عنوسة غريبة الأطوار
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
العنوسة قدر وابتلاء، وشبح يتعاظم، وألم نفسي يتجاسر، ومعدلات مخيفة تقلق أي فتاة، وتهدد عفة المجتمع .. تجمع في أسبابها ما هو خارج عن إرادتنا، لكن الأعجب تلك الأسباب التي من صنع أيدينا، ومن نتائج قراراتنا الخاطئة ..
إنها حقا مأساة أن يلتف الحبل حول رقبتنا بأيدينا، ونقع في شَرَك معاناة وحدة أبدية جراء تقاليد بالية، أو فكرة خاطئة تستحوذ علينا، أو عنادٍ جامحٍ يأكل حياتنا. ضحية البلطجي «نسمة» ..
تلك الفتاة الرقيقة الهادئة، التي تتمتع بقدر عال من الجمال، وشهادة جامعية مرموقة، لكن حظها العاثر أوقعها في شرك العنوسة بسبب أخيها البلطجي!! ..
هذا الأخ الجانح، الذي يشاكس الخلق بسبب وغير سبب حتى أدمن الإجرام، ونصبه أصدقاء السوء بطلهم المغوار، يقودهم للعراك مع خلق الله لأتفه الأسباب، وصار جسده من كثرة المشاجرات والإصابات مرتعا لآثار الجروح والتشوهات، فلا يكاد وجه وذراعيه يخلوا من ندوب جرح هنا أو هناك، أما السجن فصار بيته الثاني، يدخل ويخرج منه وكأنه كان في ابتعاث خارجي لنيل أحد شهادات الإجرام، فيعود إلى الحي أبشع مما كان. بالله عليكم من يجرؤ على الزواج من هذه الفتاة، وإن جمعت كل خصال الخير، ومن يرضى أن يكون هذا البلطجي خال أولاده، ومع من يتفاوض لو حدث أي خلاف زوجي بينهما مستقبلا، وهل سمعة الإنسان رخيصة كي يغامر بها، خاصة والفتيات كثر، والنفس دوما تؤثر السلامة. حلم الطبيب المرموق أما «أماني» فهي الفتاة المتفوقة دراسيا منذ الصغر، التي أشربت نفسها حب العلم والتحصيل، وأسرتها المرموقة علميا واجتماعيا وفرت لها كل السبل من أجل تدعيم موهبتها الراقية. في ريعان شباب أماني، وفي قمة تفوقها العلمي، تقدم لها طبيب مرموق، وسارت إجراءات الخطوبة في أجواء من الفرح والحبور، إلا أن الأمور بعدها مضت على غير ما يرام، وأثبتت المواقف تنافر الطباع بين الخطيبين، وكان لابد من الانفصال الذي ترك جرحا نفسيا في داخلة أماني، تلك الهمة التي لم تعرف الفشل مطلقا. أسوأ ما في هذا الموقف أنه سببا انحرافا في فكر الفتاة الشابة، وعاشت على حلم العريس المرموق، وما إن يتقدم لها شاب حتى تخضعه في مقارنة دقيقة وقاسية مع خطيبها الأول، ومن ثم يأتي الرفض لأنه ربما أقل منه مكانة اجتماعية أو مادية أو جمالية. إنها الفكرة السوداء التي استحوذت عليها، وجعلتها تريد أن تنتصر لنفسها، وتصر على أن ترتبط بمن حو أحسن وأفضل من خطيبها الأول ..
لكن متى يقاس الناس بشهاداتهم العلمية أو مكانتهم الاجتماعية، أو صفاتهم الجمالية ..
إن معايير اختيار شريك الحياة منظومة مترابطة، قد يترجح جانب منها على جانب آخر، لكن تبقى المحصلة النهائية من دماثة الخلق ومتانة الدين والقدرة على أعباء الزواج هي الفاعل الأساسي والمحوري في عملية الاختيار، أما أن نصر على الطبيب أو المهندس أو الدبلوماسي ...
وسائر ذوي المكانة الاجتماعية، ونغض الطرف عن باقي المعايير فتلك الهوة السحيقة التي لا فكاك منها.
فرب صاحب شهادة علمية مرموقة لا يصلي ولا يراعي لله تعالى حرمة، ورب صاحب مال ولكنه عربيد، والشواهد أكثر من أن تحصى أو تعد. تقدم العريس تلو العريس وعروستنا أماني تطلق الرفض تلو الرفض، وانهمكت في مجدها العلمي، فحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه وارتفع سقف مطالبها في العريس بارتفاع مكانتها العلمية، وازدادت معايير الاختيار تزمتا وتشددا، حتى تسربت السنوات من بين يديها، ودخلت في الأربعين، ولم تفق من سكرتها إلا عندما اختفى طابور العرسان من أمامها. العانس الثيب وأخيرا «إسلام» ..
الشابة الوسيمة التي نشأت يتيمة، لأم مسكينة واجهت مصاعب الحياة مبكرا، حيث مات زوجها بعد سنوات معدودة من زواجهما، رزقا فيها بإسلام، تلك الطفلة الوضيئة، ذات الثغر الباسم، والحلم البريء. وفي أتون الفقر نشأت إسلام، وبين ألم المحنة وذل الحاجة كانت تمر الأيام ثقيلة بطيئة، حتى أدركت الشباب وتقدم العرسان، فاستجابت لأول طارق، أملا في الخروج من حالة الضنك، وبحثا عن استقرار عائلي لم تعرفه يوما من الأيام ، لكن سبق اختيارها أيضا نوع من التسرع، وضرب من قلة الخبرة، فلم تسبر غور شريك حياتها جيدا، ولم تدرس أخلاقه ولا تصرفاته على النحو الذي ينبغي. تزوجت إسلام بدون روية، يحدوها الأمل في حياة هنية، ومر شهر العسل أحلى من العسل، ثم سرعان ما تغيرت الأحوال، لتكتشف أن زوجها وأملها ورب بيتها مدمن محترف، يؤثر البطالة على عرق الجبين، ولا يكاد يفيق إلا النذر اليسير ..
غضوب غشوم، فظ غليظ، وأحيانا عنيف، مما استحالت معه العشرة، ونصحها العقلاء والأقرباء بالانفصال، فغادرت بيت الزوجية بعد أشهر معدودة من زواجها وهي حامل منه في وليدة سرعان ما رأت الحياة لتكرر نفس المأساة، وانتقلت المحنة من الأم إلى الابنة، ودخلت إسلام كرها حظيرة العنوسة لكن من باب الثيبات لا من باب الأبكار.
إنها مفارقات غريبة الأطوار، لا دخل لنا فيها تارة، ومن صنعنا تارة أخرى، والنتيجة عنوسة كئيبة ووحدة قاتلة، وصدور تصرخ من غير صوت أن أنقذونا، فهل من مستجيب..
إنها حقا مأساة تبحث عن حل، ورغم أنها مزمنة، إلا أن المخيف في الموضوع زيادة المعدلات بصورة رهيبة تأذن بانفجار من نوع جديد لم تعهده البشرية من قبل، فاللهم سلم سلم، واستر بناتنا، وارزقهن العفاف والغنى، أنت مولانا ونعم المصير.