شرح زاد المستقنع كتاب العدد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والمعتدات ست].

قوله رحمه الله تعالى: (والمعتدات ست) إجمال قبل البيان، جمع رحمه الله أصناف المعتدات، فالنساء اللاتي تثبت العدة في حقهن ستة أنواع، وقد بينا غير مرة أن من عادة العلماء رحمهم الله أنهم يجملون الأحكام ثم يفصلونها، وبينا محاسن هذا وأنه مقتبس من هدي الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال رحمه الله: [الحامل: وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل].

النوع الأول من المعتدات: الحامل، فإذا كانت المرأة حاملاً؛ فإن عدتها أن تضع حملها كاملاً، وينفصل عنها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فبين سبحانه وتعالى أن عدة المرأة الحامل أن تضع الحمل.

والحمل ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن تلقيه المرأة وتخرجه، ولا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن تلقيه وقد اكتمل وتم، والحالة الثانية: أن تلقيه قبل التمام والاكتمال، فإذا أخرجت المرأة حملها ونفست، وانفصل الولد عنها؛ فإنه يحكم بخروجها من عدتها، ولا يشترط انقطاع الدم عنها، فالعبرة بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

وأما الحالة الثانية: وهي أن تلقي الحمل قبل تمام المدة فلا يخلو إلقاؤها إما أن يكون بعد تخلق الجنين، وإما أن يكون قبل تخلق الجنين، فإن ألقته قبل تخلق الجنين فإنها لا تخرج من عدتها، وأما إذا ألقته بعد التخلق وفيه صورة الآدمي أو الخلقة أو بعد نفخ الروح فيه فإنه يحكم بخروجها من عدتها.

قال رحمه الله: [بما تصير به الأمة أم ولد].

تصير أم ولد إذا ألقت ما فيه صورة الآدمي، وهذه المسألة: إذا ألقت المرأة وأسقطت، تتفرع عليها أحكام في العبادات والمعاملات، فإذا ألقت المرأة ما في بطنها قبل تمامه واكتماله نظرنا فيه، فإن كانت فيه صورة الآدمي وصورة الخلقة فهذا يؤثر في العبادات والمعاملات، ففي العبادات: الدم يعتبر دم نفاس إن جرى منها قبل إلقائه، وفي المعاملات: يحكم بأنها قد خرجت من عدتها، وأما إذا كان الذي ألقته ليس فيه صورة خلقة الآدمي فإنه في هذه الحالة لا يكون الدم دم نفاس، وإنما هو دم استحاضة، فيكون نزيفاً تغسله ثم تتوضأ وتصلي، ولا يمنع صوماً ولا صلاة، وتعتبر في حكم الطاهرات.

إذاً: الإسلاب والإسقاط ينظر به إلى الشيء الذي أسلبته وأسقطته؛ فإن حصلت فيه صورة التخلق وصورة الآدمي ولو كانت ناقصة فإنه تثبت فيه الأحكام في العبادات والمعاملات، وإن كانت ليست موجودة فيه صورة الآدمي فلا تثبت فيه لا العبادات ولا المعاملات، وهذا هو ما عبر به: أن تصير الأمة أم ولد، وحينئذٍ تعتق على سيدها بعد موته.

قال رحمه الله: [فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحاً، أو ولدته لدون ستة أشهر منذ نكحها ونحوه وعاش لم تنقض به].

إذا طلق الزوج امرأته وكانت حاملاً فإما أن يكون ممن يولد لمثله، وإما أن يكون ممن لا يولد لمثله، فإن كان ممن يولد لمثله فالولد للفراش؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل من طلق امرأته بعد الدخول وهي حامل نقول لها: عدتك وضع الحمل، وأما إذا كان قد طلقها وتبين فيها الحمل وهو ممن لا يولد لمثله ويتعذر منه الحمل مثل: الصغير ومثل: ممسوح الآلة الذي ليس لديه عضو، فحينئذٍ يحكم بعدم الاعتداد بهذا الحمل.

(لم تنقض به) يعني: لو حملت ووضعت فالحمل ليس منه، وحينئذٍ لا تعتد بهذا الحمل، وبعد انتهاء حملها تعتد كعادتها من الأقراء، لأن هذا الحمل فيه شبهة الزنا بأن يكون من غيره كما لو اعتدي عليها فأكرهت على الزنا والعياذ بالله، أو وطئها أحد وهي نائمة، ففي هذه الحالة لا يحكم بكون الحمل مؤثراً في العدة.

ومراد المصنف أن يقول: الأصل أن الحامل تخرج من عدتها بوضع الحمل، لكن يشترط أن يكون الحمل للرجل الذي تعتد من طلاقه، فإذا كان الحمل من غيره فلا.

كيف يكون الحمل من غيره؟

إذا تبينا أن مثله لا يحمّل كالصبي، ومثل من كان ممسوح الآلة، فإنه في مثل هذا الحالة تبقى حتى تضع حملها ثم تستأنف عدتها من طلاقها.

(أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكحها).

بينا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أقل مدة الحمل، فإذا كان الذي دلت عليه النصوص أنه لا يمكن أن يكون الحمل قبل ستة أشهر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، فبين أن مدة الحمل ومدة الرضاع هي ثلاثون شهراً، والثلاثون شهراً إذا فصلت منها مدة الرضاع بقيت مدة الحمل، ومدة الرضاع أربع وعشرون شهراً أي: سنتان؛ لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] فبقيت من الثلاثين ستة أشهر، فأصبحت الستة أشهر هي أقل مدة الحمل، فإذا وضعت الولد في أقل منها حينئذٍ لا ينسب له، ولا يعتد بهذا الحمل في خروج المرأة من عدتها إذا أخرجته.

قال رحمه الله: [وأكثر مدة الحمل أربع سنين].

قيل: أكثر ما وجد في حمل المرأة أنها تستمر إلى أربع سنوات، وذكر عن بعض أئمة السلف أنه مكث في بطن أمه أربع سنين، وهذا هو الغالب الموجود، وهو أكثر ما وجده العلماء وتكرر حتى قال بعض أهل العلم رحمهم الله: لا يعرف بأكثر من أربع سنين، وبناءً على ذلك: فلو كانت المرأة في عصمة الرجل وتأخر حملها إلى أربع سنين، فإنه يحكم ببقائها في عدتها حتى تضع هذا الحمل.

قال رحمه الله: [وأقلها ستة أشهر].

وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما ذكرنا من دلالة الآيتين الكريمتين، حيث بين الله تعالى أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وأن مدة الرضاع سنتان: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] فبقيت ستة أشهر، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اعتبروا أن أقل المدة ستة أشهر.

قال رحمه الله: [وغالبها تسعة أشهر].

الغالب أن المرأة تضع حملها في مدة تسعة أشهر، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً، وعلى كل حال: ففائدة معرفة أقل الحمل وأقصى مدة الحمل تكون من جهة النسبة وترتب الأحكام، فإذا وضعته قبل أقل مدة الحمل فالحمل ليس له، فإذا كان العقد في بداية محرم اعتبرنا منها أقل مدة الحمل، فلو لم تتم مدة الحمل فيما بعد محرم، كأن تضعه في خمسة أشهر بعد محرم فإننا لا نحكم بكونه ولده، وتكون قد حملت به قبل العقد، وحصل وطء من غيره فلا ينسب إليه، وهكذا لو أنها وضعت فوق أربع سنين، فإنه لا ينسب إليه، ولا تترتب عليه الأحكام من حيث العدة، فتخرج من عدتها إذا ثبت نسبة الحمل إليه، ولا يحكم بخروجها من العدة إذا ثبتت نسبة الحمل إلى غيره أو تعذرت نسبته إليه.

قال رحمه الله: [ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح].

(ويباح إلقاء النطفة) هذه المسألة وهي مسألة: إسقاط ما في البطن من النطفة والعلقة والمضغة والأجنة.

وهذا الإسقاط والإجهاض للأجنة فيه تفصيل:

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز أن تجهض وتسقط الأجنة بعد نفخ الروح، وأنه إذا نفخت الروح في الجنين وأسقطت المرأة ذلك الجنين فإنها تعتبر قاتلة، وهكذا إذا أعانها الطبيب فأعطاها دواءً أو علاجاً للإسقاط، وهكذا لو أعانت المرأة أو الرجل من النساء على الإسقاط بترويع أو تخويف أو حمل ثقيل ونحو ذلك.

فإذ نفخ الروح فلا يجوز إسقاط الأجنة؛ لأنها أنفس محترمة، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

أما قبل نفخ الروح ففيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والذي دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر فينفخ الروح فيه) فدل هذا الحديث على أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً.

ومن هنا اختلف فيما قبل نفخ الروح، هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من حرم ذلك ومنعه وقال: إنه لا يجوز، ومن أهل العلم من رخص فيه وجوز، وكلا القولين موجود في المذاهب الأربعة، إلا أن الذين شددوا من الحنفية والمالكية رحمهم الله وبعض أصحاب الإمام أحمد، والشافعية استدلوا بأدلة صحيحة قوية، فإن الأصل في الأجساد والأرواح أنه لا يجوز الإقدام على العبث بها أو تعريضها للتلف أو تغيير الخلقة، وهذا أصل دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله لما ذكر قبائح الشيطان ذكر منها: تغيير الخلقة: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] فأخبر الله تبارك وتعالى أن مما يسوله الشيطان لعصاة بني آدم العبث في خلقته، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه أن ما قبل نفخ الروح من الخلقة، ولذا قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك) ولذا قال: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14] فدل على أنها من الخلقة، ونص السنة يدل أيضاً على أنه لا يجوز العبث في الخلقة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة قال: (المغيرات خلق الله) فجعل العلة في اللعن -والعياذ بالله- إقدامهن على تغيير خلق الله عز وجل، وثبت في الحديث الصحيح من كلامه عليه الصلاة والسلام بنص الكتاب والسنة على أن مراحل التخلق هي كما في قوله الله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14] فهذا يدل على أنها مخلوقة، وأنها من خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه نسب الخلقة إليه، فالإقدام على إتلاف هذه الخلقة وإزهاقها حرام؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي تحريمها، ولم نجد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفريقاً بين ما قبل نفخ الروح وما بعد نفخ الروح.

ثم استدلوا بالعقل وهو النظر الصحيح، وهو قياس قوي جداً: وهو أن جمهور العلماء منهم من يقول -كبعض أصحاب المذاهب- قالوا: إن هذه لم تخلق، فقالوا لهم: أرأيتم بيض الصيد، فإن الله حرم علينا قتل الصيد، فسئلوا عن بيض الصيد هل يجوز إتلافه؟

فقالوا: لا يجوز، وفيه الضمان، مع أن بيض الصيد سيئول إلى الخلقة المكتملة، وهذا يدل على حرمة الإقدام على إتلاف هذه الأشياء، ثم لا يشك عاقل على أن هذا خلق الله عز وجل الذي سيئول إلى الخلقة المعتبرة شرعاً، فبأي دليل يقدم على إسقاطه ومنعه من البقاء؟

وهذا الفعل يخالف الأصول الشرعية، فإن من المقاصد الأصلية في النكاح تكثير سواد الأمة، ونسل الأمة، وهذا الفعل يضاد تماماً قوله: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) وهذا يمنع مقصود الشرع من النكاح، فالذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول الشرعية والأدلة أنه ليس هناك دليل قوي يدل على جواز الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الروح لا تنفخ إلا بعد المائة والعشرين يوماً ليس فيه دليل على جواز إتلاف هذه الخلقة، فإن العبث بهذه الخلقة والإسقاط للأجنة له آثار سلبية، وحتى الأطباء أنفسهم يقررون هذا، فإن المرأة إذا أقدمت على تعاطي الدواء أو تعاطي الأسباب التي تسقط الجنين فإنه لابد من وجود أثر لهذا التعاطي ولهذا الفعل، ولابد من وجود تبعات ومضاعفات تضر بالمرأة وتضر بجسدها، ولا يمكن أن الإنسان يشك في هذا، فالجسد إذا أخرج عن عادته وطبيعته لابد أن يتضرر، فلو استعمل الدواء لابد له من أثر، ولو تعاطت الأسباب الشنيعة الفظيعة من الترويع أو حمل الأشياء الثقيلة فإنها قد تسلب ويحدث معها نزيف وتضطرب عادتها، ويحدث لها من الأضرار في جسدها ما لا يخفى في كثير من الأحوال التي يفعل أو يقدم فيها على الإسقاط، وبناء على ذلك: فالذي نعرفه من نصوص الشرع وأصول الشريعة أن الواجب على الطبيب أن يقدم على علاج الأبدان ووقايتها من الضرر، أما أن يقدم على إسقاط الأجنة والعبث في خلقة الله عز وجل فهذا ليس له دليل لا من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس للذين قالوا بجواز الإسقاط إلا دليل واحد وهو حديث ابن مسعود الذي تقدم وقد أجبنا عنه، بل حديث ابن مسعود رضي الله عنه يقوي عدم جواز الإسقاط؛ لأنه يدل أنه من خلق الله، والنصوص تدل على عدم العبث في خلق الله فيقتضي المنع.

ثم أيضاً تجد نفس المذاهب والأقوال التي أجازت الإسقاط تجدها مضطربة في الفتوى والقول بجواز الإسقاط، والذي تطمئن إليه النفس ترك هذه الأجنة وترك هذه الخلقة وعدم إقدام الأطباء على إسقاط الأجنة سواء كان قبل نفخ الروح أو بعده.

لكن تستثنى من هذا مسائل:

منها: إذا كان بقاء الجنين يغلب على ظن الطبيب أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها، وهذا يسمى عند الأطباء بالحمل المنتبذ أو الحمل القنوي أو الحمل المهاجر، وحقيقته: أن الجنين يتخلق في غير موضعه الطبيعي، ثم ينتفخ ويفجر القناة ثم ينفجر في بطن المرأة فيقتل المرأة ويموت هو بنفسه، فحينئذٍ يجوز الإسقاط، ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين إن تعذر إسقاطه؛ وذلك لإنقاذ نفس محرمة، وليس من باب إسقاط الأجنة، وإنما هو تلافٍ لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة، فنحن لا يمكننا أن نعرض حياة الأم اليقينية للخطر والضرر بسبب حياة قد تبقى وقد لا تبقى؛ لأن بعض الأطباء يقول: حياة الجنين نفسها مستبعدة؛ لأنه إذا تم الاكتمال في هذا الموضع سيفجر القناة، فيموت الجنين في بطن الأم، وتموت الأم تبعاً لذلك.

إذاً: حتى حياة الجنين غير مستقرة، وبناء على ذلك: يجوز إسقاط الجنين في مثل هذه الحالة وأشباهها مما تتعرض فيه الأم للهلاك والضرر، وهذا من باب درء المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى؛ لأن نصوص الكتاب والسنة دالة على هذه القاعدة التي هي: (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) ومن الأدلة على ذلك: أن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة لأجل إنقاذ السفينة كاملة، وهذا يدل على أنه يجوز إتلاف الأقل لما هو أعظم منه، والجنين هنا ليس في مقام الأم، وكذلك حياته ليست غالبة ولا متيقنة، فتقدم الحياة المتيقنة وهي حياة الأم على الحياة الموهومة، وهذا هو الذي يفتى فيه بجواز الإسقاط.

أما بالنسبة لتساهل المرأة في هذا الأمر، وتقول: أتعبتني تربية الأولاد، وأريد ما بين الأولاد تفاوتاً؛ فهذه كلها شهوات ونزوات، ورغبات النساء ليست موجبة للعدوان على هذه الحدود الشرعية من العبث بخلقة الله عز وجل، وتعريض الأنفس للضرر، وإزهاق الأرواح، خاصة إذا كان بعد نفخ الروح، فإن الله عز وجل شرع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ضمان الأجنة كما جاء في قصة المرأتين لما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى فألقت جنينها، فقتلتها وألقت ما في بطنها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين، وهذا يدل على أنه له حرمة.

فعلى كل حال: على النساء أن يتقين الله عز وجل، ويشرع للزوج أن يمنع زوجته؛ لأن الولد ولده، إلا إذا قرر الأطباء أن المرأة تتعرض للخطر والضرر كما ذكرنا فهذا يستثنى، ولا يجوز للطبيب أن يعين على مثل هذه الأعمال لما فيها من الاعتداء على حرمات الله عز وجل، والإقدام على إتلاف الأجساد والعبث فيها دون مسوغ شرعي.

قوله رحمه الله: (بدواء مباح). يعني: عند من يقول بجواز الإسقاط قبل الأربعين وقبل بداية التخلق، يقولون: في هذه الحالة يشترط أن يكون الدواء مباحاً، وسيأتينا -إن شاء الله- أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم لا يجيزون التداوي بالمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز التداوي بالمحرمات، وبناء على ذلك: يشترطون أن يكون الدواء مباحاً، وأن تكون الوسيلة وسيلة مشروعة، وليست بوسيلة ممنوعة.

حكم تناول الأدوية التي تزيد في الإخصاب

السؤال: هناك بعض الأدوية تزيد من الإخصاب وإمكانية الحمل، فهل يجوز تناولها رغبة في الحمل؟

الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فالمسائل الطبية النازلة الجديدة تحتاج إلى أن لا يفتى فيها إلا بعد الجلوس مع الأطباء ومن لهم خبرة في هذه المسائل؛ لمعرفة حقيقتها.

مثلاً: الأدوية التي تستعمل للإخصاب هل هناك بديل، وهل هناك ضرر يترتب على هذا الدواء؟ لأنه قد تكون هناك مضاعفات، وهل إذا استخدم هذا الدواء لا تتضرر المرأة، وهل إذا حصل حمل لا يتضرر الحمل ولا تنتج آثار سيئة على الحمل؟

هذه الأمور والتساؤلات كلها لا يجيب عنها إلا الأطباء المختصون، وليس كل طبيب يصلح لأن يأتمنه العالم أو يسأله عن هذه المسائل، ففي بعض الأحيان يكون الطبيب عنده تحمس لحل الشيء أو تحليل الشيء، فإذا كان عنده تحمس فشهادته شهادة متهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) الظنين في لغة العرب المتهم كما قال تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، وفي قراءة بظنين) والعلماء عندما ذكروا الشهادة قالوا: إذا كان عنده حرص على الشهادة ويشهد قبل أن يستشهد -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- لا تقبل شهادته، ولذلك في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم قال: ثم يأتي أقوام يشهدون ولم يستشهدوا) فهذا يدل على أنه حرص على الشهادة، وهذا موجب للتهمة في شهادته، فالذي يحرص على تحليل الأشياء متهم؛ لأن له مصلحة في تحليله، أو يريد أن يقنع الناس حتى يتعالجوا عنده، فمثل هذا لا تقبل شهادته؛ لأنها محل حرص على التحليل وسيؤثر هذا الحرص على بيان السلبيات، وسيؤثر هذا الحرص على بيان المضاعفات، وكشف حقيقة الشيء المسئول عنه، ولذلك إذا بين الطبيب حقيقة الدواء، أو حقيقة الطريقة، أو حقيقة الأمر الذي يسأل عنه حينئذٍ تنكشف الأمور ويمكن للعالم أن يفتي بالحل والتحريم.

فهذه الأدوية من حيث الأصل مشروعة لتكثير سواد الأمة، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فإذا كان لا يستطيع أن ينجب أو عنده ضعف في الإنجاب، أو المرأة عندها ضعف في الإخصاب والإنجاب فتعاطت الأدوية من أجل أن تنشط فهذا في الأصل العام وسيلة لمشروع، والقاعدة: (أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، هذا من حيث الأصل العام.

لكن، ما طبيعة هذه الأدوية، وما هي الطريقة التي يتم بها استخدام هذا العلاج.

مثلاً: الرجال لهم وضع، والنساء لهن وضع، فالنساء قد يكشف في علاجها عن العورة، وقد تلمس العورة، وقد يولج في الفرج شيء، وهذا كلها محاذير شرعية لابد من النظر فيها، لكن الأصل العام من حيث تكثير سواد الأمة، وحصول الذرية فهو أمر سائغ شرعاً ولا إشكال فيه، لكن هذه الأدوية تحتاج إلى نظرة ومعرفة عن طريق الأطباء الذين لهم إلمام بهذا.

فالأصل يقتضي الجواز، ولكن قد يكون هذا النوع من الدواء لا يجوز استعماله، وهذا معروف، حتى مرض الرأس قد يكون علاجه بمسكن له مضاعفات، ومسكن ليس له مضاعفات، فنقول: هذا المسكن الذي له مضاعفات لا يجوز استخدامه مع وجود المسكن الذي لا مضاعفات فيه.

فهل معنى ذلك أن علاج الرأس محرم؟

الجواب: لا. إنما حرم تعاطي هذا النوع من الدواء لعلة، والإشكال أن بعض الفتاوى تنظر إلى الأصل العام، والإطار العام دون النظر إلى الحقيقة، والسبب في هذا عدم الرجوع إلى الأطباء وسؤال من عنده إلمام وخبرة.

والرجوع إلى الأطباء لا يكفي فيه أن ترجع إلى واحد أو اثنين، ولا يكفي أن ترجع إلى طبيب عنده علم نظري وليس عنده علم تطبيقي، فكلما كان الطبيب عنده علم نظري وتطبيقي وممارسة وتخصص فيما يسأل عنه، ومرور على الحالات المختلفة، كلما ذلك كان أجلى وأوضح.

وعلى كل حال فمن حيث الأصل العام: تعاطي الأسباب التي لا محذور فيها للإخصاب والإنجاب لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم.

حكم تسمية المولود والعقيقة عنه إذا مات

السؤال: إذا مات المولود بعد ولادته بأيام فهل تجب تسميته والعقيقة عنه؟

الجواب: إذا مات المولود بعد سبعة أيام فالسنة أنه يعق عنه ويسمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) وقد نص العلماء رحمهم الله على أن السنة في العقيقة أن تكون في السابع، فإذا تأخر الوالد عن ذبحها ثم توفي المولود قبل أن يتمكن والده من ذبحها، فإنه يذبحها ويتداركها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون) والمرهون أصله من الرهن، والرهن في لسان العرب: الحبس، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] فعيلة بمعنى: مفعولة. أي: مرهونة، فهذا يدل على مشروعية العقيقة عنه، وكونه يبقى أو يموت هذا لا تأثير فيه ما دام أنه بلغ هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة النافلة أربع ركعات متصلة

السؤال: هل يجوز أن تصلى النافلة أربع ركعات متصلة؟

الجواب: في صلاة الليل لا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها أربعاً ولم يجلس إلا في آخرها صلوات الله وسلامه عليه، وفي صلاة النهار فيه خلاف، والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس أن يصل الأربع بتسليمة واحدة، كأن يدخل قبل صلاة الظهر فيما بين الأذان والإقامة ويخشى أن تقام الصلاة لو فصل بتسليمتين، فيجمع الأربع بتسليمة واحدة، فلا بأس بذلك ولا حرج عليه، ولا يجلس في التشهد الأول إذا صلى أربعاً، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، بل يصل الأربع ويجلس في آخرها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج بعد انتهاء العادة بأيام

السؤال: إذا أتت المرأة الدورة الشهرية ثم انقطع الدم بعد المدة المعتادة، ثم بعد ذلك بأيام رجع الدم فماذا تفعل؟

الجواب: من حيث الأصل: كل امرأة جلست أيام عادتها حتى أتمتها ثم جاءها الدم بعد ذلك قبل تمام أقل الطهر فإنه دم استحاضة وليس بدم حيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة المستحاضة: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي) وقال كما في حديث فاطمة رضي الله عنها في الصحيحين: (دعي الصلاة أيام أقرائك) فقوله عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) يعني: أيام العادة التي كنت تحيضينها، فدل على أن العبرة بأيام الحيض المعتادة.

لكن إذا عاودها يوماً ويومين ثم انقطع بعد ذلك؟ إذا كانت عادتها -مثلاً- ثلاثة أيام ثم انقطع الدم بعد ثمانية أيام، ثم عاودها في اليوم العاشر والحادي عشر، ثم انقطع، فتنتظر ثلاثة أشهر، فإن عاودها في الثلاثة أشهر بهذه الصفة فقد انتقلت إلى عشرة أيام، لكن انتقلت إلى عشرة أيام منفصلة فتصبح عادتها ثلاثة أيام متتابعة ويومان منفصلان، وهذا يحدث عند بعض النساء وتكون عادتها قد انتقلت في الشهر الثالث، فإذا جاءها على هذه الصفة فالعادة تنتقل إلى العدد الجديد انفصل الدم أو انقطع، فلو اتصلت يومان بالعادة فأصبحت العادة عشرة أيام تنتقل العادة إلى عشرة أيام، ولو انفصل ولم يتصل فتكون عادتها ثمانية أيام ثم ينقطع يوماً أو يومين ثم يأتي بعد ذلك دم ليومين وتكرر معها ثلاثة أشهر بهذا المعنى فقد أصبحت عادتها من الثمانية منتقلة إلى العشرة، فاليومان تابعان للحيض إذا ثبت ذلك في ثلاثة أشهر متتابعة، والله تعالى أعلم.

حكم صيام المرأة الحائض إذا استخدمت علاجاً يمنع نزول دم الحيض

السؤال: لو شربت المرأة دواءً يمنع حيضها حتى تتمكن من صيام رمضان فما الحكم؟

الجواب: أولاً: الأدوية التي تستعمل لمنع الحيض ذكر الأطباء أن لها ضرراً، وذكر بعض أهل الخبرة أنها قد تتسبب في سرطان الرحم، وهذه المشكلة أقول فيها: لابد من الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة، فأي شيء يخرج البدن عن طبيعته سيكون له مضاعفات؛ لأن الله وزن هذا البدن وقدره وخلقه وصوره، وتبارك الله أحسن الخالقين.

فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلّف الضرر والعواقب السلبية، فهذه الحبوب فيها ضرر كما يثبت أهل الخبرة ذلك، حتى إن من علاماتها وأماراتها أن تربك العادة، والله سبحانه ما خلق هذا الدم عبثاً، ولا جعل هذه العادة سدىً، حتى الأجهزة العصبية الموجودة في البدن تتفاعل مع هذا الحدث الذي خلقه الله، وهذا النزيف من الدم الذي يطهر الرحم في مدة معلومة قد يختل ويتأثر نتيجة منع هذا الدم من الخروج وكل هذا يبين فساد هذه الأدوية التي تستعمل، وهذا أمر يعرفه من يرجع إلى الأطباء المختصين الذين عندهم دراية ويتكلمون عن هذا الموضوع بكل وضوح وبكل إنصاف وتجرد.

ثانياً: هذه الأشياء لا يجوز تعاطيها من حيث الأصل كما ذكرناه لوجود الضرر، ويبقى السؤال: هل إذا شربت الدواء وانقطع حيضها تصبح طاهراً؟

خلاف بين العلماء، والصحيح: أنها تصبح طاهرة؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، فإذا لم يوجد الدم فإنه يحكم بطهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) وهذه لم تقبل حيضتها لأنه لم يخرج الدم، وبناء على ذلك يحكم بطهرها، وهذا اختيار طائفة من المتأخرين من أهل العلم، وأشار بعض الفضلاء إلى هذه المسألة بقوله:

إذا شربت هند لأن تمنع الدم عن الزمن المعتاد بالطهر فاحكما

وذلكم فرع السماع وإن يكن بتعجيل حيض قبل إبانه فما

تنال الذي قد حاولت من براءة لشيخ خليل دون ريب وأحجما

عن الصوم فيها والصلاة ورجحوا قضاءهما والصوم تقضي متمما

فهذه المسألة الصحيح: أنه يحكم بطهرها، فلو شربت العلاج ثم طافت طواف الإفاضة صح طوافها، ولو شربت العلاج وصامت أيامها من رمضان صح صومها؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، وهو غير موجود، فيحكم بطهرها على أصح القولين عند العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.