شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلا زلنا في حديث معاذ ، وقد وصلنا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على أبواب الخير، فبعد أن بين صلوات الله وسلامه عليه أركان الإسلام كلها، كأنه فيما سيأتي سيبين آثار تلك الأعمال على الفرد والجماعة.

أما الأبواب فهي جمع باب، وهو في الأمور المعنوية كالأمور الحسية، إذا دخلت البيت وفي البيت غرف ومجالس، لكل غرفة باب، فإذا فتح هذا الباب اجتزت إلى الغرفة، ثم وجدت في الغرفة جزئيات، إن كانت للجلوس وجدت مقاعد، وإن كانت للنوم وجدت الفراش وما يتعلق به، وإن كانت للطعام وجدت أنواع الطعام، وهكذا، فداخل هذا الباب جزئيات.

وكذلك أبواب كتب الفقه، تقول (باب الوضوء)، إذا فتحت هذا الباب وجدت كيفية الوضوء من بداية غسل الكفين إلى غسل الرجلين، كل ذلك داخل باب الوضوء، وكذلك باب الصلاة وباب الصيام، أو كتاب الصلاة، ويأتي تحت هذا الكتاب أبواب، باب وجوب الصلاة، باب حكم الجماعة، باب أوقات الصلاة، باب القراءة خلف الإمام، كل هذه أبواب داخل الكتاب، فالكتاب كله كالبيت والقصر الكبير، وداخل هذا القصر غرف، ولكل غرفة بابها، وداخل الغرف جزئيات، فداخل الباب فصول ومسائل ومباحث.

وهنا بوجه صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى عناوين كلية، أو إلى أبواب إذا فُتح الباب منها وجدت فيه جزئيات عديدة، كأنه يقول: أعطيك رءوس أقلام. ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل.

فذكر الصيام والزكاة والصلاة، وقد ذكرت من قبل في قوله: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان)، فعاد إليها مرة أخرى ولكن بوجه غير الوجه الأول، فالوجه الأول بيّن فيه أركان الإسلام، وهنا بين فيه النوافل التي هي من أبواب الخير الواسعة، فبدأ بالصوم وآدابه وأحكامه وعوامل حفظه وصيانته، وكأنه قال: أولاً تصوم رمضان ثم قال: أنت طلبت ما يدخلك الجنة، والصوم جزءٌ منها، ولكن كيف تصومه؟ كأنه يقول: إن الصوم الذي يؤتي ثماره ويظهر مفعوله، هذا هو الذي يكون لصاحبه جنَّة.

قوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة..) الجُنَّة: يقول علماء فقه اللغة: إذا اجتمعت الجيم والنون المضعَّفة جُنَّ، جَنَّة، جنين، جِنٌّ، كل هذه الألفاظ ترتبط في صلة قرابة في الدلالة بصفة عامة على شيءٍ مختفٍ مستتر، أو تدل على الخفاء والاستتار، فتقول: الجنين، هو موجود في بطن أمه مستتر عنا، تقول: الجن، نحن لا نراهم، والجُنَّة: هي ما تجِن الإنسان، أي: تقيه وتستره عن الضربات، والمِجَن: هو ما يتقي به الفارس ضربات عدوه.

فكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنتُ أتَّقي ثلاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ ومُعْصِرُ

يعني: وقايتي من أعين الناس، وعلى هذا يتفق العلماء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الصوم بالجُنَّة، ولو جئنا بدل النون باء، وضعنا النقطة من تحت صارت جبَّة، فإذا لبست الجبة كانت ساترة لك عن أعين الناس، وإذا تلبَّست بالصوم كان جنة لك عن الشيطان، وجُنَّة لك عن المعاصي، ولهذا جاء الحديث: (والصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله، قال: بكذب أو غيبة أو سباب) أو نحو ذلك. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

المعنى الحقيقي للصوم

ولذا العلماء يقولون: الغيبة والكذب تخرق والاستغفار يرقع، فتخرق الجنة بكذب أو غش أو غيبة، فإذا استغفر رقعت خرقته، والثوب المرقع على كلٍ أحسن من الممزق.

إذاً: تصوير الصوم بأنه جنة كيف يتحقق؟

إذا جئنا إلى النصوص الواردة في الصوم وجدنا أن الإنسان يصوم عن شهوتي الفرج والبطن، حتى حال غيبته عن الناس عندما تثور عنده شهوة المأكل والطعام أمامه فإنه لا يتناوله، وإذا ثارت عنده شهوة الفرج وزوجته الحسناء على فراشه فلا يقربها، وهذا كله امتثالاً لأمر الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، ومن هنا كان الصوم مربي الضمائر، وثمرته التقوى، كما قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، أي: لعلكم أن تكونوا على جانب عظيم من التقوى، وتكون لكم الوقاية من عذاب الله.

ومن هنا أيضاً جاء الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)، فالصوم يجعلك في جُنَّة، فلا ترد على من سابك أو شاتمك، فهل يمكن أن تبدأ أنت بالاعتداء؟! لا؛ لأنك بصومك تستجن وتتقي، ولا ترد على من يعتدي عليك، بل من سابك أو شاتمك تقول له: (إني امرؤ صائم)، أي: لا أستطيع أن أجيبك لأني صائم، صائم عن ماذا؟ صائم عن الحلال.. الطعام والشراب، فكيف أفطر على هذا المحرم؟

ولهذا جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه: لا يتم صوم العبد حتى تصوم جوارحه.

فالعين تصوم فلا تنظر إلى ما حرم الله، واليد تصوم فلا تمتد إلى ما حرم الله، لا بأخذ مال الناس، ولا بالبطش بالضعفاء، والأذن تصوم فلا تصغي إلى حديث محرم، والرجل تصوم فلا تسعى إلى مكان محرم، والنفس تصوم فلا تتمنى وتحلم أحلام اليقظة في شيءٍ محرم، لأن أحلام اليقظة يمكن أن تجر إلى العمل الفعلي، فيدخل الإنسان في المعصية والإثم ظاهراً وباطناً، وتتعود وتتمرن تلك الجوارح شهراً كاملاً على الصوم، حتى تعتاد هذه الجوارح الطاعة، ولا تنتكس في حمأة المعاصي بسهولة، ولضمان استمرارية هذه الآثار ندبنا الله إلى الإكثار من صيام النافلة.

والنافلة قد تكون مقيدة ومطلقة، فمن المقيد بالزمان نجد صيام ست من شوال، يوم عاشوراء، يوم عرفة، الإثنين والخميس، ثلاثة أيام من كل شهر، ومن الصوم المطلق قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، أي يوم كان بدون تحديد.

إذاً: (فالصوم جنة)، لكن قد تخرق هذه الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وكلمة (قول الزور)، ليست مجرد شهادة زور في المحكمة بين اثنين، بل كل كذب فهو زور، لأنهم يقولون في اللغة: الزور ما كان جانبياً، تقول: فلان جاء زائراً، أي: من جانب البيت، وزور الإنسان مع الفم في مؤخر الحلق، فالقول الزور هو القول المنحني عن طريق الحق والاستقامة، فكل قول ليس مستقيماً مع الحق فهو زور، سواء كان غشاً في مبايعات، أو كان تدليساً، أو كان كذباً أو كان إيهاماً، أو كان سباباً، كل هذا من الزور.

الحكمة من جعل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم...) بين آية الصوم وآية الأهلة

ولذا في قوله سبحانه في الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، جمع باباً واسعاً من الآداب، وهنا كذلك: (الصوم جنة)، وإذا استمر الإنسان في جُنَّة الصوم إلى أن جاء العيد وخرج رمضان، هل يمزق هذه الجُنَّة أو يحافظ عليها؟ يحافظ عليها، لكن ليس الحفاظ عليها من الطعام والشراب؟ لأن ذلك أصبح مباحاً له، بل يحافظ عليها مما حرم الله.

ولذا نجد أن الله لما ذكر فريضة الصيام في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ذكر بعدها مباشرة وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] وجعلها قبل آية الأهلة التي هي من لوازم الصوم، وبها يتحدد ويدخل الشهر، ولماذا هذا؟ أما كان يستطيع أن يجعل قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ قبل آية الصوم، أو بعد آية الأهلة، أو في سورة أخرى؟

والمقصد من ذلك -والله أعلم-: كأن المولى سبحانه يوقف الصائم عن الحلال، يقول الآن انتهيت من صومك، ويأتي الهلال وتفطر لشوال؛ لكن اعلم إن كنت صمت فعلاً شهراً كاملاً عن الحلال، فلا تفطر من الغد على الحرام، وتأكل أموال الناس بالباطل وتدلي بها إلى الحكام لتأكل فريقاً من أموال الناس بالإثم.

فتنعم بالاستتار في جبة غير ممزقة مرة من الزمان، فإن عرض لها شيء من الخرق جاء رمضان آخر ليجدد لك جبتك من جديد.

ولا أعتقد أن إنساناً فاتته لذة الاتقاء بجنة الصوم، حينما يكون في رمضان ويأتيه من يسول له بالمعاصي -يدفعه الشيطان دفعاً- فإذا به يتمالك نفسه ويصبر ويترك هذا ويقول ونفسه مرتاحة ومطمئنة: إني صائم، كل إنسان يشعر بهذا، وبالتأكيد من يسول بالمعاصي عندما يجد هذا الموقف من هذا الصائم سيستحي، ولذا يقول العلماء: هل يقول هذه الكلمة -إني صائم- في سره ليمنع نفسه، أو يقولها علانية يُسمع خصمه ليكف أذاه عنه؟ والأولى هنا -والله أعلم- أن يظهرها ويسمع خصمه مقالته.

سبب إعادة ذكر الصوم والصلاة والصدقة في الحديث

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف ذكر لـمعاذ (تعبد الله لا تشرك به شيئاً)، وحقيقة ذلك تحقيق لا إله إلا الله، بأن تنفي جميع الآلهة، ولا تعبد إلهاً قط إلا الله، بخلاف المشركين الذين يقولون: أجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً، لأنه كان لهم ثلاثمائة وستون صنماً في الكعبة، وهو يريد أن يلغي هذا كله إلى إله واحد.

فحقيقته توحيد الله هو أن تعبد الله وحده، ويتحقق هذا في قولك (لا إله إلا الله)، فلا مألوه ولا معبود بحق إلا الله، ثم جاء بعد ذلك بالصلاة والصيام وغيرها.

وهنا يقول له: (ألا أدلك على أبواب الخير)، أليست الصلاة والصيام التي ذكرها أولاً من أبواب الخير؟ نعم هي منها، بل هي الخير كله، ولكن لماذا يعيدها هنا في أبواب الخير؟

للحديث النبوي مثلما يقولون ذوق وحلاوة، وله نور وطلاوة، ذكر صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام التي تدخل الجنة؛ لكن أبواب الخير هي محل المنافسة، وهي محل الزيادة، فالصلوات الخمس وصوم رمضان وزكاة الفريضة وحج البيت، الكل في ذلك سواء، أهناك شخص عليه ستة فروض وآخر عليه أربعة؟ أهناك شخص عليه صيام شهر والآخر نصف شهر أو شهرين؟ الناس متساوون في هذا، نصاب الزكاة على الجميع سواء، عشرون دينار في الذهب، ومائتا درهم في الفضة، وأربعون شاة في الغنم، وخمس من الإبل، كل هذه معروفة عند الجميع وهم متساوون فيها، ولكن أبواب الخير تزيد وتتسع، وتضيق وتقل، فهي قابلة للزيادة، ولكن أركان الإسلام لا تقبل زيادة ولا نقصاً، فهي خمس صلوات، وكل صلاة لها عدد مخصوص.

يدلنا على هذا المعنى الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، والفرض ليس فيه زيادة ولا نقص ثم قال: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، لماذا قال (يتقرب) ولم يقل (يقرب)؟ سبحان الله العظيم، لو قلت (يقرب) لتحقق بخطوة واحدة، لكن يتقرب، تدل على أنها خطوات، قد تزيد وقد تنقص نافلة بعد نافلة.

وذكر الصوم مرة أخرى ليس من باب التكرار بلا فائدة، فحديث البلغاء يتنزه عن ذلك، والمصطفى صلى الله عليه وسلم هو سيد البلغاء، إذاً: إعادة الصوم هنا تحت عنوان أبواب الخير لا يتنافى ولا يتعارض، ولا يكون مكرراً مع الصلاة والصيام التي ذكرت في أول الحديث، لأنها ذكرت هناك على سبيل الفرض والتحديد والإلزام، وذكرت هنا على أنها من أبواب النافلة وأبواب الخير التي تترك لجهد العامل.

وقد جاء عند مسلم : (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جاءنا رسولك يخبر أنك رسول الله، أحقاً ما يقول؟ قال: بلى، قال: فبالذي رفع السماء ونصب الجبال، وبسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أرسلك؟ قال: بلى. قال: وأخبرنا رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، فبالذي رفع السماء، ونصب الجبال، وسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم)الحديث، وذكر فيه الزكاة والصوم والحج.

والرجل الذي جاء للرسول في المسجد فقال: أخبرني ماذا كتب الله علي من الصلاة؟ قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)، ثم ذكر الصيام.. والزكاة.. والحج، ثم قال: (والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق).

وهنا الرسول يقول لـمعاذ : (ألا أدلك على أبواب الخير)، لماذا لم يقل كن مثل ذلك الأعرابي؟

الأعرابي جاء بنفسه وأخذ نفسه بحد السيف، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد ولا أنقص، فهو التزم وألزم نفسه بشيءٍ كبير، ما هو بهين، الذي لا ينقص مما فرض الله عليه، هذا التزام بأقصى ما يكون، فالرسول أخبر بأنه إذا نفذ هذا أفلح، ولكن معاذاً يسأل عن العمل الذي يقربه إلى الجنة، ومعاذ راغب في الخير، فكان هذا بياناً للأمة في شخصية معاذ.

الصوم باب من أبواب الخير في كل وقت وحين

ومن هنا نجد بعض الناس إذا جاء رمضان قال: يا الله أعنا عليه، وإذا ذهب رمضان قال: الحمد لله الذي جعله يذهب بالسلامة، ونحن والله نقولها، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رمضان قال: اللهم أعنا على رمضان، ونقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا، فإذا انتهى رمضان قلنا: ربي لك الحمد والشكر، ثم نعيد ونفرح؛ لأننا أدينا ما افترض علينا، فهذه فرحة كبيرة.

ولكن يأتي الحديث ويعطي طعماً وهدية، ويدعو الناس للمواصلة، (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)، لكأن الحديث يقول.. إذا انتهى رمضان فلا تقفل باب الخير، ودعه مفتوحاً، فصم ستاً من شوال، وإذا صمت ستاً من شوال بعد رمضان فكأنك صمت الدهر كله، وبعد شوال في غيره من الشهور استُحب لك صيام الإثنين والخميس، أو ثلاثة أيام من كل شهر، وإذا جاءت العشر الأيام الأول من ذي الحجة ندب لك صيام التسعة الأول منها، ثم يأتي شهر الله المحرم الذي يكون فيه الصوم حبيباً إلى الله، وفيه يوم عاشوراء، وهكذا.. فيستمر باب الخير مفتوحاً ولا يغلق حتى الممات.

ولذا جاء في الحديث: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون..)، هذا باب من أبواب الخير وهو (الصوم جنة)، وبقدر صومك، وبقدر حفظك لصومك تعظم تلك الجنة.

أظن أنك لو ذهبت للسوق، ورأيت الملابس الجاهزة أو الأقمشة الصوفية والقطنية، فلن تشتري إلا بقدر ما عندك من مال، فشخص يلبس جبة خفيفة على قدر ماله، وآخر من أحسن ما يكون من الأقمشة، ومن أحسن ما يكون من الخياطة والتفصيل، وكذلك بقدر الحفاظ على صومك بقدر نفاسة وغلاء جبتك، وبقدر ما هي غالية ونفيسة وقوية، بقدر ما تقيك الحر والبرد.

إذاً: هذا الباب واسع، لذا نجد أن هناك من كان يصوم الدهر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر كله، ويتعين عند الجمهور تحريم صوم يومي العيدين وصوم يوم الشك، وأيام التشريق في منى فيها الخلاف فيمن لم يجد هدياً ويتعين عليه صوم ثلاثة أيام في الحج.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم النفل

نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر، وقالت أم المؤمنين عائشة : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان).

وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة، ثم رجع إلى قومه، وبعد سنة جاء ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى عليه السلام فرد، ولم يعرفه، فقال: يا رسول الله! أما عرفتني؟! قال: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي وقفت عليك في العام الماضي، قال: ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك لم أفطر يوماً، قال: (لا صام من صام الدهر، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذاك صوم الدهر كله، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم الإثنين والخميس)، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم يوماً وافطر يوماً)، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً).

وبعض الصحابة في المدينة، حينما شدد على نفسه في الصوم مع قوله الرسول صلى الله عليه وسلم له: (أحب الصيام إلى الله صيام داود)، وقوله: (صم يوماً وأفطر يوماً)، فلما كبر وشق عليه ما اعتاده من الصوم قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقصد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فحسب.

إذاً: المولى سبحانه وتعالى جعل رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، ومما أنزله قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ومن رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلم بالأمة، بل من صميم الرسالة؛ ألا يكلف أحداً ما لا يطيق من العبادات.

والنفر الثلاثة الذين تذاكروا عباداتهم، وقالوا: نذهب لبيت أمهات المؤمنين ونسأل عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فسألوا أم المؤمنين عائشة ، فقالت: ينام ويقوم، ويصوم ويفطر، قالوا: هذا عبد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء.

وأم المؤمنين تسمع كلامهم من وراء الحجاب، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت له مقالة النفر الثلاثة؛ سبحان الله! عباد الأصنام صاروا يتسابقون في الطاعة!

ولكن هل سرّه ذلك ورضي به، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابي هكذا؟ لا والله، جاء إلى المسجد وجمع الناس وخطب وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني لأتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني لأنام وأقوم وأفطر وأصوم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وهل هم راغبون عن سنته عليه الصلاة والسلام والله يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وهذا باب من أبواب الخير؟!

الجواب: لا. ولكن هذا باب فتنة عظيم، بل إن الشيطان ما جاء للبشر وأوقعهم في عبادة الأصنام والحجارة إلا من هذا الباب، باب الغلو في العبادات؛ لأن الإنسان له طاقة محدودة لا يطيق ما فوقها، كفرس حملته فوق طاقته فإنه تخور قواه ويسقط تحتك.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وكذلك الجسم هو الفرس للإنسان، يواصل عليه السير إلى نهاية المرحلة التي كتبها الله له، مع تخلل فترات راحة بين الفينة والأخرى، كما في الحديث: (ساعة وساعة) حتى نصل إلى المراد دون أن تخور القوى وتضعف.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، تريد أن تسابق.. الإسلام أقوى منك.. إذاً: خاف صلى الله عليه وسلم على الناس الغلو، لأن الغالي يغلو ثم يعجز فإذا عجز هدم ما فات.

الغلو في الدين وسبب الانحراف

والشيطان أوصل الناس إلى عبادة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر من هذا الباب، وهو الغلو، فقد كان هؤلاء رجالاً صالحين قبل زمن نوح عليه السلام، ولما ذهب هؤلاء الناس جاء الشيطان لأولادهم، فقال: ما هذه العبادة التي لا تساوي شيئاً، آباؤكم وأجدادكم كانوا يقومون الليل ويصومون النهار، ويفعلون ويفعلون، اجتهدوا بالعبادة مثلهم.. سبحان الله، فهذا الشيطان يحث الناس على الاجتهاد في العبادة؟!

وخالف النفس والشيطان فاعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم

إذا كان بينك إنسان عداوة، وجاءك يوماً مبتسماً ويضحك، ونصحك فقال: اذهب من هذا الطريق فهو قريب؛ فاعرف أن في هذا الطريق مهلكة لك، لأن النصح لا يأتي من عدو، فالشيطان يأتي لهؤلاء ويحثهم على الزيادة في العبادة مع أنه يحترق من كثرة العبادة؛ لكن يرسم للخطوات نحو الكفر والوثنية بصبر وجلد.

فقاموا واجتهدوا..

ثم قال لهم: أنتم ما فعلتم شيئاً.

قالوا: ماذا نفعل أكثر من هذا.

قال: صوروا تماثيل للآباء في معابدهم، حتى كلما رأيتموهم نشطتم في العبادة! ، فأخذوا بالنصحية.

ونام الشيطان على أعصابه، حتى ذهب هذا الجيل ولا يدري عن الأجداد شيئاً.

ثم جاء للأبناء فقال: أين أنتم ضائعون?

قالوا: ماذا؟

قال: لماذا لم تأتوا عند هذه الصور، ولم تلتفتوا إليها، وتلتفوا حولها ولو مرة واحدة في السنة.

قالوا: بماذا؟

قال: واحدة من العبادات اجعلوها لها.

قالوا: نعبد الله وحده.

قال: لا مانع، لكن واحدة فقط لهؤلاء الآباء والأجداد.

قالوا: واحدة لا بأس!

وهكذا قليلاً قليلاً، وبدلوا الصور بالأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل.

ثم قال لهم: لا حاجة لأن تأتوا هنا، كل واحد يأخذ تمثاله أو معبوده، فيضعه في بيته يعبده.

وانتقلت العبادة من الله إلى الأصنام، ومن المعابد إلى البيوت، وعندئذٍ استراح وبلع ريقه عن كل المدة التي حرقت أعصابه فيها.

والسبب في هذا الغلو والمبالغات، ولذا فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الأمة من الغلو، فنهى عن صيام الدهر، لأنه يأتي وقت ويعجز عنه، وربما كره هذه العبادة.

إذاً: الصوم في النوافل له أقسام، فمنه ما يكون في أزمنة معينة، ومنه ما يكون مطلقاً، وكل إنسان يأخذ على قدر طاقته وهمته واجتهاده.

ولذا العلماء يقولون: الغيبة والكذب تخرق والاستغفار يرقع، فتخرق الجنة بكذب أو غش أو غيبة، فإذا استغفر رقعت خرقته، والثوب المرقع على كلٍ أحسن من الممزق.

إذاً: تصوير الصوم بأنه جنة كيف يتحقق؟

إذا جئنا إلى النصوص الواردة في الصوم وجدنا أن الإنسان يصوم عن شهوتي الفرج والبطن، حتى حال غيبته عن الناس عندما تثور عنده شهوة المأكل والطعام أمامه فإنه لا يتناوله، وإذا ثارت عنده شهوة الفرج وزوجته الحسناء على فراشه فلا يقربها، وهذا كله امتثالاً لأمر الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، ومن هنا كان الصوم مربي الضمائر، وثمرته التقوى، كما قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، أي: لعلكم أن تكونوا على جانب عظيم من التقوى، وتكون لكم الوقاية من عذاب الله.

ومن هنا أيضاً جاء الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)، فالصوم يجعلك في جُنَّة، فلا ترد على من سابك أو شاتمك، فهل يمكن أن تبدأ أنت بالاعتداء؟! لا؛ لأنك بصومك تستجن وتتقي، ولا ترد على من يعتدي عليك، بل من سابك أو شاتمك تقول له: (إني امرؤ صائم)، أي: لا أستطيع أن أجيبك لأني صائم، صائم عن ماذا؟ صائم عن الحلال.. الطعام والشراب، فكيف أفطر على هذا المحرم؟

ولهذا جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه: لا يتم صوم العبد حتى تصوم جوارحه.

فالعين تصوم فلا تنظر إلى ما حرم الله، واليد تصوم فلا تمتد إلى ما حرم الله، لا بأخذ مال الناس، ولا بالبطش بالضعفاء، والأذن تصوم فلا تصغي إلى حديث محرم، والرجل تصوم فلا تسعى إلى مكان محرم، والنفس تصوم فلا تتمنى وتحلم أحلام اليقظة في شيءٍ محرم، لأن أحلام اليقظة يمكن أن تجر إلى العمل الفعلي، فيدخل الإنسان في المعصية والإثم ظاهراً وباطناً، وتتعود وتتمرن تلك الجوارح شهراً كاملاً على الصوم، حتى تعتاد هذه الجوارح الطاعة، ولا تنتكس في حمأة المعاصي بسهولة، ولضمان استمرارية هذه الآثار ندبنا الله إلى الإكثار من صيام النافلة.

والنافلة قد تكون مقيدة ومطلقة، فمن المقيد بالزمان نجد صيام ست من شوال، يوم عاشوراء، يوم عرفة، الإثنين والخميس، ثلاثة أيام من كل شهر، ومن الصوم المطلق قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، أي يوم كان بدون تحديد.

إذاً: (فالصوم جنة)، لكن قد تخرق هذه الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وكلمة (قول الزور)، ليست مجرد شهادة زور في المحكمة بين اثنين، بل كل كذب فهو زور، لأنهم يقولون في اللغة: الزور ما كان جانبياً، تقول: فلان جاء زائراً، أي: من جانب البيت، وزور الإنسان مع الفم في مؤخر الحلق، فالقول الزور هو القول المنحني عن طريق الحق والاستقامة، فكل قول ليس مستقيماً مع الحق فهو زور، سواء كان غشاً في مبايعات، أو كان تدليساً، أو كان كذباً أو كان إيهاماً، أو كان سباباً، كل هذا من الزور.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3523 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3185 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3134 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3115 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3068 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3044 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2994 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2891 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2877 استماع