أرشيف المقالات

يا صاحب البهتان

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
يا صاحب البهتان


عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما الغِيبَةُ؟))، قالوا: الله ورسولُه أعلمُ، قال: ((ذِكرُك أخاك بما يكرَهُ))، قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه ما تقولُ فقد بَهَتَّه))[1].

قال الكَفوي: البهتانُ هو الكذب الذي يبهت سامعه؛ أي: يَدْهَشُ له ويتَحَيَّرُ، وهو أفحشُ مِن الكذب، وإذا كان بحضرة المَقُول فيه كان افتراءً.

فالبهتان غِيبةٌ ممزوجة بالكذب، الداعي إليها البغضاءُ والحسد والترفُّع عن الخصم، بأن ينسب إليه ما ليس فيه وما لم يقُلْه، وهو مِن الذنوب التي ليس لها كفَّارةٌ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمسٌ ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغيرِ حقٍّ، وبهتُ المؤمن، والفِرارُ مِن الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالًا بغير حقٍّ))[2].

فقوله: ((ليس لهن كفارةٌ))؛ أي: لا يمحو الإثمَ الحاصلَ بسببهنَّ شيءٌ مِن الطاعات، وفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، فهذه الذنوب العِظام لا يُكفِّرها شيء إلا التوبة إلى الله تعالى، والإصلاح ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلًا، ثم كيف يصلح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كيف وقد قيل؟))[3]؟، والناسُ في زماننا هذا يتهافَتون إلى نقل الأخبار الكاذبة في مجالسهم وعبر وسائل التواصل، أو بالأحرى الانفصال، بل حتى في بيوت الله تعالى التي بُنِيَتْ لذكر الله وإقام الصلاة، لا يرقُبُون في مُؤمنٍ إِلًّا ولا ذِمَّة، ولا يراعون للمساجد تعظيمًا ولا حرمة!

ثم هَبْ أن هذا التائب قد برَّأ المسلم مما قال فيه، فهل سينتشر الخبر الصادق كما انتشر الكاذب؟! كلَّا!

والبهتان إذا كان محرَّمًا في عمومِ الناس، فهو في حقِّ أهل العلم أشدُّ وأقبحُ، والمسألةُ أخطرُ وأعظم، فمِن الناس مَن جعل ديدَنَه التكلُّم في أهل العلم، إما بباطلٍ محض، أو بباطل مُزِجَ بحقٍّ، أو بحق يفوحُ منه التعدي والظلم، بتصيُّد الزَّلَّات، وتتبُّع العثرات، وحَمْل الكلام على غير محملِه؛ استزلَّه الشيطانُ ببعض ما كسَب، يظنُّ أنه يطلب العلم وما هو بطالب، إنما هو همَّازٌ مَشَّاءٌ بنَمِيمٍ، علِم الشيطانُ نقطةَ ضعفه فهو يَؤُزُّه إليها أزًّا، ضلَّ سعيُه وهو يحسب أنه يُحسِن صنعًا.

يقول الشيخ العثيمين في شرح رياض الصالحين: "إن الذين يلتقطون زلَّاتِ العلماء ليُشيعوها ليسوا مُسيئين للعلماء شخصيًّا وحَسْب، بل مُسِيئون للعلماء شخصيًّا، ومُسِيئون إلى علمِهم الذي يحمِلونه، ومسيئون إلى الشريعة التي تُتلقَّى مِن جهتهم؛ لأنَّ العلماء إذا لم يَثِقِ الناسُ فيهم، وإذ اطلعوا على عوراتِهم التي قد لا تكون عورات إلا على حسَب نظر هذا المُغرِض، فإنه تَقلُّ ثقتُهم بالعلماء وبما عندهم من العلم، فيكون في هذا جنايةٌ على الشرع الذي يحملونه من سُنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام".

ففي الدنيا صاحب البهتان ليس له عمل يُكفِّر به فَعْلَتَه إلا بالتوبة النصوح والإصلاح، فإن لم يَتُبْ أو بقِيَتْ عليه تَبِعات ذنبه، فإنه يُحبَس يوم القيامة على جسر جهنم، حتى يُنقَّى مِن ذنبه؛ بأخذ حسناته، أو بطَرْح سيئات مَن بهتَهم عليه؛ فعن سَهْل بن معاذ بن أنس الجُهني، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَن حمى مؤمنًا من منافق، أراه قال: بعَث الله ملكًا يحمي لحمَه يوم القيامة مِن نار جهنم، ومَن رمى مسلمًا بشيء يريد شينَه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال))[4].

فإن فَنِيَتْ حسناته طُرِح في النار، وأسكنه الله في عصارةِ أهلها؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ومَن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله رَدْغَة الخَبَال، حتى يخرج مما قال، وليس بخارجٍ))[5].


فيا صاحبَ البهتان، قد وَضَعْتَ نفسك في مأزِقٍ مُتشعِّب المهالك، فانظُرْ بما تخرج منه!

ثم إنك أيها المستمع إلى صاحب البهتان، هل عمِلتَ إذ جاءك الخبر بقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]؟ أو غرَّك شكل هذا الفاسق ومظهرُه؟

وهل عمِلتَ بقوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]؟ أو سرَّك ما ذكَر لك، وسارَعْتَ لنشره؟

فقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [النور: 19]، هذا فيمَن أحبها، فكيف بِمَن أشاعها؟!

نسأل الله السلامة
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
وصلِّ اللهم وبارِكْ على نبينا محمد وعلى آله وسلِّم تسليمًا كثيرًا



[1] صحيح مسلم.



[2] صحيح الجامع.



[3] صحيح البخاري.



[4] حسن، التعليق الرغيب، المشكاة (التحقيق الثاني).


[5] صحيح الجامع.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢