شرح لمعة الاعتقاد [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم، وبعد:

فلعل من أهم الأمور التي ينبغي أن يعنى بها المسلمون جميعاً وطلاب العلم على وجه الخصوص في هذا العصر هو العناية بالعلوم الشرعية على أصول صحيحة سليمة، ونحن نرى بحمد الله بوادر التفات المسلمين إلى العلم الشرعي في جميع بقاع الدنيا ولا سيما الشباب، وهذا أمر يبشر بخير، ولا شك أنه إن شاء الله من علامات الخير لهذه الأمة ونهضتها على فقه من دينه.

ومع ذلك قد يعتري هذا التوجه شيء من الخلل والتقصير بسبب الفتور الذي حصل بين المسلمين في العصور الأخيرة في تحصيل العلم الشرعي، وبسبب استحداث وسائل لطلب العلم أكثرها مستمد عن غير المسلمين لا يخدم الفقه الشرعي ولا يؤدي إليه بطريق سليم، فمن هنا اختلطت على الناس الوسائل والمناهج والأساليب.

ولعل من أهم الأمور التي ينبغي أن أنبه لها بمناسبة هذه الدورة أن مما يجهله كثير من طلاب العلم الأسلوب الصحيح لطلب العلم الشرعي على أسس سليمة تؤدي إن شاء الله إلى ثمار طيبة وسليمة.

ومن هذه الأسس: أن العلم الشرعي الأصل فيه أن يُطلب على تدرج وأن يُطلب بالتلقي المباشر عن المشايخ الكبار ثم من دونهم ممن يتقنون ولو علماً من العلوم، ولا يشترط أن يتعلم جميع الشباب على الكبار؛ لأن هذا قد لا يتهيأ للجميع، المهم أن يُطلب العلم على أسس سليمة ومنها التلقي المباشر، ولا يُكتفى بمجرد الوسائل، أي الأخذ عن الكتب أو الأشرطة أو النشرات أو غيرها، فهذا لا يكفي، بل ربما يكون ضرره أكثر من نفعه، فعلى هذا لا بد من إعادة الأصول الصحيحة السليمة لتلقي العلم الشرعي.

ومما كثر الخلل فيه أن كثيراً من طلاب العلم لا يتلقونه على أسلوب صحيح من حيث التدرج، والأصل في العلم الشرعي أن يؤخذ تدرجاً، فتؤخذ الأوليات والأصول من المتون الأساسية حفظاً واستيعاباً وهو الأصل، وإن لم يتوفر الحفظ فعلى الأقل لا بد من الاستيعاب للمتون الأساسية في كل علم، بحسب توجه الشخص وميوله وبحسب قدرته واستعداده، فمن عنده استعداد كبير ومواهب فهذا يأخذ أصول العلوم الشرعية واللغوية كلها، ومن ليس عنده قدرة أو استعداد أو وقت فليأخذ ما يناسبه أو ما يرى أنه يحتاجه أو تحتاجه الأمة في وقته.

فعلى هذا لا بد من أخذ المتون أولاً، ثم بعد ذلك الشروح الوسيطة، ثم بعد ذلك الشروح البسيطة، وقد حرص كثير من طلاب العلم جزاهم الله خيراً في الآونة الأخيرة على أخذ هذا المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، بمعنى أن يبدأ بالمتون حفظاً واستيعاباً، أو استيعاباً، ثم ما بعدها، ومن ذلك: هذه الدورة التي ستبدأ هذا اليوم إن شاء الله، ولا ننسى أن ندعو لمن تسبب في نشأتها وخروجها إلى حيّز التنفيذ، وعلى رأسهم إمام هذا المسجد جزاه الله خيراً، وجزى الله خيراً كل الإخوة والمشايخ الذين استعدوا لإلقاء هذه الدورة والإسهام فيها.

أما عن هذا الدرس فهو في متن لمعة الاعتقاد في التوحيد، واللمعة من الكتب أو المتون الشاملة التي ينبغي أن يُعنى بها طلاب العلم.

وعلم العقيدة توافرت له بحمد الله في هذا العصر مراجع ومتون وشروح كافية لمن أراد أن يطلبها، وهي متوفرة بأيدي طلاب العلم.

والمفترض في طلب العلم للعقيدة أن يبدأ بمثل هذا المتن أو ما يسبقه ككتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والأصول الثلاثة والمسائل الأربع، ونحوها من الكتب الموجزة، ثم مثل هذا المتن الجيد المركز، ومثله متن الطحاوية، ومثله أيضاً منظومة الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله التي شرحها بمعارج القبول ..

والمتون الشاملة أولى من غيرها، وأقصد بالمتون الشاملة المتون التي تشمل أصول عقيدة السلف الصالح من أولها إلى آخرها في الجملة، وذلك أن المتون على نوعين: متون تأخذ شعبة من شعب العلم، ومتون تكون شاملة، ومتون تكون في أكثر العلم أو بعضه أو نصفه أو ثلثه، ومتون تكون في جميع أصول العلم، ومنها هذا المتن لمعة الاعتقاد؛ فإنه في أصل علم العقيدة ويشمل الأصول المهمة جميعها، ومثله كما قلت متن الطحاوية ومنظومة الشيخ حافظ ، فإن هذه المتون الثلاثة من أحسن المتون التي ينبغي أن يبدأ بها طالب العلم في تحصيل العقيدة السلفية الصحيحة.

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.

قال الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قدّس الله تعالى روحه.

الشيخ الإمام موفق الدين أبو محمد من أعلام السنة، ومن مشاهير أئمة السلف، عاش في قرنين: القرن السادس وفي القرن السابع، وهو من الأئمة المجتهدين الذين نفع الله بهم الأمة، وهو مقدسي دمشقي، مقدسي من حيث النشأة والمولد فكان من أهل فلسطين، ولد قرب بيت القدس، ثم الدمشقي لأنه هاجر وهو صغير بسبب ما حدث من فتن وحروب واستيلاء النصارى على بيت المقدس فهاجر مع أسرته إلى دمشق وتلقى العلم فيها وفي بغداد، ثم استقر في دمشق وتعلم وعلّم فيها.

وللشيخ رحمه الله جهود عظيمة في نصر السنة وفي التأليف، وكان مع علمه وفضله وإمامته في الدين كان مجاهداً في سبيل الله في حروب المسلمين ضد الصليبيين، كعادة العلماء الأئمة الأعلام.

والشيخ رحمه الله له مصنفات عظيمة نفع الله بها الأمة إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، ومن أعظمها هذا الكتاب، وله كتب في الفقه ومن أشهرها وأعظمها كتاب المغني وهو مغن كاسمه، فهو موسوعة فقهية كبيرة وليس مجرد شرح، وهو صاحب روضة الناظر الكتاب المشهور في أصول الفقه الحنبلي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد لا تمثله العقول بالتفكير ].

(لا تمثله): بمعنى لا تتوهم له شبيهاً ولا مثيلاً، وهذا يعني أن العقول لا يمكن أن تحيط بكيفية ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأشار بهذا إلى أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، واختياره هذه العبارة دليل على التزامه لنهج السلف، بل هو من أئمة السلف.

قوله: (لا تمثله)، بمعنى أنها لا يمكن أن تحيط به ولا بمثله؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء.

قاعدة الإثبات والنفي في الأسماء والصفات

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير ].

هنا ذكر الشيخ قاعدة ولعلنا نجعلها القاعدة الأولى؛ لأننا بإذن الله سنضبط أكثر القواعد التي أشار إليها الشيخ، بعضها ستأتي على شكل إشارات وبرقيات سريعة؛ لأن الإمام كان يكتب في وقته للناس وكانوا في استيعابهم للعقيدة أكثر من استيعاب المعاصرين، ونحتاج الآن في هذا العصر الذي كثر فيه تشقيق العلم وتفصيله إلى أن نيسر الانتفاع بهذه القواعد، ففي قوله: [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] إشارة إلى القاعدة التي قررها الله عز وجل في كتابه الكريم، وهي قاعدة في أسماء الله وصفاته كلها، وهي قاعدة الإثبات والنفي، وهنا بدأ بالنفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لدفع توهم المشابهة قبل تقرير الإثبات، وهذا نهج تفرد به أهل السنة والجماعة والسلف عن بقية الفرق التي هلكت، بمعنى أنهم يقررون نفي المماثلة والمشابهة لئلا ينصرف الذهن عند سماع صفات الله وأسمائه وأفعاله إلى التشبيه والتمثيل، فإذا استقر في ذهن المسلم أن الله ليس كمثله شيء ثم سمع قوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]اندفع التشبيه واندفع التمثيل وتوهم ذلك.

فإذاً هذه قاعدة، وهي: أن الله عز وجل موصوف بالإثبات، أي إثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي النقائص عن الله عز وجل جملة وتفصيلاً.

فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فيها نفي للنقائص، وفيها نفي للمماثلة والمشابهة.

وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]فيها إثبات، وهذه القاعدة الأساسية التي ينبني عليها توحيد الأسماء والصفات.

لله الأسماء الحسنى والصفات العلى

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ له الأسماء الحسنى والصفات العلى ].

هذه قاعدة ثانية تتفرع عن الأولى، وهو أن الله عز وجل له الأسماء الحسنى مطلقاً، وله الصفات العلى مطلقاً، فيتفرع عن هذه القاعدة أصول سيذكرها الشيخ بعد قليل؛ لأن الأسماء الحسنى قد يدخل البعض فيها أشياء يرى أنها حسنى وهي لا تليق بالله عز وجل، أو ينفي أشياء يرى أنها غير حسنى، وهي من الكمال، إذاً هنا لا بد من ضابط يُضبط به معنى الحسنى ومعنى العلى، وستأتي الإشارة إلى هذه الضوابط إن شاء الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:5-7] أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً ].

قوله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً) نرجعه إلى الأصل، وهو أن الله عز وجل موصوف بالكمال، وأن له الأسماء الحسنى وكذلك الصفات والأفعال، فكل شيء حسن وعلي وعظيم فالله عز وجل موصوف به، فمن هنا قوله: (قهر)، قد يتوهم بعض السامعين والقارئين أن القهر يراد به القهر الذي يكون فيه شيء من الظلم، والله عز وجل منزّه عن ذلك، فقهر الله عز وجل قهر ربوبية، وقهر العلم والعزة والحكم والكمال؛ لأن القهر الذي يتصف به المخلوق قد يكون فيه ظلم واعتداء، والله عز وجل ليس كالمخلوق بل له الكمال الكامل، فإذا جاءتنا مثل هذه العبارات التي يكون فيها عند المخلوق نوع من التفسير الذي لا يليق بالله عز وجل، فإذاً نحملها على معنى الكمال لله عز وجل، وأن قهر الله عز وجل قهر ربوبية، وهو مع ذلك رحيم ودود عليم حكيم.

وصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم

الملقي: [ ووسع كل شيء رحمة وعلماً، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].

موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].

هذه قاعدة ثالثة في الأسماء والصفات: وهو أن الله عز وجل إنما يوصف بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من السنة، وهذا يعني أنه سيأتي شيء منها وأشير إلى بعضها الآن تتميماً للفائدة، وهو أن ما جاء في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات والأسماء والأفعال لله سبحانه فهو الكمال المطلق الذي لا يمكن أن يأتي البشر بأفضل منه، وعلى هذا فإن أسماء الله وصفاته توقيفية، وعلى هذا فإن البشر لا يمكن أن يأتوا أو يتوهموا كمالاً إلا وفي الكتاب والسنة ما هو أعظم منه، فإذا نطق الناس بكمال أو تصوروا كمالاً من الكمالات فإنها لا بد أن تتضمنها أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، خاصة الأسماء الشاملة مثل اسم الجلالة الله، ومثل الحي القيوم، والعلي العظيم، والأحد، والصمد، فإن هذه تشمل كل كمال يمكن أن ينطق به بشر، بأي لغة وبأي زمان وفي أي مكان، وتشمل كل كمال يمكن أن يتصور.

بل يوجد مما حجبه الله على الخلق من أسماء الله وصفاته ما لا يمكن أن تتحمله عقول البشر، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فمعنى هذا أن الله استأثر في علم الغيب عنده من أسمائه وصفاته ما لم يخطر على قلب بشر، ولم يوح الله به إلى أحد من خلقه حتى أكمل الخلق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويتبين هذا فيما جاء في حديث الشفاعة العظمى أنه صلى الله عليه وسلم يسأل ربه بمحامد يلهمه الله إياها كان لا يعرفها في الدنيا.

الإيمان بكل ما صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به ].

هذه قاعدة رابعة، وهي: كل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل في ذاته وأسمائه وأفعاله وجب الإيمان به، بمعنى التسليم والتلقي بالقبول كما شرحه الشيخ، ومعنى التسليم أن يستقر هذا في القلب تصديقاً وإيماناً وتعظيماً لله عز وجل، وعدم مناقشة ولا اعتراض ولا تأويل ولا تعطيل ولا غير ذلك مما يزيد عن اللفظ الوارد في الشرع، فإن هذا معنى التسليم؛ لأن أسماء الله وصفاته غيبية، والغيب لا يتم الإيمان به إلا بالتسليم به، وكل من ناقش بقصد الاعتراض أو التشكيك فإنه لم يسلم، وكل من جادل بعد أن يُنهى ويتبين له النهي عن الجدال فإنه لم يسلم.

إذاً: ما جاء في القرآن وصح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته فلا بد من الوقوف عنده إيماناً وتسليماً وقبولاً، ثم يترتب على ذلك ما سيقوله الشيخ رحمه الله.

التسليم والقبول لما ورد من الأسماء والصفات وعدم التأويل والرد لها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ].

وهذه قاعدة خامسة ترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وقصده بذلك أن ما ورد من أسماء الله وصفاته يمر كما جاء مع الإيمان بأنه حق على حقيقته كما يليق بجلال الله عز وجل، ولا يُتعرض لألفاظ أسماء الله وصفاته وأفعاله، لا بتشكيك ولا باعتراض ولا بسؤال تعنّت ولا بسؤال عن الكيفية، ولا برد للفظ ولا للفظ والمعنى، ولا للمعنى، الرد يشمل اللفظ، ويشمل المعنى، ويشمل المعنى واللفظ جميعاً.. فإن من رد اللفظ وآمن بالمعنى فقد اختل تسليمه كما يفعل المؤولة والأشاعرة الماتريدية، فمثلاً إذا جاء قوله: يَدُ اللَّهِ [الفتح:10] قالوا: المقصود به النعمة، إذاً فقد نفوا كلمة (يد) فهم يردون اللفظ ويثبتون المعنى وهذا خلل، والعكس عند المفوضة إذ يقولون: نؤمن بأن هذا اللفظ قاله الله عز وجل لكن لا نعرف أن له معنى ولا له حقيقة، وهذا تفويض بمعنى التعطيل، وقد قال السلف بأنه كفر، والأول ضلالة وخطأ، أي التسليم بالمعنى دون اللفظ.

إذاً: لا يُتعرض له برد، والرد -كما قلت- يشمل رد اللفظ، ورد اللفظ والمعنى، ورد المعنى.

وكذلك التأويل وهو نوع من الرد، والتأويل بمعنى العدول عن إثبات ألفاظ أسماء الله وصفاته ومعانيها إلى معان أخرى يتوهمها المتكلم أو يتوهمها المؤول، وسيأتي لهذا أمثلة لكن لا مانع من ضرب مثال الآن من أجل الإيضاح.

مثلاً: المؤولة لم يثبتوا أن الله عز وجل استوى على العرش، فإذا جاء قوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] لا يثبتون الاستواء ويقولون: المقصود استولى، ويسمونه تأويلاً ويزعمون أنه لا بد منه، ولهم في ذلك شبهات، وما من صاحب ضلالة أثّرت في الأمة وبقيت في فرقة من الفرق إلا وله شبهة، بل أول معصية وقعت من إبليس لعنه الله كانت بشبهة، لكن الشبهة ليست حقاً، لكن بمعنى أنها تشتبه على خالي الذهن وعلى ضعيف العلم، وتشتبه على ضعيف الإيمان، وتشتبه على من ليس عنده ما يحصنه من عقيدة سليمة، فشبهتهم أنهم زعموا أن إثبات الاستواء يعني إثبات مماثلة المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، يستوي كما يليق بجلاله، المهم أنهم أولوا الاستواء إلى معان كثيرة، فمنهم من قال هو الاستيلاء، ومنهم من قال هو بمعنى الهيمنة، ومنهم من قال الاستواء بمعنى الحفظ والملك .. إلى آخر ذلك من معان لا تكاد تحصى.

فإذاً التأويل هو رد يخالف قاعدة السلف، والتشبيه والتمثيل معروف، وإن كان بينهما شيء من الفرق، فالتمثيل ادعاء أن الله يماثله شيء من مخلوقاته أو يماثل شيئاً من مخلوقاته، وهو أبلغ من التشبيه، وسيأتي الكلام على التمثيل والتشبيه في مقام آخر، على جهة التفصيل.

القاعدة في فهم ما يشكل من الأسماء والصفات

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم ].

هذه قاعدة سادسة، وهي أن ما أشكل مما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله على السامع أو القارئ يرد إلى قائله، وإلا فالأصل في الدين أنه لا يُشكل على الراسخين في العلم كما أشار الشيخ بعد ذلك، لكن قد يُشكل لأن مفاهيم الناس وإدراكاتهم تتفاوت، وفهمهم للغة يتفاوت، واستحواذ الشبهات والوساوس تختلف من شخص لآخر، فقد يُشكل على بعض الناس معنى أو لفظ من أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو ترد عليه خواطر لا يستطيع دفعها، فهذه قاعدة ..

فإذا أشكل أمر من هذه الأمور في أسماء الله وصفاته وأفعاله فلا بد من الرجوع إلى القاعدة الأصلية، وهي أن ما قاله الله عز وجل يُثبت على حقيقته كما يليق بجلال الله، فقوله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] نؤمن بأن هذا اللفظ حق لأن الله تكلم به، وأن معناه أيضاً حق.

والشيخ عبّر بتعبير فيه إيهام وسيأتي إيضاحه إن شاء الله، فقوله: (وترك التعرض لمعناه)، أقول يجب إثبات لفظ الله عز وجل أو فعله أو وصفه الذي يرد في الكتاب والسنة، ثم إثبات أن هذا اللفظ له حقيقة تليق بجلال الله عز وجل، وله معنى أيضاً يليق بجلال الله عز وجل.

اللفظ وحقيقته ومعناه لا بد من الإيمان بهما على ما يليق بجلال الله عز وجل مع استحضار القاعدة الأصلية وهي أن الله عز وجل ليس كمثله شيء سبحانه..

فقوله: (وجب إثباته لفظاً) أي: إقرار أن لفظه مقصود، وأن له معنى وحقيقة، لا كما يقول المؤولة بأن اللفظ غير مراد إنما هو من باب تقريب المعنى إلى الأذهان! فهذا غير صحيح؛ لأن الله عز وجل له الكمال المطلق، ويستطيع أن يعبّر لنا بتعبير لا يكون فيه هذا الإشكال الذي يرد ويوقع الناس في الحرج، ويوقعهم في تأويلات لا تنتهي، ويخرجون عن العقيدة السليمة إلى عقائد لا نهاية لها كما فعل المؤولة.

معنى قول المصنف: (وترك التعرض لمعناه)

قوله: (وترك التعرض لمعناه) قصده هنا ترك التعرض لمعنى الكيفية، يعني التعرض للصورة والشبه والخيالات والتحديد والتشخيص واللون والشكل والبعد والمسافة.. هذه الأشياء يجب أن نبعدها عن الأذهان في حق الله عز وجل، هذا معنى التعرض لمعناه، أي المعنى الغيبي الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، أما المعنى بمعنى الحقيقة فإنه لا بد من إثباتها ..

لأن الله عز وجل لا يكلمنا إلا بحق، والقرآن حق، وكلام الله حق، وهو بلسان عربي مبين، يعني مبيّن، فلو كانت ألفاظاً ليس لها معان لما كان مبيناً ولا مبيّناً ولا يليق ذلك بكلام الله عز وجل.

ثم قال: (ونرد علمه إلى قائله)، وذلك إذا بقي الإشكال في الذهن، كإنسان أشكل عليه لفظ من أسماء الله وصفاته وأفعاله فتأمل ولم يجد جواباً، ولم يعرف ما يقوله أهل العلم، فإنه يبقى على الأصل فيقول: الله أعلم بمراده، وأن الله عز وجل متصف بهذا الوصف ومسمى بهذا الاسم، لكن المعنى أرده إلى قائله، يعني: أسلّم بأني عجزت أن أثبت هذا المعنى، فعلى هذا أسلّم بأنه حق وصحيح، وأنه يليق بجلال الله عز وجل حتى ولو لم أدرك معناه، هذا من جانب ..

من جانب آخر: رد العلم إلى القائل حتى عند الراسخين في العلم الذين يفهمون معاني أسماء الله وصفاته يردون العلم إلى عالمها من جانب الكيفية.. وذلك شامل لكل أصول الدين الغيبية، خاصة ما يتعلق بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، والقدر، وأخبار الغيب.. فالأصل فيها كلها أن ترد إلى عالمها، فإن كنا عرفنا حقائقها فلنؤمن بحقائقها، وإن لم نُدرك الحقائق نؤمن بأنها حق كما يليق، وأن الله ما أخبرنا إلا بشيء واقع ليس خيالاً ولا توهماً ولا مجرد تصورات تقريبية كما يقول الفلاسفة، إنما هي حق على مراد الله عز وجل.

وقوله: (ونجعل عهدته على ناقله)، هذا فيما يتعلق باللفظ المنقول، فإذا كان منقولاً في القرآن فلا يحتاج إلى أن نقول عهدته على ناقله؛ لأنه متواتر، والقرآن كلام الله؛ لكن هذا يتعلق بالسنة، فالسنة قد يرد في أسماء الله وصفاته بعض الأحاديث الحسنة والضعيفة، أو آثار لم نجزم بثبوتها فنترك العهدة على الناقل، أما ما صح من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقال عهدته على ناقله، إنما العهدة على الأمة أن تؤمن به، فمن ثبت عنده شيء من الدين صارت عهدته عليه إن كان من الأمور العملية عمل بما يستطيعه، وإن كان من الأمور الاعتقادية وجب اعتقاده، ولا يسع أحداً أن يتخلص أو يتبرأ أو يتنصل مما ثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير ].

هنا ذكر الشيخ قاعدة ولعلنا نجعلها القاعدة الأولى؛ لأننا بإذن الله سنضبط أكثر القواعد التي أشار إليها الشيخ، بعضها ستأتي على شكل إشارات وبرقيات سريعة؛ لأن الإمام كان يكتب في وقته للناس وكانوا في استيعابهم للعقيدة أكثر من استيعاب المعاصرين، ونحتاج الآن في هذا العصر الذي كثر فيه تشقيق العلم وتفصيله إلى أن نيسر الانتفاع بهذه القواعد، ففي قوله: [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] إشارة إلى القاعدة التي قررها الله عز وجل في كتابه الكريم، وهي قاعدة في أسماء الله وصفاته كلها، وهي قاعدة الإثبات والنفي، وهنا بدأ بالنفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لدفع توهم المشابهة قبل تقرير الإثبات، وهذا نهج تفرد به أهل السنة والجماعة والسلف عن بقية الفرق التي هلكت، بمعنى أنهم يقررون نفي المماثلة والمشابهة لئلا ينصرف الذهن عند سماع صفات الله وأسمائه وأفعاله إلى التشبيه والتمثيل، فإذا استقر في ذهن المسلم أن الله ليس كمثله شيء ثم سمع قوله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]اندفع التشبيه واندفع التمثيل وتوهم ذلك.

فإذاً هذه قاعدة، وهي: أن الله عز وجل موصوف بالإثبات، أي إثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي النقائص عن الله عز وجل جملة وتفصيلاً.

فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فيها نفي للنقائص، وفيها نفي للمماثلة والمشابهة.

وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]فيها إثبات، وهذه القاعدة الأساسية التي ينبني عليها توحيد الأسماء والصفات.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ له الأسماء الحسنى والصفات العلى ].

هذه قاعدة ثانية تتفرع عن الأولى، وهو أن الله عز وجل له الأسماء الحسنى مطلقاً، وله الصفات العلى مطلقاً، فيتفرع عن هذه القاعدة أصول سيذكرها الشيخ بعد قليل؛ لأن الأسماء الحسنى قد يدخل البعض فيها أشياء يرى أنها حسنى وهي لا تليق بالله عز وجل، أو ينفي أشياء يرى أنها غير حسنى، وهي من الكمال، إذاً هنا لا بد من ضابط يُضبط به معنى الحسنى ومعنى العلى، وستأتي الإشارة إلى هذه الضوابط إن شاء الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:5-7] أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً ].

قوله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً) نرجعه إلى الأصل، وهو أن الله عز وجل موصوف بالكمال، وأن له الأسماء الحسنى وكذلك الصفات والأفعال، فكل شيء حسن وعلي وعظيم فالله عز وجل موصوف به، فمن هنا قوله: (قهر)، قد يتوهم بعض السامعين والقارئين أن القهر يراد به القهر الذي يكون فيه شيء من الظلم، والله عز وجل منزّه عن ذلك، فقهر الله عز وجل قهر ربوبية، وقهر العلم والعزة والحكم والكمال؛ لأن القهر الذي يتصف به المخلوق قد يكون فيه ظلم واعتداء، والله عز وجل ليس كالمخلوق بل له الكمال الكامل، فإذا جاءتنا مثل هذه العبارات التي يكون فيها عند المخلوق نوع من التفسير الذي لا يليق بالله عز وجل، فإذاً نحملها على معنى الكمال لله عز وجل، وأن قهر الله عز وجل قهر ربوبية، وهو مع ذلك رحيم ودود عليم حكيم.

الملقي: [ ووسع كل شيء رحمة وعلماً، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].

موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].

هذه قاعدة ثالثة في الأسماء والصفات: وهو أن الله عز وجل إنما يوصف بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من السنة، وهذا يعني أنه سيأتي شيء منها وأشير إلى بعضها الآن تتميماً للفائدة، وهو أن ما جاء في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات والأسماء والأفعال لله سبحانه فهو الكمال المطلق الذي لا يمكن أن يأتي البشر بأفضل منه، وعلى هذا فإن أسماء الله وصفاته توقيفية، وعلى هذا فإن البشر لا يمكن أن يأتوا أو يتوهموا كمالاً إلا وفي الكتاب والسنة ما هو أعظم منه، فإذا نطق الناس بكمال أو تصوروا كمالاً من الكمالات فإنها لا بد أن تتضمنها أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، خاصة الأسماء الشاملة مثل اسم الجلالة الله، ومثل الحي القيوم، والعلي العظيم، والأحد، والصمد، فإن هذه تشمل كل كمال يمكن أن ينطق به بشر، بأي لغة وبأي زمان وفي أي مكان، وتشمل كل كمال يمكن أن يتصور.

بل يوجد مما حجبه الله على الخلق من أسماء الله وصفاته ما لا يمكن أن تتحمله عقول البشر، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فمعنى هذا أن الله استأثر في علم الغيب عنده من أسمائه وصفاته ما لم يخطر على قلب بشر، ولم يوح الله به إلى أحد من خلقه حتى أكمل الخلق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويتبين هذا فيما جاء في حديث الشفاعة العظمى أنه صلى الله عليه وسلم يسأل ربه بمحامد يلهمه الله إياها كان لا يعرفها في الدنيا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به ].

هذه قاعدة رابعة، وهي: كل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل في ذاته وأسمائه وأفعاله وجب الإيمان به، بمعنى التسليم والتلقي بالقبول كما شرحه الشيخ، ومعنى التسليم أن يستقر هذا في القلب تصديقاً وإيماناً وتعظيماً لله عز وجل، وعدم مناقشة ولا اعتراض ولا تأويل ولا تعطيل ولا غير ذلك مما يزيد عن اللفظ الوارد في الشرع، فإن هذا معنى التسليم؛ لأن أسماء الله وصفاته غيبية، والغيب لا يتم الإيمان به إلا بالتسليم به، وكل من ناقش بقصد الاعتراض أو التشكيك فإنه لم يسلم، وكل من جادل بعد أن يُنهى ويتبين له النهي عن الجدال فإنه لم يسلم.

إذاً: ما جاء في القرآن وصح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته فلا بد من الوقوف عنده إيماناً وتسليماً وقبولاً، ثم يترتب على ذلك ما سيقوله الشيخ رحمه الله.




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لمعة الاعتقاد [8] 2713 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [4] 2203 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [2] 2192 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [6] 2120 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [7] 1988 استماع
شرح لمعة الاعتقاد [5] 1875 استماع