أرشيف المقالات

بعض ما نحب وما نكره

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
للأستاذ حسين الظريفي لكل منا ما يحب وما يكره من الأشياء والأشخاص لغير علة ظاهرة لديه.
وقد تمتلئ النفس بهذا الشعور إلى حد يبعث فيها الرغبة بالبحث عن العلة، فلا يكاد يجد لها وجهاً تحمل عليه، ويظل يحمل في طيات نفسه ما تنفعل به من الحب أو الكره لهذا أو ذاك، وهو في حيرة من أمر ما يملك عليه وعيه وما رواء وعيه من دفائن الشعور. ولا يقف الشعور عند حد امتلاء النفس به، وإنما قد يفيض على اللسان ويظهر بأعمال الجوارح، فتندفع بقواه المجهولة، إلى استحسان أو استهجان ما لولاه لما بدا لنا رأي فيه.
وقد نصدع أو ندع لمجرد إشباع تلك العاطفة العمياء، فتحدث لنا من المشاكل ما نحن في غنى عنه ويظل أحدنا طول الحياة، وهو رهين حبه لهذا أو كرهه لذاك، وما حبه وكرهه إلا وليد نظرة عابرة، هي أجدر بأن تولد وتموت ولا تعقب.
وقد يحاول الخلاص من هذا الشعور الخاص ولا يجد السبيل إليه وقد يكون لهذا الشعور من الأثر في سلوكنا ما نظل رازحين تحت أعبائه مدى الحياة، فتسوء علائقنا بهذا، لا لشيء إلا لأن أول نظرة ألقيت عليه كانت وحياً بالنفرة منه.
وقد يكون من الخير لنا أن نصل به ما انقطع، ولكن ذلك الشعور الغامض يأبى إلا أن يرى الشر فيه، وقد تكثر مظاهر هذا الشعور في ناحيتيه الإيجابية والسلبية، فتزداد به متاعبنا في الحياة، ونريد الخلاص ولات حين خلاص.
ذلك لأن فيما وراء هذا الشعور باعثاً تطاول عليه الزمن ومحاه من الذاكرة، ولكنه بقي حياً فيما وراء الوعي، ولا يكاد يجد فرصة الظهور حتى ينساب إلى مجرى الشعور وبوقع أثره الخاص. ويخطئ أولئك الذين يعللون هذا الانفعال بفعل الغريزة، فليس في الأمر شيء مما يتصل بالفطرة، وإنما هو من فعل التجارب الماضية.
تلك التي حدثت لنا في فجر الحياة فأحدثت في نفوسنا هذا الانبساط أو الانقباض.
ثم جللها الزمن برداء الصفاء من ساحة العقل الشاعر فانحدرت إلى ما وراءه واستقرت في قاع العقل الباطن حية فتية ولكنها لا تهز النفس إلا بيد ذات قفاز، ولا تظهر إلا بوجه مستعار.
وذلك هو موضع الخطأ الذي وقع في أولئك الذين قالوا بأن هذا الحب أو الكره وليد الفطرة أو الغريزة وأنه لا يمكن أن يعلل بشيء آخر ولا ريب في أن تجارب الماضي من الكثرة بحيث لا يمكن أن تعد أو تحد، وهي بالقياس إلى هذه الكثرة تحدث في نفوسنا مظاهر الانفعال بالسرور أو خلافه، ما قد يكون له الأثر البالغ في أسلوب تفكيرنا وفي اتجاه إرادتنا في الحياة.
غير أننا مما لا ريب فيه أيضاً لا نقتصر في نفوسنا على جذوة هذا الحب أو الكره الذي يبعثه ما جوزينا به على تجاربنا الماضية من خير أو شر، فإن لنا من الحب ما هو ربيب رفقة وتصاف، وما هو وليد تصافح في المصالح، وإن من الكره ما تنشئه تجربة غير ذات علاقة بتجربة بعيدة هنالك أمر له خطره في تحليل هذه الظاهرة النفسية، هو أن عامل انبعاث هذه الظاهرة، وأعني به الحدث الماضي الذي ارتبطت به وانبعثت عنه، قد يظل كامناً وراء حاجز من الزمن فلا تمتد يد الذاكرة إليه، ولكنه لا يندر أن يبعثَ أحدنا في عامل هذا الشعور الغامض فيقع على مصدره في تجربة ماضية شبيهة بهذه التجربة الجديدة، ويرجع وملؤه الاقتناع بأن رابطة التناظر كانت علة هذا الشعور الذي امتلأت به النفس بعد أول نظرة ألقتها العين.
فإذا كان في المنفعل بهذا الشعور الجديد المفاجئ من قوة التذكر وبعد النفوذ إلى ما وراء الشعور، ما يمكن به الوصول إلى موضع التجربة الماضية من قاع النفس، وأخرجها إلى عقله الواعي، فقد أمكن له التغلب على عاطفة حبه أو كرهه الهوجاء، واستطاع أن ينظر إلى الشيء بنظرة حرة مستقلة، وأن يوليه ما يستحقه من رغبة فيه أو ميل عنه.
وبتحديد موقفنا الجديد من الأشياء والأشخاص نريح أنفسنا من كثير من المتاعب هنالك أمثلة كثيرة مما نحب متأثرين بالماضي الذي أحييناه وبالتجارب السارة التي خلت فيه.
فنحن نحب الربع الذي وهبناه طفولتنا ومنحناه أيام صبانا، ونحب المنزل الذي عرفناه وألفناه، وقد تتطور بنا الحياة فننتقل إلى ربوع جديدة وديار جديدة هي أمثل وأكمل من تلك التي تركنا عليها أيام الشباب، ولكنا نظل حَمَلةً لأرقى عواطف الحب والولاء لذلك الوطن الأول.
لأنا نرى فيه ظل ذلك الصبا الذي خلعناه، ولأنه يذكرنا بما كان لنا فيه من تجارب سارة.
فكأنما نحن وإياه مزيج واحد كذلك نحن نحب رفيق صبانا، لأن لصحبته ارتباطاً بكثير من تجاربنا السارة الماضية؛ فإذا نحن لازمناه بعد دور الشباب، كانت ملازمتنا إياه عاملاً في بعث كثير من صور الماضي الذي خلا.

تلك الصور التي أحييناها بغفلات الشباب وملأناها بمسراته.

فإذا هي انبعثت - ولو في الذاكرة - من جديد، كان في انبعاثها إعادة لذلك الشعور الذي رافقها أول مرة.

وفي ذلك رجوع بالنفس إلى زمن الصبا عن طريق إثارة ما وعاه. ونحن نحب أيضاً قراءة الكتب التي سبق أن قرأناها في فجر حياتنا وفي أيام دراستنا، لا لأنها من المعنى والمبنى ما تستحق عليه الإعادة، ولكن لأنها ترتبط في الذاكرة بسلسلة ما حدث لنا في شبابنا من الحوادث السارة، بحيث يصح الادعاء بأنا قد ننسى لحظتنا الحاضرة لنعود إلى الماضي ونحيا فيه، فنستمتع بذات اللذة التي تمتعنا بها لأول مرة، ونحيي نفس الشعور الذي أحييناه في ذلك الماضي البعيد إن هذه الظاهرة النفسية - ولا ريب - تثبت لنا بقاء ما يحدث لنا في أيام الحياة؛ فالتجربة لا تفنى وإن تكن قد تنسى مهما ثقلت عليها وطأة الزمن في روحاته وغدواته، وإنما تنزوي في ركن قصي من أركان باطن العقل، حتى إذا حدث ما يرتبط وإياها برباط من التناظر، تحركت وهي في قاع النفس، ومدت يدها إلى رفيقها الجديد، فأوحت له بما عندها من معنى، وأحدثت في نفس صاحبه ما تفرضه عليه من شعور خاص تلك هي العلة في أنا قد أحببنا هذا لأول لقاء، وأنا قد كرهنا ذلك بعد أول نظرة؛ فما ذلك الحب وهذا الكره إلا وليد تجربة سارة وأخرى غير سارة.
فقد يكون وجه من أوليناه الحب شبيهاً بوجه رفيق لنا سبق أن أجبناه، وكان هذا علة في هذا الحب الجديد.
وقد يكون صوت من كرهناه مضارعاً لصوت مربية لنا غير محبوبة، وكانت هذه المضارعة في الصوت باعثاً على نشوء كرهنا الحادث إن في نفس كل منا كثيراً من التجارب السارة والمؤلمة، وهي تحدث في نفوسنا من المشاعر ما يتفق وإياها في جليل أو قليل، فنحب ونكره لعوامل دفينة في طيات النفس، وقد تبقى في أكثر الأحيان غير معروفة، ولكن ليس كل ما نحب وما نكره من هذا القبيل (بغداد) حسين الظريفي المحامي

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير