خطب ومحاضرات
شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [2]
الحلقة مفرغة
فإنه يتعلق بهذا الحديث العديد من القضايا الكبرى في علاقة الأمة بأكملها بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وجميع شراح الحديث يوردون في شرحه الآية الكريمة: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
وبهذه المناسبة ننبه على ما سبق أن نبهنا عليه مراراً، بأن الاستدلال في كتاب الله، وفهم معنى كتاب الله ودلالاته لا تؤخذ جزئية، ولا موضعية، ولكن تؤخذ وحدة موضوع متكاملة، وهذه الآية الكريمة سيقت في سورة النساء، فنأخذ ما قبلها من أول نصف الحزب قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: معرفة سبب النزول تعين على فهم النص، الأصوليون يقولون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
فنأتي إلى هاتين القاعدتين .. سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا .. [النساء:58]، لما فتح الله مكة على المسلمين -ونحن نعلم أن أعظم وأشرف مكان في الأرض هو الكعبة، ومفتاح الكعبة هو أغلى وأثمن ما يحرص عليه كل إنسان- أراد صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فطلب المفتاح من آل شيبة، من عثمان بن طلحة ، وكان هو سادن الكعبة، ففتح صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل فصلى وخرج، فقال علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطنيه يا رسول الله! قال له: خذ، فجاء عثمان يطلب المفتاح ويقول: الأمانة التي أعطيتك، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وهنا علي بعد أن أخذ المفتاح، هل يتمسك به أو يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله من عند الله ويسلم المفتاح طائعاً مختاراً؟ الذي فعل أنه سلم المفتاح.
ثم نأتي إلى عموم اللفظ .. (يَأْمُرُكُمْ)، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على جميع الأمة أن تؤدي الأمانات إلى أهلها، وأعظم أمانة عند الفرد هي ما ائتمنه الله عليه من دينه، حتى يقول العلماء: إن الوضوء أمانة، ويقول مالك: إن الصلاة أمانة.
الغسل للجنابة أمانة، من منا يعلم عن الثاني أمتوضئ أم غير متوضئ؟ فهو أمر ائتمنك الله عليه.
وفي قوله تعالى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10] قالوا: الأمانات التي ائتمن الله العباد عليها.
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .. [النساء:58]، وفي آية أخرى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]؛ لأن العدل من تعادل كفتي حمل البعير إذا كان الحمل متعادلاً متوازياً، أما إذا كانت كفة ثقيلة، والأخرى خفيفة، فإنها تطيش الخفيفة وتنزل الثقيلة ويجنح البعير ولا يستطيع المشي.
الخطاب هنا: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .. ، هل هو خطاب لعموم الرعية أم للحكام؟
المخاطب بهذا هم الحكام، فالله فوق الجميع، والحاكم الذي ليست فوقه سلطة إلا لله يأمره الله أن يحكم بالعدل، ولم يقل: إذا حكمتم بين المؤمنين، لكن قال: إذا حكمتم بين الناس. أي: ولو كانوا كفاراً.
وبعد ما رتب الأمر مع الحكام، ورسم المنهج للعدالة، جاء للرعية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ) أولاً، ثم قال تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فوقع عطْف وتكرار في الفعل: أطيعوا.. وأطيعوا..
وعندما ذكر (أُوْلِي الأَمْرِ) لم يأت بفعل الطاعة؛ لأن طاعة الله طاعة مستقلة، وطاعة رسول الله طاعة مستقلة، ولذا قد ينفرد صلى الله عليه وسلم بتشريع حلال أو حرام في السنة النبوية.
فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وجاء الرسول بالسنة وقال: (لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)، فهذا تشريع مستقل من السنة، فأولو الأمر يطاعون ولكن ضمن طاعة الله وطاعة رسوله.
وهنا فريقان: حكام أُمروا أن يحكموا بالعدل، ومحكومون أُمروا أن يطيعوا، وقد يقع النزاع بين الطرفين، وحينئذٍ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه..)، هذا الفصل وهذا الموقف يرتبط بالإيمان بالله، سواء كانوا حاكمين أو محكومين، لأن الحاكم إذا لم يؤمن بالله ويصدق بكتاب الله ويعمل به فما هو برادٍ إليه، وكذلك الرعية إذا لم تؤمن بالله وبكتاب الله فلن ترجع إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله. (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي: تجازون على أعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: الرد إلى الله وإلى رسوله خير من الذهاب يميناً ويساراً.
وهنا كما يقول العلماء: الرد إلى الله معناه الرد إلى كتاب الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخاطب كل واحد منا، ولا أحد منا عنده أهلية وصلاحية ليخاطب الله، فالرد إلى الله أي: إلى كتاب الله، والرد إلى رسوله في حياته صلى الله عليه وسلم بأن نأتيه شخصياً ونعرض عليه قضيتنا ونحكمه فيها، ومن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى نرد الأمر إلى سنته.
فبإجماع المسلمين أن الرد إلى الله أي: إلى كتابه، والرد إلى رسوله أي: إلى سنته.
يأتي في المقابل بعد هذه الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60].
في الآية الأولى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا)، وهنا يُعجِّب رسوله من قوم فيقول: (أَلَمْ تَرَ) أي: تأمل هؤلاء! (الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا).
الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يثبت الإيمان قطعاً، وهنا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من كتب ومن وحي إلى غير ذلك، ما موقفهم؟ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وهذه النزغة من أين أتت؟ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60].
سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك..)
أغلب المفسرين على أنها نزلت في القضية المشهورة، وهي: أن رجلاً يسمى بشراً من المنافقين، كانت بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تعال بنا إلى محمد نحتكم إليه، قال المنافق: لا، بل إلى كعب بن الأشرف .. وهو من سادات اليهود.
اليهودي يقول: نذهب إلى محمد الذي تعلن إيمانك به، فإذا به يقول: بل نذهب إلى كعب بن الأشرف سيد اليهود.
فنزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت [النساء:60]، والطاغوت كما يقول علماء اللغة: على وزن (فاعول)، من الطغيان وهو: تجاوز الحد.
وكعب بن الأشرف من أشد الطواغيت في ذلك الوقت، وكان يظهر العداوة لرسول الله ولأصحابه ويهجوهم.
فاليهودي غلب المنافق وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم رسول الله على مقتضى قوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] فحكم لليهودي، ولم يحكم لليهودي لشخصه بل أقام العدالة، بصرف النظر عن المحكوم له أو المحكوم عليه.
ولما خرجوا قال المنافق: أنا لا أرضى بهذا، ولكن تعال نذهب إلى أبي بكر ، فالرسول مشغول وما عنده وقت وما يفهم منا، وأبو بكر يعطينا سعة أكثر، فجاءوا إلى أبي بكر ، وقصوا عليه القضية فحكم لليهودي، فقال المنافق: لا، لنذهب إلى عمر ، فـأبو بكر مثل محمد مشغول، فلما أتيا عمر لقياه عند الباب، فبدره المنافق ليقص قصته فقاطعه اليهودي وقال: يا عمر ! لا تتعب نفسك، لقد جئنا قبلك إلى محمد فحكم لي ولم يقبل، وجئنا إلى أبي بكر فحكم لي ولم يقبل، فقال عمر للمنافق: أهكذا كما يقول اليهودي؟ قال: بلى، احكم أنت. فقال عمر : انتظرا، ودخل بيته وخرج بسيفه وضرب عنق المنافق.. وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله.
فجاء أهل المقتول يطلبون الدية، وجاء جبريل عليه السلام، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فرق عمر بين الحق والباطل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت
هنا نأخذ حقيقة اتباع رسول الله، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما جاء به رسول الله.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي: أولئك المنافقين تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61] هذا يهودي يدعوك لرسولك وأنت تصد وتقول: بل نذهب لـكعب بن الأشرف .
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النساء:62] المصيبة هي ما وقع على الرجل من عمر .
(جَاءُوكَ) أي: أولياؤه يطلبون الدية ويقولون: والله! ما نريد إلا الإحسان والإصلاح.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63] كشف الله سبحانه وتعالى حقيقة ما تخفي قلوبهم، من الإعراض عن كتاب الله، والصد عنه؛ فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم فاتركهم.
لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟
(وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) بعضهم يقول: الموعظة تكون عامة كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام..)، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) أي: بينك وبينهم، لكن الصواب الوجه الثاني وهو أن الموعظة: التخويف والزجر.
وقوله: (فِي أَنفُسِهِمْ): حتى يرحموا أنفسهم بأنفسهم، قل: أنتم على ضلال.. أنتم ضائعون، نبههم على الخطر الذي يحدق بهم، وكأن: (عِظْهُمْ) تعني كلاماً عاماً، لكن (فِي أَنفُسِهِمْ) أي: في خواص أشخاصهم؛ لأنهم أولى من يكون أن ينقذ نفسه.
(وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) القول البليغ هو: الذي يبلغ الإنسان غايته، كما تقول: بلغت الغاية، والبلغة: الغاية المقصودة، والشيء الذي يبلغك إلى غايتك، والكلام البليغ بخلاف الكلام العيي؛ فالكلام البليغ: هو الذي ينقل المعنى من مكان إلى مكان آخر، فإن كان بليغاً فصيحاً واضحاً حمل المعنى ونقله، وإن كان مفككاً -مثل حالتنا- فإن المعنى يتعثر.
إذاً: (قَوْلًا بَلِيغًا) يعني: ينفذ من عندك إليهم، وكما قالوا: ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وليس بعد بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيراده الخبر بلاغة، فقد أُعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، (بإذن الله) هل يعني: بما أمر الله أم بتوفيقه، والويل لمن لم يوفقه الله؟
نحملها على المعنى الأول، وإن كان المعنى الثاني أيضاً متلازماً مع المعنى الأول.
قبول توبة المنافقين واستغفار رسول الله لهم إن تابوا
وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]؛ هل كل مذنب لا يُقبل منه استغفار ولا رجوع، أو لا تقبل له توبة حتى يأتي إلى رسول الله يستغفر له؟
الآية تقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ أي: بالمعصية، سواء كانت عامة أو خاصة في هذه القضية (جَاءُوكَ) يا محمد فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، هنا الشرط: لو أنهم جاءوا واستغفروا واستغفرت لهم لوجدوا المغفرة، هل المغفرة لا تقع لمذنب إلا إذا جاء واستغفر له رسول الله، أم أن التوبة بينك وبين الله وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؟
يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186]، فلا واسطة، لكن لماذا كانت الواسطة هنا؟
فالجواب: أننا ننظر في قضية المنافق هنا.. هل هو أعرض عن كتاب الله وحكمه فقط، أم أنه صد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً؟
الجواب: أنه صد عن رسول الله أيضاً، إذاً: الرسول له حق في هذه القضية، فكأن مجيء المنافق إلى رسول الله ليستغفر الله بين يديه، إعلان لرجوعه وتوبته، وإذا استغفر له رسول الله فمعنى ذلك أنه أسقط حقه على ذلك المنافق، فيكون أهلاً لأن يغفر الله له.
فمجيء المسيء في ذلك الوقت إلى رسول الله كان لحق رسول الله؛ لأن إعراضه عن حكم رسول الله فيه تعدٍ عليه وانتقاص له صلى الله عليه وسلم.
وهذا مثال بسيط: لو جئنا إلى دائرة من الدوائر وفيها المدير، واثنان من الموظفين تنازعوا فيما بينهم، والدائرة كبيرة وفيها أقسام وكل قسم فيه رئيس، هؤلاء العمال في هذا القسم لديهم رئيسهم، فلما حصل النزاع فيما بينهم تركوا رئيسهم وذهبوا إلى رئيس قسم آخر، ثم بعد مدة سمع رئيسهم بهذا؛ فما الذي سيكون في نفسه؟ سيقول: ذهبتم إلى غيري! معناه: أني لست كفؤاً لكم، وأنكم غير محسني الظن بي..
وهذا فكأن فيه هضماً لحق رسول الله فيما هو حق له في أن يحكم بين الناس بالعدل.. فتخطي هذا المنافق لرسول الله وإعراضه عن حكمه فيه هضم وتعدٍ على حقوق رسول الله؛ فكان من الواجب لرد هذا الاعتبار والحق أن يأتي إلى رسول الله لا أن يستغفر رسول الله، بل لكي يستغفر له رسول الله.
وهل رسول الله سيستغفر له وهو ساخط عليه أم بعد أن يسامحه؟
إذاً: استغفار رسول الله لهذا الجائي إليه دليل على أنه سامحه، فإذا سامحه رسول الله فإنه سيجد الله تواباً رحيماً.
وأمرهم بإتيان النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقروا بذنبهم؛ لأن الذنب هنا مشترك: جانب في حق الله، وجانب في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فمَن في المشرق ومَن في المغرب ومن تحت الثرى، ومن في أعماق المحيط ومن في مركبة فضائية في الهواء، وسأل الله ودعاه؛ يجد الله أقرب إليه من حبل الوريد.
من هم أولئك الذين يزعمون؟ وما علاقة هذا الزعم والتحاكم إلى الطاغوت حتى يأتي في مقابل المؤمنين الذين يتحاكمون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟
أغلب المفسرين على أنها نزلت في القضية المشهورة، وهي: أن رجلاً يسمى بشراً من المنافقين، كانت بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تعال بنا إلى محمد نحتكم إليه، قال المنافق: لا، بل إلى كعب بن الأشرف .. وهو من سادات اليهود.
اليهودي يقول: نذهب إلى محمد الذي تعلن إيمانك به، فإذا به يقول: بل نذهب إلى كعب بن الأشرف سيد اليهود.
فنزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت [النساء:60]، والطاغوت كما يقول علماء اللغة: على وزن (فاعول)، من الطغيان وهو: تجاوز الحد.
وكعب بن الأشرف من أشد الطواغيت في ذلك الوقت، وكان يظهر العداوة لرسول الله ولأصحابه ويهجوهم.
فاليهودي غلب المنافق وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم رسول الله على مقتضى قوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] فحكم لليهودي، ولم يحكم لليهودي لشخصه بل أقام العدالة، بصرف النظر عن المحكوم له أو المحكوم عليه.
ولما خرجوا قال المنافق: أنا لا أرضى بهذا، ولكن تعال نذهب إلى أبي بكر ، فالرسول مشغول وما عنده وقت وما يفهم منا، وأبو بكر يعطينا سعة أكثر، فجاءوا إلى أبي بكر ، وقصوا عليه القضية فحكم لليهودي، فقال المنافق: لا، لنذهب إلى عمر ، فـأبو بكر مثل محمد مشغول، فلما أتيا عمر لقياه عند الباب، فبدره المنافق ليقص قصته فقاطعه اليهودي وقال: يا عمر ! لا تتعب نفسك، لقد جئنا قبلك إلى محمد فحكم لي ولم يقبل، وجئنا إلى أبي بكر فحكم لي ولم يقبل، فقال عمر للمنافق: أهكذا كما يقول اليهودي؟ قال: بلى، احكم أنت. فقال عمر : انتظرا، ودخل بيته وخرج بسيفه وضرب عنق المنافق.. وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله.
فجاء أهل المقتول يطلبون الدية، وجاء جبريل عليه السلام، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فرق عمر بين الحق والباطل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت
هنا نأخذ حقيقة اتباع رسول الله، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما جاء به رسول الله.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي: أولئك المنافقين تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61] هذا يهودي يدعوك لرسولك وأنت تصد وتقول: بل نذهب لـكعب بن الأشرف .
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النساء:62] المصيبة هي ما وقع على الرجل من عمر .
(جَاءُوكَ) أي: أولياؤه يطلبون الدية ويقولون: والله! ما نريد إلا الإحسان والإصلاح.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63] كشف الله سبحانه وتعالى حقيقة ما تخفي قلوبهم، من الإعراض عن كتاب الله، والصد عنه؛ فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم فاتركهم.
ولذا كانوا يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أمر المنافقين ولكن لم يقتلهم، وقد سئل عن ذلك، فقال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) أي: إن هؤلاء يدعون أنهم أصحابي أفأقتلهم؟
(وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) بعضهم يقول: الموعظة تكون عامة كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام..)، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) أي: بينك وبينهم، لكن الصواب الوجه الثاني وهو أن الموعظة: التخويف والزجر.
وقوله: (فِي أَنفُسِهِمْ): حتى يرحموا أنفسهم بأنفسهم، قل: أنتم على ضلال.. أنتم ضائعون، نبههم على الخطر الذي يحدق بهم، وكأن: (عِظْهُمْ) تعني كلاماً عاماً، لكن (فِي أَنفُسِهِمْ) أي: في خواص أشخاصهم؛ لأنهم أولى من يكون أن ينقذ نفسه.
(وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) القول البليغ هو: الذي يبلغ الإنسان غايته، كما تقول: بلغت الغاية، والبلغة: الغاية المقصودة، والشيء الذي يبلغك إلى غايتك، والكلام البليغ بخلاف الكلام العيي؛ فالكلام البليغ: هو الذي ينقل المعنى من مكان إلى مكان آخر، فإن كان بليغاً فصيحاً واضحاً حمل المعنى ونقله، وإن كان مفككاً -مثل حالتنا- فإن المعنى يتعثر.
إذاً: (قَوْلًا بَلِيغًا) يعني: ينفذ من عندك إليهم، وكما قالوا: ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وليس بعد بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيراده الخبر بلاغة، فقد أُعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، (بإذن الله) هل يعني: بما أمر الله أم بتوفيقه، والويل لمن لم يوفقه الله؟
نحملها على المعنى الأول، وإن كان المعنى الثاني أيضاً متلازماً مع المعنى الأول.
ثم يخفف الله عنهم ويبين علاج الموقف فيقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64] أي: بالتحاكم إلى الطاغوت والصدود عنك وعما أنزل الله جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء:64] على ما كان منهم من صدود، وعلى ما كان منهم من خطأ وإعراض عنك.
وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]؛ هل كل مذنب لا يُقبل منه استغفار ولا رجوع، أو لا تقبل له توبة حتى يأتي إلى رسول الله يستغفر له؟
الآية تقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ أي: بالمعصية، سواء كانت عامة أو خاصة في هذه القضية (جَاءُوكَ) يا محمد فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، هنا الشرط: لو أنهم جاءوا واستغفروا واستغفرت لهم لوجدوا المغفرة، هل المغفرة لا تقع لمذنب إلا إذا جاء واستغفر له رسول الله، أم أن التوبة بينك وبين الله وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؟
يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186]، فلا واسطة، لكن لماذا كانت الواسطة هنا؟
فالجواب: أننا ننظر في قضية المنافق هنا.. هل هو أعرض عن كتاب الله وحكمه فقط، أم أنه صد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً؟
الجواب: أنه صد عن رسول الله أيضاً، إذاً: الرسول له حق في هذه القضية، فكأن مجيء المنافق إلى رسول الله ليستغفر الله بين يديه، إعلان لرجوعه وتوبته، وإذا استغفر له رسول الله فمعنى ذلك أنه أسقط حقه على ذلك المنافق، فيكون أهلاً لأن يغفر الله له.
فمجيء المسيء في ذلك الوقت إلى رسول الله كان لحق رسول الله؛ لأن إعراضه عن حكم رسول الله فيه تعدٍ عليه وانتقاص له صلى الله عليه وسلم.
وهذا مثال بسيط: لو جئنا إلى دائرة من الدوائر وفيها المدير، واثنان من الموظفين تنازعوا فيما بينهم، والدائرة كبيرة وفيها أقسام وكل قسم فيه رئيس، هؤلاء العمال في هذا القسم لديهم رئيسهم، فلما حصل النزاع فيما بينهم تركوا رئيسهم وذهبوا إلى رئيس قسم آخر، ثم بعد مدة سمع رئيسهم بهذا؛ فما الذي سيكون في نفسه؟ سيقول: ذهبتم إلى غيري! معناه: أني لست كفؤاً لكم، وأنكم غير محسني الظن بي..
وهذا فكأن فيه هضماً لحق رسول الله فيما هو حق له في أن يحكم بين الناس بالعدل.. فتخطي هذا المنافق لرسول الله وإعراضه عن حكمه فيه هضم وتعدٍ على حقوق رسول الله؛ فكان من الواجب لرد هذا الاعتبار والحق أن يأتي إلى رسول الله لا أن يستغفر رسول الله، بل لكي يستغفر له رسول الله.
وهل رسول الله سيستغفر له وهو ساخط عليه أم بعد أن يسامحه؟
إذاً: استغفار رسول الله لهذا الجائي إليه دليل على أنه سامحه، فإذا سامحه رسول الله فإنه سيجد الله تواباً رحيماً.
وأمرهم بإتيان النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقروا بذنبهم؛ لأن الذنب هنا مشترك: جانب في حق الله، وجانب في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فمَن في المشرق ومَن في المغرب ومن تحت الثرى، ومن في أعماق المحيط ومن في مركبة فضائية في الهواء، وسأل الله ودعاه؛ يجد الله أقرب إليه من حبل الوريد.
استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر | 3523 استماع |
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] | 3212 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] | 3185 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون | 3134 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] | 3115 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر | 3067 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] | 3044 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] | 2994 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] | 2890 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] | 2876 استماع |