شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

فقد تقدم الحديث الثاني من هذا الكتاب المبارك، وهو حديث جبريل أنه جاء وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخبرني عن الإسلام؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ثم سأله عن الإيمان والإحسان وعن الساعة.

ثم ها هو الإمام النووي رحمه الله يأتي بحديث: (بني الإسلام على خمس) وهو جزء من الحديث الذي قبله، مع أنه اشترط في المقدمة أنه ينتقي ويختار، ومعنى الانتقاء والاختيار عدم التكرار.

فكان من الممكن أن يقول قائل: يجزئ عن هذا الحديث جزء الحديث الذي تقدم قبله، ولكن لفقه النووي رحمه الله، ودقة فهمه في الحديث، جاء بهذا الحديث ضرورة ليتمم جزءاً في الحديث الذي قبله من جهة الحكم، وبيان أهمية ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل، وهي خمسة أشياء، فما حكم تلك الخمسة؟ وما مدى ارتباط بعضها ببعض؟ وما أهميتها في ذاتها؟

فجاء النووي رحمه الله بهذا الحديث ليبين أن الإسلام الذي سأل عنه جبريل عليه السلام، وأجاب بمقتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن تلك المسميات هي: بناء الإسلام أي: أركانه! أي: ماهيته! أي: ضروريات وجود تلك المسميات ليوجد الإسلام!

إذاً: ليس في هذا تكرار، ولكن فيه بيان لمجمل متقدم.

كنيته أبو عبد الرحمن والكنية: ما صدر بأب أو أم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنها يكنى بـأبي عبد الرحمن كما جاء عن أم المؤمنين عائشة ، لما ذكر تعذيب الميت في القبر ببكاء أهله، حيث قالت أم المؤمنين عائشة : ( رحم الله أبا عبد الرحمن ! ما كذب ولكنه نسي).

فكان مشهوراً بكنيته وباسمه، فـعبد الله اسمه، وأبو عبد الرحمن كنيته، وتقدم لنا في عمر رضي الله تعالى عنه أنه أبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب ، الاسم واللقب والكنية، وهنا اجتمعت الكنية مع الاسم.

فضله رضي الله عنه

يذكر علماء التراجم في ترجمة عبد الله بن عمر من الفضل والكرم والإحسان الشيء الكثير، وأهم ما يُذكر في ذلك أنه أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة مع أبيه، ولما كان في غزوة بدر لم يحضرها، وعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فمنعه صلى الله عليه وسلم لصغر سنه، حيث كان في الرابعة عشرة من عمره، وعرض عليه في غزوة الخندق بعدها بسنة فأجازه صلى الله عليه وسلم.

وفي بعض الروايات: (أن الرسول أراد أن يرده في غزوة الخندق، فجاء إلى أبيه عمر وقال: يا أبي! أجاز رسول الله عبد الله بن جابر وأنا والله أصرعه -يعني: أنا أقوى منه وأولى بالجهاد منه- فذهب عمر إلى رسول الله وأخبره، فأحضرهما وتصارعا بين يدي رسول الله، فصرعه؛ فأجازه) .

كانوا يتسابقون إلى الجهاد، وتأبى مروءة أحدهم وهو غلام أن يرد عن الجهاد في سبيل الله حتى يتقدم ويحتج على من منعه وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! ورسول الله إنما منعه شفقة ورحمة به لصغره لأنه لم يكلف الجهاد بعد، والجهاد فرض كفائي على ما سيأتي الكلام عليه في أركان الإسلام، ومع ذلك دافع واشترك في الجهاد.

ومما يذكر عنه أنه رأى رؤيا في شبابه يقول: كانوا يرون الرؤى، فإذا رأى أحدهم رؤيا ذكرها لرسول الله وفسرها له، وفي بعض الروايات كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: أيكم رأى رؤيا؟ ويقصون رؤياهم على رسول الله ويفسرها لهم؛ لأن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة يراها الرجل الصالح أو ترى له.

قال: فوددت أني أرى رؤيا فأقصها على رسول الله، قال: فرأيت أني على حافة بئر عميق وفيه نار ملتهبة، فإذا برجل يقول: لم ترع لم ترع، ثم ذكر ذلك لـحفصة، وفي رواية أخرى: أنه رأى أن بيده بطاقة وإنه في الجنة، وكلما أشار إلى جهة في الجنة طارت به تلك البطاقة، فقص الرؤيا لأخته حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم العبد عبد الله لو كان يصلي من الليل) يقول: (والله ما تركت صلاة الليل بعد ذلك).

روايته للأحاديث

وجاء أنه روى عن رسول الله ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً، وهو من السبعة الصحابة أصحاب الألوف في روايات الحديث وهو رابع العبادلة: عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير.

وكذلك جاء في الروايات أنه أعتق أكثر من ألف عبد، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وكان من سبب كثرة عتقه العبيد أنه كان إذا رأى عبداً يصلي أعتقه، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! والله إنهم يصلون يخدعونك؛ لأنهم عرفوا أنك تعتق من يصلي، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.

وروي عنه أنه كان في حج، وركب بعيراً فأعجبه وكان حسناً، فأناخه ثم قلده وأشعره، وقال: يا نافع ! أدخله في الهدي، فكان إذا أُعجب بشيء تصدق به لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] فكان يكثر من الصدقة خاصة ما يحب.

ويقولون عنه رضي الله تعالى عنه: إنه مرض واشتهى العنب، فبحثوا عنه فجاءوه بقطف، فإذا بمسكين يقول: أطعموني، قال: أعطوه إليه، قالوا: كيف وقد عنينا من أجله، قال: لقد أحببته ولهذا أتصدق به، فأعطاه للمسكين، فذهب رجل من أهله واشترى العنب من المسكين، ورجع به فقدمه إليه، فإذا مسكين آخر قال: أعطوه العنب، وهكذا ثلاث مرات.

يذكر علماء التراجم في ترجمة عبد الله بن عمر من الفضل والكرم والإحسان الشيء الكثير، وأهم ما يُذكر في ذلك أنه أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة مع أبيه، ولما كان في غزوة بدر لم يحضرها، وعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فمنعه صلى الله عليه وسلم لصغر سنه، حيث كان في الرابعة عشرة من عمره، وعرض عليه في غزوة الخندق بعدها بسنة فأجازه صلى الله عليه وسلم.

وفي بعض الروايات: (أن الرسول أراد أن يرده في غزوة الخندق، فجاء إلى أبيه عمر وقال: يا أبي! أجاز رسول الله عبد الله بن جابر وأنا والله أصرعه -يعني: أنا أقوى منه وأولى بالجهاد منه- فذهب عمر إلى رسول الله وأخبره، فأحضرهما وتصارعا بين يدي رسول الله، فصرعه؛ فأجازه) .

كانوا يتسابقون إلى الجهاد، وتأبى مروءة أحدهم وهو غلام أن يرد عن الجهاد في سبيل الله حتى يتقدم ويحتج على من منعه وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! ورسول الله إنما منعه شفقة ورحمة به لصغره لأنه لم يكلف الجهاد بعد، والجهاد فرض كفائي على ما سيأتي الكلام عليه في أركان الإسلام، ومع ذلك دافع واشترك في الجهاد.

ومما يذكر عنه أنه رأى رؤيا في شبابه يقول: كانوا يرون الرؤى، فإذا رأى أحدهم رؤيا ذكرها لرسول الله وفسرها له، وفي بعض الروايات كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: أيكم رأى رؤيا؟ ويقصون رؤياهم على رسول الله ويفسرها لهم؛ لأن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة يراها الرجل الصالح أو ترى له.

قال: فوددت أني أرى رؤيا فأقصها على رسول الله، قال: فرأيت أني على حافة بئر عميق وفيه نار ملتهبة، فإذا برجل يقول: لم ترع لم ترع، ثم ذكر ذلك لـحفصة، وفي رواية أخرى: أنه رأى أن بيده بطاقة وإنه في الجنة، وكلما أشار إلى جهة في الجنة طارت به تلك البطاقة، فقص الرؤيا لأخته حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم العبد عبد الله لو كان يصلي من الليل) يقول: (والله ما تركت صلاة الليل بعد ذلك).

وجاء أنه روى عن رسول الله ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً، وهو من السبعة الصحابة أصحاب الألوف في روايات الحديث وهو رابع العبادلة: عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير.

وكذلك جاء في الروايات أنه أعتق أكثر من ألف عبد، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وكان من سبب كثرة عتقه العبيد أنه كان إذا رأى عبداً يصلي أعتقه، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! والله إنهم يصلون يخدعونك؛ لأنهم عرفوا أنك تعتق من يصلي، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.

وروي عنه أنه كان في حج، وركب بعيراً فأعجبه وكان حسناً، فأناخه ثم قلده وأشعره، وقال: يا نافع ! أدخله في الهدي، فكان إذا أُعجب بشيء تصدق به لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] فكان يكثر من الصدقة خاصة ما يحب.

ويقولون عنه رضي الله تعالى عنه: إنه مرض واشتهى العنب، فبحثوا عنه فجاءوه بقطف، فإذا بمسكين يقول: أطعموني، قال: أعطوه إليه، قالوا: كيف وقد عنينا من أجله، قال: لقد أحببته ولهذا أتصدق به، فأعطاه للمسكين، فذهب رجل من أهله واشترى العنب من المسكين، ورجع به فقدمه إليه، فإذا مسكين آخر قال: أعطوه العنب، وهكذا ثلاث مرات.

يروي عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الشيء الكثير عن رسول الله، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، وأشد الصحابة تمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادةأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).

بناء الإسلام وروابطه القوية

قوله: (بني الإسلام على خمس) يقول علماء البلاغة: البنيان للمحسوس بأساس وجدار وسقف، والمعنويات ليس لها بناء، إنما لها تعابير وألفاظ تؤديها، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب والعجم، فيبين ويوضح ويبرز المعنوي الخفي في صورة المحسوس الملموس، وهذا هو أسلوب القرآن، وجميع تشبيهات القرآن عند علماء البيان من التشبيه التمثيلي الذي مبناه على التشبيه والاستعارة، وتفصيله يعرفه طلاب البلاغة.

والقرآن الكريم يبين لنا ذلك، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14]، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [العنكبوت:41].

فهذا الذي يدعو من دون الله ضرب الله له مثلاً، بمن يبسط كفيه إلى ما ليس بقابضه، يفرج أصابعه ويمدها إلى ماء في قعر البئر، أو يجري في النهر ويفغر فاه ينتظر أن يأتي إليه الماء، فهل الماء يأتي لإنسان من قعر البئر إلى يد مفرجة الأصابع؟!

تخيل كأن بين يديك إنساناً شديد الظمأ، فاغراً فاه، ماداً يده إلى ماء بعيد عنه، تقول وأنت أمامه: لن يصل إليك شيء.

فلم يقل الله في القرآن الكريم: مثل الذين يعبدون العدم مثل الذي يطلب ما لا يدرك؛ لأن هذا خبر يمر ولا يعلق بالذهن، لكن عند أن يصور صورة لها أجزاء وأبعاض.. تقف أنت عندها؛ كما يقال: رسوم ساخرة (كاريكاتير).

وهكذا كما بين في أمثلة القرآن في أمر المنافقين: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] أتى بحطب وأشعل النار كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] وقبلها: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] فإذا وقفت أنت أمام هذا العرض أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] الصيب: المطر، لكن تجد فيه رعداً وبرقاً، تسمع بأذنك فتجزع! ترى بعينك فتخاف، فلكأنك تحكي أو تعايش هذه الصورة يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19] كأنه وقع بالفعل حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19] من هذا الصوت الشديد، فأنت حينما تسمع هذا الوصف لكأنك في شدة المطر والظلام، وتسمع الرعد وترى البرق، فهي صورة مكتملة.

وهنا يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (بني الإسلام) والإسلام: اعتقادات بالقلب، وأقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وبيَّن بناءه وقوائمه، فلكأن الإسلام بيت، بل هو حصن، ولكنه حصن حصين، وقوائم هذا البيت ليست مسلحة بالحديد، ولا بالحجر والطين، ولا مبنية بالجيرانيت الذي هو أصلب حجر في العالم، ولكنه مبني بأعمال تستقر آثارها في القلب، وهذه الأعمال أقوى تلاحماً وترابطاً في الأمة الإسلامية من البناء الذي يشد بعضه بعضاً: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) أي: جسد واحد يجمع مائة مليون أو مائتي مليون؟! ملايين المسملين الآن في العالم! المسلمون تعدادهم عظيم، وأي دين يبني بناءً عظيماً كهذا البناء في الأمة الإسلامية؟!

ثم أي بناء يرابط بين أفراد البشر، بين الأخ وأخيه، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجه، وبين القريب والبعيد، فيجعل رابطة الإسلام بينهم أقوى من رابطة نسب الأبوة والبنوة؟!

أي بناء إذا جئته لتهدمه بمعول هدمته، ولكن بناء الإسلام أقوى على طول الزمن، وقد ساير الزمن طيلة خمسة عشر قرناً ولكأنه بني بالأمس، لم تخلق لبناته! ولم تتخلخل بناياته! بل هو قائم على قوته ولكأنه أقيم بناؤه اليوم!

وهذا هو القرآن الكريم يتلى ولكأنه بالأمس أنزل، تقرأ الفاتحة وتسمعها من الإمام مراراً في كل صبح ومساء فلكأنك تسمعها للمرة الأولى، تقف خلف الإمام في رمضان وتصلي خمساً وعشرين ركعة أو نحوها، تسمع فيها الفاتحة تتكرر على سمعك خمساً وعشرين مرة فلكأن الأخيرة هي الأولى.

وهكذا البناء؛ لأن كل تشبيه له ارتباط بالمشبه به برابط الشبه بينهما، ولكن قد يكون وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به كما هو معروف في التشبيه المقلوب، ولكن هذا تشبيه على وجهه عند البيانيين.

أمثلة ومواقف تدل على قوة روابط الإسلام

وما دمنا تعرضنا إلى هذه الناحية، فإن من قوة روابط بناء الإسلام فإنه لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وكان فيها ما كان عند ماء يقال له: المريسيع، حيث نزل المسلمون وذهب غلمان المهاجرين وغلمان الأنصار يستقون الماء، فتزاحم غلامان وتضاربا، فضرب غلام عمر غلاماً لرجل من الأنصار، فذهبوا إلى ابن أُبي وكان معهم وهو رئيس المنافقين يخفي نفاقه، فقال لهم: ألم أقل لكم من قبل: لا تنفقوا عليهم ولا تسعوهم؟ ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك؛ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الفتنة بين المهاجرين والأنصار فشغلهم بالمسير وقت القيلولة، فجاءوا إلى رسول الله يعتذرون عن المشي في هذا الوقت، فقال لهم مقالة ابن أُبي، فجاء ابن أُبي يعتذر بنفسه، ولكن الوحي قد سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8] تلك قضية أثارها ابن أُبي، جاء الوحي بمقتضى ما قال، وهو عند الأصوليين: القول باللازم أو بموجب القول، ومعناه: صدقت يا ابن أُبي ، صحيح لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولكن لمن العزة؟!

قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].

فلما وصلوا إلى المدينة، فهناك تأتي المعجزة والآية وقوة التلاحم بين أبناء المسلمين، ورابطة الإسلام وأخوة الإيمان، فيأتي عبد الله بن عبد الله بن أُبي ويمسك بزمام ناقة أبيه ويستل سيفه ويقسم بالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

فأي قوة بناء تربط بين أفراد البناء كهذه القوة؟! مع أنهم يقولون: كان هذا الابن من أعظم الناس براً بأبيه، فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروه فليأذن له بالدخول، فدخل بعد إذن رسول الله، وعلم حقاً أن العزة لله ولرسوله.

ثم بعد أيام أشيع عند الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أُبي لمقالته ولإظهار نفاقه، فجاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي وقال: (يا رسول الله بلغني أنك قاتل أبي إن كنت فاعلاً لا محالة فمرني أنا آتيك برأسه، فإني لا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتل مسلماً بكافر فأهلك).

ولد يقتل أباه! لماذا؟ لأنه ضنين بأن يرى مسلماً قتل أباه فتأتي الحمية فلا يستطيع أن يصبر فيقتله، فلكي لا يقع في هذا المحظور أراد أن تكون مصيبته على يده لئلا يتعدى على أحد بعد ذلك، وكلاهما مصيبتان: قتل أبيه، وكتم غيظه في قلبه.

فأي بناء يكون أقوى من ذلك؟!

قد نقول إن هذا موقف شاب، والحماسة قد تأتي في بعض الشباب، ولكن وجدنا العكس في غزوة أحد لما جاء المشركون فخرج من يطلب المبارزة من صفوف المشركين، وممن خرج لطلب المبارزة ولد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يقوم إليه أبوه أبو بكر ؛ لكي يعلم المشركون أن لا هوادة بينهم، حتى قال رسول الله: (يا أبا بكر ! أبق إلينا نفسك) أي: نحن نضن بك على القتل، وهنا سؤال:

إذا خرج أبو بكر لمبارزة ولده، فهو إما قاتل أو مقتول، إن قتل قتل من؟ ولده، وإن قُتل قتل بيد من؟ بيد ولده، كلاهما مصيبتان مركبتان، لأي شيء ذابت وذهبت رابطة النسب والدم والتراب، وعلت وسمت وقويت رابطة الدين؟

الجواب: لأن هذه الرابطة الإيمانية لم تكن تربط بين بني البشر فقط، بل إنها ربطت بين حملة عرش الرحمن ومؤمني هذه الأمة، بل ربطت بين الإنسان والحيوان، وبين الإنسان والجماد.

فمن روابطها بين حملة العرش والمؤمنين ما جاء في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] أي: برابطة الإيمان بينهما مع اختلاف الجنس، عالم نوراني في الملائكة، وعالم ترابي في البشر، ولكن الإيمان أنزل أولئك من منزلتهم، ورفع أولئك من موطنهم وارتبطوا برابطة الإيمان: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].

وهناك: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31] تلك الولاية ظهرت في بدر حينما نزلت الملائكة تقاتل معهم بالفعل.

وهذه الرابطة أيضاً ربطت بين المسلمين وبين الحيوانات، بل الوحش من الحيوان كما جاء في الأثر أن الصحابي الجليل الملقب بـسفينة ، وكان عائداً من غزوته فوجد الأسد في الطريق حاجزاً الناس، ولم يستطيعوا أن يمروا، فتقدم إليه وواجهه وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، أمرتك أن تجوز عن الطريق، فاجتاز عن الطريق بقدر ما يمروا ومر الناس جميعاً.

ماذا يدرك الأسد من سفينة ؟ وما هي الرابطة بينه وبين رسول الله؟ الإيمان، تلك الرابطة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي ، فـسلمان ليس عربياً، لا هاشمياً ولا قرشياً ولا تميمياً ولا..ولا.. إلى آخره، بل هو رجل فارسي يأتي إلى المدينة قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرج من بلده فارس لما رأى فيه من فساد علماء بلده، وكان أبوه يوقد النار ويشرف عليها، وعلم أن نبي آخر الزمن سيبعث في أرض الجزيرة، فجاء وأُخذ وبيع، حتى وصل إلى المدينة.

ومن موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً قال: الآن سأعرف، وكان يعمل في بستان رجل يهودي، فجاء برطب وقال: (يا محمد! هذه صدقة مني عليك، قال: إني لا آكل الصدقة، وقدمها لمن معه) فقال سلمان : هذه واحدة، ثم رجع من الغد وقال: (يا محمد! هذا هدية مني إليك، فأخذها وأكل) فقال: هذه ثانية، ثم لما أراد أن يذهب ناداه تعال: -انظر إلى الثالثة- وكشف له ما بين كتفيه، فنظر إلى خاتم النبوة فقبله، وأعلن إسلامه، وقال: أشهد أنك رسول الله.

فإن الله أعلم رسوله بأن سلمان يعلم من علامات النبوة ثلاثاً: لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، فلما رأى سلمان الأولى والثانية أخبره رسول الله بالثالثة قبل أن يتكلم بها سلمان ، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو أن الإيمان في الثريا لناله رجال من فارس).

ولما كانت غزوة الخندق في السنة الرابعة من الهجرة قسم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى لوائين: لواء للمهاجرين، ولواء للأنصار، فلما جاءوا إلى سلمان اختصموا فيه، المهاجرون يقولون: هو معنا؛ لأنه هاجر إلى المدينة كما هاجرنا، والأنصار يقولون: هو معنا؛ لأنه كان موجوداً بالمدينة قبل أن يأتي رسول الله، فلما اختصموا فيه قطع الخصومة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا آل البيت) فأي شرف هذا؟ ولذا قال سلمان:

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

وماذا يريد بقيس أو تميم أو غيرهم بعد أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا آل البيت) ما الذي ربط سلمان الفارسي بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلى نسب في العرب؟ الإسلام.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3522 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3210 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3184 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3133 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3114 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3066 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3043 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2993 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2889 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2875 استماع