شرح لمعة الاعتقاد [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بادئ ذي بدء أنقل لكم سلام الشيخ الأخ الدكتور: عبد الرحمن بن صالح المحمود واعتذاره عن إقامة الدرس في هذا اليوم، مع- إن شاء الله- استئناف الدرس في الأسبوع القادم، وعذره وعكة بسيطة إن شاء الله أن يعافيه ويشفيه.

وهو إن شاء الله بخير لكنه قد يصعب عليه أداء الدرس هذا اليوم، وعلى هذا رغب الإخوان المنظمين للحلقة جزاهم الله خيراً أن يعوض بعض الوقت ونسد الفراغ ولعلنا نتكلم عن بعض الأمور العامة حول هذه الحلقة وسائر الحلقات العلمية استكمالاً لما بدأنا.. أو بدأتم الحديث عنه في الدرس الماضي بالأمس.

ولعل من أهم هذه الأمور ما يتعلق بطلب العلم الشرعي والفقه في الدين وبعض الضوابط والأصول التي تهم طالب العلم في هذا العصر، وما يتفرع عن ذلك من اللوازم العلمية والعملية التي يجب أن يتحلى بها الشباب، ولا مانع أن نترك وقتاً للأسئلة أطول حول هذه الأمور.

أما الكلام عن الدرس الأصلي وهو كتاب العمدة وما حوله وكيفية أدائه وشرحه وحفظه، فهذا أتركه للشيخ حفظه الله معكم في الأسبوع القادم إن شاء الله.

طلب العلم ضروري لكل مسلم

أما ما يتعلق بمسألة طلب العلم الشرعي، فأحب أن أشير إلى ضرورة طلب العلم الشرعي لكل شاب وطريقة السلف في هذا الأمر.

فأولاً: نعرف أن الله عز وجل كلف كل مسلم أن يتعلم أمور دينه وعلى هذا فكل مسلم مطالب بأن يتعلم؛ لكن ما الحد الذي يتعلمه كل شخص؟ هذا مما يخفى على كثير من الناس.

هناك من أمور الدين ما لا ينفع الجهل به لأحد من المسلمين ذكراً أو أنثى، وكل بالغ عاقل يستطيع أن يتعلم، وهي الأمور الأساسية للدين مثل أركان الإيمان وأركان الإسلام وأصول الإسلام القطعية، والحلال القطعي والحرام القطعي والعمليات المتعلقة بظواهر الدين وشعائره التي يستطيع كل مسلم أن يفهمها سواء عمل بها أو لم يعمل، بمعنى: سواء استطاع أن يعمل بها أو لم يعمل، لاسيما وأن كثيراً من أمور العقائد ليست من العمليات، لكن لابد من الإيمان بها.

فعلى هذا فإن طلب حد أدنى من الأصول الشرعية أمر يجب أن يتعلمه كل مسلم، ويجب أن تسعى الأمة إلى تعليم أجيالها هذه الضروريات لكل وسيلة متاحة، وكان الناس على هذا أو كان المسلمون طيلة العصور السابقة على هذا الأصل لا يخلون به إلا في حالات نادرة، خاصة في البوادي والأرياف، فقد يكون هناك شيء من الإخلال غير المقصود عن جهل أو تفريط غير مقصود، حيث تعتري الناس ظروف معينة، وإلا فالمسلمون جميعاً كانوا يحرصون على تعليم أبنائهم الأصول الضرورية.

فلذلك كان على كل مسلم أن يأخذ القدر الضروري من العلم الشرعي، وكان أهل العلم يبدءون تعليم الصغار في الكتاتيب فيعلمونهم أولاً القرآن الكريم والقراءة والكتابة، فكان كل طفل يوجه إلى الكتاتيب ويتعلم هذه الأساسيات ثم بعد ذلك يرتقي إلى دروس العلم الشرعية وما يتفرع عنها من علوم أخرى تنفع المسلمين.

وما كانوا يرتبطون بسن معينة كما حصل الآن في أنظمة التعليم التي تربط التعليم بسن معين وبمراحل معينة تجعل الناس على وتيرة واحدة الذكي منهم والغبي، بل كان المعلمون يعلمون أبناء المسلمين هذه الأساسيات فإذا وجدوا عند بعضهم شيئاً من الاستعداد أقرءوه المتون الأساسية حفظاً وشرحاً، فإذا وجدوا منه استعداداً أكثر نقلوه إلى شرح المتون، فإذا وجدوا عنده استعداداً أكثر نقلوه إلى شروح الشروح وإلى ما نسميه الآن الموسوعات، وكتب السنن والآثار وكتب الفقه المطولة وكتب اللغة المطولة هذا أمر.

إحياء العلم الموسوعي عند طائفة من شباب المسلمين

الأمر الآخر: وهو مما يجهله كثير من طلاب العلم فضلاً عن عامة الشباب وعامة الأمة، وهو ضرورة السعي إلى إحياء العلم الموسوعي عند طائفة من شباب المسلمين، وأقصد بالعلم الموسوعي العلم الشرعي المنوع وما يخدم العلم الشرعي، وما يخدم الأمة من علوم أخرى.

وذلك باصطفاء النابهين من أبنائنا والتعرف على مواهبهم والعناية بهم، بحيث يكونون علماء يتوسعون في العلوم الشرعية المتنوعة، وعلوم اللغة المتنوعة، والعلوم الأخرى المتنوعة التي تخدم الأمة، لاشك أن مناهج التعليم والمدارس تؤدي شيئاً من المطلوب، لكن لا تؤدي المطلوب كله؛ لأنها ربطت بوقت وبأنظمة معينة وجعلت على مستوى العموم من أبناء الأمة، الذكي والمتوسط وما دون المتوسط وما فوق الذكي.

فعلى هذا فإن مناهج التعليم تخرج أناساً عندهم استعداد للعلم ولا تخرج علماء، نعم قد تخرج متخصصين في بعض شعب الحياة، وبعض التخصصات الشرعية في شعب معينة لا تفي بالغرض الذي تحتاجه الأمة، ولو استمر الأمر على هذا الوضع بأن يتكل الناس على هذا الأسلوب فإنهم سيفاجئون يوماً من الأيام بأنهم فقدوا العلماء المتبحرين الموسوعيين الذين يلبون طلب الأمة ويشبعون رغباتها في حاجاتها الشرعية والعلمية.

ذلك أنه بحمد الله لا يزال عندنا بقية من العلماء والمشايخ الذين أخذوا العلم على أصوله الصحيحة؛ لكن لو استمر الأمر على ذلك ولم يستدرك، ستنقرض هذه الفئة ونخرج بفئات المتخصصين الذين ينفعون الأمة في تخصصات لكن ليس عندهم الشمول في النظر فقد نفاجأ بآراء عجيبة ومواقف شاذة واجتهادات بعيدة عن الصواب بسبب حجب كثير من المتعلمين على ضوء التخصصات عن العلوم الأخرى.

فتجد الآن ظواهر هذا قد بدأت، تجد عندنا من هو متخصص في الفقه تخصصاً دقيقاً وقد يشبع رغبة الأمة في هذا الجانب؛ لكنه قد يجهل بدهيات اللغة ويجهل بدهيات العقيدة وقد يجهل بدهيات الحديث والتفسير إلى غير ذلك، فلا يكون سوياً في مواقفه ولا في أحكامه ولا في اجتهاداته، بل ربما تخرج عنه المواقف الغريبة الشاذة.

وكذلك في العقيدة والحديث والتفسير، قد يخرج متخصص في التفسير لكنه ليس له علم بالحديث ولا الإيمان الضروري، وقد يخرج متخصص في الحديث لكنه غير ملم بالعقيدة والجوانب الأخرى وهكذا.

فاستمرار الاتكال على التخصصات قد يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، وكما قلت لا يعني هذا أني أستهين بجوانب التخصصات فهي تخدم الأمة، لكن تحتاج إلى الضوابط والروابط؛ لأن العلماء الموسوعيين الذين يجمعون بين هذه التخصصات يكونون المرجع الشامل العام للأمة ولأصحاب التخصصات على نمط أئمة الهدى ومشايخنا الكبار الذين تعلموا سائر العلوم على حد سواء.

ولذا لابد من اعتماد برامج دقيقة في الدورات وحلق الذكر ومجالس العلم ودروس العلماء في تخريج طائفة من شباب الأمة يتعمقون في الفقه في الدين بسائر تخصصاته بحسب قدراتهم ومواهبهم، وذلك بالبدء على الطريقة التي بدأت تظهر الآن كثيراً في هذه البلاد، وهي تعليم الشباب العلوم الأساسية من خلال المتون، ثم معرفة من يتفوق منهم في هذه المتون وإعطائه أكبر قدر ممكن منها بحيث لا يتخصص في متن واحد أو متنين، بل يأخذ المتون الأساسية في القرآن وعلومه، وكذلك في الحديث وما يخدمه، ثم في العقيدة وما يخدمها، والفقه وما يخدمه، وفي اللغة وما يخدمها وهكذا.

ثم يتوسع حتى فيما يسمى بالعلوم الأدبية والإنسانية بقدر ما تحتاجه الأمة وبقدر ما يقدر عليه هو كما كان عليه أئمتنا، ثم يصطفى من هؤلاء الشباب من عندهم المقدرة والموهبة على المواصلة في الشروح، فيأخذ في كل علم الشرح الذي يناسب لهذا المتن الذي قرأه، ولا مانع أن يقرأ في وقت واحد خمسة شروح لخمسة علوم أساسية أو أكثر من ذلك، أو عشرة شروح لعشرة علوم أساسية.

ثم بعد ذلك يتوسع، فإذا وجد أنه موسوعي، بمعنى أن عنده من الذكاء والاستعداد ما يجعله يستوعب أكثر العلوم عني به حتى يصير مرجعاً للأمة هو ومن يشبهه ممن يسلكون هذا المنهج.

وقد لا يتمكن من التوسع الكامل فليتوسع فيما يستطيعه، فإذا وجد أنه لا يستطيع التوسع إلا في علمين أو ثلاثة فليتوسع في ذلك، لكن نكون قد ضمنا أنه فهم بدهيات العلوم الأخرى، وهذه مسألة ضرورية، حتى لا يأتينا إنسان حاذق في علم يجهل أساسيات علوم شرعية أخرى فتفقد الأمة الثقة فيه أو تثق فيه على غير بصيرة، فيضل ويضل، وهذا مما كان العلماء يحذرون منه.

انتقاء الكتب والعلوم

وأمر آخر يتعلق بانتقاء الكتب وانتقاء العلوم:

كثير من الشباب يسترسل مع ميل نفسه ومع خبراته المحدودة في اختيار الكتب واختيار العلوم، بمعنى أنه لا يستشير ولا يرجع إلى من هو أعلم منه من المشايخ وطلاب العلم في سلوك طريق العلم وما يناسب من العلوم والكتب وقد يسمع بكتاب من الكتب فيعجبه ما ذكر في هذا الكتاب فيقرؤه وهو قد لا يناسبه؛ لأن الثناء على أي كتاب لا يعني بالضرورة صلاحيته لكل شخص حتى وإن كان كتاباً موثوقاً لأنه قد يصلح لشخص ولا يصلح لشخص آخر، كأن يصلح للمتوسط ولا يصلح للمبتدئ وهكذا.

فينبغي لكل سالك لطريق العلم أن يعرف كيف ينتقي العلم المناسب وكيف ينتقي الكتاب المناسب، ثم كيف يتدرج في هذا العلم وفي هذه الكتب.

الضابط لضمان تحصيل العلم على أصوله السليمة

ويتفرع عن هذه المسألة أيضاً مسألة ثالثة، وهي: ما الضابط الشرعي لضمان تحصيل العلم على أصوله السليمة عما يعتري الإنسان أحياناً من التعالي والتعالم والغرور والإعجاب أو سوء الأدب أو الجهل بأدب العلم والعلماء، والأدب مع المشايخ ونحو ذلك، فما الذي يضمن لطالب العلم أن يأخذ بالضوابط الصحيحة السليمة لطلب العلم الشرعي.

أقول كما قال أهل العلم: إنه من الضروري لطالب العلم الذي يريد أن يأخذ العلم على أصوله السليمة أن يتلقاه عن أهله ولا يستقل بنفسه في طلب العلم، ولا يكتفي بأخذ العلم عن أقرانه ومن هم في سنه أو أكبر منه قليلاً فإن هذا يؤدي إلى كوارث لها نماذج في التاريخ قد لا يتسع الوقت لذكرها، أعني كوارث تؤدي إلى الأهواء وإلى النزاعات وإلى الصدام بين الأمة، وإلى الاستهانة بالعلم وأهله، وإلى خرق عصا الجماعة والطاعة بين المسلمين.

فمن هنا كان من الضروري لطالب العلم أن يكون طالب علم ينفع نفسه وينفع أمته وأن يطلب العلم على أهله كما جاء في الأثر وبعضهم رفعه حديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم -وقيل: هذا الدين- من كل خلف عدوله) يعني: من كل عصر العدول فيه، والعدول هم الرجال الثقات العلماء المتبحرون.

ثم إذا تدرج الشخص واستوفى ما عند طلاب العلم الكبار انتقل إلى المشايخ الكبار، إذا لم يمكنه أن يدرس عليهم ابتداء، ومع ذلك فإن هذه المسألة محسومة في عصرنا بكثرة طلاب العلم والمشايخ بقدر يقيم الحجة على الآخرين ولا يعتذر أحد من الناس بأن يقول: لا أجد من أتعلم على يديه، بل كثير من الدروس تشكو النقص والقلة، وكثير من المشايخ لو وجد طلاب العلم لجلس لهم.

أما لماذا هذا؟ أولاً: لأنه سبيل المؤمنين وسبيل أهل العلم وأئمة السنة، والله عز وجل حذر من اتباع غير سبيل المؤمنين.

والأمر الثاني: كما أشير في النصوص إلى أن العلم يؤخذ عن العلماء، والعلماء هم ورثة الأنبياء.

والأمر الثالث: أن العلم ليس مجرد تحصيل وضبط في الذاكرة، إنما العلم أدب وسمت وهدي، وهذا لا يتم إلا بالقدوة الذي يؤخذ عنه العلم، ثم إنه ثبت أن من أعظم أسباب الانحراف في هذه الأمة والوقوع في الأهواء هو طلب العلم في معزل عن العلماء.

إن أخذ العلم عن غير أهله كالأصاغر أو أهل البدع والأهواء أو بأخذ العلم عن مجرد الكتب والوسائل خطأ، فكثير من رءوس الأهواء الذين نعرفهم في التاريخ، والذين أضلوا الأمة وأحدثوا الافتراق كلهم معروفون بجفاء العلماء، وبأخذ العلم عن غير أهله، أو بطريقة غير سليمة، وارجعوا إلى التاريخ تجدوها ابتداء من أصول الشيعة الرافضة والخوارج الذين هم أول فرق نشأت، فنجد أن الأشخاص الذين تبنوا هذا الاتجاه وصاروا رءوساً في هذه الفرق الأوائل ممن كانوا يستهينون بالصحابة وبعلم الصحابة، بل كانوا يقدحون في علماء الصحابة ويزعمون أنهم متدينون وأنهم على صلاح واستقامة.

بل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج منهم بأنكم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم ومع ذلك ضلوا بسبب الإخلال بهذه المسألة، وهي أنهم تركوا فقه الصحابة واستهانوا به واعتدوا بأنفسهم بزعمهم أئمة بأخذهم على الكتاب والسنة دون تلقيه عن رجال فهلكوا، ثم كبار الشيعة كذلك كلهم يرجعون إلى السبئية.

أما القدرية الأوائل مثل معبد الجهني وغيلان الدمشقي فلم يعرف أنهم تلقوا عن العلماء بل كان عندهم شيء من الخروج عن سمت أهل العلم، ثم واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ما ظهروا ببدعتهم إلا عندما اعتزلوا شيخ الأمة في ذلك الوقت وعالمها وهو الحسن البصري ثم الجهم بن صفوان وصفه العلماء بأنه ممن عرف بعدم تلقي العلم عن أهله وبعدم مجالسة العلماء فقد نقل الذهبي وغيره أن من أهم سماته أنه لم يجالس العلماء.

أقول: إن الوسائل التي هيأها الله عز وجل لنا في هذا الوقت وهي الأشرطة والكتب والنشرات والصحف وغيرها من الوسائل الأخرى لتعليم الشرع جيدة ومفيدة، لكن لا تخرج علماء، نعم تعلم الأمة دينها وتفقه الناس وتعلمهم الأساسيات والضروريات، وتساعد طالب العلم على أخذ العلم الشرعي، فهي رافد من الروافد، لكن أن تكون هي الأصل فهذه مزلة وخطورة نخشى على الأمة من عواقبها.

وقد بدأت بوادر طلب العلم على غير أصوله تظهر من خلال بعض النزعات والاتجاهات عند طائفة من شباب الأمة وإن كانت قليلة؛ لكن نخشى أن تزيد هذه الظاهرة بسبب هذا التوجه، وهو التنكب عن سبيل العلماء والاستهانة بهم وترك التلقي عنهم وهكذا يستقل الطالب بنفسه كي يتعالى ويغتر ويخرج كل بمذهب.

والمعروف من خلال التاريخ ومن خلال الواقع أن كل الذين تعلموا على غير العلماء لا يخضع بعضهم لبعض، بل كل واحد منهم يقول: أنا لها، ويخرج كل واحد بمذهب، وإذا التقوا في بعض الأصول فإنهم لا يخضع بعضهم لبعض كما حصل من أتباع الفرق، أتظنون أن الفرق على قلب رجل واحد؟ لا. فالخوارج يجتمعون في أصلين أو ثلاثة أما بقية الأصول فكل واحد له وجهة هو موليها ولا يعترف للآخر، وكثيراً ما يتنازعون ويتقاتلون، وكذلك المعتزلة والجهمية والرافضة إلى آخره.

هؤلاء ليسوا على أصول واحدة تجمع أصولاً عامة، لكن من حيث مسالك الحياة ومذاهبهم في السنن وتطبيق الإسلام يختلفون اختلافاً كبيراً.

فإذاً ينبغي أن نأخذ عبرة ودرساً مما سبق، ثم نأخذ بالأصول الشرعية الصحيحة لطالب العلم، وإنما أطلت حول هذه المسألة؛ لأني أرى ظواهر مزعجة ظهرت بسبب الإخلال بها، وأحببت التنبيه عليها وإن كانت معلومة عند الأكثرين لكن من باب الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين.

أما ما يتعلق بمسألة طلب العلم الشرعي، فأحب أن أشير إلى ضرورة طلب العلم الشرعي لكل شاب وطريقة السلف في هذا الأمر.

فأولاً: نعرف أن الله عز وجل كلف كل مسلم أن يتعلم أمور دينه وعلى هذا فكل مسلم مطالب بأن يتعلم؛ لكن ما الحد الذي يتعلمه كل شخص؟ هذا مما يخفى على كثير من الناس.

هناك من أمور الدين ما لا ينفع الجهل به لأحد من المسلمين ذكراً أو أنثى، وكل بالغ عاقل يستطيع أن يتعلم، وهي الأمور الأساسية للدين مثل أركان الإيمان وأركان الإسلام وأصول الإسلام القطعية، والحلال القطعي والحرام القطعي والعمليات المتعلقة بظواهر الدين وشعائره التي يستطيع كل مسلم أن يفهمها سواء عمل بها أو لم يعمل، بمعنى: سواء استطاع أن يعمل بها أو لم يعمل، لاسيما وأن كثيراً من أمور العقائد ليست من العمليات، لكن لابد من الإيمان بها.

فعلى هذا فإن طلب حد أدنى من الأصول الشرعية أمر يجب أن يتعلمه كل مسلم، ويجب أن تسعى الأمة إلى تعليم أجيالها هذه الضروريات لكل وسيلة متاحة، وكان الناس على هذا أو كان المسلمون طيلة العصور السابقة على هذا الأصل لا يخلون به إلا في حالات نادرة، خاصة في البوادي والأرياف، فقد يكون هناك شيء من الإخلال غير المقصود عن جهل أو تفريط غير مقصود، حيث تعتري الناس ظروف معينة، وإلا فالمسلمون جميعاً كانوا يحرصون على تعليم أبنائهم الأصول الضرورية.

فلذلك كان على كل مسلم أن يأخذ القدر الضروري من العلم الشرعي، وكان أهل العلم يبدءون تعليم الصغار في الكتاتيب فيعلمونهم أولاً القرآن الكريم والقراءة والكتابة، فكان كل طفل يوجه إلى الكتاتيب ويتعلم هذه الأساسيات ثم بعد ذلك يرتقي إلى دروس العلم الشرعية وما يتفرع عنها من علوم أخرى تنفع المسلمين.

وما كانوا يرتبطون بسن معينة كما حصل الآن في أنظمة التعليم التي تربط التعليم بسن معين وبمراحل معينة تجعل الناس على وتيرة واحدة الذكي منهم والغبي، بل كان المعلمون يعلمون أبناء المسلمين هذه الأساسيات فإذا وجدوا عند بعضهم شيئاً من الاستعداد أقرءوه المتون الأساسية حفظاً وشرحاً، فإذا وجدوا منه استعداداً أكثر نقلوه إلى شرح المتون، فإذا وجدوا عنده استعداداً أكثر نقلوه إلى شروح الشروح وإلى ما نسميه الآن الموسوعات، وكتب السنن والآثار وكتب الفقه المطولة وكتب اللغة المطولة هذا أمر.

الأمر الآخر: وهو مما يجهله كثير من طلاب العلم فضلاً عن عامة الشباب وعامة الأمة، وهو ضرورة السعي إلى إحياء العلم الموسوعي عند طائفة من شباب المسلمين، وأقصد بالعلم الموسوعي العلم الشرعي المنوع وما يخدم العلم الشرعي، وما يخدم الأمة من علوم أخرى.

وذلك باصطفاء النابهين من أبنائنا والتعرف على مواهبهم والعناية بهم، بحيث يكونون علماء يتوسعون في العلوم الشرعية المتنوعة، وعلوم اللغة المتنوعة، والعلوم الأخرى المتنوعة التي تخدم الأمة، لاشك أن مناهج التعليم والمدارس تؤدي شيئاً من المطلوب، لكن لا تؤدي المطلوب كله؛ لأنها ربطت بوقت وبأنظمة معينة وجعلت على مستوى العموم من أبناء الأمة، الذكي والمتوسط وما دون المتوسط وما فوق الذكي.

فعلى هذا فإن مناهج التعليم تخرج أناساً عندهم استعداد للعلم ولا تخرج علماء، نعم قد تخرج متخصصين في بعض شعب الحياة، وبعض التخصصات الشرعية في شعب معينة لا تفي بالغرض الذي تحتاجه الأمة، ولو استمر الأمر على هذا الوضع بأن يتكل الناس على هذا الأسلوب فإنهم سيفاجئون يوماً من الأيام بأنهم فقدوا العلماء المتبحرين الموسوعيين الذين يلبون طلب الأمة ويشبعون رغباتها في حاجاتها الشرعية والعلمية.

ذلك أنه بحمد الله لا يزال عندنا بقية من العلماء والمشايخ الذين أخذوا العلم على أصوله الصحيحة؛ لكن لو استمر الأمر على ذلك ولم يستدرك، ستنقرض هذه الفئة ونخرج بفئات المتخصصين الذين ينفعون الأمة في تخصصات لكن ليس عندهم الشمول في النظر فقد نفاجأ بآراء عجيبة ومواقف شاذة واجتهادات بعيدة عن الصواب بسبب حجب كثير من المتعلمين على ضوء التخصصات عن العلوم الأخرى.

فتجد الآن ظواهر هذا قد بدأت، تجد عندنا من هو متخصص في الفقه تخصصاً دقيقاً وقد يشبع رغبة الأمة في هذا الجانب؛ لكنه قد يجهل بدهيات اللغة ويجهل بدهيات العقيدة وقد يجهل بدهيات الحديث والتفسير إلى غير ذلك، فلا يكون سوياً في مواقفه ولا في أحكامه ولا في اجتهاداته، بل ربما تخرج عنه المواقف الغريبة الشاذة.

وكذلك في العقيدة والحديث والتفسير، قد يخرج متخصص في التفسير لكنه ليس له علم بالحديث ولا الإيمان الضروري، وقد يخرج متخصص في الحديث لكنه غير ملم بالعقيدة والجوانب الأخرى وهكذا.

فاستمرار الاتكال على التخصصات قد يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، وكما قلت لا يعني هذا أني أستهين بجوانب التخصصات فهي تخدم الأمة، لكن تحتاج إلى الضوابط والروابط؛ لأن العلماء الموسوعيين الذين يجمعون بين هذه التخصصات يكونون المرجع الشامل العام للأمة ولأصحاب التخصصات على نمط أئمة الهدى ومشايخنا الكبار الذين تعلموا سائر العلوم على حد سواء.

ولذا لابد من اعتماد برامج دقيقة في الدورات وحلق الذكر ومجالس العلم ودروس العلماء في تخريج طائفة من شباب الأمة يتعمقون في الفقه في الدين بسائر تخصصاته بحسب قدراتهم ومواهبهم، وذلك بالبدء على الطريقة التي بدأت تظهر الآن كثيراً في هذه البلاد، وهي تعليم الشباب العلوم الأساسية من خلال المتون، ثم معرفة من يتفوق منهم في هذه المتون وإعطائه أكبر قدر ممكن منها بحيث لا يتخصص في متن واحد أو متنين، بل يأخذ المتون الأساسية في القرآن وعلومه، وكذلك في الحديث وما يخدمه، ثم في العقيدة وما يخدمها، والفقه وما يخدمه، وفي اللغة وما يخدمها وهكذا.

ثم يتوسع حتى فيما يسمى بالعلوم الأدبية والإنسانية بقدر ما تحتاجه الأمة وبقدر ما يقدر عليه هو كما كان عليه أئمتنا، ثم يصطفى من هؤلاء الشباب من عندهم المقدرة والموهبة على المواصلة في الشروح، فيأخذ في كل علم الشرح الذي يناسب لهذا المتن الذي قرأه، ولا مانع أن يقرأ في وقت واحد خمسة شروح لخمسة علوم أساسية أو أكثر من ذلك، أو عشرة شروح لعشرة علوم أساسية.

ثم بعد ذلك يتوسع، فإذا وجد أنه موسوعي، بمعنى أن عنده من الذكاء والاستعداد ما يجعله يستوعب أكثر العلوم عني به حتى يصير مرجعاً للأمة هو ومن يشبهه ممن يسلكون هذا المنهج.

وقد لا يتمكن من التوسع الكامل فليتوسع فيما يستطيعه، فإذا وجد أنه لا يستطيع التوسع إلا في علمين أو ثلاثة فليتوسع في ذلك، لكن نكون قد ضمنا أنه فهم بدهيات العلوم الأخرى، وهذه مسألة ضرورية، حتى لا يأتينا إنسان حاذق في علم يجهل أساسيات علوم شرعية أخرى فتفقد الأمة الثقة فيه أو تثق فيه على غير بصيرة، فيضل ويضل، وهذا مما كان العلماء يحذرون منه.