شرح لمعة الاعتقاد [5]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا وإلا لم يكن بينهما فرق.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) حديث صحيح متفق عليه، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير ].

هذا المقطع اشتمل على عدة مسائل من مسائل العقيدة الكبرى:

المسألة الأولى: مسألة الرؤية، والرؤية المقصود بها نوعان من الرؤية:

النوع الأول: ما يسمى بالرؤية العامة وهي رؤية الخلائق لربهم يوم القيامة في المحشر.

النوع الثاني: الرؤية الخاصة، وهي رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم.

أنواع الرؤية في المحشر

الرؤية الأولى العامة تحدث على ثلاث مراحل، وهي في المحشر كلها:

المرحلة الأولى: رؤية الخلائق جميعاً لربهم عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه، وهذه الرؤية تكون للمؤمنين رؤية غبطة ولذة وسرور وتنعم، وتكون للكافرين والمنافقين رؤية حسرة وندم، فلا يتمتعون بهذه الرؤية ولا يسرون بها، بل إن رؤيتهم ليست كرؤية المؤمنين.

المرحلة الثانية: يراه المؤمنون والمنافقون، لكن -كما قلت- تكون هذه الرؤية للمؤمنين رؤية تنعم ورؤية سرور وغبطة، وتكون للمنافقين حسرة وندماً، لأنهم خادعوا الله في الدنيا، فخادعهم في الآخرة.

وفي هذه المرحلة من الرؤية يراه فيها المنافقون دون بقية الكافرين، وفيها زيادة نكاية بالمنافقين؛ لأنهم كانوا يخادعون الله ويخادعون المؤمنين في الدنيا، فأراد الله عز وجل أن يطمعهم ليترقبوا النجاة، وتتعلق بها نفوسهم، ثم تنقطع عنهم بعد ذلك ويحجبون عن الله عز وجل بعدما أملوا، فيكون هذا أبلغ في عقوبتهم وفي حجبهم عن ربهم عز وجل، وهذا جزاء لهم كما كانوا يخادعون الله في الدنيا، ويخادعون المؤمنين نسأل الله السلامة.

المرحلة الثالثة: يراه المؤمنون دون أن يراه الكفار ولا المنافقون.

وهي تؤخذ من عموم أدلة كثيرة استنبطها منها أهل العلم، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو دون لذلك، لكن أكثرها صحيح.

فمن مجموع النصوص استنبط العلماء هذه الأنواع الثلاثة من الرؤية، وهي رؤية جميع الخلائق لربهم في المحشر، ثم رؤية المنافقين والمؤمنين، ثم رؤية المؤمنين لربهم فقط، وكل ذلك في المحشر، هذه كلها تسمى رؤية عامة.

واختلف أهل العلم في نوع هذه الرؤية، هل هي رؤية بصرية أو رؤية قلبية، وما حقيقتها، كل ذلك لا يزال أمر غيب، والله أعلم به، لكنها تختلف عن رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وهي رؤية خاصة.

الرؤية الخاصة بالمؤمنين

أما الرؤيا الخاصة بالمؤمنين فهي أنهم يرون ربهم ويتمتعون بهذه الرؤية ويتنعمون بها، إكراماً من الله عز وجل، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وهو النعيم الذي ذكره الله عز وجل زائداً عن نعيم الجنة، وهي الزيادة المذكورة في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].

وفي قوله عز وجل: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].

وقوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

فرؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم رؤية مقطوع بها، وهي من أركان العقيدة الكبرى وأصولها العظمى الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد وردت في إقرارها وبيانها وإثباتها الآيات التي شرحها النبي صلى الله عليه وسلم وفسرها بذلك، ثم النصوص الأخرى التي هي الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، وهي متواترة كما أجمع على ذلك أهل الحديث، أهل السنة والجماعة، كما أنها صريحة في إثبات الرؤية من وجوه:

أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب فيها عن سؤال صريح عن الرؤية، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث لصحابته عن أمور الجنة ونعيمها قالوا: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟) أو (في الجنة) كما في بعض النصوص. (قال: نعم).

الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك بإثبات الرؤية العينية فقال: (إنكم سترون ربكم عياناً) وهذا في الحديث الصحيح.

ثم أثبتها بطريقة ثالثة لا تقبل الجدل ولا التأويل ولا التمحل ولا الرد، قال: (كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب).

فلا يستطيع عاقل وهو مبصر أن ينكر الشمس أو طلوع الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب.

ثم أثبت ذلك بطريقة رابعة وقال: (لا تضامون) وفي رواية: (لا تضامّون) وكلها بمعنى إثبات الرؤية.

ومعنى (لا تضامون) لا يضيم ولا يجحد بعضكم رؤية بعض، ذلك أن الإنسان لو أنه أنكر عليه الشيء الثابت اعتبر هذا ضيماً بالنسبة له، فلو أن أحدنا خرج في النهار والشمس طالعة، وقال للناس: الشمس طالعة، فقال أحد الناس: لست بصادق؛ لاعتبر هذا ضيماً، وإنكاراً لأمر تشهد به العيون والعقول والأفئدة، ويشهد به الناس جميعاً.

كما أن قوله: (لا تضامّون) أي: لا تتزاحمون، من وضوح الرؤية وجلائها، ومن عظمة الباري عز وجل لا يحتاج الناس إلى أنهم يتزاحمون لرؤيته يوم القيامة، ولا يحتاج المؤمنون إلى أن يتزاحموا لرؤيته في الجنة.

قال: (وهذا تشبيه للرؤية لا للمرئي) ويقصد بذلك أننا حينما شبهنا رؤية الله عز وجل برؤية الشمس في رابعة النهار، والقمر في ليلة البدر، فهذا يعني أنه لا مجال لإنكار رؤيتهما، من حيث الوضوح والتأكيد والجزم.

إذاً: التشبيه هنا تشبيه بالوضوح والجزم، لا تشبيه المرئي وهو الله عز وجل بالمرئي وهو الشمس والقمر، من حيث إن الله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن شبهت الرؤية بالرؤية من حيث وضوحها والجزم بها والقطع بها وعدم إنكارها، وأنه لا يسع أحداً من الناس أن يجادل في ذلك، كما لا يمكن لأحد من الناس أن ينكر طلوع الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب، ولا أن ينكر طلوع القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، فكذلك ليس لأحد أن ينكر رؤية الله عز وجل من قبل المؤمنين بأبصارهم في الجنة يوم القيامة. نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك.

فإن الله تعالى ليس له شبيه ولا نظير.

الرؤية الأولى العامة تحدث على ثلاث مراحل، وهي في المحشر كلها:

المرحلة الأولى: رؤية الخلائق جميعاً لربهم عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه، وهذه الرؤية تكون للمؤمنين رؤية غبطة ولذة وسرور وتنعم، وتكون للكافرين والمنافقين رؤية حسرة وندم، فلا يتمتعون بهذه الرؤية ولا يسرون بها، بل إن رؤيتهم ليست كرؤية المؤمنين.

المرحلة الثانية: يراه المؤمنون والمنافقون، لكن -كما قلت- تكون هذه الرؤية للمؤمنين رؤية تنعم ورؤية سرور وغبطة، وتكون للمنافقين حسرة وندماً، لأنهم خادعوا الله في الدنيا، فخادعهم في الآخرة.

وفي هذه المرحلة من الرؤية يراه فيها المنافقون دون بقية الكافرين، وفيها زيادة نكاية بالمنافقين؛ لأنهم كانوا يخادعون الله ويخادعون المؤمنين في الدنيا، فأراد الله عز وجل أن يطمعهم ليترقبوا النجاة، وتتعلق بها نفوسهم، ثم تنقطع عنهم بعد ذلك ويحجبون عن الله عز وجل بعدما أملوا، فيكون هذا أبلغ في عقوبتهم وفي حجبهم عن ربهم عز وجل، وهذا جزاء لهم كما كانوا يخادعون الله في الدنيا، ويخادعون المؤمنين نسأل الله السلامة.

المرحلة الثالثة: يراه المؤمنون دون أن يراه الكفار ولا المنافقون.

وهي تؤخذ من عموم أدلة كثيرة استنبطها منها أهل العلم، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو دون لذلك، لكن أكثرها صحيح.

فمن مجموع النصوص استنبط العلماء هذه الأنواع الثلاثة من الرؤية، وهي رؤية جميع الخلائق لربهم في المحشر، ثم رؤية المنافقين والمؤمنين، ثم رؤية المؤمنين لربهم فقط، وكل ذلك في المحشر، هذه كلها تسمى رؤية عامة.

واختلف أهل العلم في نوع هذه الرؤية، هل هي رؤية بصرية أو رؤية قلبية، وما حقيقتها، كل ذلك لا يزال أمر غيب، والله أعلم به، لكنها تختلف عن رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وهي رؤية خاصة.

أما الرؤيا الخاصة بالمؤمنين فهي أنهم يرون ربهم ويتمتعون بهذه الرؤية ويتنعمون بها، إكراماً من الله عز وجل، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وهو النعيم الذي ذكره الله عز وجل زائداً عن نعيم الجنة، وهي الزيادة المذكورة في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].

وفي قوله عز وجل: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].

وقوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

فرؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم رؤية مقطوع بها، وهي من أركان العقيدة الكبرى وأصولها العظمى الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد وردت في إقرارها وبيانها وإثباتها الآيات التي شرحها النبي صلى الله عليه وسلم وفسرها بذلك، ثم النصوص الأخرى التي هي الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، وهي متواترة كما أجمع على ذلك أهل الحديث، أهل السنة والجماعة، كما أنها صريحة في إثبات الرؤية من وجوه:

أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب فيها عن سؤال صريح عن الرؤية، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث لصحابته عن أمور الجنة ونعيمها قالوا: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟) أو (في الجنة) كما في بعض النصوص. (قال: نعم).

الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك بإثبات الرؤية العينية فقال: (إنكم سترون ربكم عياناً) وهذا في الحديث الصحيح.

ثم أثبتها بطريقة ثالثة لا تقبل الجدل ولا التأويل ولا التمحل ولا الرد، قال: (كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب).

فلا يستطيع عاقل وهو مبصر أن ينكر الشمس أو طلوع الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب.

ثم أثبت ذلك بطريقة رابعة وقال: (لا تضامون) وفي رواية: (لا تضامّون) وكلها بمعنى إثبات الرؤية.

ومعنى (لا تضامون) لا يضيم ولا يجحد بعضكم رؤية بعض، ذلك أن الإنسان لو أنه أنكر عليه الشيء الثابت اعتبر هذا ضيماً بالنسبة له، فلو أن أحدنا خرج في النهار والشمس طالعة، وقال للناس: الشمس طالعة، فقال أحد الناس: لست بصادق؛ لاعتبر هذا ضيماً، وإنكاراً لأمر تشهد به العيون والعقول والأفئدة، ويشهد به الناس جميعاً.

كما أن قوله: (لا تضامّون) أي: لا تتزاحمون، من وضوح الرؤية وجلائها، ومن عظمة الباري عز وجل لا يحتاج الناس إلى أنهم يتزاحمون لرؤيته يوم القيامة، ولا يحتاج المؤمنون إلى أن يتزاحموا لرؤيته في الجنة.

قال: (وهذا تشبيه للرؤية لا للمرئي) ويقصد بذلك أننا حينما شبهنا رؤية الله عز وجل برؤية الشمس في رابعة النهار، والقمر في ليلة البدر، فهذا يعني أنه لا مجال لإنكار رؤيتهما، من حيث الوضوح والتأكيد والجزم.

إذاً: التشبيه هنا تشبيه بالوضوح والجزم، لا تشبيه المرئي وهو الله عز وجل بالمرئي وهو الشمس والقمر، من حيث إن الله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن شبهت الرؤية بالرؤية من حيث وضوحها والجزم بها والقطع بها وعدم إنكارها، وأنه لا يسع أحداً من الناس أن يجادل في ذلك، كما لا يمكن لأحد من الناس أن ينكر طلوع الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب، ولا أن ينكر طلوع القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، فكذلك ليس لأحد أن ينكر رؤية الله عز وجل من قبل المؤمنين بأبصارهم في الجنة يوم القيامة. نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك.

فإن الله تعالى ليس له شبيه ولا نظير.

المسألة الثانية: مسألة الزيارة:

وهذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، هل تثبت الزيارة أو لا تثبت، واختلافهم مبني على اختلاف في نصوص الأحاديث التي ذكرت في الزيارة إن ثبتت، ثم لو ثبتت عند بعض أهل العلم فعلام تحمل، هل هي بمعنى الرؤية أو أمر زائد عن مجرد الرؤية؟!

الظاهر والله أعلم أن أكثر الروايات التي وردت بالزيارة لا يقطع بصحتها.

ومع ذلك فالأمر لا يزال يحتاج إلى مزيد بحث، فلعلي في درس قادم آتيكم بالنتيجة إن شاء الله.

كثير من أهل العلم أشار إلى الزيارة، لكن هل هي على ما ورد في بعض النصوص الضعيفة، أو على ما ورد في نصوص أخرى صحيحة بمعنى الزيادة، وهل الزيارة بمعنى الرؤية أو هي أمر زائد على الرؤية؟!

كل ذلك يحتاج إلى مزيد بحث، وقد أورد كثير من أهل العلم هذه المسألة كما قلت، لكن أغلب الروايات والأحاديث التي أوردوها فيها ضعف.

قوله: (ويكلمهم ويكلمونه) هذه مسألة ثالثة، وهي مسألة التكليم.

وهذه فيها إثبات أن الله عز وجل يتكلم بمشيئته، وأن كلامه سبحانه يكون متى شاء، تكلم في الدنيا وكلم بعض خلقه، ويتكلم يوم القيامة فيكلم الناس جميعاً، وينادي سبحانه بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، وأنه أيضاً يكلم كل إنسان بمفرده، ويناقشه الحساب.

فتكليم الله عز وجل لعباده أمر ثابت قطعاً، وأنه يتكلم عز وجل متى شاء.

قوله: (ويكلمونه) هذا أمر معلوم، ويقصد بذلك يوم القيامة، فإنه ورد في النصوص القاطعة أن العباد يكلمونه ويكلمهم، وأن هناك نوعين من التكليم: تكليم عام لجميع العباد يكلمونه ويكلمهم، وتكليم خاص وهو تكليم المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، وهو تكليم فيه تنعم وسرور وغبطة.

ثم أورد الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وهي في إثبات الرؤية قطعاً، لأن السلف فسروها بذلك، وأجمعوا على تفسيرها به.

وما ورد عن بعض السلف من تفسير آخر فإنما هو نوع تفسير باللوازم، لا يخرج عن التفسير القاطع أن المقصود بها الرؤية.

وكذلك الآية التي بعدها، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، هي صريحة في إثبات الرؤية من حيث إنها دلت على أن الكافرين يحجبون عن ربهم، نسأل الله العافية والسلامة.

وهذا دليل قاطع على أن هناك فئة لا يحجبون عن ربهم، فإذا كان الكافرون يحجبون عن ربهم، فهناك فئة أخرى وهم المؤمنون لا يحجبون عن ربهم؛ لأن الله عز وجل ذكر هذه الآية على سبيل الوعيد للكافرين، فدل دلالة قاطعة على أن هناك ما يطمع به الخلق ويعتبرونه من النعيم ويرجونه، وهو الرؤية لله عز وجل، فينقطع هذا الرجاء عن الكافرين جزاء لهم على كفرهم، ويبقى بالضرورة لفئة أخرى وهم المؤمنون جزاء لهم على إحسانهم، وتفضلاً من الله عز وجل وإحساناً، لأنه إذا احتجب عن الكافرين فلا بد أن يراه المؤمنون، لذلك قال السلف: لو لم يكن المؤمنون يرونه، لما صار لاحتجابه عن الكافرين معنى، ولا صار لتهديدهم بالاحتجاب أي معنى.

المسألة الرابعة: فيما يتعلق بالنعيم عموماً:

وهو أن الله عز وجل اختص عباده المؤمنين بنعيم زائد عن نعيم الجنة، وزائد عن نوع الأفعال التي يفعلها تجاه الخلق جميعاً، من ذلك الرؤية الخاصة، ومن ذلك الزيارة إن ثبتت، ومن ذلك التكليم الخاص الذي فيه إنعام وإحسان؛ لأن التكليم العام وتكليم مناقشة الحساب لا يكون فيه إنعام، بل في الغالب أن العبد يكون أمام ربه خائفاً وجلاً، لكن التكليم الخاص للمؤمنين فيه مزيد إكرام.

وهذه الأمور كلها مرتبطة بقدرة الله عز وجل ومشيئته وإرادته، بمعنى أنه لا ينبغي لأحد أن يسأل: كيف يرى المؤمنون ربهم، وكيف يكلم الله عباده في القيامة؟ فهذا سؤال لا يجوز أن ينشأ أصلاً، فضلاً عن الجواب عليه، وهذه قاعدة عامة في جميع مسائل العقيدة الغيبية، لا يسأل عنها بكيف، وإذا سأل سائل جاهل أعلمناه بأن هذا السؤال لا يجوز.

وفي حجب الكفار عن ربهم قال أهل العلم: إن الكفار محجوبون عن الله بعد العلم، بل بعضهم استدل بقوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] على الرؤية العامة، فقال: إنه بعد أن أطمعهم في رؤيته احتجب عنهم، فالرؤية الأولى لا يستفيدون منها؛ لأنهم رأوا ربهم في المحشر في هول وفي فزائع وشدائد يوم القيامة، ثم إنهم رأوا ربهم وهم وجلون خائفون، فما كانوا تمتعوا بالرؤية ولا استمتعوا بها، بل كانت رؤيتهم رؤية المنكسر الحسير الذي لا يستفيد من هذه الرؤية، لكنهم طمعوا بعد ذلك برؤية فاحتجب الله عنهم، على نحو ما ورد في ظاهر الآية، فالآية ليس فيها دلالة على نفي الرؤية العامة، بل العكس هو الصحيح، ومع ذلك فإن بعض أهل العلم قال: إنهم محجوبون عن الرؤية البصرية، الذين يقولون أن رؤية الناس في المحشر لربهم يوم القيامة رؤية قلبية، يقولون: النفي هنا للرؤية البصرية، لكن -كما قلت- الظاهر وما ذكره كثير من أهل العلم أن الله عز وجل احتجب عنهم نوعين من الاحتجاب: نوع عن نوع الرؤية التي يراه بها المؤمنون، ونوع آخر وهو الاحتجاب بعد الطمع في الرؤية حينما رأوا ربهم في المحشر كما ورد في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة الطويل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن صفات الله تعالى أنه فعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].

وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2].

وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22].

وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) انفرد مسلم بإخراجه ].

في هذا الفصل بين المؤلف رحمه الله مسائل عديدة من مسائل القدر، بعضها متعلقة بمراتب القدر، وبعضها فروع عنها، وبعضها في مسائل أخرى مهمة، نأخذها على النحو التالي:

المسألة الأولى: ارتباط القدر بصفات الله وأسمائه وأفعاله

المسألة الأولى: ارتباط القدر بصفات الله عز وجل وأسمائه وأفعاله:

فإن أمور القدر مرتبطة بأسماء الله عز وجل وبصفاته وأفعاله، من حيث إن الله عز وجل بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه سبحانه فعال لما يريد، وأنه سبحانه بيده مقاليد السماوات والأرض، وأنه عز وجل الخالق البارئ المصور، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه، وأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وأنه سبحانه بيده الملك .. إلى آخر الأسماء والأفعال والصفات التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالقدر.

لذلك أشار الشيخ رحمه الله إلى ارتباط القدر بالأفعال وبالصفات، فقال: (ومن صفات الله عز وجل أنه الفعال لما يريد).

وهذه القاعدة مفرق طريق بين أهل السنة وبين كثير من أهل الأهواء والبدع من أهل الكلام، خاصة الذين ورثوا قواعد الجهمية والمعتزلة من أهل الكلام المنتسبين للأشاعرة والماتريدية، فإن عامة تأويلاتهم التي خالفوا فيها السلف مبنية على إنكارهم لأفعال الله عز وجل، ذلك أنهم يزعمون أن الله عز وجل لا يحدث منه فعل، وكل صفاته وأسمائه أزلية، غير قابلة للحدوث ولا التجدد، فلذلك أنكروا كل شيء يدل على الأفعال، وسموها بأسماء موهمة وملبسة، كأن يقولوا: حلول الحوادث به، أو حلول الأفعال به، أو نحو ذلك من الأمور التي تلبس على طلاب العلم، فيظنون أن قولهم حق، وما علموا أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه فعال لما يريد، وأن أفعاله مرتبطة بمشيئته، وهذا هو الفرق بين فهم السلف المرتبطة بالنصوص، وفهم الخلف المرتبط بالقواعد الفلسفية، فالسلف يربطون أفعال الله عز وجل بمشيئته، فما شاء الله عز وجل كان وما شاء لم يكن، وأنه فعال لما يريد.

أما أولئك فإنهم لا يربطون الأفعال بالمشيئة، بمعنى أنهم ينكرون أنه يكون لله عز وجل مشيئة تتعدى إلى الأفعال، إنما يجعلون المشيئة مشيئة أزلية لا تجدد فيها ولا حدوث، ويقولون إن الله عز وجل فعله خلقه في أفعاله، وهذا مصدر الضلالة عندهم.

السلف لا ينكرون أن الله عز وجل يخلق في خلقه ما يشاء، فيكون هذا الخلق من فعل الله، لكنهم يقولون إن لله عز وجل إرادة ترتبط بالمشيئة، ومشيئة ترتبط بالأفعال، والعكس كذلك، أفعال الله ترتبط بالمشيئة، والمشيئة ترتبط بالإرادة، والمشيئة ترادف الإرادة كما هو معروف، فعلى هذا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بما في ذلك أفعاله التي تتعلق بذاته سبحانه وبصفاته وأسمائه، كاستوائه على العرش، ونزوله، ومجيئه، وسخطه، ورحمته، وغضبه، ونحو ذلك، كلها مرتبطة بمشيئة الله، وأن الله فعال لما يريد، ليس فقط لأفعال العباد بل لأفعاله سبحانه. هذه المسألة الأولى.

المسألة الثانية: (لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته)

بمعنى أنه لا يحدث في هذا الكون شيء بما في ذلك أفعال العباد أو أفعال المكلفين وأفعال الملائكة والجن والإنس، فالملائكة مسخرون لا يعصون الله، لكن الجن الإنس فيهم العاصون، فالله عز وجل خلق جميع أفعال العباد بما فيها أفعال العصاة وأفعال المطيعين كما سيأتي.

المسألة الثالثة: لا يخرج شيء عن تقدير الله تعالى

المسألة الثالثة: (وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره).

هذا فيه إشارة إلى الرد على الذين زعموا أن العبد مستقل بفعله، أو أن العبد مستقل ببعض أفعاله عند طائفة منهم، فإن الله عز وجل لا يخرج عن تقديره شيء، ولا يصدر شيء إلا عن تدبيره سبحانه، بما في ذلك أفعال العباد جميعها، خيرها وشرها.

المسألة الرابعة: لا محيد عن القدر المقدور

المسألة الرابعة: (ولا محيد عن القدر المقدور) بمعنى أن ما قدره الله عز وجل على العباد لا يمكن أن يحيدوا أو يخرجوا عنه، فلو اجتمع الخلق كلهم إنسهم وجنهم على أن ينفعوا أحداً ما أراد الله له نفعاً لم ينفعوه، ولو اجتمعوا كلهم على أن يضروا أحداً ما أراد الله له ضراً لم يضروه.

كل ما يحدث من خير وشر، ومن نفع وضر، فبتقدير الله السابق سبحانه.

وقوله: (لا محيد عن القدر المقدور) بمعنى أن الإنسان إذا وقع القدر فلا ينبغي له أن يتصور أنه من الممكن أن يتفادى هذا القدر، وفرق بين القدر وبين الآثار المترتبة على القدر، فالقدر نفسه لا ينبغي للإنسان أن يتحسر على حصوله، فإن فاته خير فليقل: قدر الله وما شاء فعل، وإن أصابه ضر فليقل: قدر الله وما شاء فعل. هذا بالنسبة للقدر نفسه، أما آثار القدر التي هي بكسب الإنسان وفعله فإنه محاسب عليها، كالأمور التي تتعلق بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، فإن الإنسان مسئول عنها؛ لأن الله عز وجل علق القدر في الأمر والنهي على أفعال العباد، بمعنى أنه جعل أفعال العباد مناط التكليف ومناط الحساب والجزاء.

المسألة الخامسة: مراتب القدر

المسألة الخامسة: (ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ)، وهذه إشارة إلى المرتبة الثانية من مراتب القدر، وهي الكتابة، بمعنى كما أن الله عز وجل علم كل شيء، وهذه المرتبة الأولى، ما كان وما يكون وما هو كائن كيف يكون، كل ذلك علمه الله عز وجل.

تأتي الدرجة الثانية وهي الكتابة، كل شيء علمه الله عز وجل وقدره وأراده فلا بد أن يكون مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه.

المرحلة الثالثة أشار إليها في وسط الكلام وهي التقدير والمشيئة، فالله علم كل شيء ثم كتبه ثم قدره وشاءه.

والمرحلة الرابعة: الخلق، فإن الله خلق كل شيء، وهذه آخر مراتب القدر.

المسألة السادسة: أنواع الإرادة

المسألة السادسة: قوله: (أراد ما العالم فاعلوه) وهذا يعني أن أفعال العباد بما فيها أفعال العقلاء والمكلفين مرادة لله عز وجل خيرها وشرها، لكنها إرادة عامة، ليست إرادة خاصة؛ لأن الإرادة على نوعين:

إرادة عامة بمعنى الخلق والتدبير والتقدير العام بالعلم والإيجاد وغير ذلك، والله عز وجل لا يخرج شيء عن إرادته، سواء أفعال الجمادات أو أفعال العباد، وأفعال العباد سواء منها ما هو بإرادتهم أو ما لم يكن بإرادتهم.

والنوع الثاني وهو الإرادة الخاصة، هذه الإرادة هي التي فيها تفصيل، وهي التي التبس أمرها على القدرية وعلى كثير من ضعاف الفقه في الدين وضعاف العقيدة، فأحياناً يحملونها على الإرادة العامة، وأحياناً ينكرونها، وأحياناً ينكرون بعض الإرادة العامة.. إلى آخره، بسبب عدم فهمهم لنوع الإرادتين، فالإرادة الأولى العامة يدخل فيها كل شيء من الخير والشر والضر والنفع، فكل شيء بإرادة الله.

والنوع الثاني وهو الإرادة الشرعية الدينية، وهي أن الله عز وجل أراد الخير من عباده، وأحبه منهم، ولم يرد الشر منهم وكرهه منهم.

إذاً: الإرادة الخاصة نوعان: نوع يريده الله ويحبه، ونوع لا يريده الله ولا يحبه، فالله يريد الخير شرعاً ولا يريد الشر، فيحب الخير ويحب فعله ويحب فاعله، ويكره الشر ويكره فعله ويكره فاعله.

إذاً: الله من حيث الإرادة الخاصة يريد الخير ولا يريد الشر، كما قال عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].

المسألة السابعة: التقدير الخاص للعباد

المسألة السابعة: قوله: (ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه).

هذه الجملة متعلقة بالتقدير الخاص للعباد، أي أن الله عز وجل يهدي من يشاء فضلاً منه ونعمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، وأن الله عز وجل جعل هذا الأمر ابتلاءً، وهذا هو محط الابتلاء والتكليف، وهو أن الله عز وجل غني عن خلقه، ولو شاء لعصمهم جميعاً فما عصوه وكانوا كلهم كالملائكة، لكن لله فيما قدره وشرعه حكمة، وله في ذلك غاية هي منتهى الحكمة وحسن التدبير، فتحقيق الابتلاء للعباد أمر مراد لله عز وجل، وهو من كمال حكمته، ومن مقتضيات الابتلاء أن الله عز وجل قدر على بعض العباد الضلال، وقدر لبعض العباد الهداية، ثم إنه لم يكن ذلك على سبيل القسر والجبر كما يقول الجبرية، بل على سبيل الاختيار.

المسألة الثامنة: تقدير الهداية والضلال بناء على الأفعال

المسألة الثامنة: قوله: (خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته).

هذه المسألة لها جانبان: جانب سيأتي الكلام عنه وهو أن الله عز وجل حينما أمر أمر بما يستطاع، وأمر بناء على البيان وإقامة الحجة، وكذلك النهي، وهذا سيأتي تفصيله.

لكن هناك جانب أول لهذه المسألة، وهو أن الله عز وجل حينما قدر هذه المقادير على العباد، خاصة ما يتعلق بالهداية والإضلال، قدر ذلك بناء على ما هم فاعلوه، بمعنى أن الله عز وجل علم بسابق علمه أن فلاناً من الناس سيعمل الخير ويجزى عليه، وعلم سبحانه بسابق علمه أن فلاناً من الناس سيعمل الشر ويجزى عليه.

كما أشار بهذه المسألة إلى المقادير الخاصة لأفراد العباد، وهو أن الله عز وجل قدر لكل إنسان أجله، ورزقه، وأفعاله، وهدايته أو ضلاله، وذلك عند نفخ الروح فيه، وكل ذلك راجع إلى حكمة الله عز وجل؛ لأن الخلق خلق الله، والله يفعل في خلقه ما يشاء.

ثم ذكر هذه الأدلة العامة الدالة على عموم المشيئة وعموم الإرادة، فقوله عز وجل: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، بمعنى أنه لا ينبغي للعبد أن يسأل عن أفعال الله عز وجل، لا على سبيل الاعتراض، ولا على سبيل طلب المغيب، أو على سبيل طلب الكيفيات، قد يسأل بحثاً عن الحكمة أو بحثاً عن الجواب الذي يشكل في ذهنه، أما أن يسأل سؤال المتعنت، أو سؤال المشكك، أو سؤال المعترض على فعل الله عز وجل، أو سؤال الطالب للكيفية، أو المتطلع إلى الغيب، فهذا السؤال بدعة، بل هو ذنب عظيم، فالله عز وجل لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ومن أفعاله سبحانه كونه قدر هذه المقادير على العباد، وأضل من شاء، وهدى من شاء، كل ذلك من أفعال الله، فلا يسأل الله عز وجل لماذا أضل الكثيرين، ولماذا هدى المهتدين؛ لأن هذا أمر خارج عن دائرة التكليف كما سيأتي.

هذا الأمر خارج عن دائرة التكليف، والذي يدخل في دائرة التكليف أمر معلوم عند كل العقلاء، سيفصله المؤلف بعد قليل.

ومن ذلك قوله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، هذا دليل على عموم الخلق وعموم المشيئة، وعموم الإرادة.

وكذلك: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، هذه الآية دالة على عموم الإرادة والخلق والمشيئة، وكذلك قوله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، هذا دليل على عموم الخلق وسبق العلم والتقدير والمشيئة.

وكذلك قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125]، يظن بعض الناس أن هذه الآية دليل على الإرادة الشرعية، وهي دليل على الإرادة الكونية والمشيئة العامة، ولا تدخل في الإرادة الشرعية؛ لأن الله عز وجل من حيث الإرادة الشرعية يريد الخير ويريد اليسر، ولا يريد الشر ولا العسر، يريد الهدى ولا يريد الضلال لكن الآية دليل في الإرادة العامة والمشيئة العامة.

كذلك في الحديث ذكر مسألة أنكرها كثير من القدرية، قال (.. وبالقدر خيره وشره) هذا فيه دليل على أن الله عز وجل خلق كل شيء وقدره، بما في ذلك الخير والشر، لا يخرج الشر عن تقدير الله كما تزعم طوائف من الوثنية القديمة، والقدرية التي قلدتها، وثنية كثير من الديانات الهندية واليونانية والمجوسية والصابئة وغيرها، بل وطوائف من النصارى يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر الشر ولم يعلمه، ولم يكن داخلاً في مشيئته ولا في فعله سبحانه، وهذا خطأ؛ لأنهم خلطوا بين الإرادتين، حينما جاءتهم النصوص بأن الله لا يريد من عبده الكفر أو لا يريد منه المعصية، ظنوا أن معنى ذلك أنه لا يشاؤه ولا يقدره، والصحيح أنه بمعنى لا يرضاه ولا يحبه ولم يشرعه.

إذاً: القدر خيره وشره كله من الله من حيث المشيئة العامة والتقدير العام، أما من حيث فعل الإنسان فإن الشر إنما يفعله الإنسان بإرادته، فلذلك إذا زال عقل الإنسان لم يحاسب على أفعاله التي يفعلها وإن كانت شراً.


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لمعة الاعتقاد [8] 2718 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [4] 2205 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [2] 2196 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [6] 2122 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [7] 1991 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [1] 1622 استماع