تفسير سورة الأنبياء [105-112]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

يقول جل جلاله: قد كتبنا في الزبور، وما الزبور هنا؟

فسر الزبور بزبور داود، وبما يلحقه من التوراة والإنجيل، وفسر الذكر بالقرآن الكريم، ولكن الله قال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] ومعناه: أن ذاك كان مكتوباً بعد الذكر، والقرآن كان بعد الزبور لا قبل الزبور، وهو يطلق على كل الكتب، والتقدير: وكتبنا في الكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم، من قبل الذكر، والذكر: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون إلى قيام الساعة.

أي: الله جل جلاله منذ خلق الكون وكتب اللوح المحفوظ جعل الأرض للعباد الصالحين، جعل الأرض للموحدين المؤمنين، ومن هنا قوله تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [الحشر:7]، أفاء: من الفيء، والفيء الرجوع.

وكأن الله يقول لنا: هذه الدنيا التي خلقت للموحدين ستعود لكم، فأنتم اليوم الموحدون في الأرض، ومن هنا كان نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم يعدون الأرض كلها وطناً شاملاً عامة للمسلمين، ما ملكناه فهو ملكنا عملياً، وما لم نملكه بعد ولم نفتحه فهو مجالنا الحيوي الذي يجب أن يعود لأرض الإسلام.

ومن هنا قسم فقهاؤنا الأرض إلى ثلاثة أقسام: أرض إسلام، وأرض عهد، وأرض حرب، فأرض الإسلام التي يقوم عليها الإسلام حاكماً، وأرض العهد ما عاهدنا عليه أقواماً مؤقتاً لمصالح اضطر إليها المسلمون، وأرض حرب ليس أهلها أهل ذمة ولا معاهدين لنا، وأرض الحرب ملك للمسلم متى وصلت يده إليها فهي له غنيمة.

ولذلك هذه الوطنية الضيقة والإقليمية المعوجة مثل قولهم: هذا بلدي.. وهذا بلدك.. وهذا وطني.. وهذا وطنك.. هذه وثنية ما أنزل الله بها من سلطان، والنبي عليه الصلاة والسلام عندما سمع من ينادي: هذا فلان .. هذا فلان! مثل ما نقول الآن: يا عربي! يا هندي! يا عراقي! يا حجازي! قال: (دعوها فإنها منتنة) لها روائح كريهة؛ ولذلك كان ما ينادي عليه الصلاة والسلام إلا: يا أيها المؤمنون! يا أيها المسلمون!.

وهكذا خاطبنا الله فلم نجد في القرآن: يا أيها العرب! ولا نجد: يا أيها العجم! ولكن نجد: يا أيها الناس! خطاب لكل مسلم وكافر؛ لكي يستقر المؤمن على إيمانه ويلازمه، ولكي يدخل الذين لم يؤمنوا من الناس في الإيمان.

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

قال علماؤنا: هذه الآية إشارة للمؤمنين وأمر لهم بأن ينتشروا في الأرض فاتحين، هداة داعين إلى الله وحده. وقد فعلوا، فخلال خمسين سنة كانت جيوش المسلمين قد توجهت شرقاً إلى السند، وغرباً إلى عمق أوربا، وهكذا كانت دولة الإسلام مدة ألف عام، ولكن عندما فرطوا وتنكروا لنبيهم وكتابهم وشريعتهم عوقبوا بأنواع من الاستعمار والاحتلال، ومن ضياع العقول، ومن الذل والهوان.. إلى أن بلغ الأمر أن يخضع المسلمون لليهود، ويسعوا في مصالحتهم ومتابعتهم، وما ذلك إلا عقوبة إلهية للمسلم عندما ترك ربه، وترك إمامه عليه الصلاة والسلام، وسعى وراء الشيوعية اليهودية، والاشتراكية اليهودية، والماسونية اليهودية، وكل مذاهب السوء الضالة، ولا يرفع غضبه ولا عقوبته ما لم نعد إلى الله تائبين منيبين؛ ليعود علينا بعوائده الطيبة، وهو فاعل جل جلاله كما وعدنا في كتابه بقوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء:105]، أي: في الكتب السابقة.

قوله: مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105]، أي: من بعد اللوح المحفوظ الذي ذكر فيه كل شيء.

قوله: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] أي: أن الأرض بكل أقاليمها وأصقاعها وقاراتها هي للعباد الصالحين، وما العباد الصالحون إلا المؤمنون المسلمون، ولا إيمان لمشرك، ولن نقول على الكتابيين إنهم مؤمنون، فالذي يشرك مع الله عيسى أو مريم أو العزير أو العجل ليس بمؤمن، فلقد قال الله عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] وقال عن اليهود والنصارى مجتمعين: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] وقال عن الكل: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة:30]، كفروا كفر السابقين، وحتى في كفرهم كانوا مقلدين.

قال تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106].

أي: إن في هذا القرآن الموحى به لمحمد خاتم الأنبياء وسيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه لبلغة تكفي من يؤمن به، فمن آمن بالقرآن كفاه، ومن عمل بما في القرآن بلغه المقصود من عز الدنيا وعز الآخرة، ومن سيادة الدنيا ورحمة الله في الدنيا والآخرة.

قوله: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106]، أي: خاشعين لله لا يعبدون معه غيره، يؤمنون به كما أراد وأوحى به إلى نبينا مما أمرنا به من صلوات وحج وصيام، ومن الأركان، ومما علمناه القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام.

ثم قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

أي: يا محمد! ما كانت رسالتك إلا رحمة لكل الناس برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها.

وقد استشكل قوم فقالوا: نبينا رحمة للمؤمن، فكيف هو رحمة للكافر وهو الذي أنذر وهدده بالنار خالداً مخالداً إذا دام على كفره ومات عليه؟

والجواب بين واضح: النبي رحمة للكافر قبل أن يكون رحمة للمؤمن؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى به ودعاه، وبلغه رسالته، وأنذره عذاب الله وبشره برحمته، أتعب نفسه التعب الكبير ليؤمن، حمله كفار قريش ما لم تحمله الجبال الرواسي من عناد، وشتيمة، وهجران، وإسالة دماء، وكسر أسنان، ومؤامرات، وتألب عليه بكل الأشكال، وهو مع كل ذلك يدعوهم، وعندما يقال له: ادع على أعدائك، يقول: لم أرسل سباباً، ولا لعاناً، ولكني أرسلت رحمة للعالمين.

ومن هنا يقول الله له: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128]، أي: كان صعباً على نفسه وعزيزاً عليها أن يتعنت قومه فلا يؤمنون، فكان رحمة لهم حيث دعاهم إلى الله، ورحمة لهم بما أرجأهم من عذاب مدة حياتهم؛ لعلهم يوماً يعودون إلى الله ويقولون: ربي الله، ويتوبون.

فهو رحمة لهم بإرساله لكل الناس الكافرين والمؤمنين، عندما أرسل كان أول من آمن به خديجة ، ثم أبو بكر ، ثم علي رضي الله عن الثلاثة، وصلوات الله على نبينا وسلامه.

من كرامة الله لرسوله أنه أوقف ما كان يعاقب به الأمم السابقة من خسف وقذف بالحجارة والصواعق، ومن مسخ إلى قردة وخنازير، فالأمة المحمدية لا تخسف بها الأرض، ولا تقذف بالحجارة من السماء، ولا تمسخ قردة ولا خنازير، وتبقى على حياتها وقد ترزق وقد رزقت، وقد تستغني وقد استغنت، وأرجئت في العذاب والمحنة إلى ساعة الغرغره، فإذا أناب وتاب ولو قبل الموت وقبل وصول الروح إلى الغرغرة فإن الله يقبل توبته.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة) وكفى في ذلك قول الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، أي: لجميع العوالم منذ إرساله للعرب والعجم، للمشارق والمغارب، للبر والفاجر، للمؤمن والكافر، وما جزاء من يكون هكذا إلا أن يحب، وأن تدام الصلاة عليه، وأن يتبع ويجعل مثالاً وأسوة وقدوة صلوات الله وسلامه عليه ما دام الليل والنهار، وجزاه الله عنا أحسن الجزاء، وحشرنا تحت لوائه يوم القيامة.

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:108].

يقول نبينا للناس: ما أوحي إلي من الله، وما أمرت عن الله إلا بدعوتكم للتوحيد، ولدعوتكم بأن الله واحد، وأنه الرازق الخالق المعبود لا شريك له، ولا يحتاج إلى معين ولا مساعد ولا مؤازر، ولا يحتاج إلى ولد، ولا إلى صاحبة، فهو جل وعلا غني عن كل ذلك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [فاطر:15]، أي: الغنى المطلق، ونحن فقراء فقراً مطلقاً.

قوله: قُلْ إِنَّمَا [الأنبياء:108]، أي: قل: يا محمد إنما : أداة حصر، أي: حصرت رسالتي في الدعوة إلى التوحيد، وما سواه فهو تبع له، فإذا فسدت العقيدة ضاعت العبادة، وأصبح ذلك هباءً منثوراً.

و(يوحى) فيه معنى الاستمرار، فهو فعل مضارع دال على الحال والاستقبال، أي: مدة حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يوحى إليه بمختلف السور والآيات، والسنة القولية والفعلية والإقرارية قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الزلل والخطأ، وكل عمله إما وحي بالنص -باللفظ- ككتاب الله القرآن الكريم، أو وحي بالمعنى ويتصرف رسول الله عليه الصلاة والسلام في إبلاغه.

قال تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:108]، أي: فهل ستسلمون؟ وهذا استفهام تقريري، يقرر ألا مندوحة ولا منجى عن الإسلام، الإسلام أو الطوفان، الإسلام أو جهنم، ولا وسط، وسيبقى المسلمون ضائعين ضالين تائهين يتلاعب بهم الكفار كتلاعب الصبية بالكرة ما لم يعودوا إلى كتاب الله وإلى هدي نبيه عليه الصلاة والسلام، لا يفيدنا مال ولا قوة ولا وحدة ما لم تكن الوحدة أولاً بالله، وبالدعوة إلى الله الواحد، وطاعته في كتابه، وطاعة نبيه في سنته.

قوله: فهل أنتم مسلمون ، أي: فهل أنتم مستسلمون مطيعون لهذه الدعوة ولتوحيد الله، ولقبول الرسالة، ولقبول القرآن الكريم، ولقبول السنة المطهرة.

قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء:109].

قوله: (وإن تولوا) أي: إن تولى الناس وأعرضوا عن رسالتك سواء آمنوا ثم ارتدوا أو لم يقبلوها من أول مرة.

فقل آذنتكم على سواء أي: أعلن الحرب عليهم، وقل لهم: أخبركم وأعلمكم على سواء بيني وبينكم، علمي علمكم، حتى لا تكون غادراً ولا مفاجئاً، وأعلمهم بأنهم أعداؤك، وأنك بريء منهم وهم براء منك، وأنذرهم بالحرب والعداوة.

فإن تولوا ، أي: فإن أعرضوا ورفضوا هذه الرسالة وهذا التوحيد وهذه الهداية: فقل آذنتكم على سواء ، أي: أعلمتكم بالحرب على مستوى واحد بيني وبينكم، فأعدوا ما استطعتم.

قوله: وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ، أي: لست أدري فـ(إن) نافية، أي: ما أوعدكم الله به من نار وعذاب وغضب، لست أدري هذا سيكون غداً أو بعد غد؟ هل سيكون في الدنيا بالذل والهوان والتحكم والأسر والإذلال، أو سيكون في الآخرة بالنار وعذاب الله المقيم السرمدي، هذا إنذار من الله، وهو إشارة إلى قيام الساعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يعلمها.

قال تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء:110].

أي: يا هؤلاء الذين تمردوا على ربهم، إن الله يعلم ما تجهرون به من القول، وتصدون به الناس عن الإيمان، وتجهرون به لنبيكم من كفر وعصيان، ومخالفة ومواجهة ومجابهة.

قوله: ويعلم ما تكتمون ، أي: يعلم ما تكتمونه في أنفسكم من تآمر ورغبة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أصحابه، وطردهم من مكة وعقوبتهم.

وسبب هذه الآية كفار عصره، ثم أصبحت للعموم، يخاطب بها كل كافر كما يخاطب بها كل مؤمن، فمن كفر قبل أو بعد وفي عصرنا أو بعده كل ما ورد في القرآن عن الكفار فهو مخاطب به، ومن سيأتي بعدنا.

قال تعالى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء:111]، أي: ولست أدري ما أعطاكم الله في الدنيا من صحة وشباب، وملك وسلطان، وأعمار وأولاد ونساء، هل هذا من الله مكرمة لكم أنتم على كفركم؟ وما أظن ذلك!

قوله: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ [الأنبياء:111] أي: ابتلاء وزيادة في قيام الحجة، والحجة لله البالغة، ليقال ساعة الحساب ابتداءً من القبر وسؤال الملكين: فيم صرفت شبابك؟ وفيم صرفت صحتك؟ وفيم صرفت مالك؟ هل أحسنت؟ هل أطعت؟ هل زكيت؟ هل أعطيت من شبابك؟ هل أعطيت من حياتك؟ وقد أرجئت في الموت إلى دار طويل، هل تذكرت يوماً فقلت: ربي الله، رب اغفر لي؟! وسيكون جواب الكفار لله سلباً؛ ليشتد العذاب ويزداد، وتبقى الحجة لله البالغة.

قوله: وإن أدري لعله فتنة لكم ، و(لعل) في القرآن ليست للرجاء، ولكنها للتحقيق.

قوله: ومتاع . أي: متعة في دنياهم من أزواج وأولاد وأرزاق ونعيم، متعوا بذلك ليسألوا عنه، فإذا كان المسلم يسأل عن النعيم فيم صرفه؟ ولم بذر؟ ولم أسرف؟ فكيف بالكافر الذي لا يصرف إلا في باطل وسوء؟

قوله: وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء:111] أي: إلى وقت وزمن معين ومسمى عند الله، فلا يعلم ساعة الموت أحد: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] كما لا ندري متى نموت؟!

قال تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112].

الذي قال هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وحكى عنه الله ذلك، كما قال الأنبياء قبله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89]، وقرئ في القراءت السبع: قل ... وهل يحكم الله إلا بالحق، ولكنها بيان حقيقة وواقع، والله هو الذي أمر بذلك.

قوله: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112] وقرئ: قل رب احكم بالحق ، والحق هنا ليس مقابل الباطل، وإنما المعنى: قل رب احكم بعذابك الحق على هؤلاء الذين طالما تمردوا، وعصوا، وطالما كفروا وتألبوا على المسلمين وعلى أنبيائهم، وعلى العابدين المؤمنين.

قوله: وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112]، ومع ذلك يبقى الله الرحيم حتى في وقت إيعاده وإنذاره، وذكر الرحمن هنا ولم يذكر الجبار ولا المنتقم.

قوله: وربنا الرحمن ، أي: إشارة إلى تطميع الكافر نفسه برحمة الله؛ ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الكافر ما عند الله من رحمته لطمع في جنته، ولم ييئس منها) ، وهكذا! فالكافر مهما كان إذا علم الله في قلبه خيراً هداه للإيمان والإسلام يجب ما قبله، وقال: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112]، أي: ربنا الرحيم بعباده، والرحمان لهم، والغافر لذنوبهم، والمنذر لهم، والموعد لهم، والمكرم لهم بأنبيائه ورسله، علهم يوماً ويعودون إليه فيقولون: ربي الله.

الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112].

أي: الذي يستعان به، ويستعين رسول الله بقدرته، وقد وصف الكفار الله تعالى بأن له صاحبة، وأن له شريكاً، وقال الكفار عموماً: له شريك وصاحبة وولد يحتاج إلى من يعينه، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً! كما قالوا عن نبي الله: كاذب، وقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، حاشاه من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.

وبهذا نختم اليوم ولله الحمد سورة الأنبياء، ونستقبل غداً بمشيئة الله سورة الحج.