أدومها وإن قل
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
أدومها وإن قل بنظرة متقصِّية ومتفحصة لواقع شبابنا المسلم نجد أن ثمَّة تطورًا ملحوظًا في علاقة بعض الشباب بدينهم وإقبالهم على ربهم، وهذا من فضل الله على هذه الأمة، بعد أن حُكي لنا عن فترات سابقة في القرنين الماضيَين، لا يدخل المسجدَ شابٌّ إلاَّ ما رحم ربي، الحقيقة أنه ليس كلُّ شباب المسلمين ملتزمين بتعاليم دينِهم وآدابِه، لكن هناك بقيَّة من الشباب فيهم الخير ويحبُّون دينَهم، ويرون أنه مصدر سعادتِهم، وبعضهم تقرَّب إلى ربه أكثر، وتفهَّم مهمَّته في الحياة أكثر، حتى قرَّر أنه مستعدٌّ أن يفدي دينَه بحياته ووقته وجهده.
ولكن يبقى هذا الشباب المحبُّ لدينه دائمًا بحاجة إلى النصح والإرشاد والتذكيرِ؛ حتى لا ينتكسَ بعد تقدُّمه خطوات في طريقه إلى الله، ولعلَّ من أهم الوصايا التي يحتاجُها هذا الشباب المتحمِّس لدينه: (المداومةَ على الأعمال الصالحة).
فالوصية القرآنية: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، دليلٌ على أهمية المداومة على الصالحات، فعدم إدراكِك لموعد موتك ينشدك أن تديم الاستعداد له دائمًا، وليس شيءٌ أفضل في الاستعداد للموت من العمل الصالح، الذي تنال به رضا الله، وما دُمتَ لا تعلم موعدَ موتك فأنت - شرعيًّا وبديهيًّا - مطالَب بأن تديم إتيان الأعمال الصالحة، وتكون بهذا اتَّقيتَ اللهَ حقَّ تقاته.
وعلى لسان سيدنا المسيح تأتي الآيةُ لتؤكِّد هذا المعنى وتشرحه ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]، والصلاة رمزٌ للعبادات، والزكاة رمزٌ للمعاملات، فكانت وصية الله لعيسى أن يديم الأعمالَ الصالحة، سواء في الجانب التعبُّدي أو الجانب التعاملي، ما دام حيًّا.
ويأتي التحفيز النبوي الشائق لنا: ((أحبُّ الأعمال إلى الله: أدومها وإن قلَّ))، ليخبرنا أن صفة الاستمرارية إذا اصطبغ بها أيُّ عمل عظَّمَته وأعلَت من قَدره.
ولعل من أسرار أهمية الاستمرارية والمداومةِ على الأعمال الصالحة فكرة التشبُّع بها، حتى تبدأَ النفس بالتفاعل معها، ويتم التأثير الإيجابي للطاعات على السلوك العام للمسلم، ولعلَّ هذا يفسِّر لنا كثيرًا من سُوء الخُلق عند بعض الشباب.
والمداومةُ على الأعمال الصالحة تقوم على اعتقاد دوام وجود الله، ودوام توفُّر أجره ومثوبته لمن يفعل أي عمل صالح، وبالتالي أنت مُرحَّبٌ بك في أي وقت لكي تقوم بعملٍ صالح لتنال به أجرًا ومثوبةً من الله، وهذا يؤكد لنا أهمية الإخلاصِ لله، والتجرُّدِ من كلِّ مصلحة أو منفعة من أجل رضاه ومثوبته؛ فإن الإنسان إذا ما أخلص لله في عمل صالح، فإنه من الصعوبة أن ينقطع عن هذا العمل، أما إذا خالطه شيء من الهوى والرياء فمحتمل أن يملَّ ويسأم من هذا العمل ويتركَه بعد فترة.
تلك الحقيقة أعلنها الصِّدِّيق أبو بكر مدويةً يومَ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين خطب في الناس قائلاً: "مَن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبدُ اللهَ فإن الله حيٌّ لا يموت"، فحتى النبي صلى الله عليه وسلم رغم عظمَته في قلوبنا، فإن موته لن يَثنينا عن المداومة على الصالحات من أعمالنا، فإذا كان هذا في حالة المصيبةِ العُظمى المتمثِّلة في موت النبي صلى الله عليه وسلم - فالأولى الاستقامة على الأعمال الصالحة وعدم توقُّفها بسبب أيِّ عائقٍ أو ظرف يطرأ على الفرد.
ولعلَّ من أهمِّ ثمار المداومة على الأعمال الصالحة طردَ الذنوب والمعاصي، فأنت إن كنتَ عاجزًا عن ترك ذنب معيَّن فخيرُ علاجٍ لك أن تُزاحمَه بالطاعات؛ حتى تشغلَ الطاعاتُ فراغ قلبك ووقتك، ولا يجد الشيطانُ فرصةً يأتيك من خلالها ليوسوس لك بفِعل المنكرات.
وفي الحديث: ((أرأيتُم لو أن نهرًا بباب أحدِكم يغتسل منه خمسَ مرات في اليوم، هل يبقى من درنه شيء؟))، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهنَّ الخطايا))؛ وهذا دليلٌ على مدى فضل المداومة على الأعمال الصالحة، وكيف أن المداومةَ على الصلاة تمحو الخطايا والذنوب، كما يمحو الماءُ الدَّرن.
وفي الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه))، ما يدلُّنا على كيفية الوصول إلى حب الله، إنه المداومةُ المتمثلة في: (لا يزال).
ثم إن القرآن حذَّرنا من الفتور بعد الحماسة، ومثَّل لنا بالمرأة القُرَشية التي كانت تغزل الغزلَ في الصباح، ثم تأتي في المساء وتنقُضه، ولعلَّها معذورة لفقدِها عقلها، أمَّا أنت أيها العاقل المؤمن، فليس لك عذرٌ في أن تكفَّ عن العمل الصالح بعدَ أن هداك الله إليه: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92].
إن المداومة على الأعمال الصالحة تفتح لك بابَ التمتُّع بها في الدنيا، والاستبشار بثوابها في الآخرة، وتزيدك تعلُّقًا بالله وحبًّا له، وتغلق أمام شيطانك سُبلَ وصوله إليك، وتمحو ذنبَك.
فانظر أعمالَك الصالحة، وداوِمْ عليها، معلنًا سيرك على نهج نبيك صلى الله عليه وسلم، الذي كان إذا عمِل عملاً أثبَتَه، وداوَمَ عليه.