شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والثلاثون [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)رواه مسلم بهذا اللفظ.

إن هذا الحديث المبارك الطويل يشتمل على عدة أمور، وكلها توجيه إلى الخير، من تعاون بين المسلم وأخيه، وسلوك الطريق القويم، وطلب العلم وذكر الله سبحانه وتعالى.

ويبدأ الحديث بهذه الجملة النبوية الكريمة: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

و(نفَّسَ) على وزن (فعَّلَ) من النَّفَس، والنفَس هو الذي به قوام الحياة، وإذا منع النفس عن الإنسان فقد حياته، وهكذا جميع الحيوانات لابد لها من التنفس، فإذا ما ضيق الخناق على إنسان، وضيقت عليه مجاري التنفس قرب من الموت، واشتدت كربته، إلا إذا جاء إنسان وفك هذا الخناق ونفَّس عنه، أي سمح للنفَس أن يجري.

وما من كربة أشد على الإنسان من أن يُخنق خنقاً ويمنع النفس حتى يوافيه أجله، وما من نعمة على الإنسان أعظم من أن يسمح له أن يتنفس نسيم الحياة.

فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يشبه كل كربة تقع بأي إنسان يضيق بها صدراً ويضعف عندها بالشخص الذي خُنق وضُيق عليه الخناق، ولا يدري ماذا يفعل، فيأتي إنسان فاعل خير ينفس عنه تلك الكربة أياً كان نوعها، سواء أكانت في بدنه، أم في ماله، أم في عياله، أم في عرضه، أم في أية مهمة من مهام حياته.

كالحال في إنسان مريض ضاق صدراً بمرضه، وجاء طبيب وأعطاه الدواء، ووافق فضلاً من الله وتعافى، كان ضيق النفس فأصبح مستريحاً، فلو أن شخصاً رأى آخر قد أخذه (الربو) حتى ضاق صدره، فجاء وأعطاه ما ينفس عنه فقد نفس كربته.

أو كان إنسان مديناً، وضاق ذرعاً بدينه، وأصبح لا يستطيع أن يواجه الغرماء، فجاء إنسان وكلّم غرماءه ليمهلوه ويصبروا عليه، أو يضعوا من ديونهم فإنه يكون قد نَفَّسَ عنه، أو جمع له من أهل الخير ودفع الدين عنه فإنه يكون قد نفس عنه كربة من كرب الدنيا.

وكذلك لو سُجِن في أمر مادي، فذهب وشفع وجمع المال وخفف من سجنه فإنه يكون قد نفس عنه.

وهكذا في جميع أموره، كما لو كان ولده سجيناً، أو مريضاً، أو كان مكروباً بأية حالة من الحالات، فسعى في رفع كربته بأية حال يكون قد نفس عن مؤمن كربة.

وكل ما يشق على الإنسان في حياته فهو كربة، وكل من يخفف عنه تلك المشقة فهو منفِّس عنه.

وتقدمت الإشارة إلى أن الحياة معاوضة، وأن مطالب الناس فيها إما جلب النفع، وإما دفع الضر، فكل من جلب لك نفعاً كان لك فيه نظرة، وكانت لك به علاقة عاطفة ومودة بقدر ما جلب لك من نفع، وكذلك دفع الضر.

وقد وصف القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الوصفين وزيادة، قال تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فكل ما فيه عنت على الإنسان يشق عليه صلى الله عليه وسلم أياً كان ذلك.

ومن أمثلة ذلك: ما كان منه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج لما كلِّف بخمسين صلاة، وقال له كليم الله موسى عليه السلام: هذا أمر كثير! بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من ذلك فلم يطيقوا، فارجع إلى ربك فسله التخفيف فرجع، ونفَّس عن الأمة، فبعد أن كانت خمسين أصبحت خمساً.

وفي رمضان صلى في المسجد وصلى جماعة بصلاته، ثم صلى الليلة التالية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم).

وكذلك قوله وقد أخر صلاة العشاء (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي).

(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء مع كل صلاة).

ويقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف؛ شفقة على أمه). ، فالأم حين تكون في الصلاة وتسمع ولدها يبكي تكرب لأجله وتنشغل فنفَّسَ عنها.

فكل إنسان يسعى بشفاعة أو بمال أو بأية وسيلة من الوسائل ينفِّس عن المؤمن كربة، فالجزاء من جنس العمل، ففي يوم القيامة ينفس الله عنه كربة مقابل تلك، وكرب القيامة ليست مثل كرب الدنيا، فكرب الدنيا مهما كانت ستمضي، وآخرها الموت، بخلاف كرب القيامة.

ولو تتبعنا حياة الآخرة كما جاء في النصوص -وهي عندنا يقين أكثر من يقيننا بأنفسنا- فإننا سنجد أنه من أول خروج الروح يضيق الإنسان، فإذا ما حشرجت الروح وبلغت الحلقوم فكيف يكون حال الإنسان؟ وحينئذ ينفِّس الله عنه كربة.

فإن خرجت الروح جاء إلى القبر وسئل، وكم من كربة هناك، فينفس الله عنه من كرب القبر.

فإذا جاء المحشر يوم القيامة، وجاء الموقف، وجُمع الناس يلجمهم العرق، فمنهم من يصل العرق إلى قدميه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يصل إلى فمه، وكل ذلك من كربات يوم القيامة، فينفس الله عنه.

كذلك عند تطاير الصحف لا يدري الإنسان من أين يأتيه كتابه، فيُكرب عندها، ويفرج الله عنه.

وكذلك حينما يرد الناس على حوضه صلى الله عليه وسلم ويذاد أقوام كما قال تعالى:يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106].

وفي ذلك اليوم يقول تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12].

هناك يناديهم المنافقون فيقولون -كما حكى الله تعالى عنهم- : انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [الحديد:13]، وأيّ كربة أشد من ذلك؟

وهكذا عند الميزان، وكل مواقف القيامة كرب، ويفرج الله سبحانه على عبده مقابل ما فرج عن أخيه في الدنيا.

وأيهما أحب إليك؟ أن تسعى لتفرج كربة أخيك المسلم في الدنيا مقابل تفريج كربة عنك يوم القيامة، أم أن تضيق عليه فيُضيق عليك؟! وإنك إن استشعرت ذلك فوالله لتدفعن المال، ولتعملنَّ جاهداً بقدر استطاعتك، ما دام أن المسألة فيها معاوضة إلى هذا الحد، فكل إنسان يخشى كرب يوم القيامة.

وانظر إلى عطاء المولى سبحانه، وهذا لأنك حينما تسعى لتفرج كربة المؤمن فإن هذا المؤمن عبد الله.

وإذا كان جار لك مسافراً، وأولاده في بيتك أو في بلدك، وأصاب أحدهم مكروه، وقضي عليه ما قضي، فذهبت في غيبة والده إلى المستشفى، وقمت باللازم وكأن والده موجوداً، وأنهيت المشكلة، فإذا جاء أبوه فماذا سيفعل لك؟ وكيف يقدر لك هذا الجميل؟ فإذا كان في حق العبد مع العبد في نطاق محدود فرب العزة سبحانه -ولله المثل الأعلى- أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

فكيف حالنا مع بعضنا؟

هل نأتي بالمشاكل على بعضنا، ونضيق الخناق، ونسعى في الإيذاء، أو أننا ننفس عن كرب إخواننا؟

أعتقد أن الطريق السوي واضح، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة).

التيسير: الرخاء، والتعسير: الصعوبة، فإذا كان الإنسان مع أخيه المؤمن فلييسر في معاملته، فإذا جاء وطلب منك أمراً يسرت عليه، سواء أكان في أمر دين أم أمر دنيا، يقول العلماء في هذه: إن جاء إنسان واستعار منك شيئاً فتلفت تلك العارية، فقل: لا عليك، أنت في سعة حتى يتيسر لك ردها.

أو اقترض منك وجاء الأجل ولم يستطع السداد، فلا تعسِّر عليه وتكرب أمره، بل يسِّر له وافسح له في المدة، واجعل له من أمره فرجاً، فإن يسَّرت عليه وهو معسر لا يستطيع السداد فاسمع ما قاله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مِثْله صدقة)، فإن تصدقت فلك بالصدقة حسنة، وإن أقرضت وأنظرت المعسر كان لك بكل يوم مِثْله صدقة.

وقد تتصدق على إنسان في غنى، أو ليس في شدة حاجة، أو أن من عادته أن يسأل، فإن لم تعطه أنت أعطاه غيرك، ولكن المقترض لا يأتيك إلا عند الشدة وعند الحاجة، وقد لا يجد من يعطيه، فإذا حل الأجل وأنظرته كان لك في كل يوم كأنك تصدقت عليه بهذا الدين.

ومن التيسير ما قاله العلماء: لو أن إنساناً جاء واستفتى طالب علم، وعنده في فقه المسألة طريقان: طريق وعر شديد صعب، وطريق هين ميسر، فأيهما الأولى: أن يسلك به طريق الصعوبة والعسر، أم يسلك به طريق السهولة واليسر؟ قالوا: الأولى أن يسلك به طريق اليسر لا طريق العسر، مادام موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله.

يحكى أن ملكاً بالأندلس في ذات مرة في رمضان واقع أهله، فأحضر المفتي وسأله: ما كفارة الوطء في نهار رمضان؟ قال: صوم شهرين متتابعين. فلما اجتمع به العلماء قالوا له: لماذا لم تذكر له العتق؟ قال: خشيت أن أقول له: العتق والعبيد عنده بكثرة، فيتساهل ويعتق ويواقع أهله، فجئته بصيام شهرين لأنه يعجز عن ذلك.

فمع من الحق؟ هل مع هذا الذي سلك طريق الصعوبة، أم مع الثاني الذي معه النص، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت وقعت على امرأتي وأنا صائم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا والله قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام. -يعني عجزت عن شهر رمضان، فهل صوم شهرين؟- قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: والله ما عندنا شيء. ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فقال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: أطعمه أهلك).

فأي يسر بعد هذا، وقد جاء في سياق الحديث أنه لما وقع منه هذا الشيء ذهب إلى جماعته فقال: قوموا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أجد عنده حلاً لهذه المشكلة. قالو: اذهب وحدك، نخشى أن ينزل علينا عذاب.

فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته بوعاء فيه تمر، جاءهم، فقال: جئتكم فلم أجد عندكم إلا الشدة والقسوة، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده الرحمة.

فطالب العلم ليس صاحب سلطة وعصا وقسوة يهلك العباد، فإذا وجدت طريقاً ميسراً يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله فاسلكه، فهذا الواجب عليك.

ثم إن هذا المفتي الذي أفتى الملك بالأندلس قال له العلماء: أخطأت في ذلك؛ لأن الشرع حكيم والرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالعتق أولاً، ثم انتقل من العتق إلى الصوم، ومن الصوم إلى الإطعام، ألا ترى أن الملك لو صام عشرين شهراً بدلاً عن شهرين فلن ينفع الناس بصيامه شيئاً، بل يمكن أن يعجز عن أداء مهمة ملكه، ولكن إذا أعتق رقبة واحدة ألا تتحرر تلك الرقبة، وكل من يأتي من نسلها يكون محرراً إلى يوم القيامة؟! فأيهما أولى -كما يقول الأصوليون-: النفع المتعدي أم النفع القاصر؟ المتعدي بلا شك.

وفي الحديث أن تاجراً ممن كان قبلنا كان يوصي عامله: خذ ما تيسر واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا. فقال الله سبحانه وتعالى: (قد تجاوزت عنك).

إذاً: فالمولى سبحانه وتعالى يعامل الإنسان بمثل معاملته لخلقه، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يرفق بالناس في كل حال، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (: ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، ولماذا تجد طريقاً سهلاً معبداً فتتركه وتذهب إلى الوعر في قمم الجبال؟

ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا).

وإذا نظرنا في العبادات فالأمر كذلك، فقد جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ورجع إلى أهله، وبعد سنة جاء وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه، وكأنه لم يحتف به، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟ قال: (من أنت؟ قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا. قال: فإنك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة، فما بلغ بك ما أرى؟ قال: مذ فارقتك ما أفطرت يوماً. قال: صم يوماً من الشهر. فقال: زدني قال: فصم يومين. حتى قال: فصم ثلاثة أيام من الشهر).

وعبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم بالقرآن كاملاً في الليلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتقرؤه في ليلة؟ قال: نعم. قال: اقرأه في عشرين. قال: دعني استمتع بقوتي. قال: اقرأه في خمس عشرة، إلى سبع ليالٍ) وهذا في مسند أحمد رحمه الله، وبعضهم يقول: نزل معه إلى ثلاثة ليال.

وذكر الآخرون أنه كان يصوم ولا يفطر، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبُر قال: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه).

فحينما يسلك الإنسان طريق اليسر يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله.

مثلاً: أنت تريد أن تأتي إلى مكة تمشي على قدميك على افتراض أنه ليس هناك سيارة ولا طائرة، ومشيت على سعة، فحينما تتعب من المشي تجلس في ظل شجرة ثم تواصل السير، وإذا جاءك النوم نمت، فإنك لو أردت أن تتجاوز البحر إلى السودان وأفريقيا والمغرب إلى ما شاء الله فإنك تستطيع أن تواصل، وعقلاً يمكن ذلك.

لكن إذا ذهبت جرياً إلى أقصى ما تستطيع من الجري، أتستطيع أن تصل إلى منطقة قريبة؟ وهكذا إذا أخذ الإنسان طريق اليسر فإنه يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله.

ولهذا -كما يقول العوام- الدين يسر، بل جاء الحديث: (عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا)، وقال صلى الله عليه وسلم: ... (ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه)، فتعمل بقدر استطاعتك، ولما دخل صلى الله عليه وسلم فرأى حبلاً معلقاً في السقف سأل: لمن هذا؟! فقيل: لـزينب، إذا غلبها النوم أمسكت بالحبل. فقال: (..ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).

وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم النوم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب نومه؛ إن أحدكم لعله أن يذهب يستغفر الله فيسب نفسه).

وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى).

فمبدأ الإسلام التيسير، والله سبحانه وتعالى قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6].

فسمة الإسلام التيسير، وليست التعسير، فمن يسر على مسلم في أي شيء من أمور الدنيا كالمعاملات أو في أمور الدين كالعبادات، أو في أي شيء ما دام في نطاق الحق ولم يخرج عنه يسر الله تعالى عليه.

ويكفي في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأقدرهم على طاعة الله ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

قال صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).

بعض العلماء يقف وقفة تنبيه عند الألفاظ، فالحديث في أوله (من نفس عن مؤمن) ثم: (من يسر على معسر)، وهناك قال: (من ستر مسلماً).

ففي تنفيس الكرب جاء بالمؤمن، وستر العورة جاء فيه بالمسلم، مع أن في بعض ألفاظ الحديث أيضاً ذكر المؤمن، كما في: (الرحلة في طلب العلم).

يقول العلماء: الكربة قد تكون ظاهرة أو خفية، والإيمان من أعمال القلب خفي.

فأركان الإيمان كلها اعتقادية، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وكلها خفية، لكن الإسلام صلاة وصيام وزكاة وحج، وكلها أمور ظاهرة.

فكذلك ستر العورة، فأكثر ما تكون تكون ظاهرة، وأما في أي شيء يكون ستر العورة، فبعضهم يقول: في العورة الشرعية الحسية التي تبطل الصلاة بانكشافها.

فإذا وجدته فقيراً ما عنده ثوب أعطيته ثوباً وسترته، أو وجدت إنساناً بلغ ويريد الزواج، ويخشى على نفسه العنت، ويريد أن يستر عورته ساعدته على الزواج، فهذه عورة أيضاً تتصل بالعورة الأولى، وساعدت على ستر عورته حساً.

ولكن معنى الحديث أعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جيء بـماعز قال لـخالد : (هلا سترته بردائك بدل أن تأتيني به).

فالستر على المسلم في عورته في كل ما يخشى أن يفتضح فيه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، فإذا ما كان إنسان مستقيماً وزلت به قدمه في أية ردية كانت، فقال باللسان وأخطأ في غيبة إنسان، أو يد امتدت إلى شيء مما لا يليق، أو زلت به قدمه إلى حد من حدود الله ولم يرفع إلى ولي الأمر فإنك تستره.

جاء رجل إلى ابن مسعود وقال أنا ذاهب إلى الشرط أستدعيهم، قال: لماذا؟ قال: جارنا فلان يشرب الخمرة. قال: ارجع، هل نصحته؟ قال: لا. قال: اذهب إليه فانصحه أولاً.

والذي يهمنا أن ستر العورة يكون للعورة الإنسانية البشرية، ويكون لمعنى أعم من ذلك، سواءٌ أكان في النكاح وستر الإنسان أم في ارتكاب خطيئة.

ولـأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قصة يذكرنا بها هذا الحديث، فإنه رضي الله عنه سمع أن الحديث في مدينة الفسطاط بمصر، فشد رحاله راحلاً في طلب هذا الحديث إلى مصر، فلما قدم الفسطاط أمر من يستأذن له على الأمير، وقال: فلان عندك؟ قال: مرحباً أبا أيوب الأنصاري، ما حاجتك؟ قال: لي حاجة عند فلان، فابعث معي من يدلني على منزله. فذهب معه من يدله على منزله، فقال: قل له: أبو أيوب في الباب، فأخبره، فجاء الرجل وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب إلى مصر؟ انزل. قال: لا. سمعت حديثاً لم يبقَ أحد سمعه إلا أنا وأنت فجئت أتوثق منه، سمعنا حديثاً في ستر عورة المسلم. قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مسلم في الدنيا ستر الله عورته في الدنيا والآخرة)، فلوى عنان بعيره وقفل راجعاً، فقال له: انزل. قال: لا.

وهنا نعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم وأصحاب رسول الله وأهل الحديث ما كانوا يرحلون لزينة ولا لزخرف، ولا لأي شيء إلا لطلب العلم، وإذا حصل طلبته عاد حالاً.

وفي هذه القصة يقولون: ما أدركت جائزة الأمير أبا أيوب إلا بعد أن وصل العريش، فالأمير أرسل بجائزة وهدية إلى أبي أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاحب الهدية أسرع وراءه فما أدركه إلا في العريش، وما كان هناك قناة السويس؛ إذ كانت الصحراء متصلة عائد إلى المدينة.

ومن المناسبة التنبيه إلى ما يتخصص فيه طالب العلم ويتفرغ لعلمه الذي جاء إليه أو لمهمته في مادته التي ابتعث من أجلها. يقولون في ترجمة ابن القاسم صاحب مالك لما جاء إلى المدينة: جاء الفيل في يوم من الأيام فهرع الناس كلهم ينظرون إلى الفيل، وبقي ابن القاسم عند مالك ، فقال له: لم لم تقم تنظر إلى الفيل وليس بأرض قومك؟ قال: إنما جئت أطلب العلم من مالك ، ولم آت لأرى الفيل.

فهذا جاء لطلب العلم، وما أغراه شيءٌ من الغرائب.

وكذلك أبو أيوب ، ونحن نعلم طبيعة الصحراء وطبيعة الجزيرة وطبيعة المدينة، ونعرف طبيعة مصر بنيلها وبأشجارها وبهواءها وبكل ما فيها، فلم يغره شيءٌ من ذلك كله ليجلس أو يستريح من السفر يوماً أو يومين، بل جاء في طلب علم وحصّله ورجع.

فرحل أبو أيوب من أجل هذا الحديث من المدينة إلى فسطاط عمرو بمصر من أجل أن يتثبت في هذا الحديث.

يقول العلماء: الستر على المسلم ما لم يفضح نفسه هو، بمعنى أن يجاهر ولا يبالي. فهذا الشخص الذي لا يبالي بشعور الناس ولا بإحساسهم قد هتك ستر نفسه، أما الشخص الذي يستتره والذي يستحيي، والذي يقع منه الخطأ على غير قصد فهو الذي يستره والعصمة في البشر للرسل فقط.

فليس في البشر معصوم إلا الرسل، فلا ينبغي لإنسان أن يبادر حالاً، ولا ينبغي لإنسان أن يتتبع عورات المسلمين، وفي بعض الآثار: (من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)، فدل أن تستره تتبعه حتى تكشف أمره! فهذا لا ينبغي.

وإذا جئنا من ناحية المروءة والإنسانية فإن الوقوع في زلة مرض وخطأ، فإذا وجدت إنساناً مريضاً أتزيده مرضاً على مرضه، أم تحاول أن تداويه ليتشفى من هذا المرض؟!

وإذا كنت تمشي في الطريق وفيه حفره، ووجدت إنساناً في غفلة منه سقط في تلك الحفرة، أتأتي وتهيل عليه التراب، أم تقول: لا بأس عليك. وتمد يدك إليه، وتنبهه إلى أن يحذر في المرة القادمة، فأيهما ينبغي للإنسان وتقتضيه مروءته؟

فهذه الفقرة من هذا الحديث لو وقف عندها إنسان وكررها مراراً فإنها تنفعه، فليحذر المسلم أن يتتبع عورات الناس، وإذا وقف على شيءٍ قدراً لا ينبغي أن يشيعه، ولا ينبغي أن يفضح إنساناً وهو قادر على أن يستره، ولو شفع في أمره قبل أن يصل إلى السلطان فلا مانع، ولكن إذا وصل إلى الحاكم فهناك لا شفعة، ولا تدخل لأحد.

قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

الله رب العزة مالك الملك بيده ملكوت السموات والأرض يكون في عون العبد مادام العبد في عون أخيه. وما سعة عونك أنت، وأنت تحتاج إلى من يعينك، ولكن -تفضلاً من الله- مادمت في عون عبد من عباد الله يكون الله في عونك.

فإنسان له عدة أولاد، فقدم إنسان معروفاً لأحد أولاده، فهو بالجبلة يشفق عليه، أو يكرمه، أو يحفظ له جميله، ورب العزة سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء وإذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؛ يكون في عونك مقابل أن تكون في عون أخيك.

فتنفيس الكربة عن المكروب عمل في عونه، وستر عورة إنسان عمل في عونه، والتيسير على معسر عمل في عونه، فكأن هذه الجملة تذييل على كل ما تقدم، فما دمت في عون أخيك في كشف كربته، أو ستر عورته، أو تيسير أمره فالمولى سبحانه في عونك، وهل أتريد أن تتخلى عن عون الله؟

فهو طريق يُسِّر لك وفُتِح أمامك لتستجلب عون الله، وفي الحديث: .. (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!).

والنصوص في هذا كثيرة يبين سبحانه وتعالى فيها أن من يحسن إلى عبد من عباد الله كأنه أسدى الجميل إلى لله كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، والله في غنى، والله هو الذي أعطاك، لكن عليك أن تعطي عبده حتى لا يعاتبك: مرض عبدي جاع عبدي عري عبدي، كما في الحديث: .. (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدتني ذلك عندي؟)، أي: أكافئك وأجازيك.

فالذي يفعل الخير مع عباد الله متعامل مع الله، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245].

وبهذا الوعد الصادق: (والله في عون العبد)، تأتي آحاد الجزئيات، فمن اقترض وهو ينوي السداد فالله في عونه حتى يسدد، من تزوج بنية العفاف فالله في عونه.

وكانت أم المؤمنين ميمونة تقترض. وهي في غنى عن القرض، فقيل: كيف تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل).

فقوله: : (والله في عون العبد)، فيه مقابلة عجيبة؛ فرب العزة سبحانه يكون في عونك مقابل أنك في عون أخيك، مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: : (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً)، فاللهم صل وسلم وبارك عليه.

فهل هناك أسمى وأكمل وأطيب من هذه التوجيهات النبوية الكريمة، فبعد هذا التوجيه ينبغي أن يكون بعضنا عوناً لبعض، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، ولا يكن بعضنا على العكس للآخر يكيد له ويضايقه..

وصدق صلى الله عليه وسلم في قوله: : (والله في عون العبد)، حتى قالوا: إن كلمة العبد أعم من مؤمن ومسلم، فلو جاءك ذمي أو معاهد أو مشرك، وطلب منك العون على أمر دنيوي وعاونته فإن الله يعينك.

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر)؟ فإذا كان الأجر في الحيوان فكيف ببني الإنسان؟!

لما سقت المرأة البغي الكلب لشدة عطشه رحمها الله.

والمرأة لما حبست الهرة فلم تطعمها ولم تتركها عذبها الله في النار.

إذاً: فالإنسان كيفما كان مشركاً أو كافراً أعنه في أمر الدنيا.

وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه مر في المدينة فإذا برجل عجوز يتوكأ على عصاه يتكفف الناس، قال: ما بالك يا رجل؟ قال: رجل من أهل الذمة مضروبة عليه الجزية، وعجز عن تحصيلها. قال: ما أنصفناك؛ أكلناك شاباً، وتركناك شيخاً، فأسقط عنه الجزية، وأجرى له رزقاً من بيت مال المسلمين.

فلتعلم أوروبا وأمريكا أن هذا هو الإسلام، فإذا كان الذمي قوياً فليدفع وليساهم؛ لأن في مقابل الجزية حماية دمه وماله وعرضه، فالمسلم يدفع الزكاة ربع عشر ماله، وهذا يمكن أن يدفع ديناراً أو ربع دينار في السنة كلها بينما تكون عنده الملايين، فإذا عجز كفله الإسلام، فما تريدون أكثر من هذا؟

إذاً فكلمة العبد شاملة، وإن كانت حقيقة العبودية للمسلم، وهي أعلى صفات التكريم للبشر حينما يكون متعبداً لله، كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].

ومن العجب في هذا الحديث الشريف أسلوبه وسياقه وفقراته، وانظر إلى الترتيب التالي:

(من نفّس عن مؤمن كربة)، ثم: (من يسر على معسر)، ثم (من ستر مسلماً)، ثم: (والله في عون العبد).

وتنفيس الكربة والتيسير وكل المتقدم أيكون عن جهل أم عن علم؟ فإنك إذا عرفت كربته فقد علمتها، وكذلك إذا عرفت عسره، وإذا سترت عورته لوجه الله، فيختم صلى الله عليه وسلم ويذيل على تلك الأبواب التي يمكن أن نسميها أبواباً كاملة فنقول: (باب تنفيس الكرب)، و(باب تيسير الإعسار)، و(باب ستر العورات).

فضل العلم والعلماء

يأتي ختاماً لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: .. (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة..)، ما معنى سلك؟ السلك: هو الخيط الصغير تسلكه في عين الإبرة. (طريقاً) الطريق: فعيل من الطَّرْق. والطَّرْق: الدق. فالطريق تطرقه بقدميك.

فقال: . (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة).

فإذا جئنا إلى جانب من العرض النبوي الكريم نقول: تلك الأبواب المتقدمة لا يستطيع إنسان أن يلجها كلها إلا عن طريق العلم.

وإن جئنا من جانب آخر قلنا: كلها طرق خير مفتحة، ولكن طلب العلم خير من ذلك كله؛ لأن طلب العلم أوسع أفقاً، ويستطيع طالب العلم أن ينتفع وينفع أكثر من أولئك جميعاً، ولذا جاء الحث على طلب العلم، وهذا باب واسع جداً، أوسع من تلك الأبواب المتقدمة.

وأُلِّفت التآليف في ذلك، وأحسن ما ألف في هذا لـابن عبد البر : (جامع العلم وفضله)، وما من كتاب إلا وفيه بيان فضل العلم.

وأعلى قمة لشرف طلب العلم والعلماء هذا السياق الكريم، وهو قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

فمن الذي شهد؟ الله الذي شهد أنه لا إله إلا هو، فالشاهد الله، والمشهود عليه (أنه لا إله إلا هو).

وَالْمَلائِكَةُ عطف على شهادة الله، والثالث أُوْلُوا الْعِلْمِ فيكفي شرفاً لأهل العلم أنهم ثالث ثلاثة في الشهادة على أعظم شيءً في الوجود، وهو وحدانية المولى سبحانه؛ لأن غير أهل العلم لا يعرفون ذلك، فلا يعلمون ولا يشهدون.

ويأتي قوله تعالى من باب المقارنة: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. فهل تستوي الظلمات والنور، أو الظل والحرور؟

فشرف العلم وطلبه باب واسع جداً لا يستطيع إنسان أن يوفيه في حديث أو حديثين.

ولكن نأتي بدعابة علمية، أو ببيان لطالب العلم في آثار تفضيل العلم، وهو أن الله سبحانه وتعالى كرّم كل فرد عالم في جنسه على عموم الجنس.

فالمولى سبحانه وتعالى حينما أخبر الملائكة أنه يستخلف آدم، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فالملائكة قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ.. فلم يقل: أقدر. ولم يقل: قادر. وقال: أصنع ما أشاء بل قال: . قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، فاحتج عليهم بالعلم.

وبعد ذلك قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33] فالقضية كلها ماشية في فلك العلم.

وبعد هذا كله أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم، فالله سبحانه أراد أن يبين شرف آدم المخلوق الجديد الذي كانوا يرونه من طين وصلصال وفخار، ولكن المولى نفخ فيه من روحه.

فبم ظهر فضل وشرف آدم على غيره، أو بم استحق أن تحييه الملائكة، أو يؤمر الملائكة أن تسجد إليه؟

بالعلم.

ثم نزل آدم إلى الدنيا فقال الله تعالى له: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.. [البقرة:38].

وقال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37].

فسلك طريق الهدى وطريق العلم.

ثم نأتي إلى نبي الله سليمان وما أعطاه الله من الملك، فقد كان تحت يده من الجنود من الجن والإنس والطير ما لم يؤته أحد، فيأتي في موقف من المواقف ويستعرض هذه فقال لما حكى الله عنه: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:20-22]، فحالاً جاء، فلم يعتذر عن غيابه، ولم يسأل ماذا قال عني؟ وكما -كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه- صاحب علم دنيوي جغرافي وحده قدراً يأتي ويتطاول به على نبي الله فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22].

فذاك الهدهد الصغير يأتي ويقول لنبي الله سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ) ، فما قال: علمت ما لم تعلم. بل قال: (أَحَطتُ) من الإحاطة، بعد أن كان الحكم عليه بالعذاب أو الذبح، لكنه جاء بسلطان العلم. قَالَ سَنَنظُرُ [النمل:27]، أي: أؤجل الحكم حتى نتأمل، ونتروى سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]، فقدّم الصدق كأنه توجس من أنه غير صادق، ولا يتأتى للهدهد أن يتطاول على ملك وعلى نبي الله سليمان إلا وعنده بعض الشيء، فقال له: اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا [النمل:28]، فكان محكومنا عليه بالإعدام، وإذا بالحكم يوقف تنفيذه ويصبح سفيراً مفوضاً، اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ [النمل:28]، وكانت السفارة موفقة، فبعد المفاوضة والمراسلات والمشاورات جاءت، وأسلمت لله رب العالمين.

فهذا الهدهد ذهب وأتى وقص عليه قائلاً -كما حكى الله تعالى عنه- جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:22-24]، فالهدهد يميز بين السجود لله وحده، وبين السجود للشمس والقمر من دون الله، ثم قال: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل:25]، والمفسرون يقولون: هذا من كلام الهدهد اعترض عليهم أنهم لا يسجدون لله سبحانه، ويسجدون للشمس والقمر.

فالهدهد يدرك، وبفضل العلم الجغرافي الذي اكتسبه سلِم من القتل ومن التعذيب، وأصبح سفيراً مفوضاً بين سليمان وبلقيس .

وفي أول سورة المائدة يقول تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ * وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:3-4].

فالكلب إذا علمته الصيد فعند أن تزجره ينزجر -أي: يسمع الأوامر- إذا أمسك عليك أكلت مما صاد لك، والأسد وهو سلطان الوحوش لا يجوز أكل ما ترك من فريسة؛ لقوله تعالى: وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [المائدة:3]، وكلها محرمة معطوفة على الميتة، فإذا أكل السبع -وهو سلطان الوحوش- ولم ندرك الصيد ونذكه فهو ميتة، وأما ما صاده الكلب المعلم فيجوز لنا أن نأكل، والفرق بينهما -مع فوارق الجنسين-: العلم.

فما سلك إنسان طريقاً يلتمس فيه علماً إلا سهل الله له طريقاً إلى الجنة.

وهذا الحديث يشعر بالرحلة في طلب العلم، وقد ألفت في ذلك الكتب.

وأبو الدرداء كان في البصرة، فجاءه شخص وسلم عليه، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: جئت لحديث عندك. قال: آلله! ما جاءت بك حاجة ولا تجارة؟ قال: لا -والله-، ما جاء بي إلا حرصي على أن أسمع حديثاً عندك. قال: أبشر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).

ونحن نعلم أن المولى سبحانه جعل سلوك طريق لطلب العلم قرين الجهاد في سبيل الله، قال تعالى:وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فطائفة تذهب تقاتل، وطائفة تذهب تتفقه في الدين لترجع وتنذر قومها بما عملت.

إذاً فالنفر في طلب العلم كالنفر في الجهاد سواءً، وجاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله).

وسلوك الطريق يحصل بأية وسيلة كانت، وسواء أكان سلوك الطريق للرحلة والسفر، أم كان سلوك الطريق إلى الأستاذ أو المدرسة أو الجامعة.

العلم علمان: غاية ووسيلة

والعلم هنا هو علم كتاب الله وسنة رسوله، وما يساعد عليه، وأمور الدنيا خاضعة لذلك، أي: من سلك طريقاً لعلم الهندسة ليبني لنا بيوتاً تؤينا، أو سلك طريق علم الزراعة لينبت لنا طعاماً يقيتنا، أو سلك طريق الدفاع والسلاح لينتج سلاحاً يقينا العدو، أو أي مجال سلكه لله ولرسوله ولأمة المسلمين، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60] ما دام يبتغي بذلك وجه الله.

ولكن العلماء ينبهون على أن المراد في هذا الذي عليه الحث هو علم الكتاب والسنة، وما يساعد على فهمه، والعلماء الحاضرون، أو علماء المناهج يقسمون المواد إلى قسمين: قسم أساسي، وقسم تكميلي، أو قسم غاية، وقسم وسيلة، فمثلاً تفسير القرآن ومعرفة معاني كتاب الله غاية، ولكن لا يمكن أن تفهم كتاب الله إلا بمعرفة اللغة العربية التي أنزل بها، فلابد أن تعرف الفاعل من المفعول، ولابد أن تعرف المسند من المسند إليه، ولابد أن تعرف المبتدأ من الخبر، ولابد أن تعرف الحال من الصفة، وتعرف كل ما يتعلق بعلم العربية، وتعرف من شواهد العرب في أشعارها وأقوالها ما يفسر لك كلمات القرآن التي بها أنزل هذا الكتاب وذاك الحديث، حتى علم المنطق المتأخر، وليس المتقدم الذي فيه الفلسفة، إذا كان للدفاع عن شبه العقيدة على من يُدخل على الناس الشبه فيها، وعلم الحساب من أجل أن تعرف الفرائض وتقسم التركات، فإذا لم تعرف الحساب والجمع والضرب والطرح والقسمة لا تستطيع أن تقسم الفرائض ولا تعرفها.

فكل علم كان وسيلة لغاية فهو شريف، فالوسيلة تأخذ حكم الغاية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومن هنا ينبه العلماء على ضرورة معرفة أصول الفقه لكل من يشتغل بالكتاب والسنة، وكان دائماً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: جهلة الأصول عوام العلماء.

فلا يستطيع أن يتفقه في حديث، ولا في آية، ولا أن يستنتج حكماً لواقعة حدثت ليس فيها نص إلا إذا كان عالماً في الأصول يرجع للقواعد، ويستطيع أن يدخل النازلة تحت قاعدة من القواعد العامة.

وقوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)، يدخل فيه أي طريق طويلاً أو قصيراً، وفي الحكمة التي على لسان الناس: اطلبوا العلم ولو في الصين.

وفي الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، أي فيما يتعلق بالأمور الشخصية، وحق الله على العباد.

ويهمنا التنويه على بعض المسائل لنعلم جميعاً أن طلب العلم -كما أشرنا- فريضة على كل مسلم فيما يتعلق بحق الله عليه، وفرض كفائي فيما عدا ذلك من عموم علم الكتاب والسنة، وما يتطلبه من مكملات أو من أسباب توصل إلى الغايات.

فمن الأسباب التي توصل إلى الغايات في علم كتاب الله علم العربية التي بها يفهم كتاب الله، وعلم الأصول -كما قالوا- فيما يتعلق بدلالة العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك.

وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ما يتعلق بطرق معرفة صحة الحديث ومصطلح الحديث عند العلماء، ومعنى (مصطلح): أي: ما اصطلح عليه العلماء في أسماء الأحاديث باعتبار المتن أو السند، كتسميتهم الحديث مرفوعاً، أو موقوفاً، أو متصلاً، أو منقطعاً، أو معلاً، أو شاذاً، أو غير ذلك.

وكل ذلك حق وواجب على طلبة العلم.