ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها


الحلقة مفرغة

الحمد لله سبحانه، وضع الخير فيما أحل وأباح، وجعل السوء فيما حرم ومنع: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] له دعوة الحق، وشرعة الصدق: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف الحسنات، ويمحق السيئات: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، وقائد الغر المحجلين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24] .

أما بعد:

فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله حصن عزيز تمنع أهلها، وتحرِّز من لجأ إليها، وبها تُقْطَع حُمَةُ الخطايا، فهي النجاة غداً، والمنجاة أبداً: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] .

عباد الله: الشريعة الإسلامية شريعةٌ غراء سِمَتُها الجُلَّى أن يُعبد الله وحده في الأرض انطلاقاً من قواعد قررها الشارع الحكيم؛ متمثلة في جلب المصالح ودرء المفاسد وحينما يظهر التعارض بين مفسدة ومصلحة فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وذلك كله يدور محوره حول ضروراتٍ خمس أجمعت الأنبياء والرسل قاطبة على حفظها ورعايتها وهي:

- الدين.

- والنفس.

- والمال.

- والعرض.

- والعقل.

جزاء المفسدين

قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مَن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمِل بها بعده كُتِب عليه مثل وزر مَن عَمِل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء } رواه مسلم . وفي لفظ لـمسلم أيضاً: {مَن دعا إلى ضلالة ... } الحديث.

فهذان اللفظان -عباد الله- صريحان كل الصراحة في تحريم سن الأمور السيئة وإشاعتها بين الناس، سواء كان ذلك تعليمَ علمٍ أو أدبٍ أو عبادةً أو غيرَ ذلك، وسواء كان العمل بها في حياته أو بعد مماته: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13] .

ولقد جاء في السنة النبوية ما يدل على نسبة الأحداث إلى محدثها، وأنه يتحمل إثمه إلى يوم القيامة جراء ما أوقع فيه غيره من إخلال بنهج الله وشرعته، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كِفل منها؛ لأنه أول من سن القتل } رواه البخاري ومسلم .

ويقول صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيحين في قصة صلاة الكسوف: {رأيت عمرو بن لُحَي يجر قُصْبَه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم } .

وقد ذكر أهل العلم رءوساً كثيرة كانت سبباً في الإحداث بين المسلمين وإضعاف دينهم، بما جلبوه في أوساطهم مما يفرق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع:

- كـابن سبأ : الذي قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه.

- وعبد الرحمن بن ملجم : قاتل علي رضي الله عنه.

- والجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان : اللذَين أدخلا الضلال إلى بلاد المسلمين في أصلٍ عظيم من الدين وهو الاعتقاد.

- وكـالمأمون : الذي أنشأ دار الحكمة، والتي ترجم من خلالها كتب فلاسفة اليونان، وناضل عن القول بخلق القرآن، وامتحن الناس في أرواحهم وعقائدهم، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عمل المأمون حينما أدخل علم الكلام، ونصر القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيه.

- ومِن بعدِهم كثير وكثير ممن أحدثوا في الدين محدثات سارت بها الركبان وكان لها في الإفساد في الدين في سائر جوانبه كما فعل بولس بدين النصرانية ، وفي بعض المُثُل كفاية وغُنْيَة لمن هم في الفَهم فُحُل.

عباد الله: إننا حينما نذكر مثل ذلك لنؤكد بقوة وعزم أن الله سبحانه يداول الأيام بين الناس، وأن الفساد والإفساد ماضٍ إلى يوم القيامة، مما يستدعي التحذير والتقريع من أن يقع مسلم ما في عداد المفسدين في الأرض الذين يبغونها عوجاً، من حيث يشعر أو لا يشعر، وأياً كان هذا المسلم صغيراً أو كبيراً، وضيعاً أو غِطْرِيفاً، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات.

وإنَّ فتح مسلمٍ ما باب الإفساد أو تخليه عن الإصلاح لما أفسد، لَيُؤكد التبعية عليه، وأن الدين قد يؤتى من قبله فيحمل وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة، ولقد تمثل ذلك جلياً في دعوات النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وكان التأكيد أقوى في مخاطبته لزعماء القبائل وملوك الناس؛ لأن مَن كان ذا مسئولية ورعاية عظيمَين كانت التبعية له أو عليه أعظم، ومن هذا المنطلق كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه:

{بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.

سلامٌ على مَن اتبع الهدى. أما بعد:

فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين } رواه البخاري .

والمعنى عباد الله: أن عليه إثم الضعفاء والأتباع في مملكته إذا لم يُسلموا تقليداً له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.

فكل مفسدة يُخشى أن تؤتى من قِبَل ضرورة من هذه الضرورات؛ فإنه يجب درؤها، ودفعُها أولى من رفعِها، وكان على المتسبب فيها سواء كان هو المنشئ الأول أو كان محيياً لها بعد إماتة؛ كان عليه من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله إبَّان حياته وبعد وفاته إلى أن يَبْعثَ الله مَن في القبور؛ ما لو علمه كثير من المحرضين إلى الشر والمغذِّين للانحراف، لآثروا الموت في مهدهم على أن يقعوا في هُوَّة الذنوب والتبعات.

ذم دعوى تحديث الدين واتباع الكافرين

بل لقد تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حتى إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وأهل العلم والذكر، الذين أمروا باستكمال مادة الاجتهاد الموصلة إلى تقرير المسائل تقريراً شرعياً يوافق الكتاب والسنة؛ مع الحذر الواعي من أن يكونوا ممن افتتن بالحضارات العالمية، وراجت عندهم شبهة تحديث الإسلام ومسايرة الركب التي بها يكون العالِم غير مأمون العواقب فيتحول من حيث يدري أو لا يدري إلى تسويغ ما لا يُستساغ شرعاً مما هو معجب به أو معجب به غيره، فيُفتي حين يُستَفتى وعينه على مَن يُفتيهم يريد أن يرضيهم وأن يظفر بتقدير وتقريظ من الإفرنج وأذنابهم، فيجور على الحق إرضاءً للخلق، ويَظْهَر عمَّا عند الله تعجلاً لِمَا عند الناس، ويغيب عن وعيه حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه } رواه أبو داود . ولقد صدق الله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].

ولا غرو -عباد الله- فالعالِم إنما هو موقِّع عن الله حكمه ولأجل ذا سمى ابن القيم رحمه الله أحد كتبه: أعلام الموقعين عن رب العالمين .

بيان تأثر بعض المسلمين بفتنة التغريب

عباد الله: إن كثيراً من المسلمين يدورون فيما يعملون حول أنفسهم؛ فيما يحقق مصالحهم ومنافعهم الخاصة دون اكتراث بما يرضي الله وما يسخطه، وإن المعاصي المنبثقة من الشهوة على قبحها وسوء مغبَّتها إلا أنها أدنى خطورة وعقوبة من معصية الشبهة التي تقود إلى التغيير في الدين أو التشكيك فيه، أو السعي الدءوب في بث ما من شأنه إفساد المسلمين، أو بذر الفرقة بينهم، أو التطلع إلى إرساء قواعد التراجع عن الدين والتي يسعى إليها غَمالِيجُ إِمَّعُون من مرضى القلوب المقلدة، لا يُعرف لهم قدم ثابتة مستقرة ينصرون بها الدين ويدفعون بها ما خالفه، سيرة بعضهم في العمل تابعة لتربيتهم في محاضن الكفر وكنف الإلحاد، أو في بيوتهم وحال عشرائهم من لُداتهم ورفاقهم وجيرانهم، ممن غسلت أدمغتهم في دهاليز الكفر، ممن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {تجدون الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهة، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه } رواه الشيخان.

فترونهم -عباد الله- يجمعون بين الضلال والإسلام، بين حب ما عليه الغرب الكافر وبين الانتساب إلى الإسلام، بل ومنهم مَن يصلي ويصوم؛ لأنه تربى على ذلك؛ ولكن دفعه إليه كونه منهوم المال أو مفتون الجاه أو رائماً شهوات مشبوهة مُدْغِمٌ بعضها في بعض مغلوب في لزوم انتمائه للدين لكنه إذا تجرع عذابه لم يكد يسيغها إلا متهوعاً.

ولا جرم -عباد الله- فالمرء مع من يخالل ويعاشر! والشيء من معدنه لا يُستَغرَب: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف:58] .

وتلك العصا مِن تلكمُ العُصَيَّة      ولا تلد الحية إلا حية

فمن هؤلاء وأمثالهم ينبغي الحذر والتوقي، وألا نغتر بكونهم من بني جلدة المسلمين ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: {كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا، قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا ... } الحديث، وفي لفظ لـمسلم أيضاً: {وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس } ولقد صدق الله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:41-42] .

دعاة على أبواب جهنم من بني جلدتنا

ولِمُسْتَفْهِمٍ أن يقول: كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟!

فالجواب هو: أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة وما يثير الغرائز الكامنة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء وتبرز القَحَة من خلال الصحافة مثلاً، أو في مجال التعليم بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير العلمي في سائر البقاع فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138] أو التقليل من شأن العلوم الدينية في مقابل الحرص الدءوب على تكثيف ما عداها من علوم مادية أو رياضية لا يحتاج إلى معظمها الذكي ولا يستفيد منها البليد، أو في مجال أجهزة الرأي المنتشرة مُقَمَّرةً كانت أو مُشَفَّرة؛ من التفنن في نشر الانحراف ما بين حب وهوى وفنون ومجون، أو هدم لأساسات شرعية قررها الإسلام، كمحاربة تعدد الزوجات وتشويه صورته، أو التحضيض على أن يلاقي الخطيب مخطوبته في خلوة محرمة، أو التعويد على إلفة الاختلاط بين الجنسين، ومن ثم هذا سارقٌ يعلمون الناس كيف يتخلص من عقوبة السرقة، وهذه زوجة خائنة يصورون فكاكها من غيرة زوجها بالتضليل عليه، وتلك زانية تشجع على الزنا بإشاعة طرق الإجهاض.

كل هذه الصور -عباد الله- إنما هي مشاهد متكررة تُبَث على مدار اليوم والليلة ولا يخلو منها قطر أو لا يكاد.

فكم من مشهد يبث على الملايين من المسلمين في كافة الأقطار، يشاهدونه بمرة واحدة؛ فإذا استقر في وعيهم وطافت به الخواطر والأفكار سلبهم القرار والوقار، فمثلوه ملايين المرات بملايين الطرق في ملايين الحوادث.

فلا تعجبوا حينئذٍ عباد الله إذا لم تجدوا:

إلا واضعاً كفَّ حائرٍ     على ذقنٍِ أو قارعاً سنَّ نادمِ

ومن ثم تستمرئها النفوس الضعيفة رويداً رويداً إلى أن تلغ من حَمَئِها وهي لا تشعر، فإذا ألفتها النفس لم تكد تتحول عنها إلا في صعوبة بالغة بعد لُؤىً وشدائد؛ ولكنها في الوقت نفسه تفقد خصائصها التي تميزها، ثم تموع وتذوبُ وبعد ذلك:

من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرح بميت إيلام

* * *

وإذا لم يغبِّر حائطٌ في وقوعه      فليس له بعد الوقوع غبارُ

حتى تقع في أتون الفتن، فتحترق بلا لهب.

والأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، فالترك للتبعية هو النجاة منها، ومستقبل المسلمين يجب أن يُصْنَع في بلادهم وعلى أرضهم وداخل سياج الدين والشريعة، وعليهم جميعاً أن يكفوا عن أخلاق التسول بكل صنوفه؛ سياسة أو اقتصاداً أو أخلاقاً ومقدرات، ويجب ألا نغتر بما نراه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمة قد تقطعت روابطها وانفصمت عراها: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131] .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان.

وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مَن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمِل بها بعده كُتِب عليه مثل وزر مَن عَمِل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء } رواه مسلم . وفي لفظ لـمسلم أيضاً: {مَن دعا إلى ضلالة ... } الحديث.

فهذان اللفظان -عباد الله- صريحان كل الصراحة في تحريم سن الأمور السيئة وإشاعتها بين الناس، سواء كان ذلك تعليمَ علمٍ أو أدبٍ أو عبادةً أو غيرَ ذلك، وسواء كان العمل بها في حياته أو بعد مماته: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13] .

ولقد جاء في السنة النبوية ما يدل على نسبة الأحداث إلى محدثها، وأنه يتحمل إثمه إلى يوم القيامة جراء ما أوقع فيه غيره من إخلال بنهج الله وشرعته، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كِفل منها؛ لأنه أول من سن القتل } رواه البخاري ومسلم .

ويقول صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيحين في قصة صلاة الكسوف: {رأيت عمرو بن لُحَي يجر قُصْبَه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم } .

وقد ذكر أهل العلم رءوساً كثيرة كانت سبباً في الإحداث بين المسلمين وإضعاف دينهم، بما جلبوه في أوساطهم مما يفرق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع:

- كـابن سبأ : الذي قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه.

- وعبد الرحمن بن ملجم : قاتل علي رضي الله عنه.

- والجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان : اللذَين أدخلا الضلال إلى بلاد المسلمين في أصلٍ عظيم من الدين وهو الاعتقاد.

- وكـالمأمون : الذي أنشأ دار الحكمة، والتي ترجم من خلالها كتب فلاسفة اليونان، وناضل عن القول بخلق القرآن، وامتحن الناس في أرواحهم وعقائدهم، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عمل المأمون حينما أدخل علم الكلام، ونصر القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيه.

- ومِن بعدِهم كثير وكثير ممن أحدثوا في الدين محدثات سارت بها الركبان وكان لها في الإفساد في الدين في سائر جوانبه كما فعل بولس بدين النصرانية ، وفي بعض المُثُل كفاية وغُنْيَة لمن هم في الفَهم فُحُل.

عباد الله: إننا حينما نذكر مثل ذلك لنؤكد بقوة وعزم أن الله سبحانه يداول الأيام بين الناس، وأن الفساد والإفساد ماضٍ إلى يوم القيامة، مما يستدعي التحذير والتقريع من أن يقع مسلم ما في عداد المفسدين في الأرض الذين يبغونها عوجاً، من حيث يشعر أو لا يشعر، وأياً كان هذا المسلم صغيراً أو كبيراً، وضيعاً أو غِطْرِيفاً، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات.

وإنَّ فتح مسلمٍ ما باب الإفساد أو تخليه عن الإصلاح لما أفسد، لَيُؤكد التبعية عليه، وأن الدين قد يؤتى من قبله فيحمل وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة، ولقد تمثل ذلك جلياً في دعوات النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وكان التأكيد أقوى في مخاطبته لزعماء القبائل وملوك الناس؛ لأن مَن كان ذا مسئولية ورعاية عظيمَين كانت التبعية له أو عليه أعظم، ومن هذا المنطلق كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه:

{بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.

سلامٌ على مَن اتبع الهدى. أما بعد:

فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين } رواه البخاري .

والمعنى عباد الله: أن عليه إثم الضعفاء والأتباع في مملكته إذا لم يُسلموا تقليداً له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.

فكل مفسدة يُخشى أن تؤتى من قِبَل ضرورة من هذه الضرورات؛ فإنه يجب درؤها، ودفعُها أولى من رفعِها، وكان على المتسبب فيها سواء كان هو المنشئ الأول أو كان محيياً لها بعد إماتة؛ كان عليه من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله إبَّان حياته وبعد وفاته إلى أن يَبْعثَ الله مَن في القبور؛ ما لو علمه كثير من المحرضين إلى الشر والمغذِّين للانحراف، لآثروا الموت في مهدهم على أن يقعوا في هُوَّة الذنوب والتبعات.