شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الشهادات


الحلقة مفرغة

يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الشهادات].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قوله: (كتاب الشهادات) الشهادات: جمع شهادة، تطلق الشهادة بمعنى الحضور، تقول: شهدت كذا إذا كنت حاضراً، ومنه سمي الشهيد شهيداً؛ لأن الملائكة تحضره، قال صلى الله عليه وسلم لـجابر حينما كان يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقد استشهد يوم أحد، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع) ، ومنه قوله تعالى: وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44] أي: من الحاضرين، وتطلق الشهادة بمعنى العلم، تقول: أشهد بكذا بمعنى: أعلم، كقولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله، ومنه الشهادة في القضاء، فهي منتزعة من المعنى الثاني.

وأما في الاصطلاح: فهي الإخبار عن حق للغير، بلفظ مخصوص، وإخبار مخصوص، عن شيء مخصوص.

والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، وقال سبحانه: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، وقال سبحانه: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282]، وقال تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فهذا نص الكتاب.

وأما نص السنة: فقد جاء في قصة الحضرمي كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـوائل بن حجر : (شاهداك أو يمينه) وهذا يدل على أن الشهادة حجة في القضاء، وحجة في النزاع والخصومات.

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على اعتبارها حجة من حجج الإثبات في القضاء الإسلامي.

وأما في العقل: فالعقل يدل على مشروعية الشهادة؛ لأن الناس يحتاجون إلى من يوثّق معاملاتهم، خاصة في حال الخصومات والنزاعات، والشهادة طريق إلى ذلك.

حكم تحمل الشهادات في غير حق الله تعالى

قال رحمه الله: [تحمل الشهادات في غير حق الله فرض كفاية].

أي: أن الشهادة فيها التحمل وفيها الأداء. والتحمل: هو أن يكون الإنسان يعلم بما يشهد به، فينظر فيما يطلب منه أن يشهده، فيحضر ويسمع ويرى، وتكون شهادته عن علم برؤية أو سماع، أما الأداء: فهو أن يؤدي ذلك في مجلس القضاء. فالعلماء يقولون: تحمل وأداء، المرحلة الأولى التحمل، والمرحلة الثانية الأداء، والتحمل مقصود من أجل الأداء، فتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا أصل في الأمور التي يحتاج إليها، أنه إذا قام بها البعض وسدوا الكفاية سقطت عن الباقين.

وعلى هذا: لو أن شخصاً دعي إلى الشهادة، أو قال لك رجل -وأنت في إدارة أو في أي موضع-: اشهد، فحينئذٍ ننظر إذا كانت القضية يمكن أن يشهد عليها غيرك، وهذا الغير تتوفر فيه شروط الشهادة وتقبل شهادته لو شهد، فإنه حينئذٍ لا يجب عليك تحمل الشهادة، وبإمكانك أن تقول له -إذا كان عندك ظرف أو عمل أو غيره-: اعذرني يا أخي، أو كنت لا تحب أن تذهب وتتحمل بعض المصاعب والمتاعب، فلك أن تقول له: اعذرني، ولك الحق أن تتركها؛ لأنها لم تتعين عليك.

قال رحمه الله: [وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه].

أي: إذا لم يوجد غيرك وشاهد آخر، والحق لا يثبت إلا بكما، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تتخلى عن الشهادة، ويحرم عليك ذلك، قال تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، فإذا كانت هناك قضية وقيل لك: اشهد، ولا يوجد غيرك، أو يوجد شخص غيرك لكن لا تقبل شهادته وأنت تقبل شهادتك؛ كما لو كان هناك رجل عنده أولاده، وإذا شهد أولاده لا تثبت شهادة الولد لوالده، فحينئذٍ إذا قيل لك: اشهد، فاشهد، كما لو حدثت مشكلة أو خصومة، ولا يوجد إلا أنت وشخص آخر معك، فحينئذٍ يجب عليك ويتعين عليك أن تسمع وأن تعلم؛ لأن هذا يؤدي إلى وصول الحق إلى صاحبه، ويؤدي إلى منع الظالم من الظلم، وإنصاف الناس في حقوقهم، ويؤدي إلى معونة القضاء على ذلك؛ لأن القضاء بلاء، ولا يمكن دفع هذا البلاء بشيء مثل الشهادة، كما قال بعض أئمة السلف، وهذا مروي عن شريح : القضاء بلاء، فادفعه عنك بعودين. يعني: بشاهدين، فهذان العودان: هما الشاهدان، فإذا جاءا وشهدا انتهى الأمر، فقالا: سمعناه يقول كذا، رأيناه يفعل كذا، فحينئذٍ يعرف المحق من المبطل.

أما إذا كان الأمر فيه سعة، ويوجد من يمكن أن يشهد ويتحمل فلك الخيار، والأفضل أن تشهد؛ إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، ومعونة لأخيك، وتثاب على ذلك، وأنت مأجور عليه، لكن إذا خشيت بعض التعقيد أو الضرر أو نحو ذلك، فلك الحق أن تمتنع.

حكم أداء الشهادة على من تحملها

قال رحمه الله: [وأداؤها فرض عين على من تحملها متى دعي إليها وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل]

أداء هذه الشهادة فرض عين على من تحملها، مثال ذلك: لو وقع حادث أو وقعت خصومة وشهد اثنان كانا حاضرين أثناء الحادث، ورفعت القضية إلى القضاء، فجاء صاحب القضية وقال للاثنين: أريدكما أن تشهدا معي، فحينئذٍ يجب عليهما أن يحضرا إلى مجلس القضاء، وأن يشهدا بما علما، وذلك فرض عين عليهما، وإذا تعطلا أو امتنعا فإنهما آثمان شرعاً، ويتحملان المسئولية أمام الله عز وجل، وقد قال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].

وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشاهد إذا دعي، خاصة إذا لم يوجد غيره، وتوقف إحقاق الحق على وجوده، فإنه إذا امتنع يتحمل الإثم -والعياذ بالله- والوزر، وهذا بإجماع العلماء، ويحكم بفسقه؛ وهذا فيه وعيد شديد، وأيضاً فيه تعطيل للحقوق، وفيه عدم صيانة للقضاء؛ لأن القاضي إذا لم يجد شهوداً سيضطر إلى قبول اليمين، وقد تكون يمينه غموساً، وحينئذٍ يحق الباطل ويبطل الحق، فتضيع حقوق الناس، فتحملها فرض عين على الإنسان، إذا لم يوجد غيره، ويجب عليه أداؤها إذا لم يكن هناك شهود غيره، فإن كان هناك شهود، فحينئذٍ ننظر إذا كانوا موجودين أحياء، ويمكنهم أن يشهدوا، وجاء صاحب الحق وقال لك: أريدك أن تشهد، فإن كان عندك قدرة أن تذهب وتشهد فاذهب، وهذا أفضل وأعظم لأجرك وأتقى لربك، أما إذا كان الإنسان عنده عذر، أو لا عذر عنده، وقال: أنا لا أريد أن أذهب، فحينئذٍ ترك الأفضل، وهناك مندوحة لأن هناك من يقوم بهذا الأمر من غيره.

فإذا كان من حضروا قد ماتوا ولم يبق منهم إلا هذان الاثنان، فحينئذٍ يتعين عليهما الحضور، أو كان البقية مسافرين، وحضرت القضية فإنه يجب عليهما أن يذهبا ويشهدا.

إذاً: إذا تعينت عليه صارت فرض عين، وأما إذا وجد من يقوم بها من غيره ممن تقبل شهادته، لم تصر فرض عين عليه، لا في التحمل ولا في الأداء.

وقوله: (متى دعي إليها): من العلماء من قال: الشاهد إذا دعي فيجب عليه أن يجيب، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لعموم قوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، والورع تعاطي ذلك.

حكم تحمل الشهادة وأدائها لمن خشي الضرر على نفسه

وقوله: (وقدَرَ بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله).

أي: وقدر على الأداء بلا ضرر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فلو قيل له: تعال واشهد، والذي سيشهد عليه ابن عمه، وهناك شهود آخرون غيره، فحينئذٍ لو جاء ليشهد فستقع فتنة بينه وبين بني عمه، وتقطع بسببها الأرحام، وقد يكون ابن عمه شريراً فقد يقتله، وقد يؤذيه، وقد يضر به وبولده، وفي بعض الأحيان تقع النعرات والمشاكل، وربما قد لا يُنكِح ولا يُنكَح، وهذا ضرر عليه وعلى أولاده، ولربما شُمِتَ به مع أنه على حق.

فإن كان به من الإيمان والقوة والصبر والجلد فلم يزده الله بذلك إلا عزاً، فمن أهان عبداً لله اتقى الله فيما اتقى فيه ربه جعل الله إهانته كرامة، وجعل الله ذله عزاً، وجعل الله منقصته كمالاً، ومن أراد أن يجرب فليفعل؛ لأنه ليس هناك أعظم من نقمة الله عز وجل ممن ظلم عبداً اتقى ربه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وجاءته الدنيا ذليلة صاغرة)، ومن هنا فمن حقه أن يمتنع إن خشي الضرر.

ولذلك فإن العلماء رحمهم الله في مسائل الضرر يقولون: إن الضرر قد يُتحمل إذا كان عند الإنسان صبر وجلد على البلاء، وعلى الفتنة والأذية، يقولون: فيجوز له أن يؤدي الشهادة؛ لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة على نفسه؛ لأن من الناس من إذا تضرر ندم على ما فعل، وضعف إيمانه، وحينئذٍ فلا هو حصل على الأجر فيما مضى لندمه ورجوعه عما فعل، ولا هو سلمت له نفسه بحصول الضرر بعد ذلك، قالوا: وهذا هو معنى رد النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال: (إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي) يعني: أتصدق بكل مالي، فهو فارح بتوبة الله، فربما إذا انتهى فرحه ندم على تصدقه بجميع ماله، فيذهب عليه الأجر بالندم، فلا هو بقي له ماله، ولا هو ثبت له الأجر.

وهنا في الشهادة كذلك، فإذا كان الشخص يتحمل وعنده قوة إيمان وصبر وجلد فبها، وإلا فلا.

وقوله: (وكذا في التحمل) أي: إذا وجد الضرر على نفسه وأهله وماله جاز له أن يمتنع، والعلماء ذكروا من الضرر: قطيعة الأرحام، والفتنة، حتى قالوا: إن القاضي من حقه أن يؤخر تنفيذ الحكم إذا خشي أن تقع مقتلة، أو تقع فتنة، ولذلك قال الناظم:

ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام

فلا يجوز للحاكم أن يوقف الحكم، ولا أن يعطل الحكم، بل يجب عليه تنفيذه، وإذا أخر فإنه يأثم، فإذا تبين له الحق يجب عليه أن يحكم به، ولكن إذا خاف الفتنة أو الشحناء للأرحام، عدل إلى الصلح في القضية خوف وقوع ما هو أعظم.

والصلح يستدعى له إن أشكلا حكم وإن تعين الحق فلا

ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام

حرمة كتمان الشهادة

قال رحمه الله: [ولا يحل كتمانها]

ولا يحل كتمانها؛ لقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [البقرة:283]، وكتمانها يكون على صورتين: أن يعلم أن لفلان على فلان حقاً، وغالباً ما يكون هذا إذا كان الشخص صاحب الحق لم يعلم أنه شاهد، أو أن الذي رأى القضية أو الحادثة مع كون صاحب الحق عنده شاهداً أو شهوداً ثم توفي الشهود، أو امتنعوا من الشهادة، أو جنوا، أو تعلق بهم مانع يمنع من قبول شهادتهم؛ كأن يحصل لهم أمر يوجب ردَّ شهادتهم، ولا يعلم صاحب القضية أن فلاناً شاهد، فحينئذٍ يجب على هذا الذي يعلم أن يأتي للشخص الذي له الحق ويقول له: يا فلان! أنا أعلم بهذه القضية، وعندي لك شهادة، إن أردتني أن أشهد فسأشهد، فإنه يثاب على فعله هذا، وهذا من أعظم ما يكون؛ لأن فيه إحقاق الحق، وهذا الذي يؤدي شهادته قبل أن يُسألها قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهود؟ هو الذي يؤدي شهادته قبل أن يستشهد)، وهذا من باب الندب والحرص على الخير.

مستند الشهادة ومستند الشاهد

قال رحمه الله: [ولا أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع، أو استفاضة فيما يتعذر علمه بدونها؛ كنسب وموت وملك مطلق ونكاح ووقف ونحوها].

قوله: (ولا أن يشهد إلا بما يعلمه) هذا شروع في شيء يسميه العلماء: مستند الشهادة، ومستند الشاهد، بمعنى: شهادة الشاهد هذه من أين أخذها، وعلى أي شيء بنى؟

وذلك يكون إما بالرؤية، أو بالسماع، أي: أن يسمع بأذنه، أو استفاضة، والاستفاضة: أن ينتشر بين الناس هذا الأمر؛ كالموت والوقف والنسب، فيما تقبل فيه شهادة السماع، وهي شهادة الاستفاضة، فإذا كان الشاهد يريد أن يشهد فلابد أن يشهد بأحد أمرين:

إما بشيء رآه، وإما بشيء سمعه، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]، فالشاهد لا يجوز له أن يشهد إلا بشيء يعلمه ويحققه.

هذا بالنسبة للحقوق والحدود، فلا يقبل فيها إلا العلم، وإذا لم يكن يعلم فلا تقبل شهادته إلا في مسألة الشهادة على الشهادة، ففيها تفصيل للعلماء رحمهم الله وستأتي.

أما بالنسبة للاستفاضة كما ذكرنا في النسب ونحوه، فمثلاً: يشهد أن آل فلان من الأشراف، ومن ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ يجوز إثبات النسب بالاستفاضة، كأن يعرف أن بيت فلان من الأشراف، وانتشر في المدينة، أو انتشر في قريته، أو في جماعته: أن هذه الأسرة أو أن هذا الاسم من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: شهادة السماع، فيثبت بها النسب، وقد أجمع العلماء على قبول شهادة السماع في النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شهداء الله في الأرض)، ولذلك إذا قبلت الشهادة بالسماع بالخير في تزكيته عند ربه، فأن تقبل في أمور الناس من باب أولى وأحرى.

وعلى كل حال: إذا اشتهر واستفاض عند الناس أن هذا وقف بني فلان، أو أن هذا نسب من القبيلة الفلانية يرجعون إلى بني فلان، أو يرجعون إلى آل فلان، فهذا يسمى: شهادة الاستفاضة، وحينئذٍ يجوز للشهود أن يقولوا: نشهد أن فلاناً من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن فلاناً شريف، أو أن فلاناً من بني فلان، وهم من قبيلة كذا، بناء على شهادة السماع والاستفاضة.

ذكر الشروط عند الشهادة في النكاح وغيره من العقود

قال رحمه الله: [ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلابد من ذكر شروطه]

أي: من شهد بنكاح أو بيع أو إجارة أو نحو ذلك من العقود فلابد أن يذكر شروطه، وهذه مسألة تكلم عليها الإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام العز بن عبد السلام كلاماً نفيساً بينا فيه: أنه ربما اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، وحينئذٍ فلابد أن يحكم القاضي بهذا العقد على شيء يعتقد صحته، ومن هنا قرر الأئمة: أنه إذا اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، فكان الشاهد يرى صحة العقد، والقاضي لا يرى صحته، فالعبرة بمذهب القاضي لا بمذهب الشاهد، إلا في مسائل منها: مسألة التفسيق، ومنها: مسألة التعزير، إذا فعل فعلاً يرى جوازه واعتقد حله، وكان له فيه شبهة، فحينئذٍ لا يؤاخذ ولا يأخذه القاضي بذلك.

لزوم الوصف في الشهادة على رضاع أو سرقة أو شرب

قال رحمه الله: [وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب أو قذف فإنه يصفه]

أي: يلزمه أن يصف الرضاع، ويصف السرقة، مثل: عدد الرضعات، وتقبل شهادة النساء فيه، فلو قالت: أربع أو خمس رضعات مشبعات معلومات، قبلنا منها؛ لأن هذا يترتب عليه أحكام. وقد ذكر العلماء ومنهم الإمام العز بن عبد السلام ، والإمام ابن قدامة : أن الشهود ربما شهدوا بالشيء يظنونه شرعياً وهو ليس بشرعي، ولربما بمجرد أن يرى الطفل التقم الثدي فهم أنه رضع رضاعة شرعية، فيأتي ويقول: فلان رضع من فلانة رضاعة شرعية، فهذا لا يقبل، ومن هنا قالوا: لا يقبل الجرح إلا مفسراً، فلو قال مثلاً: هذا الشاهد فاسق، فيقول له القاضي: بم تفسقه؟ بماذا هو فاسق؟ أو لو أن شاهداً جاء وشهد على شخص فقال المشهود عليه: أنا آتي بما يطعن في شهادته، فأتى بشخص يطعن في الشاهد، فنقول له: هل تطعن في الشاهد؟ فإذا قال: نعم، وهذا الشاهد لا يقبل منه القاضي شهادته حتى يفسر، فيقول له: بم رددت شهادته؟ وبم تطعن في شهادته؟

قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت رجلاً مستهلاً يصيح ويطعن في شاهد، ومن توفيق الله للقاضي أن قال لذلك الذي يطعن في الشاهد: لا أقبل منك حتى تبين جرحك له، فقال: أنا أعلم ما الذي يجرح وما الذي لا يجرح -ما شاء الله! هناك بعض الناس يصل إلى درجة لا يسأل عما يفعل ولا يسأل عما يقول- فقال القاضي: لا أقبل طعنك ولا أقبل قدحك حتى تبين، فقال الرجل: رأيته يبول قائماً. سبحان الله! وهل إذا بال قائماً سقطت شهادته وتركت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث حذيفة أتى سباطة قوم فبال قائماً، فقال القاضي: وما عليه أن يبول قائماً؟

قال الرجل: إذا بال قائماً تطاير البول على ثوبه، ثم إذا تطاير على ثوبه صلى بذلك الثوب وبطلت صلاته، فهل عندك شك في بطلان الصلاة بالبول؟

فقال له القاضي -وهذا من فقهه وعلمه-: هل رأيت بوله يتطاير على ثوبه، ورأيت البول على الثوب عندما صلى؟ فأسكته.

إذاً: فلا يمكن أن يقبل الطعن في الشهادة إلا مفسراً، وقد يأتي العامي فيظن شيئاً فيقبل منه، وإلا استغل القضاء بشهادة الجهال، ولذلك ينبغي صيانة القضاء، وانظر كيف أن الفقه الإسلامي دقيق في كل شيء؛ لأنه مبني على شريعة كاملة، ولن تجد مهما بحثت لا من قوانين وضعية ولا غيرها من يستطيع أن يدخل في التفصيليات من الإثبات والحجج مثلما بينته هذه الشريعة، فالحمد لله على فضله.

إذاً: لابد أن يبين معاملته مع غيره، فإذا أراد أن يبيع. فعليه أن يسأل: هل باع شيئاً يملكه؟ هل البيت مباح؟ هل هو على صفة يحكم بها بصحته أو لا؟

حكم الوصف في الشهادة بالزنا وحدوده وضوابطه

قال رحمه الله: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها]

كأن يقول: فلان زنى بفلانة، وفيه للعلماء وجهان:

فبعض العلماء يقول: لا ينبغي للقاضي أن يعنت الشهود، بمعنى: أن يحرجهم بالأسئلة إلى أن يدخل في تفاصيل قد تحدث الضرر عند الشاهد، وحينئذٍ يكون هذا من التعنيت، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282]، فحرم علينا الإضرار بالشهداء، ولذلك تعامل العلماء مع هذه القضية بحذر، بمعنى: أنهم لا يجيزون للقاضي أن يسأل الشهود إلا في حدود معينة وبضوابط مقيدة؛ كل هذا حتى لا يعتبر من تعنيت الشهود والإضرار بهم، فالوسط الذي هو بين الإفراط والتفريط.

فيسأله عن مكان الزنا، فيقول: فلان زنى بهذه في مكان كذا، أو فلان زنى بفلانة بنت فلان بنت فلان على وجه ينتفي به اللبس؛ لأنه ربما يقول: رأيته يفعل بالمرأة، وقد تكون زوجته، وحينئذٍ فلابد أن يتفق الشهود على هذا، فلو قال أحدهم: زنى بالليل، وقال الآخر: زنى بالنهار، وقال أحدهم: رأيته يزني في غرفة، وقال الآخر: رأيته يزني في العراء في البر، فحينئذٍ ثبت على أن هذه جريمة وهذه جريمة، وهذه شهادتها ناقصة وهذه شهادتها ناقصة.

ومن هنا يحتاط القاضي لأعراض المسلمين، وهذا ليس من الظلم والحيف، وإنما هو من الحياد؛ حتى تكون الشهادة موثوقاً بها، مبنية على أصول صحيحة، ويظهر بها صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك فإن كثيراً من المظالم وشهادات الزور انكشفت بفضل الله عز وجل ثم بفطنة القضاة وحسن تعاملهم مع الشهود، فقد استطاعوا أن يدركوا أو يبينوا كذب الشهود وزيفهم، ومما يظهر به فضل الله عز وجل على القضاة حسن استخراجهم للخلل والخطأ في الشهادة حتى ترد.

ضرورة البيان لما يعتبر في الحكم

قال رحمه الله: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل]

كما ذكرنا؛ لأن الأحكام اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وقد يكون هناك أمر يظنه على شكل والواقع أنه على شكل آخر، ومن هنا فلا يقبل الإجمال فيما ينبغي فيه البيان، سواء كانت من الأمور الشرعية، أو من الأمور المحتملة في بعض الوقائع، ومن هنا قال المغيرة رضي الله عنه لـعمر -لما اتهم بالزنا وجيء بالشهود، وكان يعتبر من دهاة العرب-: يا أمير المؤمنين! : أرآني مدبراً أم مقبلاً؟ فقال: رأيته من رجليه، يعني: مدبراً، فقال: ما درى أنها فلانة زوجتي، فأفحم الشاهد بهذا.

وهناك أشياء لا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحسس، ونهى عن سوء الظن، ونهى عن المحامل التي لا تنبغي، وكم من أمور ظاهرها الخلل وهي مبنية على براءة وغفلة، ومن هنا ينبغي للشهود أن يتحروا، وأن يتأكدوا، وأن تثبت شهادتهم على وجه لا شك فيه ولا لبس.

قال رحمه الله: [تحمل الشهادات في غير حق الله فرض كفاية].

أي: أن الشهادة فيها التحمل وفيها الأداء. والتحمل: هو أن يكون الإنسان يعلم بما يشهد به، فينظر فيما يطلب منه أن يشهده، فيحضر ويسمع ويرى، وتكون شهادته عن علم برؤية أو سماع، أما الأداء: فهو أن يؤدي ذلك في مجلس القضاء. فالعلماء يقولون: تحمل وأداء، المرحلة الأولى التحمل، والمرحلة الثانية الأداء، والتحمل مقصود من أجل الأداء، فتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا أصل في الأمور التي يحتاج إليها، أنه إذا قام بها البعض وسدوا الكفاية سقطت عن الباقين.

وعلى هذا: لو أن شخصاً دعي إلى الشهادة، أو قال لك رجل -وأنت في إدارة أو في أي موضع-: اشهد، فحينئذٍ ننظر إذا كانت القضية يمكن أن يشهد عليها غيرك، وهذا الغير تتوفر فيه شروط الشهادة وتقبل شهادته لو شهد، فإنه حينئذٍ لا يجب عليك تحمل الشهادة، وبإمكانك أن تقول له -إذا كان عندك ظرف أو عمل أو غيره-: اعذرني يا أخي، أو كنت لا تحب أن تذهب وتتحمل بعض المصاعب والمتاعب، فلك أن تقول له: اعذرني، ولك الحق أن تتركها؛ لأنها لم تتعين عليك.

قال رحمه الله: [وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه].

أي: إذا لم يوجد غيرك وشاهد آخر، والحق لا يثبت إلا بكما، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تتخلى عن الشهادة، ويحرم عليك ذلك، قال تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، فإذا كانت هناك قضية وقيل لك: اشهد، ولا يوجد غيرك، أو يوجد شخص غيرك لكن لا تقبل شهادته وأنت تقبل شهادتك؛ كما لو كان هناك رجل عنده أولاده، وإذا شهد أولاده لا تثبت شهادة الولد لوالده، فحينئذٍ إذا قيل لك: اشهد، فاشهد، كما لو حدثت مشكلة أو خصومة، ولا يوجد إلا أنت وشخص آخر معك، فحينئذٍ يجب عليك ويتعين عليك أن تسمع وأن تعلم؛ لأن هذا يؤدي إلى وصول الحق إلى صاحبه، ويؤدي إلى منع الظالم من الظلم، وإنصاف الناس في حقوقهم، ويؤدي إلى معونة القضاء على ذلك؛ لأن القضاء بلاء، ولا يمكن دفع هذا البلاء بشيء مثل الشهادة، كما قال بعض أئمة السلف، وهذا مروي عن شريح : القضاء بلاء، فادفعه عنك بعودين. يعني: بشاهدين، فهذان العودان: هما الشاهدان، فإذا جاءا وشهدا انتهى الأمر، فقالا: سمعناه يقول كذا، رأيناه يفعل كذا، فحينئذٍ يعرف المحق من المبطل.

أما إذا كان الأمر فيه سعة، ويوجد من يمكن أن يشهد ويتحمل فلك الخيار، والأفضل أن تشهد؛ إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، ومعونة لأخيك، وتثاب على ذلك، وأنت مأجور عليه، لكن إذا خشيت بعض التعقيد أو الضرر أو نحو ذلك، فلك الحق أن تمتنع.