شرح زاد المستقنع باب حكم المرتد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار]

بعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أدلة تحريم الردة شرع في الجزيئة الأخيرة وهي ما يترتب على الردة، فقال رحمه الله: (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار).

قوله: (وهو مكلف)

أي: والحال أنه مكلف، والتكليف يكون بالبلوغ والعقل، فلو قال كلمة الكفر وهو صبي لم يؤاخذ، واختلف في الصبي المميز، أما إذا كان مجنوناً فلا إشكال، والنصوص تدل على سقوط المؤاخذة عن الصبي والمجنون كما في حديث علي وعائشة رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) فهذا يدل على أن كلاً من المجنون والصبي غير مكلف، وأنه لو حصل منه ما يوجب الردة لم يحكم بردته وكفره.

وقوله: (مختار):

الاختيار ضد الإكراه، وعلى هذا يشترط أن يقول كلمة الكفر أو يقول ما يوجب الردة دون وجود إكراه، فلو أكره على أن يقول كلمة الكفر -والعياذ بالله- أو يفعل ما فيه الكفر، فإنه إذا توفرت فيه شروط الإكراه حكمنا بعذره؛ لأن الله تعالى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فنص سبحانه وتعالى على العذر بالإكراه، وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه وأمه، فإنه لما أكره على كلمة الكفر قالها.

وذكرنا في طلاق المكره شروط الإكراه وهي: أن يهدد الإنسان بما فيه ضرر، وأن يكون هذا الضرر أعظم مما يطلب منه، من ناحية أن يحصل به العذر للشخص في نفسه، ويدخل في ذلك أهله وعرضه، وأن يغلب على ظنه أن المهدد يفعل ما هدد به، وألا يمكنه الفرار ولا الاستغاثة، وأن يكون التهديد حالاً لا مؤجلاً ولا مؤخراً، وألا يكون الإكراه على الباطن، بمعنى أن يقول كلمة الكفر في الظاهر، ولكنه يعتقد الإيمان في الباطن لقوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

وهذه الشروط إذا توفرت حكم بكون الإنسان مكرهاً، فإذا كان مكرهاً سقطت مؤاخذته، فلو وضع عليه السلاح وقيل له: إذا لم تقل كلمة الكفر قتلتك، فحينئذٍ إن غلب على ظنه أنه يفعل ذلك، فيجوز له أن يأخذ بالرخصة.

واختلف العلماء على قولين: هل الأفضل أن يصبر ويحتسب نفسه عند الله عز وجل، أم الأفضل أن يأخذ برخصة الله عز وجل؟

من أهل العلم من قال: الأفضل أن يصبر، كما صبر الإمام أحمد رحمه الله برحمته الواسعة، فخلد الله ذكره في العالمين، لموقفه المشهود له في فتنة خلق القرآن، ونسي غيره، ومع أن غيره صبر، ولكن ما صبر عليه رحمه الله وعاناه كان عظيماً، فلم يأخذ بالرخصة، وجعل الله عز وجل له فيها مبوأ صدق في الدنيا، ونسأل الله أن يبوئه مبوأ صدق في الآخرة وأن يقدس روحه وأن ينور ضريحه وأن يجزيه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.

ومن أهل العلم من يفصل بين من هو قدوة، أو ليس بقدوة، أو غلب على ظنه أن يكون لها أثر في دعوته، فهذا الأفضل أن يصبر، وهذا القول هو الأولى بالصواب إن شاء الله، فإنه لو نظر إلى الأحوال وما يترتب من حسن البلاء وحسن العاقبة؛ فإن بعض البلاء يزيد في إيمان الناس وثباتهم على الحق.

قوله: [ رجل أو امرأة ]

يستوي في الردة الرجل والمرأة، فإذا وقعت الردة من الرجل أو المرأة؛ فإن كلاً منهما يعاقب بعقوبة المرتد، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الردة من المرأة توجب عقوبتها، وأن المرأة إذا ارتدت يقام عليها حد الردة كما يقام على الرجل.

وخالف في هذا المسألة بعض السلف كـابن عباس رضي الله عنهما وبعض الصحابة، وهو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع، قالوا: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وسيأتي أن النص عام في قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإنه من صيغ العموم التي تدل على شمول الحكم للرجال والنساء على حد سواء.

أقوال العلماء في حكم استتابة المرتد

قوله: (دعي إليه ثلاثة أيام).

أي: دعي إلى الإسلام والرجوع مدة ثلاثة أيام، وهذا ما يسمى بالاستتابة، وهي أن يطلب منه الرجوع عن هذا الأمر الموجب للكفر ثلاثة أيام، فيعرض عليه أن يتوب إلى الله ويرجع.

وهذه الاستتابة يتفق جميع العلماء على استحبابها، وقد وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرغبها فيها كما في قصة معاذ رضي الله عنه، ودرج على ذلك العلماء والأئمة.

ولكن السؤال: هل يجب أن يستتاب، أم أنه يجوز لولي الأمر أن يقتله فوراً؟ فلو رفع إلى القاضي وشهد الشهود أنه مرتد وبقي على ردته ولم يرجع؛ فهل يجوز للقاضي أن يقتله ابتداءً بعد ثبوت ردته؟ أو قال كلمة الكفر أمام القاضي، فأمر القاضي بقتله فوراً؛ هل يجوز له ذلك أم يجب عليه أن ينتظر ثلاثة أيام؟

جمهور العلماء رحمهم الله على وجوب الاستتابة، وأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، وذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية، وصححها غير واحد من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول طاوس بن كيسان رحمة الله على الجميع، أن هذا على الاستحباب وليس على الحتم والإيجاب.

واستدل الذين قالوا بالوجوب بقصة عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جاءه رجل من اليمن، فقال له: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل ارتد عن دينه إلى دين السوء -كان يهودياً ثم أسلم، ثم رجع إلى اليهودية- فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فقتلناه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً؛ لعله أن يتوب، لعله أن يرجع إلى ربه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. رواه مالك في الموطأ. فيقولون: هذا الأثر يدل على وجوب الاستتابة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك.

واستدل الذين قالوا بعدم وجوب الاستتابة بالأدلة الصحيحة الصريحة في السنة بوجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولم يأمر باستتابته، وهذا يدل على أنه يحكم بردته، وتزول عنه عصمة الإسلام بمجرد كفره، ولو كانت الاستتابة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأكد هذا قصة معاذ رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، وفيها: (أن معاذاً رضي الله عنه دخل على أبي موسى ، فوجد رجلاً مكبلاً بالحديد أو موثقاً، فقال: ما شأن الرجل؟ قالوا: إنه كان على اليهودية ثم أسلم ثم رجع إلى دينه، فقال معاذ رضي الله عنه عندها: لا أجلس حتى تقتلوه، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالها ثلاثاً- فقتل).

قالوا: والصحابي إذا قال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، دل على أنه في حكم المرفوع؛ لأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه لم يسأل: هل استتبتموه أم لا، دل على عدم وجوب الاستتابة، والرواية الأصلية ليس فيها ذكر الاستتابة.

لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الرجل كان قد أمهل شهراً، وقيل: عشرين يوماً، والروايات مختلفة في هذا، لكن قول معاذ رضي الله عنه: (لا أجلس حتى يقتل قضاء رسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه)، فاحتج بالنص على ظاهره دون ذكر استتابة، وهذا يدل على أنه لا تجب الاستتابة، وإنما يجوز فعلها؛ لأنها سنة عند الخليفة الراشد، ولكن هذا ليس على سبيل الحتم والإيجاب.

ومن الأدلة لهم أيضاً: حديث ابن عباس في الصحيح المتقدم الذي استدل فيه معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لقال: من بدل دينه فاقتلوه بعد ثلاث، أو اقتلوه بعد أن تستتيبوه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فدل هذا على عدم وجوب الاستتابة، وأولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى أن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة.

قوله: [ وضيق عليه ] أي: يسجن ثم يضيق عليه حتى يرجع ويتوب إلى الله عز وجل.

قوله: [ فإن لم يسلم قتل بالسيف ] كلهم متفقون على أنه إذا عرض عليه الإسلام بعد الثلاث ولم يقبل أنه يقتل.

قوله: (دعي إليه ثلاثة أيام).

أي: دعي إلى الإسلام والرجوع مدة ثلاثة أيام، وهذا ما يسمى بالاستتابة، وهي أن يطلب منه الرجوع عن هذا الأمر الموجب للكفر ثلاثة أيام، فيعرض عليه أن يتوب إلى الله ويرجع.

وهذه الاستتابة يتفق جميع العلماء على استحبابها، وقد وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرغبها فيها كما في قصة معاذ رضي الله عنه، ودرج على ذلك العلماء والأئمة.

ولكن السؤال: هل يجب أن يستتاب، أم أنه يجوز لولي الأمر أن يقتله فوراً؟ فلو رفع إلى القاضي وشهد الشهود أنه مرتد وبقي على ردته ولم يرجع؛ فهل يجوز للقاضي أن يقتله ابتداءً بعد ثبوت ردته؟ أو قال كلمة الكفر أمام القاضي، فأمر القاضي بقتله فوراً؛ هل يجوز له ذلك أم يجب عليه أن ينتظر ثلاثة أيام؟

جمهور العلماء رحمهم الله على وجوب الاستتابة، وأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، وذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية، وصححها غير واحد من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول طاوس بن كيسان رحمة الله على الجميع، أن هذا على الاستحباب وليس على الحتم والإيجاب.

واستدل الذين قالوا بالوجوب بقصة عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جاءه رجل من اليمن، فقال له: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل ارتد عن دينه إلى دين السوء -كان يهودياً ثم أسلم، ثم رجع إلى اليهودية- فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فقتلناه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً؛ لعله أن يتوب، لعله أن يرجع إلى ربه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. رواه مالك في الموطأ. فيقولون: هذا الأثر يدل على وجوب الاستتابة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك.

واستدل الذين قالوا بعدم وجوب الاستتابة بالأدلة الصحيحة الصريحة في السنة بوجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولم يأمر باستتابته، وهذا يدل على أنه يحكم بردته، وتزول عنه عصمة الإسلام بمجرد كفره، ولو كانت الاستتابة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأكد هذا قصة معاذ رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، وفيها: (أن معاذاً رضي الله عنه دخل على أبي موسى ، فوجد رجلاً مكبلاً بالحديد أو موثقاً، فقال: ما شأن الرجل؟ قالوا: إنه كان على اليهودية ثم أسلم ثم رجع إلى دينه، فقال معاذ رضي الله عنه عندها: لا أجلس حتى تقتلوه، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالها ثلاثاً- فقتل).

قالوا: والصحابي إذا قال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، دل على أنه في حكم المرفوع؛ لأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه لم يسأل: هل استتبتموه أم لا، دل على عدم وجوب الاستتابة، والرواية الأصلية ليس فيها ذكر الاستتابة.

لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الرجل كان قد أمهل شهراً، وقيل: عشرين يوماً، والروايات مختلفة في هذا، لكن قول معاذ رضي الله عنه: (لا أجلس حتى يقتل قضاء رسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه)، فاحتج بالنص على ظاهره دون ذكر استتابة، وهذا يدل على أنه لا تجب الاستتابة، وإنما يجوز فعلها؛ لأنها سنة عند الخليفة الراشد، ولكن هذا ليس على سبيل الحتم والإيجاب.

ومن الأدلة لهم أيضاً: حديث ابن عباس في الصحيح المتقدم الذي استدل فيه معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لقال: من بدل دينه فاقتلوه بعد ثلاث، أو اقتلوه بعد أن تستتيبوه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فدل هذا على عدم وجوب الاستتابة، وأولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى أن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة.

قوله: [ وضيق عليه ] أي: يسجن ثم يضيق عليه حتى يرجع ويتوب إلى الله عز وجل.

قوله: [ فإن لم يسلم قتل بالسيف ] كلهم متفقون على أنه إذا عرض عليه الإسلام بعد الثلاث ولم يقبل أنه يقتل.

قال المصنف رحمه الله: [ولا تقبل توبة من سب الله أو رسوله].

هذا أحد القولين عند العلماء، وجمهور العلماء رحمهم الله على قبول توبته، وأنه إذا تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه، وهذا هو الصحيح على ظاهر النصوص التي دلت على قبول توبة الكافر: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38] وقد كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبون الله عز وجل، ويسبون الدين، وإذا قبلت توبة من سب الله عز وجل، فمن باب أولى أن تقبل توبة من سب ما دونه.

ولكن الذين قالوا: إنه لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه فيها حقاً لآدمي، وحقاً لله عز وجل، وحق الآدمي لا نعلم هل يسامحه النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟

وهذه الشبهة ضعيفة؛ لأننا أعطيناه الحرمة لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وقد دلت النصوص في الأصل على أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه يتوب الله عليه، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه تقبل توبته.

قال المصنف رحمه الله: [ولا من تكررت ردته].

هذا هو الذي يعرف بالزنديق، يسلم ثم يقول كلمة الكفر، فيرتد ثم يرجع مرة ثانية، ويسلم ثم يرتد، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، والصحيح أنها تقبل توبته.

لكن لو أن القاضي أو ولي الأمر اطلع على أنه يتلاعب وقتله فله وجه، وقد يكون ذلك أنكى فيه وأقطع لدابر أهل الفساد؛ لأنه ربما يردع غيره.

وهذا ما يعتبر بفقه الخلاف، فنأخذ بالقول المرجوح في أحوال خاصة إذا وجد استشراء الناس وتساهلهم بحدود الله عز وجل فأراد الإمام أن يزجرهم، فله أن يأخذ بالقول الأوثق والذي فيه النصيحة، وله أن يجتهد في ذلك طلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد، وليس هناك مفسدة أعظم من الاستخفاف بالدين والشرع، فالزنديق هو الذي يكفر ويقول كلمة الكفر ثم يرجع ثم يكفر ثم يرجع، والذين يقولون: لا تقبل توبة الزنديق يقولون: قد شهد على نفسه بالكذب، وشهد على نفسه أنه يتلاعب بتوبته.

ومن هنا أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصته مع بعض المرتدين أنه قبل توبتهم، ثم رأى رجلاً وقال: إنك كنت قد فعلت هذا عام أول ثم أمر بقتله، أي أنه تكررت ردته وتوبته مرتين، فلم يقبل منه ذلك وقتله واستحل دمه.

وأياً ما كان فالنصوص الصريحة في أن من تاب تاب الله عليه، وأن علينا أن نأخذ بظواهر الناس، وأن نكل سرائرهم إلى الله، واستباحة دم من أظهر الإسلام أمر صعب جداً، ولذلك ينبغي الاحتياط في هذا والبقاء على الأصل، إلا أن لولي الأمر أن يجتهد في مسائل خاصة.

قوله: [بل يقتل بكل حال]

أي: لا تقبل منه التوبة ويقتل بكل حال، فتنفعه التوبة فيما بينه وبين الله، فلو قُتل يُقتل على الظاهر؛ لأنه ثبت كذبه، ثم لو أنه كان في المرة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صادقاً وقتل؛ فإن العلماء متفقون أن ذلك ينفعه بينه وبين الله، ولكن الإشكال أنه إذا كانت توبته على الظاهر هل لنا أن نقبل هذا الظاهر أو لا؟

لأنه قد ثبت بالظاهر أنه تلاعب، وأنه كذب، وقصة وحشي تدل على قبول التوبة.

قال المصنف رحمه الله: [وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه؛ فتوبته مع شهادتين إقراراً بالمجحود به ]

فرق رحمه الله في التوبة إذا ارتد المرتد بالأمور التي تقدمت من الشرك وجحود الربوبية ونحو ذلك، وبين التوبة من الذنب بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فأما مطلق التوبة فإنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه إذا شهد شهادة الإسلام والتوحيد رجعت له عصمة الإسلام، ويعتبر هذا توبة ورجوعاً منه إلى الله عز وجل، ومن تاب تاب الله عليه.

وأما إذا كان قد أنكر حرمة الزنا أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وقال: الصلاة ليست مفروضة، وليس في الإسلام صلاة، أو ليس في الإسلام زكاة، كما قال أهل الردة ونحو ذلك، فقلنا: إذا كان جاهلاً يعلَّم، وإذا كان عنده شبهة تزال، وأما إذا كان عالماً وأنكر هذا الشيء؛ فإن توبته أن يتشهد ثم يرجع عما كان يعتقده من عدم فرضية الصلاة وعدم فرضية الزكاة؛ لأن ما شرع بسببه يزول بزواله، ويبطل بزواله، فنحن حكمنا بردته بإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة، فلا نحكم بإسلامه إلا إذا أقر بهذا الذي أنكره، فلو أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يرجع عن جحوده؛ فإنه ما زال على كفره، ولا يحكم بتوبته من ردته.

قوله: [ أو قوله أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام ]

هذا بالنسبة للتوبة العامة، والأصل الشهادة.