل العلوم الشرعية، فهم قد أخذوا بمقتضى العلم منهجاً وعملاً وتطبيقاً.

والعلم: هو العلم بالكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من الحديث وعلومه والفقه وأصوله والفرائض واللغة العربية وغير ذلك من العلوم الشرعية، أو الوسائل والأدوات إليها، فهذه تدخل في العلم بمفهومه الخاص، والذي قد ورد الثناء عليه في الكتاب والسنة هو العلم الشرعي.

الصنف الثالث: أهل الإرادة، ويبدو لي أنه يشمل أولئك الذين اتجهوا إلى العمل، سواء على مقتضى الحق أو الباطل، لكن غالباً يقصد بأهل الإرادة العاملين من أهل الحق.

وأما العباد فمعرفون، فهم الذين سلكوا مسلك العبادة وجنحوا إليها، ومالوا إلى التعبد دون الأخذ بكمال الدين، وإفرادهم هنا من مجموع هذه الأصناف يدل على أن المقصود بهم: العباد النساك الذين سلكوا طريق العبادة والعزلة، وهذا مسلك فيه خير، وفيه شطحات كما تعلمون.

فهؤلاء الأصناف كلهم قد تناولوا مسائل من الدين، وهذا معنى قوله: (لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال)، لكن الذي أخذ بالهدى الذي جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أصاب الحق، والذين شطحوا وخرجوا قد أخطئوا الطريق، وسلكوا مسالك الضلالة، ولذا كل هذه الأصناف محتاجة إلى بيان الهدى من الضلالة.

لاسيما مع كثرة من خاض في هذه الأمور بالحق تارة وبالباطل تارات، وفي هذا إشارة إلى أن أغلب ما خاض فيه الخائضون في أمور الدين من الباطل؛ لأن الحق في أصوله وقواعده وكثير من جزئياته، بل في كل جزئياته -حتى فيما يمكن أن يطرأ على أذهان الناس أو أعمالهم ولو في مستقبل الزمن- جاء مقرراً في الكتاب والسنة، إما بنص أو بنصوص، أو بقواعد شرعية مأخوذة من النصوص.

ولذلك فإن كل جزئيات وسلوكيات وحاجات البشر تندرج تحت قواعد الدين، والقواعد مأخوذة من النصوص، لكن مع ذلك نجد أن أكثر من خاض في هذه الأمور قد سلك مسلك الباطل، وهذا يصدقه وقوع الافتراق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بأن أغلب هذه الأمة -كسائر الأمم- ستقع في الافتراق، وهو الخوض بالباطل.

ولذلك لما عد الفرق عدها ثلاثاً وسبعين فرقة، واحدة منها على الحق، واثنتين وسبعين على الباطل، ولا شك أن واحدة من ثلاث وسبعين تعتبر قليلة؛ لأن أغلب الذين خاضوا في مسائل الدين قد خاضوا بالباطل، ثم أيضاً ما يعتري القلوب من الشبهه التي توقعها في أنواع الضلالات، وهذا مما يصرف الناس عن الحق إلى مسالك ومناهج الضلالة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر من ذلك في حديث: النهي عن السبل.

قال رحمه الله: [ فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتاً، والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء, والخبر دائر بين النفي والإثبات, والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة ].

إذا أردنا أن نقسم أصول الدين بناء على هذا فإنا نقول: ما يتعلق بتوحيد الربوبية والقدر وما يتفرع عنهما، وما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، كل ذلك دائر في باب الخبر، ولذلك لا مجال فيه للزيادة والنقص والتجديد، ولا يقوم إلا على مجرد التسليم والتصديق، وما عدا ذلك فهو تكذيب لخبر الله.

وأما ما يتعلق بالشرع وهو توحيد الإلهية، فهو أمر ونهي، وهو يدور على الإنشاء، يعني: أن الله عز وجل شرع الشرائع، فأنشأ للعباد الأوامر والنواهي، وهذا -كما قلت- هو مضمون توحيد العبادة؛ لأن الأمر والنهي يحتاج إلى امتثال، والخبر يحتاج إلى تصديق، فإذا كان الخبر صادراً عن الله عز وجل وثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد من تصديقه، ولا محيد للمسلم عن ذلك في أي فرع من فروع الاعتقاد.

وإذا كان الأمر راجعاً إلى الأمر والنهي فالمسلم أصلاً قد استسلم لله عز وجل، بأن استعد لأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وذلك راجع إلى الاستطاعة، لكن مبدأ التسليم لابد منه، بل لا يقوم ولا يصح توحيد العبادة -توحيد الألوهية- إلا على مبدأ التسليم، بمعنى: مبدأ الاستعداد للعمل واجتناب النواهي، فيبقى الاستعداد هو الأصل، وأما العمل فبحسب القدرة والاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

قال رحمه الله: [ وإذا كان كذلك فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل.

وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دل على ذلك سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ودل على الآخر سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك ].

قصد الشيخ بهذا الكلام: تقرير معنى كون التوحيد كله أو الدين كله يرجع إلى هذين الأصلين:

الأول: توحيد العبادة، وسماه بـ: (توحيد القصد والإرادة والعمل)، وهذا وصف لهذا النوع من التوحيد قد سبق تقريره، كما سيأتي تقرير بأننا إذا استقرأنا معاني التوحيد، سواء في منشئها من الكتاب والسنة، أو في تطبيقها في أحوال البشر، أنه يمكن أن نقسمها إلى عدة أقسام، فممكن أن تكون في قسمين، وممكن أن تكون في ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، وهذا التقسيم تقسيم علمي استقرائي، وعليه يمكن أن نقول: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد علمي، وتوحيد عملي، أو نقول: توحيد ربوبية، وتوحيد إلهية، أي: توحيد إرادي طلبي، وهو ما ينشأ عن البشر من الإرادة والطلب، وتوحيد خبري.

وكل ذلك يرجع إلى أن التوحيد ممكن أن يقسم في التقسيم الأساسي إلى نوعين من الناحية العلمية، وهذا التقسيم لا يلزم، فيمكن أن نقسم كل قسم أيضاً إلى أقسام، لكن هذا كما قلت: تقسيم علمي استقرائي، ولذا فإن المتأمل إلى أنواع أوامر الشرع أو المتأمل لأنواع الوحي فيما يتعلق بالتوحيد يجد أنها على نوعين: نوع من التوحيد هو خبر، يعني: علم، وهو أن الله علمنا الكثير من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بربوبيته وقدره، والأمور التي قد تدركها أو يدرك بعضها شيئاً من الفطر والعقول، وبعضها لا يدرك تفصيلاً إلا بالخبر، كأسماء الله وصفاته، فإن تفصيلات كثير منها لا نعلمه إلا بالخبر الذي جاءنا من عند الله، وعليه فتوحيد الربوبية كثير منه جاء بالخبر، ويدخل فيه أيضاً توحيد الأسماء والصفات، وهو علم عن أمور الغيب قد أخبرنا الله به.

ومن هنا سمي توحيد علمي وتوحيد خبري، وهذا اصطلاح راجع إلى معان، ويمكن أيضاً أن نتجاوز هذا الاصطلاح إلى معنى أوسع أو إلى معان أكثر دقة أو أكثر تفصيلاً، وهذا هو الأصل، فلابد من الإيمان به دون الخوض فيما لا تطيقه العقول.

الثاني: توحيد الطلب، أي: ما يطلب منا؛ فنحن قد علمنا بالفطرة مجملات توحيد الربوبية، وعلمنا بالوحي تفصيلات توحيد الربوبية والأسماء والصفات لله عز وجل، هذا العلم يتطلب منا أمراً آخر يسمى: توحيد الألوهية، وهو أن نعبده بما شرع، وأن نوجه له الدعاء والذكر والصلاة وجميع أنواع العبادات، ولذلك سمي بالتوحيد الطلبي، أي: توحيد القصد.

والمقصود بالقصد: أن العباد يقصدون به الله عز وجل، لكن لا يقصد الله عز وجل إلا بما شرع هو، ومن هنا رجع إلى كونه يدخل في الشرع كما دخل توحيد الربوبية في العلم.

كما يسمى أيضاً بتوحيد الإرادة؛ لأن الناس يريدون به الله عز وجل.

ويسمى بتوحيد العمل؛ لأنه مقتضى العمل المبني على المعرفة، وهو عمل القلوب والجوارح بالتوجه إلى الله عز وجل، ويسمى بتوحيد الشرع، وتوحيد الأمر.

وعليه فهذه كلها ألفاظ صحيحة، لو اقتصرنا على بعضها صح، ولو أخذناها كلها صح، ولو أجملناها بتوحيد الإلهية صح.

إذاً: فالتوحيد قسمان: قسم يرد من الله عز وجل من خلال الوحي، وهو توحيد الربوبية المسمى بالعلمي، وإن كان بعضه يعلم بالفطرة، لكن تفاصيله لا تعلم إلا بالوحي، وحتى العلم بالفطرة هو علم ركبه الله في العباد، ويسمى هذا: (توحيد علمي خبري) كما ذكرنا.

والقسم الآخر: وهو التوحيد الإرادي القصدي العملي، أي: توحيد الإلهية الذي يتلخص في الشرع.

وقد مثل الشيخ للقسم الأول بسورة: الإخلاص، فقال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، فهذا خبر تضمن أسماء الله وصفاته.

كما مثل للقسم الآخر بسورة: الكافرون، فقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2]، فالعبادة تعني القصد، أي: أن يقصد المسلم بعبادته الله عز وجل، ولذلك جاء في سورة الكافرون ضرورة إخلاص التوحيد لله عز وجل، ونفي الشرك الذي عليه أولئك الذين يعبدون غير الله عز وجل.

ومن هنا جاء تحريم عبادة المسلم يقصد بها غير الله، كأن يقصد ما قصده المشركون حينما قصدوا، أو الكافرون حينما قصدوا غير الله، فعبدوا غيره، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2]، فلا يقصد ويتوجه المسلم إلا إلى لله، ولا يعمل ولا يريد إلا لله عز وجل، ولا يعمل إلا بمقتضى شرع الله، وهذا ظاهر جداً، فإننا نجد السورة الأولى قد تضمنت الخبر عن أسماء الله وصفاته، وجوامع الأسماء والصفات.

والسورة الثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، قررت لمن يكون القصد؟ لمن تكون العبادة؟ لمن يكون العمل؟ لمن تكون إرادة المسلم؟ لمن يكون توجهه؟ كل ذلك لا يكون إلا لله عز وجل، ومن هنا خالف المسلم الكافرين مخالفة متميزة تقوم على البراء الكامل الذي لا تقارب فيه، ولذلك قد تكرر البراء في السورة بألفاظ تعطي الحدية الفاصلة التي لا مساومة فيها، فلا يمكن للمسلم أن يعبد أو يقصد أو يتوجه أو يعمل لغير الله عز وجل، وهذا هو معنى توحيد القصد، وتوحيد الإلهية، وتوحيد العبادة.

قال رحمه الله: [ فأما الأول: وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه ].

هذه القاعدة هي القاعدة الحاكمة، والقاعدة الكبرى في أسماء الله وصفاته، وعليها سيدور كلام الشيخ في أكثر هذا الكتاب، ولذلك فإن استيعابها وفهمها وإدراكها أمر ضروري لطالب العلم خاصة عندما يقرأ هذا الكتاب؛ لأن جميع ما سيرد من القواعد المفرعة عنها يعود إليها، وهذه القاعدة لم يأت بها الشيخ من عند نفسه، وإنما هي راجعة إلى قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وقول الشيخ: (الأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه) ليس هذا الأصل مبنياً على اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية أو غيره، وإنما هو مبني على نصوص قاطعة وثابتة من الكتاب والسنة، وسيأتي لهذا أدلة وأمثلة كثيرة جداً تدل على أن هذه القاعدة هي القاعدة الحاكمة، وأن من عمل بها سلم، ومن أخل بها هلك.

وهي بمثابة الميزان في قلب المؤمن، متى ما أدركها وفهمها فإنه يستطيع بإذن الله أن يرجع إليها كلما ورد إليه، أو سمع أو قرأ أو خطر بباله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، كما أنه بإذن الله يستطيع أن يميز بين الحق والباطل إذا وفقه الله لذلك.

وقوله: (فالأصل في هذا الباب) أي: في باب الصفات -إذا قيل: في الصفات، فإنها تشمل الأسماء-: أن يوصف الله عز وجل بما وصف به نفسه، وجاءنا هذا من كتاب الله عز وجل، يعني: أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه أتى بشيء عن الله من غير الوحي كما يزعم كثير من ضلال أهل الأهواء من البدع والافتراق، فإنهم يزعمون أنهم يتلقون عن الله، ولذلك وصفوا الله بأسماء وصفات وأفعال لم ترد في الكتاب والسنة، بل وزعموا أنها من عند الله! وهذا طريق ليس بسليم.

إذاً: أن يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفته به رسله، وهذا بالنسبة في جميع الأمم، وفي هذه الأمة نقول: وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يثبت لا يكون مصدراً في أسماء الله وصفاته، بل ولا يحتج به.

وهذه القاعدة مجمع عليها عند السلف، وإن كان بعضهم أحياناً قد يستدل بالضعيف، لكن لا يستدل بالضعيف في تقرير اسم أو صفة لله، وإنما في تأييد ما ثبت بنص آخر كما ذكرت لكم سابقاً.

وهذه مسألة لابد من التنبه لها، فقد ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً أحاديث ضعيفة في الصفات، لكن قد يوردها بعض السلف لا للاستدلال بها استقلالاً، ولذلك لا يوجد عند السلف شيء من ذلك يستدل به في حديث ضعيف، إلا أن بعضهم قد يجتهد في حديث ويظن أنه صحيح وليس بصحيح، وهذه زلة عالم، لا أنه منهج السلف رحمهم الله تعالى.

إذاً: نصف الله بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح.

أما قوله: (نفياً وإثباتاً) أي: أننا لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ننفي عن الله تفصيلاً إلا ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إجمالاً فننفي النقائص عن الله، لكن لا ننفي كل أمر يحتمل إلا ما جاء نفيه؛ لأن الأمور المحتملة تخضع لقاعدة التفصيل، يعني: بعض أهل الأهواء قد ينفر من معنى من المعاني، وينفيه عن الله، وهذا المعنى محتمل لحق وباطل، فجانب الحق نثبته لله على إلحاقه باسم من أسماء الله وصفاته، وجانب الباطل في هذه الألفاظ -مثلاً- ننفيه.

إذاً: لابد من الاحتراز في مثل ذلك، ولذا نقول: النفي بأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والإثبات أن يوصف الله بما أثبته لنفسه، وبما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال رحمه الله: [ وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل ].

هذه قاعدة أخرى تتفرع عن الأولى، وستأتي قواعد كثيرة كلها تتفرع عن القاعدة الأولى، وهذه القاعدة الفرعية تتمثل في أن طريقة السلف الذين سبيلهم سبيل المؤمنين، والذين اقتفوا أثر الأنبياء، والذين هم أهل الحق، والذين عصم الله بهم الدين، وتحقق فيهم إجماع الأمة على الحق، هؤلاء السلف طريقتهم وطريق أئمتهم: إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الإثبات لابد فيه من احتراز، وهذا الاحتراز هو: أنه حينما نثبت لا نكيف ولا نمثل، فلا نكيف الغيبيات بما فيها أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولا نقرر الكيفية لا في عقولنا ولا بألسنتنا ولا باعتقاداتنا؛ لأن الكيفية هي الحقيقة المحسوسة التي تتمثل في الغيبيات والمحسوسات، وإحساس الغيبيات غير ممكن.

والتكييف هو: وصف الصفة وصفاً تفصيلياً كما توصف المخلوقات المعاينة والمشاهدة، وعليه فلا يجوز أن نصف أسماء الله وصفاته وصفاً كيفياً، بمعنى: أن نحدد الشكل واللون والحكم والثقل.. ونحو ذلك مما هو من لوازم التكييف.

إذاً: المقصود التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله: الكلام في الشكل والهيئة التي عليها الحقيقة المعاينة، ونحن لا نعاين الحقائق الغيبية بحواسنا وإنما بقلوبنا، وعلى هذا فلا يجوز التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله.

وأما التمثيل فهو جزء من التكييف ومتفرع عنه، والمقصود به: أنه لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله أو بعض صفات الله أو بعض أسمائه مثل شيء من مخلوقاته، وكذلك العكس، فلا نمثل أسماء الله وصفاته وأفعاله بأمثلة من المخلوقات، ولا نشبهها بالمخلوقات تشبيهاً كيفياً، والعكس كذلك، فلا نمثل صفات المخلوقات بصفات الله، ولا نجعل صفات الله كصفات المخلوقين، فإن هذا تمثيل، وهو كفر، ولا نجعل صفات المخلوقين كصفات الله، فإن هذا أيضاً تمثيل، وهو كفر.

إذاً: فالتمثيل ممنوع من طرفين: تمثيل خصائص الله بالمخلوقات، وتمثيل خصائص المخلوقات بصفات الله، وهذا كله لا يجوز، والسلف طريقتهم حينما يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال أنهم ينفون التكييف والتمثيل، بخلاف ما يزعمه خصوم السلف من الجهلة وأهل الأهواء والبدع والافتراق بأن السلف يكيفون ويمثلون، ولذلك سموهم: مجسمة ومشبهة؛ لأنهم أثبتوا -أي: السلف- صفات الله، وعند أولئك القوم -أفراخ الفلاسفة- من أثبت أسماء الله وصفاته، أو شيئاً منها فهو ممثل مجسم، وهذا من الزيغ والعياذ بالله.

وكذلك أيضاً نثبت الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فلا نؤولها ولا ننكرها ولا نشير إلى أنها رموز، أو أنها خيالات، أو أنها أمثال تضرب لا حقيقة لها، وكل ذلك مسالك الفلاسفة والمتكلمين وأفراخهم ممن تأثروا بهم، أو حكموا عقولهم، أو سلكوا مسالك الأمم الضالة، بينما قاعدة السلف تنبني على الإثبات من غير تحريف، والتحريف هو التأويل، ومن غير تعطيل، والتعطيل هو الإنكار، والتحريف قد سلكته طوائف من الفرق، والتعطيل هو منهج الجهمية والفلاسفة، فينفون الأسماء والصفات لله عز وجل، ويصفونه بالسلوب فيقولون: لا كذا ولا كذا، مما سيأتي بيانه، وهم في الحقيقة لا يثبتون شيئاً، وحينما ترد الأسماء والصفات في الكتاب والسنة فإنهم يقفون منها مواقف، فبعضهم ينكرها ويسخر من الكتاب والسنة، وبعضهم قد لا يجرؤ على إنكار الكتاب والسنة، لكن يصرفونها عن الإثبات فيقولون: هذه معان خيالية! أو هذه مثاليات! أو هذه أمثال تقرب وليست حقائق! أو هذه تنبني على التخييل ومحاولة ربط الناس بمعاني لا حقيقة ولا ثبوت لها! إلى آخر ما يقولونه، وهذا الصنف الأول.

وأما الصنف الثاني: فهم أهل الكلام، وهؤلاء قد سلكوا مسلك التحريف الذي هو التأويل، أي: أنهم قد عمدوا إلى أسماء الله وصفاته، أو إلى بعضها فأخرجوها من حقيقتها إلى معان تخيلوها في عقولهم، مع أن هذه المعاني قد اختلفوا عليها كثيراً كما سيأتي بيانه، بل لا يكادون يتفقون على معنى.

بينما السلف قد قام دينهم على الكتاب والسنة، وقامت طريقتهم على الكتاب والسنة، وهو الإثبات لله عز وجل من غير تمثيل وتشبيه، وإن كانت كلمة: (التشبيه) فيها تفصيل، وكذلك الإثبات من غير تحريف ولا تعطيل، أي: من غير إنكار ولا تأويل؛ لأن التعطيل إلحاد، والتحريف قول على الله بغير علم، وقول في الغيبيات، وتحكم فيما لا علم للإنسان به، وخروج عن مقتضى الحقيقة إلى أوهام وظنون وتخرصات كما سيأتي بيانه.

نفي ما نفاه الله عن نفسه من غير إلحاد في أسمائه وآياته

قال رحمه الله: [ وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] ].

هذه القاعدة بيان للقاعدة التي قبلها، وهي نوع من استظهار القاعدة السابقة بأسلوب آخر، ولذلك قال: (وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد)، والإلحاد هو التعطيل والتحريف الذي أشار إليه؛ لأنه كله إلحاد، لكن هناك إلحاد خالص وهو كفري، وإلحاد غير خالص وهو بدعي، فالتحريف والتأويل بدعة، وهو نوع من الإلحاد، والتعطيل كفر، وهو نوع من الإلحاد، وكلها تدخل في قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، أي: في أسمائه وصفاته، سواء بالتعطيل أو التأويل.

قال رحمه الله: [ وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] الآية.

فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ففي قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] رد للإلحاد والتعطيل ].

نجد أن من السمات والمميزات التي ميز الله بها أهل الحق أنهم لا يحتاجون في الاستدلال على القواعد الكبرى إلى كبير عناء وجهد، بل يستطيع أصغر طلاب العلم إذا فقه أن يستدل على الحق بأيسر أسلوب وأخصر عبارة.

ولذلك فإن هذه الآية -التي تمثل القاعدة التي أشرت إليها قبل قليل- من تمثلها واستشعرها دائماً فإنه بإذن الله سيوفق ويسدد للحق والصراط المستقيم، كما نجد أن الذين ضلوا سواء من أهل التشبيه أو من أهل التعطيل -وهم على طرفي نقيض- ما فقهوا هذه الآية، ولو فقهوها ما خرجوا عن الصراط المستقيم، وهي رد عليهم جميعاً.

ففي قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، يتمثل الحق الذي هو نفي النقائص والمماثلة عن الله عز وجل، وإثبات الصفات لله عز وجل على نحو مفصل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؛ لأن من أثبت السمع والبصر أثبت بقية الصفات، ولزمه أن يثبت كل ما ثبت لله عز وجل في الكتاب والسنة.

وهذا أنموذج هذه القاعدة: لذا فالمشبهة الممثلة المجسمة، وهم من الرافضة المشبهة الأوائل، وقفوا عند قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ولم يعتبروا بقوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

وكذلك العكس، فالمعطلة والمؤولة الذين خاضوا في الأسماء والصفات، سواء الذين حرفوها بالتعطيل أو التأويل، كلهم غفلوا عن قوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهؤلاء وأولئك لو أخذوا بهذه القاعدة التي يستطيع أن يحفظها كل مسلم -وهذا من يسر دين الله عز وجل- وكل عالم وطالب علم وكل جاهل وعامي، وكل من أعطاه الله عقلاً، لسلموا من الوقوع في الخطأ والزلل.

إذاً: فهذه القاعدة هي الميزان الذهبي في جميع مسائل وأمور الدين، وليس فقط في الأسماء والصفات، لكن عندما اختلت عند أهل الأهواء اختلت مناهجهم، فالذين أخذوا بأول الآية دون آخرها وقعوا في التعطيل، والذين أخذوا بآخرها دون أولها وقعوا في التشبيه، ولذا كان أكبر خطأ وقع فيه أهل الأهواء والبدع والافتراق أنهم أخذوا بالنصوص التي تصلح لهم وتركوا ما لا يوافق أهواءهم، كما أنهم لا يجمعون بين نصوص الشرع.

إذاً: هذه القاعدة مثال لكل مناهج أهل الأهواء والبدع، وليس فقط محصورة في الأسماء والصفات، فجميع أهل الأهواء والبدع قامت مناهجهم في الاستدلال على هذا النحو، فيأخذون من الأدلة ما يوافق مناهجهم، ويتركون ما لا يوافق مناهجهم، ولو أخذوا بشمولية الأدلة على نهج السلف في الاستدلال لما وقعوا في الضلالة، إن كانوا يريدون الحق، وإلا فمن أراد الله له الغواية فلا هادي له، نسأل الله العافية.

قال رحمه الله: [ وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] ].

هذه القاعدة بيان للقاعدة التي قبلها، وهي نوع من استظهار القاعدة السابقة بأسلوب آخر، ولذلك قال: (وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد)، والإلحاد هو التعطيل والتحريف الذي أشار إليه؛ لأنه كله إلحاد، لكن هناك إلحاد خالص وهو كفري، وإلحاد غير خالص وهو بدعي، فالتحريف والتأويل بدعة، وهو نوع من الإلحاد، والتعطيل كفر، وهو نوع من الإلحاد، وكلها تدخل في قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، أي: في أسمائه وصفاته، سواء بالتعطيل أو التأويل.

قال رحمه الله: [ وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] الآية.

فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ففي قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] رد للإلحاد والتعطيل ].

نجد أن من السمات والمميزات التي ميز الله بها أهل الحق أنهم لا يحتاجون في الاستدلال على القواعد الكبرى إلى كبير عناء وجهد، بل يستطيع أصغر طلاب العلم إذا فقه أن يستدل على الحق بأيسر أسلوب وأخصر عبارة.

ولذلك فإن هذه الآية -التي تمثل القاعدة التي أشرت إليها قبل قليل- من تمثلها واستشعرها دائماً فإنه بإذن الله سيوفق ويسدد للحق والصراط المستقيم، كما نجد أن الذين ضلوا سواء من أهل التشبيه أو من أهل التعطيل -وهم على طرفي نقيض- ما فقهوا هذه الآية، ولو فقهوها ما خرجوا عن الصراط المستقيم، وهي رد عليهم جميعاً.

ففي قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، يتمثل الحق الذي هو نفي النقائص والمماثلة عن الله عز وجل، وإثبات الصفات لله عز وجل على نحو مفصل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؛ لأن من أثبت السمع والبصر أثبت بقية الصفات، ولزمه أن يثبت كل ما ثبت لله عز وجل في الكتاب والسنة.

وهذا أنموذج هذه القاعدة: لذا فالمشبهة الممثلة المجسمة، وهم من الرافضة المشبهة الأوائل، وقفوا عند قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ولم يعتبروا بقوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

وكذلك العكس، فالمعطلة والمؤولة الذين خاضوا في الأسماء والصفات، سواء الذين حرفوها بالتعطيل أو التأويل، كلهم غفلوا عن قوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهؤلاء وأولئك لو أخذوا بهذه القاعدة التي يستطيع أن يحفظها كل مسلم -وهذا من يسر دين الله عز وجل- وكل عالم وطالب علم وكل جاهل وعامي، وكل من أعطاه الله عقلاً، لسلموا من الوقوع في الخطأ والزلل.

إذاً: فهذه القاعدة هي الميزان الذهبي في جميع مسائل وأمور الدين، وليس فقط في الأسماء والصفات، لكن عندما اختلت عند أهل الأهواء اختلت مناهجهم، فالذين أخذوا بأول الآية دون آخرها وقعوا في التعطيل، والذين أخذوا بآخرها دون أولها وقعوا في التشبيه، ولذا كان أكبر خطأ وقع فيه أهل الأهواء والبدع والافتراق أنهم أخذوا بالنصوص التي تصلح لهم وتركوا ما لا يوافق أهواءهم، كما أنهم لا يجمعون بين نصوص الشرع.

إذاً: هذه القاعدة مثال لكل مناهج أهل الأهواء والبدع، وليس فقط محصورة في الأسماء والصفات، فجميع أهل الأهواء والبدع قامت مناهجهم في الاستدلال على هذا النحو، فيأخذون من الأدلة ما يوافق مناهجهم، ويتركون ما لا يوافق مناهجهم، ولو أخذوا بشمولية الأدلة على نهج السلف في الاستدلال لما وقعوا في الضلالة، إن كانوا يريدون الحق، وإلا فمن أراد الله له الغواية فلا هادي له، نسأل الله العافية.