خطب ومحاضرات
اكتسب حسنة بالأخلاق الحسنة
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وتحية طيبة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها ليلة خير وبركة.
أيها الإخوة: إن هذه التربية التي ننشدها هي سياج آمن يقي الفرد المسلم من الشرور التي تطيح به عن طريق الاستقامة، وتزل بقدمه عن الصراط المستقيم، هذه التربية التي تخبرنا الأيام والأحداث أنه لا بد منها، لا بد أن تكون هذه التربية قائمة على منهاج الكتاب والسنة، تربيتنا على العقيدة الصحيحة، وعلى العبادة والإخلاص، وعلى العلم الشرعي، وعلى الأخلاق الإسلامية، وتربيتنا على المجاهدة والمصابرة، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والصبر على الأذى في سبيل الله.
ومن هذا المنطلق نتحدث الليلة عن جانب من الجوانب المهمة في التربية، التربية على الأخلاق، الأخلاق الإسلامية، الأخلاق المذكورة في الكتاب والسنة، أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، أخلاق الأنبياء والسلف الصالح ، أخلاق الصحابة والعلماء والصالحين والمجاهدين.
إن في واقعنا أزمة أخلاق، وإن كثيراً من المشكلات الموجودة في المجتمع نتيجة سوء الخلق، نعم، هذه ظاهرة واضحة، فأنت ترى -أيها الأخ المسلم- أن سوء الخلق يدمر العلاقات الزوجية، ومنهم من لا تذكره زوجته بخير أبداً، وهو أو غيره لا يشعر بمودة زوجته له على الإطلاق، ومنهم من تذكره زوجته بعد وفاته بالخير العميم، وتشعر نحوه بشعور مكين من الروابط التي قامت بينه وبينها بهذه الأخلاق الإسلامية.
وإنني أوقن أنما جاء امرأة مصعب بن عمير لما تبلغت بوفاة زوجها فلم تتمكن من أن تملك نفسها، لقد صبرت على خبر موت الأب والأخ، ولكن موت الزوج كان وقعه عليها عظيماً، ذلك أن مصعباً الداعية المجاهد رضي الله عنه قد ضرب مثلاً عظيماً في تضحيته وجهاده في الدعوة إلى الله، وضرب مثلاً عظيماً في خلقه مع زوجته في بيته، وأكثر المشكلات الزوجية اليوم عائدة إلى سوء الخلق، وأكثر حالات السعادة الزوجية منبعها حسن العشرة والأخلاق الحسنة.
سوء الخلق مصيبة كبيرة حتى بين المصلين في المساجد، فإنك ترى في بعض التعاملات وبعض الحركات ما ينبئك أن هذه الجموع من المصلين تحتاج إلى تربية عميقة على هذه الأخلاق الفاضلة، لكي يعرف الناس التعامل مع بعضهم حتى داخل أروقة المساجد.
إن بين الطلاب والمدرسين نماذج من سوء الأخلاق، فمن جهة بعض المدرسين تجد تعدياً وظلماً، ومن جهة بعض الطلاب تجد استفزازاً وتحدياً، وقلة أدب ووقاحة، وبين الموظف والمراجع كثير من سوء الخلق، فتجد هذا يضغط عليه أو يعطيه من الكلام السيئ ما يثير حفيظته، وتجد ذاك يسيء في الخدمة أو التعامل، ويرمي المعاملات والأوراق، ويؤخر ويسوف ويظلم ويعذب المراجع، وهكذا.
وكثيراً ما تسمع في بعض الدوائر والأماكن من أنواع السباب والمشاتمات بين الموظفين والمراجعين ما ينبئك على أن هناك أزمة أخلاق في المجتمع.
وبين الجار وجاره كثير من الحالات التي فيها سوء خلق، من أنواع الأذية من الأصوات العالية، أو رمي القاذورات، ونحو ذلك من الإساءات المتعمدة التي تكون بين شخصيات مختلفة من الجيران رجالاً ونساءً، بين سائقي السيارات في الشوارع تلمح هذا النمط من الأخلاق المتدنية، التي تعبر عن ظلم وتعدٍ وتحدٍ، وكل منهم يريد أن يكسر أنف الآخر بطريقة سياقته لسيارته، وهكذا سوء الخلق، حتى بين بعض الطلبة المنتسبين للعلم، سوء أدب، شيء من سوء الأدب مع العلماء في طريقة الخطاب والسؤال والمناقشة وهكذا.. أو التهجم والاتهام ونحو ذلك.
وكثير ممن انفض عنهم طلبتهم أتوا من هذا الباب، باب سوء الخلق، وإن مخططات أعداء الإسلام تركز على سوء الخلق وإفساد الأخلاق تركيزاً كبيراً، سواء كان هؤلاء من اليهود أو الماسونيين أو المبشرين بدين النصرانية وغيرها، هؤلاء مخططاتهم قائمة على نزع الأخلاق كما قال رئيسهم في مؤتمرهم: إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
ونحن مسلمون لنا منهاج ولنا كتاب ولنا مراجع، لنا أمور نحتكم إليها ونرجع إليها، الكتاب والسنة، وإذا تأملت -يا أخي المسلم- كتاب الله سبحانه وتعالى لوجدته يذكر هذا الجانب بجلاء، الحث على الخلق الحسن ويعدد أنماط الأخلاق الحسنة، التي ينبغي على المسلم أن يتخلق بها، فأنت تجد في كتاب الله مثلاً: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:18-19]، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:9-10]، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:26-27]، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء:29].
ويقول -أيضاً- في خلق آخر ذميم: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37] ومدح الله قوماً فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] هذا من حسن أخلاقهم، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3]، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22].. فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40].
جمع الله مكارم الأخلاق في آية واحدة موجهة لرسوله صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] قال مجاهد : يأخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخفيف، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم والعرف هو المعروف، وأعرض عن الجاهلين مثل قول الله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى مكارم الأخلاق بقوله وفعله، وكان قدوة حتى إن الله مدحه في كتابه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فأكد أنه قد تخلق بالأخلاق الحسنة بهذه المؤكدات في الآية، وإنك: أكدها بإن، لعلى: أكدها باللام، خلق: هذه النكرة تفيد التفخيم، تفخيم شأنه وحاله وخلقه صلى الله عليه وسلم، ثم وصف هذا الخلق بأنه عظيم، وهذا أمر رابع.
وفي الصحيحين عن هشام بن حكيم أنه سأل عائشة رضي الله عنها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن، فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً) لأن الجواب كان معبراً ودقيقاً، أي أن تصرفاته عليه الصلاة والسلام كانت ترجمة حية لأوامر الله ونواهيه المذكورة في القرآن، وعن سبب بعثته يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) هذه هي الشخصية العظيمة المتصفة بالخلق العظيم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ .
قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق -لم يكن يرفع صوته في مجامع الناس- ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح) وقالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة) وجاء -أيضاً- في الحديث الصحيح: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا) أي: ما سئل شيئاً من متاع الدنيا المباح، إذا كان ميسوراً أعطى، وإذا كان معسوراً ليس عنده وعد بالخير في المستقبل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم) حديث صحيح.
وعن عمرو بن العاص قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: (يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) هذا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وألفاظه وتعاملاته.
أما في تواضعه فكان عجباً من العجب.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة من الأنصار ومعها صبي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) وفي رواية لـمسلم : (فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها) وليس المقصود أنه اختلى بها الخلوة المحرمة، وإنما في الطريق، ابتعد شيئاً ما عن الناس حتى لا يسمعوا كلامها؛ لأنها تريد أن تقول له شيئاً خاصاً.
وعن أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة، ويجيب عليه الصلاة والسلام) والإهالة السنخة هي الدهن المتغير الرائحة من طول المكث، ليس خبيثاً ولا متعفناً، لكن حصل له تغير في رائحته من طول مكثه، ما كان يستحقر هذه الأشياء، ولو كانت بسيطة كان يلبي الدعوة: (لو دعيت إلى كراع لأجبت).
جاء أعرابي يوماً يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له: (أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: ولا أجملت -لا أحسنت ولا أجملت- فغضب المسلمون وقاموا عليه، ثم قام صلى الله عليه وسلم ودخل منزله فأرسل إليه -إلى الأعرابي- وزاده شيئاً فقال له: أحسنت إليك؟ قال: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت آنفاً، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عليك، قال: نعم. فلما كان الغد جاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي أكذلك؟ -يقول للأعرابي أكذلك؟ أمام الناس- قال: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها) -الآن لاحظ التطابق بين المثل أو هذه القصة والأعرابي- فقال لهم: (خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).
وهذا القرآن العظيم فيه دستور للأخلاق، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ذكر كثير للأخلاق الحسنة، والتحذير من الأخلاق السيئة، وعلماؤنا قد اهتموا بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، لذلك تجدهم قد أفردوا الأخلاق بمؤلفات مثل كتاب: مكارم الأخلاق لـابن أبي الدنيا ، ومساوئ الأخلاق للخرائطي ، ولا تكاد تجد مصنفاً في الحديث إلا وتجد فيه من أبواب الأدب: الأخلاق والبر والصلة، وأفرد البيهقي رحمه الله الآداب بكتاب مستقل وغيره، وألف ابن عبد القوي منظومة الآداب وشرحها السفاريني في كتابه العظيم: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وتجد كتباً مستقلة في بيان شمائله صلى الله عليه وسلم، ككتاب الشمائل المحمدية للترمذي ، والشمائل المحمدية لابن كثير ، وكتاب أخلاق النبي لـأبي الشيخ ، وخصص ابن القيم رحمه الله جزءاً من كتابه زاد المعاد لبيان أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وتجد الأحاديث فيها ذكر حسن الخلق والحض عليه والحث، قال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ما هو البر؟ تعريف البر: البر حسن الخلق، وقال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وقال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم) وقال: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن) وقال: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) وقال: (ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلق حسن) وقال عليه الصلاة والسلام: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً الموطئون أكنافاً) الكنف هو الجانب، والمقصود: أن من يصاحبهم لا يناله منهم أذى، (الذين يألفون ويؤلفون) يحبون ويأنسون، (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) وقال: (إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوأكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون - أي: المتكبرون- المتشدقون - الذي يكثر الكلام من غير احتراز-)، وقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) وقال: (خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فقهوا) وقال: (خير الناس ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن).
والله يحب مكارم الأخلاق ويكره الأخلاق السيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها) وقال: (إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها).
وجاءت أحاديثه عليه الصلاة والسلام بجملة من الأخلاق الحسنة، انظر إليه عليه الصلاة والسلام واستمع لقوله وهو يقول: (صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك)، (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت) وقال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ما شاء) حديث صحيح. وقال: (من كان سهلاً ليناً حرمه الله على النار) وقال: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الألف الذلول -الذي يقاد بسهولة- إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ) وقال: ( من كف غضبه ستر الله عورته ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً ومؤكداً على أخلاق معينة يركز عليها في حديثه: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) وقال: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) وقال: (التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة) وقال: (التأني من الله والعجلة من الشيطان) وهذا تركيز على خلق التأني.
وفي أحاديث أخرى يركز على الحياء، فيقول: (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء) (استحيوا من الله حق الحياء) ويقول لأحد الصحابة: (أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) وقال: (الحياء خير كله، الحياء من الإيمان) وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير).
ويركز على خلق ثالث وهو الرفق فيقول: (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) وقال: (عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقال: (عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش) وقال: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم) وقال: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله).
وهناك أخلاق مذمومة نهى عنها وحذر منها، فقد جاء في الحديث الصحيح: (كان أبغض الخلق إليه الكذب) رواه البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها، وقال عليه الصلاة والسلام في ذم خلق آخر: (يا
وهذا الخلق له أهمية في الأخلاق الاجتماعية، وفي العلاقات الزوجية، وفي تعاملات الناس، وفي كل شيء، حتى إنه عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة يدعون الله عز وجل فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها) قيل في هؤلاء الثلاثة: لا يستجاب دعاؤهم في خصومهم، وليس المعنى: أنه لا يستجاب دعاؤهم على الإطلاق، وهذا الحديث لا يعني -أيضاً- أنه إذا كانت المفاسد في الطلاق أكثر أنه يطلق، ولكن المرأة إذا ساء خلقها جداً فإن المصلحة في تطليقها؛ لأنها نكد، ولذلك لما جاء إبراهيم عليه السلام إلى بيت ابنه ولم يكن إسماعيل موجودا،ً طرق الباب فخرجت زوجته فسألها عن إسماعيل فقالت: خرج، فقال: كيف عيشكم؟ قالت: نحن بشر وضيق وذمت في عيشها، هذا لمن؟ لرجل غريب لا تدري من هو ذمت زوجها وحياتها معه، فعلم أنها امرأة سوء، فقال لها أن تقول لزوجها إذا رجع: أن يغير عتبة بابه، فعلم إسماعيل أن أباه يوصيه بتغيير هذه الزوجة.
وفي المقابل أن من الصفات التي تشترط للموافقة على الزوج أن يكون حسن الخلق، ولذلك يقول في الحديث الصحيح: (من أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فخص الخلق حتى لا يتعب زوجته بعدما يتزوجها.
أما الأخلاق فهي سجايا وطبائع في النفس، هذه الأخلاق الحسنة عرفها العلماء فقالوا: بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذية، وقالوا: بذل الجميل وكف القبيح، وقالوا: التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.
واعلموا -أيها الإخوة- أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أي: أن منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة في هذه الأمور الأربعة، ما هي؟
قال ابن القيم:
أولاً: الصبر.
ثانياً: العفة.
ثالثاً: الشجاعة.
رابعاً: العدل.
فأما الصبر: فهو حبس النفس، بأن يحبس النفس عن الأخلاق السيئة، ويصابر صاحبه على الأخلاق الحسنة.
والعفة: تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتمنع من الفحشاء.
وأما الشجاعة: فتحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، والبذل وكظم الغيظ، (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وأما العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
وأما الأخلاق السافلة فهي مجتمعة في أربعة أركان:
الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فأما الجهل فيري صاحبه الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وهذا لجهله.
والظلم يحمل صاحبه على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع. وهكذا.
وأما الشهوة: فإنها تحمل على الشح والبخل والجشع والنهم والدناءات كلها.
وأما الغضب: فيحمل على الحسد والحقد والعدوان، وحب الاعتداء على الآخرين، والكبر.
وكل صنفين من هذه الأخلاق الرديئة يتكون منه أخلاق إضافية سيئة، وجماع الأخلاق السيئة على أمرين:
إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة.
فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والخسة واللؤم والذل، ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والعنف والحدة والطيش، ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً، فيكون صحابها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قُهِر، جبان عن القوي جريء على الضعيف، فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضاً كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضاً، ولذلك كل شخص يكتشف خلقاً طيباً فليتوقع أنه سوف ينتقل إلى خلق آخر.
وينبغي أن نتنبه -أيها الإخوة- أن الأخلاق مسألة دقيقة، وأحياناً يكون بين الخلق الذميم والمحمود شعرة واحدة، فالخلق المحمود بين طرفين ذميمين، كل خلق محمود في الغالب بين طرفين ذميمين، فالجود: الكرم، بين طرفين ذميمين ما هما؟ بين البخل والتبذير، لاحظ أن الكرم خلق محمود بين خلقين مذمومين وهما البخل والتبذير، فإذا أمسك فهو بخيل وإذا صرف بانفتاح فهو مبذر، والوسط كريم.
والتواضع وسط بين الذل والكبر، فالإنسان إذا تواضع لدرجة أنه صار يصبر على الضيم، أو يرضى بالأشياء السيئة، ولا يعترض على أي شيء، فإنه عند ذلك لا يكون متواضعاً أبداً، وإذا زاد تجبر وتكبر، فالتواضع بين الذل والمهانة من جهة، وبين الكبر والعلو من جهة، فهو وسط بينهما.
والحياء وسط بين الوقاحة والجرأة من جهة، وبين العجز والخور، فبعض الناس يكون جريئاً وقحاً، ليس عنده حياء، وبعض الناس يظن أن عنده حياء ويستكين لكل شيء فيكون عاجزاً خواراً، يظن أن هذا حياء وهو العجز والخور، وإذا تجرأ وزاد عن الحد دخل في الوقاحة، والحياء رتبة بينهما.
والأناة خلق محمود بين طرفين ذميمين ما هما؟
الطرف الأول هو: الاستعجال، والطرف الثاني التفريط والإضاعة، فبعض الناس يظن نفسه متأنياً لكنه في الحقيقة أنه فرط وأضاع وانتظر حتى ذهبت عليه الفرصة، وبعض الناس متعجل جداً ومتسرع، والأناة وسط بينهما فهو لا متسرع ولا هو ينتظر الفرص، يسكت عن الفرص حتى تفوت عليه، فهو يتمهل ويتروى ولكن يقتنص الأشياء المحمودة فلا تفوت عليه.
والشجاعة خلق محمود بين طرفين مذمومين، ما هما؟
الجبن والتهور، فهناك أناس متهورون متسرعون إقدامهم غير محمود، وهناك أناس جبناء، والشجاعة بينهما، والسعيد من عرف كيف يسير.
والقناعة: خلق بين الشح والحرص من جهة، وبين الخسة والإضاعة من جهة، فبعض الناس يضيق على نفسه وعلى أهله ويظن أنه قنوع، بينما هو يعيش في خسة ويضيع أهله ومن يقوت، وبعض الناس يكون عنده حرص وشح، والقناعة وسط بينهما.
والرحمة وسط بين القسوة والضعف، وبعض الناس يكون قاسي القلب (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) وبعضهم يكون ضعيفاً ذليلاً، ومن ضعفه يظن أنها رحمة وليست برحمة، فتراه لا يذبح شاة، ولا يؤدب ولداً، ولا يقيم حداً، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس ذبح بيده الشريفة ثلاثاً وستين ناقة، وأقام الحد -قطع اليد- على رجال ونساء سرقوا، ورجم بالحجارة من زنى وهو محصن، ومع ذلك فهو أرحم الناس بأمته.
وطلاقة الوجه والبشر، بين التقطيب والتعبيس من جهة وتصعير الخد، وبين إذهاب الهيبة وزوال الوقار، فأنت إذا قطبت وعبست في وجه كل أحد فهذا خلق مذموم، وإذا كنت كلما رأيت أحداً في الشارع تضحك له في كل مكان وكل مجال، فماذا يعني ذلك؟ إذهاب هيبتك وزوال وقارك.
ولذلك أيها الإخوة: الإنسان يحتاج إلى عقل حتى يتخلق بالأخلاق الحسنة، وأحياناً يزيد الناس في شيء فيصلون إلى المذموم من جهة، أو ينقصون منه فيصلون إلى المذموم من الجهة الأخرى. وهذه قضايا تلاحظ بالتأمل والتفكير.
ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وكل ما فات فهو تقدمة مهمة لهذا الأمر، وهو: كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟
للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة: هل الأخلاق مسألة موروثة أم مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة أم يمكن اكتسابها؟
الحقيقة أيها الإخوة: أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون أبو الإنسان حليماً فيخرج الولد حليماً، وقد يكون والد الإنسان كريماً فيخرج الولد كريماً، وقد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء إليه طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، أي: أنه يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، فهي قضية موروثة.
ولكن هذه الأشياء الموروثة هل هي قابلة للتغير أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييره أبداً؟
الجواب: هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، ولذلك أمرنا بالمجاهدة.
أما الأخلاق المكتسبة فأمرها سهل، فهي أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان، لأنك الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، لكن الأخلاق الموروثة والطبائع تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، رغم أن هذه قضية قد تكون موروثة لكن لا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل.
الأخلاق منها ما هو جبلي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه.
فالدليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلي ما ورد في الحديث الصحيح: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) فهذان الخلقان جبل عليهما هذا الرجل، وهذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة.
وأما الدليل على أن الأخلاق يمكن أن تكون مكتسبة، فهو حديثه عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) وفي حديث آخر: (ومن يتصبر يصبره الله) فدل ذلك على أن الصبر والحلم خلقان يمكن اكتسابهما إذا تعود الإنسان عليهما، ما معنى الحلم بالتحلم؟ يعني أن تعود نفسك على الحلم وتراغم نفسك على الحلم، وتحملها على هذا الخلق، وبعد فترة يصبح هذا الأمر فيك ملكة وسجية، فتكتسب هذا الخلق.
وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة سؤالها من الله عز وجل ممكن، وكذلك الأخلاق المذمومة يمكن أن يسأل الإنسان ربه أن يصرفها عنه فتصرف.
فإذاً: هذه الأخلاق المكتسبة تنال بالتخلق والتكلف حتى تصير سجية وملكة.
ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وكل ما فات فهو تقدمة مهمة لهذا الأمر، وهو: كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟
للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة: هل الأخلاق مسألة موروثة أم مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة أم يمكن اكتسابها؟
الحقيقة أيها الإخوة: أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون أبو الإنسان حليماً فيخرج الولد حليماً، وقد يكون والد الإنسان كريماً فيخرج الولد كريماً، وقد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء إليه طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، أي: أنه يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، فهي قضية موروثة.
ولكن هذه الأشياء الموروثة هل هي قابلة للتغير أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييره أبداً؟
الجواب: هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، ولذلك أمرنا بالمجاهدة.
أما الأخلاق المكتسبة فأمرها سهل، فهي أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان، لأنك الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، لكن الأخلاق الموروثة والطبائع تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، رغم أن هذه قضية قد تكون موروثة لكن لا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل.
الأخلاق منها ما هو جبلي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه.
فالدليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلي ما ورد في الحديث الصحيح: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) فهذان الخلقان جبل عليهما هذا الرجل، وهذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة.
وأما الدليل على أن الأخلاق يمكن أن تكون مكتسبة، فهو حديثه عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) وفي حديث آخر: (ومن يتصبر يصبره الله) فدل ذلك على أن الصبر والحلم خلقان يمكن اكتسابهما إذا تعود الإنسان عليهما، ما معنى الحلم بالتحلم؟ يعني أن تعود نفسك على الحلم وتراغم نفسك على الحلم، وتحملها على هذا الخلق، وبعد فترة يصبح هذا الأمر فيك ملكة وسجية، فتكتسب هذا الخلق.
وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة سؤالها من الله عز وجل ممكن، وكذلك الأخلاق المذمومة يمكن أن يسأل الإنسان ربه أن يصرفها عنه فتصرف.
فإذاً: هذه الأخلاق المكتسبة تنال بالتخلق والتكلف حتى تصير سجية وملكة.
ما هي وسائل تغيير الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة؟
إليكم -أيها الإخوة- خمس عشرة وسيلة من وسائل اكتساب الأخلاق الحسنة والتخلص من الأخلاق الذميمة، وهذا مبحث مهم وهذا هو لب الموضوع، وهذا هو الأمر الذي لا بد منه، والسعي في فهمه وتطبيقه.
العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة
فأول شيء المسألة العلمية: أن تعلم ما هي الأخلاق الحسنة وما هي الأخلاق السيئة؟
وقد ذكرنا طرفاً من هذا أول الدرس، ذكرنا أمثلة من الأخلاق الحسنة التي أمر بها القرآن والسنة، وأمثلة من الأخلاق السيئة التي نهى الله عنها في كتابه ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن لو أن الإنسان تفكر في هذه الآيات: إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج:19].. وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54].. وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً [الإسراء:11]، كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6] أي جحود وكفور! فيظهر لك هنا أن الله عز وجل ذكر أخلاقاً مذمومة في الإنسان، منها: العجلة، والجدال، والطغيان، والجحد، والهلع، وفسره بقوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:20-21].
لو تأملنا في الأخلاق السيئة وتعرفنا على الأخلاق السيئة اجتنبناها، وإذا تعلمنا الأخلاق الحسنة شرعنا في اكتسابها.
المجاهدة
إن من أعظم وسائل تغيير الأخلاق السيئة إن لم تكن هي أهمها على الإطلاق، كيف يكتشف الإنسان أن لديه خلقاً سيئاً؟ إذا حصلت حادثة -مثلاً- غضب، وقال كلمة سيئة، أو أتى بتصرف غير صحيح، يعرف أن عنده خلقاً سبباً: سوء غضب، أو فحش في الكلام، فماذا يفعل في المواقف التي يستثار فيها؟
ينبغي أن يكبت نفسه، ويمسك نفسه، ويصبر عن أن يتكلم بكلمة فحش، أو يأتي بتصرف غير لائق بالمسلم.
وإذا دعي إلى الإنفاق فإن النفس تقول له: أحجم، اتركها لأولادك، الظروف لا تسمح الآن بالإنفاق، الآن لا بد أن نوفر، فالمجاهدة أن يحمل نفسه على الإنفاق، ويرغمها على الإنفاق، ويعطي بسخاء، فيزول هذا الشح من نفسه ويحل محله الكرم والسخاء والجود، إذا هو أدمن هذه العادة وهي الإنفاق في سبيل الله ومقاومة النفس، فمجاهدة ومقاومة النفس هي الأساس، والله وعد خيراً فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وكثير من الشباب والناس عموماً يحاولون ويجاهدون أنفسهم، فشخص يقول لك: أنا إنسان حمقي سريع الانفعال، شديد الغضب، وأحاول في نفسي وأجاهد نفسي، لكنني أفشل أحياناً، فهذا الفشل شيء مفهوم؛ لأن هذه الجبلة التي عندك لا يمكن أن تغيرها بين عشية وضحاها، فهي ستنجح أحياناً وسوف تفشل أحياناً، هذا أمر مفهوم واضح.
ولذلك فإن اليأس بسبب الفشل في بعض الأحيان لعملية المجاهدة شيء مذموم يحتاج إلى تغيير، ولا بد أن يكون الأمل في نفوسنا ونحن نحاول أن نغير أخلاقنا.
الأخذ بالأسباب الشرعية
مثال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بأشياء عند الغضب؛ لأن الغضب شيء مذموم، وهناك إرشادات شرعية، في أوامر شرعية:
أولاً: أن يسكت، قال: (ومن غضب فليسكت) إذاً إذا غضبت فلتسكت.
ثانياً: يتعوذ بالله من الشيطان، كما ورد في حديث المستبان، أو حديث المستبين.
كذلك ثالثاً: قال: (ومن كان قائماً فليقعد).
ورابعاً: قال: (أمرنا أن نتوضأ).
فصار عندك أربعة إجراءات شرعية عند الغضب، ما هي؟
أولا:ً السكوت، ثانياً: الاستعاذة بالله من الشيطان، ثالثاً: تغيير الحالة، فإن كنت قائماً فلتقعد، وإذا كنت قاعداً هل تقوم؟ لا؛ لأن القيام هذا يشجع على الاعتداء وعلى البطش، وإنما تغير من الحالة إلى الحالة التي هي أدنى منها، ورابعاً: توضأ، لأن الغضب حرارة شيطانية فيكسره بالوضوء.
إذا غضبت فاعمل الأشياء الأربعة وشرط وعهد أنك تتخلص من الغضب في ذلك الموقف أبداً.
ولذلك فمن رحمة الله أن الشريعة جاءت رحمة للعباد ومصلحتنا في اتباع الشريعة، فإذا غضبت فاسكت، واستعذ من الشيطان، هذه إجراءات نبوية وإرشادات ينبغي الأخذ بها.
التدرج
فالناس يختلفون في مدى استعدادهم للتغيير، الناس عندهم استعداد للتغيير، لكن أين لب الموضوع؟ النسبة في التغير، فلان يمكن أن يتغير بسرعة، وفلان يمكن أن يتغير ببطء، وهذا أمر ملاحظ في التربية، فهناك أناس يرتقون بسرعة وأناس يرتقون ببطءٍ شديد، والإنسان حتى لا يصاب باليأس لا يقال له: أنت اليوم جبان، غداً نريدك شجاعاً وإلا فأنت فاشل في تربية نفسك، لا. هذه سجايا، إذا أردت أن تغير بين عشية وضحاها فأنت تصادم طبيعة النفس، أنت تصادم قضاء الله في الناس، والله عز وجل من حكمته في خلقه أنه جعل تغيرهم في الأخلاق ليس سريعاً.
فإذا أردت التغيير بين عشية وضحاها فأنت تصادم الأمور الطبيعية وستفشل، وهذا لا يعني أنه إذا كان عندك استعداد للتغير السريع ألا تتغير، تغير بسرعة، لكن التدرج في هذه الأمور يختلف الناس فيه سرعة وبطئاً، قال الشاعر:
ومكلف الأشياء فوق طباعها متطلب في الماء جذوة نار |
هل تجد في الماء شعلة نار؟ لا تجد، فعكس طبائع الأشياء، لا يمكن.
ولذلك نقول: هذه الفقرة ترك المثاليات، لأن بعض الناس الذين يريدون تغيير الأشياء السيئة قد يكون عنده مثالية في النظرة فيفشلون، ولذلك نحن نطمح للشيء المثالي، ولو لم نصل إليه بسرعة.
عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة
فبعض الناس يقول: أنا الآن سأبحث عن عيوبي، ليس عندي بخل، أو غضب، أو فحش في القول، أو جبن، أو تهور .. إلى آخره، فهو الآن يريد أن يجتث هذه الأشياء واحدة واحدة، فيشغل نفسه بتتبع الأخلاق السيئة فقط، دون أي شيء آخر، وينسى قضية العبادات التي تزكي النفس، فالعبادات لها أثر، لذلك قال الله: إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] فإذاً.. الصلاة والصدقة، وحفظ الفرج، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، هذه أشياء تعين على التخلص من الأخلاق السيئة، فبعض الناس أحياناً ينشغل بالأخلاق السيئة فقط، وينسى أن يشتغل بعبادات وأشياء تعينه على التخلص من الأخلاق السيئة.
ما مثال هذا؟
ذكر ابن القيم رحمه الله مناقشة لطيفة مع شيخه ابن تيمية ، ذكرها في مدارج السالكين ، ضمن النقاش يقول: مثال الشخص الذي ينشغل بالأشياء السيئة فقط، ويغفل عن الأشياء الأخرى وأن يسير إلى الله، يقول: مثله مثل إنسان مسافر في طريق سفر، في أرض فيها حيات وعقارب، فإذا قال: أنا أريد أن أبحث عن كل حية وعقرب وأقتلها حتى لا تنهشني، فإذا انشغل في تتبع الحيات والعقارب فقط، فهل سيصل؟ قد لا يصل، وقد يغلب من حية أو عقرب تنهشه فيهلك، لكن ماذا يكون الوضع الصحيح؟ قال: يمشي ويتحاشى الشر، فإن عرض له شيء فليقتله ويواصل المسيرة، وإذا تصدى لك شيء فصار أمامك ولا تستطيع أن تمشي فاقتله وأكمل المسيرة، فإذاً.. الاشتغال بالتنبيش في الأخلاق والعيوب السيئة فقط، هذا يمكن أن يستهلك من الإنسان وقتاً طويلاً جداً فيذهل عن الدعوة وطلب العلم والعبادة والتربية الإيمانية، وأشياء أخرى، تكون مساعدة جداً في التخلص من الأخلاق السيئة، ولذلك يمكن للإنسان أن يتربى تربية إسلامية بالعبادة، فيكتشف أن خلقاً سيئاً قد زال منه دون أن ينشغل أصلاً بتتبع أصل الخلق السيئ ومحوه وإزالته، لكن لو ظهر الخلق السيئ فينبغي عليك أن تجاهد نفسك في تلك اللحظة والحالة للتخلص منه، وهذه مسألة دقيقة تحتاج لشيء من التأمل والتفكير.
ولذلك نحن مطالبون بتزكية النفوس، ليس باجتثاث الأخلاق السيئة والبحث عنها فقط، وإنما بالعبادات والتعلم والأشياء الأخرى، وهذا معنى قول الله عز وجل في وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] هب أن داعي الجهاد قد قام ورفعت راية لا إله إلا الله حقاً حقاً، وقام المسلمون يجاهدون ثق بأن الجهاد إذا حصل سوف يقضي على كثير من الأخلاق السيئة في نفوسنا، وإن لم نتعنَّ نحن التنبيش عنها أصلاً والانشغال باجتثاثها من جذورها.
يمكن أن تذهب إلى رحلة حج وترجع وقد تغيرت فيك أخلاق سيئة؛ لأن هناك أشياء مثل المناسك والناس والزحام عندما تراها، ويعلم أن هذا سفر فإنه يصبر على أشياء كثيرة، لكن هذا لا يعني أن الإنسان -مثلاً- لا يبحث عن آفاته مطلقاً، ولكن المقصود ألا ينشغل بذلك عن بقية الوسائل التي تزكي نفسه.
المحاسبة
المحاسبة أمر مهم، والنفس اللوامة التي تلوم نفسها على ما يحصل منها من الأشياء، هذا أمر مهم في التخلص من الأخلاق السيئة واكتشافها الأخلاق السيئة، ولا بد أن يحاسب الإنسان نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، كما قال بعض السلف : والمحاسبة ليست مسألة جداول وأرقام كما يفعله بعض المبتدعة في محاسبة النفس، يأخذون جداول وفيها: هل فعلت كذا؟ وهل فعلت كذا؟ وفيها أرقام، ويجمع الأرقام وإذا حصلت على كذا فأنت بخير، وإذا ارتحت فأنت ..، هذه ليست طريقة السلف في المحاسبة، وليس هو التطبيق الصحيح لقول الله عز وجل: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18].
التعود على محاسبة النفس على المواقف والأخطاء، إذا وقعت في خطأ فتعزم على التصحيح في المستقبل وتستفيد من هذا الخطأ للمستقبل، ولنأخذ لكم مثالاً جيداً: ابن حزم رحمه الله له كتاب جيد، كتاب مختصر ولكن فيه فوائد كثيرة، اسمه: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، وهو ليس شيئاً كاملاً لا يمكن أن يوجد فيه ثغرات، لكنه كتاب مفيد وفيه تأملات عميقة، كتاب الأخلاق والسير ، الآن نأخذ مثالاً: كيف تكون المحاسبة؟
يضرب مثلاً يقول: العجب خلق سيئ، فكيف تحاسب نفسك محاسبة تخلصك من العجب؟ -اسمع معي ماذا يقول!- يقول: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفت عليه عيوبه جملة -لم ير عيباً فيه- حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً، وضعيف العقل؛ لأن العاقل هو من ميز عيوبه بنفسه فغلبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، قال: واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط.
-لا يمكن أن يوجد فينا نحن المجتمعين هنا شخص لا عيب فيه، هذا مستحيل- وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة، يعني: لو أنت فكرت في استماعك لعيوب الناس ما فائدته؟ لا يمكن أن تجد إلا فائدة واحدة، وهي الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.
ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، لأنك إذا تفطنت في العيوب وظهرت لك أمامك في لائحة العيوب، فكيف ستعجب بنفسك وقد ظهرت أمام عينيك لائحة عيوبك، ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منك، هذه مسألة مهمة، أي: لا تقل: هناك أناس أسوء مني وأتعس مني، وأكثر عيوباً مني، يقول: إذا فعلت ذلك فسوف تستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر.
ثم يقول: فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذٍ، ولو كان عقلك كاملاً لما جاءت فيه هذه الخواطر السيئة، وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنساها.
كل إنسان معه سقطة أو سقطات، وأخطأ أخطاء شنيعة، فكر في هذه الحالات فيزول إعجابك بنفسك فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابك، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم، وإن أعجبت بعملك إذا صار الإعجاب من جهة العمل، فتفكر في معاصيك.
افرض أنك مثلاً شاهدت إنساناً ملهوفاً محتاجاً يستغيث فأعنته، فقدمت له خدمة عظيمة جداً وقام على رجليه، فقد يدخل في نفسك عجب بالعمل، تقول: أنا اليوم لو مت على هذا العمل فأنا من أهل الجنة، قد يأتي في بالك عجب بالعمل، فماذا تفعل؟
يقول: تفكر في معاصيك وفي تقصيرك، وفي معاشك ووجوهه، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويغطي على حسناتك، فليكن همك حينئذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك، فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، فكيف تزيل العجب بالعلم؟ أن تعتقد أنه موهبة من الله وهبك إياها ربك، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء، واعتدال الأحوال وصحة البحث، أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج لاستعادته، يحفظ من مرة واحدة، وقيل: إنه ركب البحر فمر به هول شديد في البحر، أنساه أكثر ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً.
يقول ابن حزم : وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له، فما عاودته إلا بعد أعوام، أي: ما استرجعت المحفوظات هذه بعد هذا الهم وهذه الكربة أو العلة إلا بعد أعوام.
والذي يعجب بعلمه -أيضاً لإذهاب العجب من نفسه- فعليك أن تعلم أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلوم أكثر بكثير مما تعلم، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم منه، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى.
وسيلة أخرى: تفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيرين، وشيء آخر: كم علمت من العلم الذي عندك، لو صار عندك عجب، فكر كم في المائة من العلم الذي تعلمته نفذته وطبقته، فيسقط عجبك بالكلية.
وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله إياها فيما صرفتها؟ فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدته بالعجب، فصرت الآن بين النارين، ثم تأمل هذه الشجاعة كيف ستزول عنك إذا بلغت من الكبر عتيا، وصرت من عداد العيال والصبيان في الضعف.
وإن أعجبت بجاهك ومنصبك ومكانتك في الشركة والمؤسسة -مثلاً- فتأمل في مخالفيك وأندادك ونظرائك من الناس الذين لهم وجاهات، وتأمل في خستهم وما وصلت بهم وجاهاتهم من معصية الله عز وجل؟
ولذلك لما جلس ابن السماك رحمه الله يعظ الرشيد مرة دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه -الرشيد - فقال له: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ -كم تعطي من ملكك لتبتاع الشربة؟- فقال الرشيد : بملكي كله -أي: أموت إذا لم أشرب- قال: يا أمير المؤمنين! فلو منعت خروجها منك -أي: أنه صار عندك حصر بول- بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: يا أمير المؤمنين! أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء، فعلمه التواضع وعدم العجب بالخلافة والملك.
وإذا فكر الإنسان في نفسه وطبائعه وتولد الأخلاق، فإنه سوف يقف على يقين بأن الفضائل هي ما منحه الله للإنسان، وأنه لولا الله لعجز وهلك، ويسأل الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، يقول: قد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض والفقر والخوف والغضب والهرم، فأنت الآن تلاحظ أن كبار السن يصير عندهم نوع غضب أكثر، وحدة أكثر، وتراه يثور لأتفه الأسباب، تأمل إذاً نعمة الله عليك، يقول: لقد أصابتني علة شديدة وتولدت علي ربواً شديداً في الطحال، وولد علي ذلك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر أمراً حاسبت نفسي فيه، إذ أنكرت تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن هذا المرض يولد من هذه المفاسد أشياء كثيرة.
فإذاً: الإنسان بالتأمل والمحاسبة، ومناقشة النفس، يمكن أن يزيل أخلاقاً سيئة من نفسه.
التحويل والتوجيه
مثلاً: شخص عنده غضب أو عنده حدة، أو طمع وفخر وعلو وخيلاء، كيف يحول هذه الأخلاق ويوجهها لكي يستثمرها في الأشياء الطيبة؟ بعض الناس من المشكلات التي يواجهونها في تغيير الأخلاق السيئة أنه يريد أن يجتث الخلق بالكلية، فلا يريد أن يكون عنده خيلاء أبداً، ويكون حاله مثل حال أهل البلدة، أهل بلدة تفجر النهر عليهم وصار يجري باتجاههم وهم يعلمون أنه سوف يغرق زروعهم وثمارهم ومبانيهم فقالت طائفة نبني سدوداً، ونجعل هذا السد يوقف الماء المتدفق، لكن هؤلاء الناس لم يكن على حسبانهم أن يكون الماء متدفقاً بشدة فيهدم السد، وأناس آخرون قالوا: أفضل شيء أن نذهب إلى منبع النهر فنسده، ولا نجعل فيه مجالاً؛ لأن الماء يخرج منه وينبع، ولا خلاص إلا بقطعه من ينبوعه، فلما ذهبوا لسده تعذر عليهم، وأبت الطبيعة النهرية إلا الجريان، فكلما سدوه من موضع نبع من موضع آخر، فأشغلهم منع النهر عن الزروع والثمار والعمران التي كانوا فيها، وفرقة ثالثة رأت ما حل بالأولى من الدمار، وما حل بالثانية من ضياع الأعمال، فأخذوا في حفر مجارٍ للنهر في أماكن يتوجه إليها، فصاروا يحفرون لهذا النهر مجاري وسواقي وفروعاً فتحول النهر عن قريتهم التي كان سيدمرها إلى هذه المجاري ومن المجاري إلى أراضي زراعية قابلة للزراعة، فنبت فيها أشياء كثيرة، فانتفعوا ونجوا من المهالك.
ما علاقة هذا بموضوعنا؟ علاقته أن بعض الناس يقولون: لا بد أن نجتث هذا الخلق اجتثاثاً، ثم لا يمكنهم ذلك ويفشلون، وقد ينشغلون بأشياء عن القضايا الأخرى مثل الطاعات، فالحدة -مثلاً- نستخدمها عندما تنتهك محارم الله، لاحظ معي هذا التحويل، يستخدم الحدة عندما تنتهك محارم الله، ويجعل الطمع في الخيرات والمسابقة فيها وتحصيل الثواب، فبدل أن كان طمعه في الدنيا صار في الآخرة، فالطمع لا زال موجوداً لا يمكن اجتثاثه من النفس، لكن حولناه من الطمع في الدنيا إلى الطمع في الأعمال الصالحة.
الفخر قد يصعب اجتثاثه من النفس بالكلية، لكن بدلاً أن يكون فخراً بالجاهلية وفخراً بالآباء والأجداد وفخراً بالقبيلة فليكن فخراً بالإسلام:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم |
فالفخر لا يزال موجوداً في نفسك، لكن حولته إلى فخر بشيء حسن، وهو الفخر بالإسلام.
القهر: الإنسان يحب أحياناً أن يرغم أنوف الناس، يحب أن يكون له العلو والغلبة، فلماذا لا يحول هذا القهر إلى قهر للأعداء، وقهر المنافقين والعلمانيين، وقهر أعداء الله والرد على اليهود والنصارى، والرد على أهل الشبهات فيقهرهم بالحجة، فيصرفه إلى مجرى نافع ومفيد.
الخيلاء: أن يكون عندك خيلاء؟ نعم. ممكن، لكن حول الخيلاء إلى الأشياء الطيبة -مثلاً- الخيلاء على أهل الباطل، مثل الخيلاء في الحرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن بلبس الحرير ومشية الخيلاء في الحرب، وقال: (هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن) وصار الصحابي يتبختر ويتمايل، ويلبس الحرير أمام صفوف الأعداء، فإذاً: حولنا الخيلاء من شيء سيئ على عباد الله المستضعفين إلى الخيلاء على الأعداء وفي الحرب، فإذاً: هناك خيلاء لكنه يرضي الله ورسوله.
ومن تأمل هذا الباب وجد أن فيه مواءمة وملاءمة لطبيعة النفس، واستفادة وتحصيل أرباح وعدم انشغال بأمور هي أقل جدوى، وهذه المسألة مهمة في التربية، لا يدركها ولا يتفطن لها إلا من وصل فعلاً إلى قناعة بالطرق السليمة في توجيه الأخلاق وتهذيبها.
التصعيد
ما هو التصعيد؟
هو تحويل تطلعات الشخص من الأشياء الدنيئة إلى الأشياء العالية، ومن الأشياء الصغيرة التافهة إلى كبار الأمور، فمثلاً يقول الله عز وجل: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طـه:131] لا تشغل نفسك بالصغائر والتراهات، وجمع الأموال والركض وراء الدنيا؛ لأن هذه أشياء تبلى، والزهرة تموت وتذبل، هذه فتنة نفتنهم فيها، وقال: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131] صعد في نفسه الاهتمام من الأشياء الدنيئة وهي زهرة الحياة الدنيا، وما متعنا به أزواجاً منهم إلى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ولذلك التربية من الأشياء التي فعلها عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه الدالة على عظم تربيته لهم، أنهم كانوا أناساً هممهم تافهة كانوا منشغلين في الجاهلية بالخمر، والنساء، والحروب، ودفن البنات، والنوادي، والمنتديات، والكلام الفارغ التافه، ليس عندهم هدف، فصاروا بعد الإسلام قادة في العالم، فكان منهم الفاتحون والقدوات والعلماء والحكماء، لقد نقل الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة من اهتمامات دنيئة في الجاهلية إلى معالي الأمور والتطلع نحو قيادة العالم.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام |
وهذا الأمر فيه وسائل مثل التشويق والتحبيب والتحسين والتزيين والممارسة، انظر -مثلاً- في قول الله عز وجل لما حدثت حادثة الإفك وتكلم في عائشة من تكلم، وكان ممن تكلم غلام لـأبي بكر اسمه مسطح بن أثاثة ، تكلم في عائشة ، وعندما نزلت براءة عائشة غضب أبو بكر ومنع وقطع النفقة عن مسطح عقاباً له، فنزل قول الله عز وجل: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما رأى المسألة فيها ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال: [بلى يا رب! أنا أحب أن تغفر لي] انتقلت القضية في نفسه من الانتقام من هذا الشخص إلى شيء أعلى وهو الحلم والعفو عمن ظلمك والإحسان لمن أساء إليك، فارتفعت المسألة بهذا الأسلوب وهو ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
الإبدال
وهو من وسائل تغيير الأخلاق السيئة، انظر إلى كل خلق ذميم وضع بدلاً منه عكسه، كما ذكرنا في الشجاعة والتهور، وكما ذكرنا في التسرع والتأني، وفي البخل والكرم، ومثل .. إلى آخره، أبدل كل خلق ذميم وحاول أن تأخذ عكسه، فأبدل الجبن ليصبح مكانه شجاعة، والكرم بدل البخل، والتواضع بدل الكبر، والحياء بدل الوقاحة والجرأة غير المحمودة وهكذا.
قراءة سير الصالحين
أخلاق الأنبياء والصحابة والصالحين والعلماء؛ لأن هؤلاء قدوة حسنة -وهذا جانب القدوة- فأنت إذا قرأت في أخلاقهم عن عالم من العلماء ونظرت إلى ترجمته تجد مثلاً نسبه وولادته ونشأته وطلبه للعلم ورحلاته، ولابد أن تجد جانباً اسمه: أخلاقه، اقرأ هذه الأخلاق، فإنها تحملك على التشبه بهؤلاء الكرام:
إن التشبه بالكرام فلاح |
ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة
تخيلوا لو أنا وضعنا جباناً في وسط قوم شجعان ماذا يحصل له؟ ولو وضعنا بخيلاً في وسط قوم كرماء ماذا يحصل له؟ يتأثر من الوسط الذي هو فيه، وهذا يؤكد لنا أهمية التربية الجماعية، وأن الناس الذين يريدون ويتربون داخل بيوتهم دون اختلاط بالطيبين لن يستفيدوا كثيراً.
تكثير الدوافع للتخلق بالخلق الحسن
كلما كثرت دوافعك لشيء تحمست له أكثر، فمثلاً: بعض الناس يعمل عملاً في شفقة، من باب الرحمة، أي أنه صار عنده رحمة بالأمر فتفاعل مع الحدث، وبعض الناس يعمله من باب الإنسانية في التعامل، وبعض الناس يعمل هذا التصرف من باب العادة؛ لأنه متعود على هذا الشيء، وبعضهم يعمله تقليداً للآخرين، وبعضهم يعمله ابتغاء الأجر وابتغاء الجنة، ولتكفير السيئات، ولتعليم الآخرين يكون قدوة وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] ولتربية نفسه.
إذاً: كلما كثرت دوافعك للتخلص من الخلق السيئ صار حماسك لهذا أكثر، فكثر الدوافع وتفطن وأنت تعمل كل عمل، حاول التغيير، وما هي دوافعك لهذا؟ لتنال الأجر ورضا الله والجنة، وتكون قدوة للآخرين، وتربي نفسك على هذا الأمر وهكذا.
التأمل في الحوافز الأخروية
بمعنى آخر: الترهيب والترغيب، قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن) (أثقل شيء في ميزان المؤمن الخلق الحسن) (إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء) (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) (إن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة) (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم) وفي رواية: (القائم بالليل الظامئ بالهواجر) (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) ماذا تشعر إذا أنت قرأت أحاديث الترغيب هذه؟ تشعر بحافز ودافع لهذا العمل، فيكون هذا لك معين على التخلص من الأخلاق السيئة، مثلاً خذ هذا الحديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) مثلاً حديث: (من كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) هذا في الآخرة.
وفي الدنيا من الترغيبات يقول عليه الصلاة والسلام: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار) فإذاً: من باب التكثير والتوسيع عليك في الدنيا أن تحسن الخلق، وإذا أردت وسيلة أو من أسباب زيادة العمر فحسن خلقك؛ لأن حسن الخلق من أسباب زيادة العمر.
في المقابل أحاديث الترهيب: (البذاء من الجفاء والجفاء في النار) البذاء: فحش القول، والجفاء: الغلظة وسوء الخلق، (البذاء من الجفاء والجفاء في النار) قال عليه الصلاة والسلام: (وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) حديث صحيح.
الدعاء
جهود المربين
إن ما ذكر في الماضي كان تربية فردية، هذه الأشياء التي أنت تفعلها لنفسك، هذه تربيتك الفردية.
من وسائل تحسين الأخلاق التربية الجماعية وجهود المربين الموجهة إلى الشخص، وهذا الكلام الآن من صعيد إلى صعيد آخر، لا شك أن تغيير الخلق يعتمد على مجهود الشخص الفردي أصلاً، ولكن هناك -أيضاً- عوامل أخرى خارجية وهي جهود المربين نحو هذا الشخص، فالمربي عليه أن يعطي كل إنسان نفسيته ما يلائمها فتهدأ.
انظر مثلاً إلى هذا الجانب التربوي، المربي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل لكي يهدئ النفوس ويراعي الجوانب، ففي البخاري عن عمرو بن تغلب : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا -الذين ما أعطاهم عتبوا- فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال: أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وآكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم
هذا المربي يقول كلاماً له أثر، قال: (
نفس الموقف حصل بعد حنين ، مسلمة الفتح، الناس الذين أسلموا يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم مائة، مائة من الإبل، يتألف قلوبهم، ويزيل الحواجز والعداوات بالإعطاء، والأنصار الذين جاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا من المدينة وتعبوا ما أعطاهم شيئاً، فتكلم بعضهم، وقالوا: يعطي قريشاً ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم، أي: يعطي هؤلاء من غنائم حنين مائة، مائة من الإبل ونحن ما لنا شيء، فلما سمع عليه الصلاة والسلام ذلك، بلغته المقولة فجمعهم: فسأل: ماذا حصل؟ وماذا قيل؟ فقال فقهاؤهم: يا رسول الله أما أولو العلم فينا ما قالوا شيئاً، وأما بعض أحداثنا -صغار السن- فقد قالوا هذه الكلمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمته المؤثرة جداً لدرجة أنهم قد بكوا حتى اخضلوا لحاهم، (ألا ترضون أن يذهب الناس بالشياء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار).
هذه كلمات لكن الأنصار طابت أنفسهم، وقالوا: بلى رضينا، أي: رضينا بهذا القسم العظيم بأن يذهب الناس بالشياء والبعير ونحن نرجع بأكبر غنيمة وأعظم شيء معنا في الدنيا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرجع به، رضينا برسول الله حظاً وقسماً ونصيباً.
أيضاً من وسائلهم: استغلال الحوادث، فلو رأيت -مثلاً- أمامك ظلماً، يمكن أن تربي ولدك أو صديقك أو متبوعك بهذه الحادثة، فتقول: انظر إلى الظلم ماذا جر من العواقب الوخيمة، هذا الشخص الذي يتربى معك يكره الظلم، لأنك استغللت الحادثة في تفهيمه أن هذا الظلم عاقبته وخيمة، أو رذيلة من الرذائل أو فضيحة من الفضائح.
وإذا رأيت مشهداً جيداً، رأيت مشهداً فيه عدل، فلفت نظر من معك إلى هذا المشهد، فاستغليت الحدث والتعليق عليه، ومشاهد الشجاعة أو الجبن.
كذلك من وسائل المربين: ضرب الأمثال، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الكرم وعدم البخل، والإنفاق وعدم التقتير، وعدم المنع والشح، يقول -مثلاً-: يضرب لهم أمثلة، يقول: المنفق عليه درع وكلما أنفق ازداد حتى صار سابغاً لجميع أعضاء جسمه، ومثل البخيل عليه درع، كلما بخل ازدادت الحلقات حبساً على أجزاء جسده، فضرب المثل هذا من عم
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اقتضاء العلم العمل | 3615 استماع |
التوسم والفراسة | 3614 استماع |
مجزرة بيت حانون | 3544 استماع |
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] | 3500 استماع |
اليهودية والإرهابي | 3429 استماع |
إن أكرمكم عند الله أتقاكم | 3429 استماع |
حتى يستجاب لك | 3396 استماع |
المحفزات إلى عمل الخيرات | 3376 استماع |
ازدد فقهاً بفروض الشريعة | 3350 استماع |
الزينة والجمال | 3340 استماع |