شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وأدوات الشرط: إن وإذا ومتى وأين ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار، وكلها ومهما بلا لم أو نية فور أو قرينة للتراخي، ومع لم للفور إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة ].

الله سبحانه وتعالى نص في كتابه في مواضع على اعتبار صيغة الشرط والحكم بها، ولذلك تعد من لسان العرب ولغتهم، فإذا علق المسلم طلاقه بصيغة الشرط فإن هذا يستلزم وجود أداة يسميها العلماء: أداة الشرط، وهذه الأدوات منها ما يتعلق بالشرط المحض، ومنها يتعلق بالزمان، ومنها ما يقصد منه التكرار، ومعانيها ودلالاتها تختلف، فنظراً لذلك لابد عند بيان أحكام الطلاق المعلق بالشروط أن ينتبه طالب العلم لهذه الأدوات، وأن يعطى كل لفظ حقه من الدلالة.

التعليق بأداة الشرط (إن)

يقول رحمه الله: [وأدوات الشرط إن].

قوله: (إن): هذه تعتبر أُم الأدوات، وهي تدل على محض الشرطية، وقال بعض العلماء: لا علاقة لها بالزمن، ومن المعلوم -كما تقدم معنا- أن هناك شرطاً وجزاء للشرط معلق على وجود هذا الشرط، ومعنى ذلك إذا قال لزوجته: إن قمتِ فأنتِ طالق، فمعناه: أنه رتب طلاق زوجته على وجود القيام.

وبناءً على ذلك فلابد من وجود فعل الشرط وجواب الشرط وأداة تربط بين الجملتين، وإذا عبر بأداة (إن)، فإنه تارة يعبر بالإثبات وتارة يعبر بالنفي، فيقول لزوجته: إن تكلمت فأنتِ طالق، إن قمتِ فأنتِ طالق، إن ذهبتِ إلى أبيكِ فأنتِ طالق... ونحو ذلك، هذا كله متعلق بالإثبات، فإن وجد القيام أو وجد الكلام أو وجد الخروج من حيث الأصل فإنه يُحكم بالطلاق، هذا بالنسبة للإثبات.

وأما في النفي فنحو: إن لم تقومي فأنتِ طالق، إن لم تتكلمي فأنتِ طالق، إن لم تذهبي إلى أبيك فأنتِ طالق، فهذا نفي، فهذه الأداة فيها ما يتعلق بالإثبات وفيها ما يتعلق بالنفي، وكل منهما له حكم، ففي الإثبات لنا حكم، وفي النفي لنا حكم آخر.

قلنا: إن عندنا فعل الشرط: إن قمتِ، وجواب الشرط: فأنتِ طالق، هذا الجواب يترتب بالفاء لقوله: فأنتِ طالق، فمن حيث الأصل إن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. فلا إشكال في اعتبار الصيغة، ويربط بين جملة فعل الشرط وجواب الشرط بالفاء، لكن لو قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فهذا محل خلاف بين العلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: إن قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فإننا لا نعتبر الجملة الثانية وهي قوله: أنتِ طالق؛ مرتبة على قوله: إن قمتِ. لعدم وجود الفاء، وبناءً على ذلك تطلق عليه مباشرة؛ لأنهم لا يرون الربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، فيقولون: كأنه قال لغواً: إن قمتِ، وقوله: أنتِ طالق، بعد ذلك كلام يستأنف ويوجب وقوع الطلاق على البت والتنجيز.

واختار طائفة من العلماء كالإمام ابن قدامة ، وبعض أصحاب الإمام الشافعي أنه إذا قصد الشرط فإنها لا تطلق عليه إلا إذا قامت، ويغتفر حذفه للفاء؛ لأن الأمر مستقر في نفسه ونيته، فكأنه قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، كما لو جاء بالفاء، وهذا هو الصحيح لأنه قصد الشرطية.

يبقى عندنا سؤال حين قلنا هنا: إن وجود الحرف الفاء وانتفاءه مؤثر في الصيغة، وقلنا: إن النية أقوى، يرد السؤال: لو أن رجلاً قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نجعل طلاق المرأة موقوفاً على القيام مطلقاً؟ أو فيه تفصيل؟

الجواب: إذا قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق فله ثلاثة أحوال:

الحالة الأول: أن يقصد ترتيب الجملة الثانية على الجملة الأولى، أو ترتيب الشرط على المشروط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، فإذا قصد الشرطية وقال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ونوى في قلبه أنها لا تطلق إلا إذا قامت فإنها لا تطلق إذا لم تقم، وذلك لأن اللفظ يدل على الشرطية، وجاءت نصوص القرآن باعتبار الشروط كما سنبين، كقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة:6] اشترط الله عز وجل وجود طلب الجوار، وأمر وحكم بأنه مجار بذمة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على اعتبار صيغة الشرط، وترتب الحكم عليها، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها لا تطلق إلا إذا قامت؛ يتوقف الطلاق على وجود القيام، هذه الحالة الأولى.

الحالة الثانية: أن يكون مقصوده إيقاع الطلاق مباشرة، فلو قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها طالق فوراً ألغينا قوله: إن قمتِ. وأوقعنا الطلاق بقوله: أنتِ طالق، وعلى هذا لا تؤثر صيغة الشرطية لأنه تلفظ بالطلاق، ونوى الطلاق على التنجيز فلا يحكم بالتعليق، إذاً عندنا حالتان متقابلتان:

الأولى: أن ينوي الشرط ويقول: إن قمتِ فأنتِ طالق. ومراده أنها لا تطلق إلا إذا وجد القيام، فبإجماع العلماء من حيث الأصل أنها لا تطلق إلا إذا قامت.

ثانياً: إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. قاصداً بت الطلاق ووقوعه مباشرة، طلقت عليه مباشرة، ولم يلتفت إلى قوله: إن قمت أو قعدت أو غير ذلك من الشروط.

الحالة الثالثة: إذا لم ينو الشرطية، ولم ينو البت في الطلاق وتنجيزه، قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: يا فلان ما الذي قصدت؟ قال: ما دار بخلدي شيء، أتيت بهذا اللفظ وقلت لزوجتي: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: هل قصدت أن الطلاق يقع فوراً؟ قال: لا. قلنا: هل قصدت الشرطية؟ قال: لا. إذاً يحكم بالظاهر، ويعتد باللفظ على ظاهره ويؤاخذ به، ولا نلتفت إلى كونه قصد الطلاق أو لم يقصده؛ لأن الشرع في الهازل الذي لم ينو الطلاق اعتد بظاهره وأسقط الباطن، وفي هذه الحالة أيضاً إذا لم يقصد الشرطية ولم يقصد تنجيز الطلاق نحكم بظاهر قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فظاهر لفظه أنه لفظ يقع فيه الطلاق بشرط معين، فنقول: بينك وبين الله إن وقع هذا الشرط أمضينا عليك الطلاق، وإلا فلا.

فهي ثلاثة أحوال:

أولاً: أن يقصد الشرط، اعتد به وأخذ بظاهر قوله، فاجتمع الظاهر والباطن على الشرطية ولا إشكال.

ثانياً: أن يقصد التنجيز والإيقاع فوراً، والصيغة لا يلتفت إليها ولا يعتد بها فيمضي عليه طلاقه.

ثالثاً: أن لا يقصد شيئاً من الأمرين فنقول: إنه تلفظ بالطلاق، وحينئذٍ ننظر إلى ظاهر لفظه، فنؤاخذه على ظاهر اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).

مسألة أخيرة في (إن قمتِ) -وبعضهم يجعلها مطردة في أدوات الشروط كلها- من حيث الأصل يعبرون بقوله: إن قمتِ، وإذا قمتِ، إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نطلقها بمجرد الارتفاع للقيام؟ أو بعد تمام القيام؟ عندنا شيء هو الابتداء بحيث يوصف الإنسان بأنه ابتدأ في المحذور، وعندنا شيء هو تمام المحذور بحيث نصفها بأنها قد قامت فعلاً ودخلت فعلاً، وقد كتبت، مثلاً: قال لها: إذا ولدتِ فأنتِ طالق، فهل نطلق في ابتداء الولادة؟ أو نطلق بتمامها؟ وهل نطلق بابتداء الدخول؟ أو بانتهائه وتمامه وكماله؟ لو قال لها: إذا حملت هذه الصخرة فأنت طالق، وهي حامل وجاءت تحمل الصخرة، فلما انتصبت لحملها أسقطت جنينها، وهو مكتمل الخلقة فهل يعتد بسقوطه، وتخرج من العدة؟ إن قلت: إنها تطلق بابتداء الشروع، فقد خرجت من عدتها بالولادة؛ لأنها قد وقعت بعد استيفاء الشروط، وإن قلت: إنها لا تطلق إلا بعد تمام حمل الصخرة واستتمامه والوقوف به، فحينئذٍ يكون سقوط الحمل الموجب للخروج من عدة الطلاق سابقاً للطلاق فلا يعتد به، ويحكم بكونها مطلقة بعد تمام الحمل.

هذه مسألة: هل يطلق بابتداء الصفة أو بتمامها وكمالها.

التعليق بأداة الشرط (إذا)

(وإذا( لو قال: إذا دخلتِ الدار، أو تكلمتِ، أو إذا سكتِ، أو إذا قمتِ، أو إذا قعدتِ. فهذه صفات تعلق الحكم بالطلاق على وجودها، فنحن في هذه الحالة لا ننظر إلى الزمان، فنقول: هذه المرأة إذا قال لها زوجها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق. فإنها زوجة له ما لم تتكلم، فإن تكلمت يحكم بطلاقها، فلا ندري هل تتكلم الآن؟ أو تتكلم اليوم؟ أو تتكلم الغد؟ لا ندري متى زمان الإخلال ولذلك يقولون: (إذا) أداة على الخطر، يحتمل أن تقع ويحتمل أن لا تقع، لو قال لها: إذا كتبتِ فأنتِ طالق، ربما جلست حياتها كلها لا تكتب فلا طلاق، ولربما كتبت بعد تلفظه مباشرة فطلقت، ولربما جلست اليوم والأسبوع أو مدة ما شاء الله، فإذاً: هذه الصيغة ليس لها تعلق إلا بالشرطية وهي (إن).

ثم (إذا) بعض العلماء يلحقها بإن ويقول: إنها تقتضي الشرطية وتدل على الشرطية، لكن الذي رجحه طائفة من العلماء أنها أقرب إلى الزمان، وبناءً على ذلك: إذا قال لها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق، فإنه في هذه الحالة لا نحكم بطلاقها إلا بوجود الكلام أو بوجود الدخول ونحو ذلك من الصفات التي علق وقوع الطلاق عليها.

التعليق بأداة الشرط (متى)

(ومتى)

هذا بالنسبة للزمان، متى قمتِ فأنتِ طالق، فإنه متى وجد القيام وفي زمان القيام يحكم بطلاقها، وهناك فرق بين قوله: متى قمتِ فأنتِ طالق، وبين قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق، وقوله: إن قمتِ فأنتِ طالق، فإن متى متصلة بالزمان وهي ألصق بالزمان، ولذلك يقولون: إنها متعلقة بالحين، قال الشاعر:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

قال بعض العلماء: إن لها وجهاً من الشرطية وإن كانت متعلقة بالحين، فكأن الشاعر يقول: في أي حين تأتيه تعشو إلى ناره تجد..، وعلى هذا فإن (متى) لها اتصال بالزمان أقرب من الأداتين الماضيتين، وعليه: فإننا لا نحكم بالطلاق إلا بوجود زمان القيام، متى قامت، فتطلق في زمان القيام.

واعتد بعض العلماء بابتداء الزمان فقال: تطلق عند ابتداء قيامها، وبعضهم يقول: لا تطلق إلا في أثناء الوقت الذي هو يستغرق القيام، فيأتي فيها ما لا يأتي في صيغة إن قمت، أو إذا قمت، هل المراد الابتداء أو الانتهاء؟ لأن الظرفية في الشيء تكون داخل الظرف إما زماناً أو مكاناً، فحينئذٍ يكون طلاقها في ظرف الوقت الذي فيه القيام، وعلى هذا: يشمل ما بين الابتداء والانتهاء، فهي في الوسطية أقرب منها من قوله: إذا قمت، أو إن قمت، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. يحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ وتم قيامكِ فأنتِ طالق، ويحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ، أي: بمجرد القيام.

والسبب في هذا: أن العرب تعبر بإذا وتريد ابتداء الشيء، وتريد انتهاء الشيء، وتريد أثناء الشيء، فهي ثلاثة أحوال:

ابتداء الشيء، إما عند ابتدائه أو عند إرادته كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] فإن غسل الوجه يكون عند إرادة القيام، والقيام لم يقع حقيقة، فهي لا تكون من هذا الوجه لا أثناء الفعل، ولا بعد تمام الفعل، وكذلك قول أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (كان إذا دخل الخلاء) فليس المراد أنه دخل؛ لأن هذا الذكر يشرع قبل الدخول إلى المكان المهيأ لقضاء الحاجة، فهذا من إطلاق الصيغة قبل الفعل كقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] هذا كله قبل ابتداء الفعل.

وقال بعض العلماء: إنه ليس بها قبل الشيء وإنما المراد عند وهي عند إرادة الشيء، وهذا أشبه بالمصاحب لأول الشيء.

وقد يعبر بهذه الصيغة المقتضية للشرط بما يكون أثناء الفعل، كقولك: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، وكقولك: إذا قرأت القرآن فرتل، فإن الترتيل لا يكون قبل القراءة، وإنما يكون أثناء القراءة، وكقولك: إذا صليت فاطمئن، فإن الطمأنينة مصاحبة لأفعال الصلاة، وتكون من المكلف أثناء صلاته، فهذه شرطية والمراد بها ما يكون أثناء فعل الشيء، وتعبر بهذه الصيغة، وتريد ما يكون بعد تمام الشيء وكماله، فتقول: إذا صليت فائتني، أي: إذا أتممت الصلاة وفعلتها كاملة فائتني.

وعلى هذا يكون قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق. هل المراد به الابتداء، أي: إذا أردت القيام؟ أم المراد: ابتداء الفعل، بمعنى: أنها شرعت في القيام وتهيأت له؟ أم المراد: تمام القيام واكتمال الانتصاب؟ كل هذا يجعل الأمر محتملاً، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله وغيره من العلماء الوجهين:

بعض العلماء يقول: إنها تطلق عند ابتداء الفعل؛ لأن الإخلال واقع بالابتداء، وابتداء الشيء والدخول في الشيء في حكم الشيء، وقد جعل الشرع ابتداء الشيء كالشيء.

وبعضهم يقول: الأصل أنها زوجته، فتبقى زوجة له حتى يتم الفعل، وحينئذٍ نحكم بطلاقها، وكلا القولين له وجهه.

يقول رحمه الله: [وأدوات الشرط إن].

قوله: (إن): هذه تعتبر أُم الأدوات، وهي تدل على محض الشرطية، وقال بعض العلماء: لا علاقة لها بالزمن، ومن المعلوم -كما تقدم معنا- أن هناك شرطاً وجزاء للشرط معلق على وجود هذا الشرط، ومعنى ذلك إذا قال لزوجته: إن قمتِ فأنتِ طالق، فمعناه: أنه رتب طلاق زوجته على وجود القيام.

وبناءً على ذلك فلابد من وجود فعل الشرط وجواب الشرط وأداة تربط بين الجملتين، وإذا عبر بأداة (إن)، فإنه تارة يعبر بالإثبات وتارة يعبر بالنفي، فيقول لزوجته: إن تكلمت فأنتِ طالق، إن قمتِ فأنتِ طالق، إن ذهبتِ إلى أبيكِ فأنتِ طالق... ونحو ذلك، هذا كله متعلق بالإثبات، فإن وجد القيام أو وجد الكلام أو وجد الخروج من حيث الأصل فإنه يُحكم بالطلاق، هذا بالنسبة للإثبات.

وأما في النفي فنحو: إن لم تقومي فأنتِ طالق، إن لم تتكلمي فأنتِ طالق، إن لم تذهبي إلى أبيك فأنتِ طالق، فهذا نفي، فهذه الأداة فيها ما يتعلق بالإثبات وفيها ما يتعلق بالنفي، وكل منهما له حكم، ففي الإثبات لنا حكم، وفي النفي لنا حكم آخر.

قلنا: إن عندنا فعل الشرط: إن قمتِ، وجواب الشرط: فأنتِ طالق، هذا الجواب يترتب بالفاء لقوله: فأنتِ طالق، فمن حيث الأصل إن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. فلا إشكال في اعتبار الصيغة، ويربط بين جملة فعل الشرط وجواب الشرط بالفاء، لكن لو قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فهذا محل خلاف بين العلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: إن قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فإننا لا نعتبر الجملة الثانية وهي قوله: أنتِ طالق؛ مرتبة على قوله: إن قمتِ. لعدم وجود الفاء، وبناءً على ذلك تطلق عليه مباشرة؛ لأنهم لا يرون الربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، فيقولون: كأنه قال لغواً: إن قمتِ، وقوله: أنتِ طالق، بعد ذلك كلام يستأنف ويوجب وقوع الطلاق على البت والتنجيز.

واختار طائفة من العلماء كالإمام ابن قدامة ، وبعض أصحاب الإمام الشافعي أنه إذا قصد الشرط فإنها لا تطلق عليه إلا إذا قامت، ويغتفر حذفه للفاء؛ لأن الأمر مستقر في نفسه ونيته، فكأنه قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، كما لو جاء بالفاء، وهذا هو الصحيح لأنه قصد الشرطية.

يبقى عندنا سؤال حين قلنا هنا: إن وجود الحرف الفاء وانتفاءه مؤثر في الصيغة، وقلنا: إن النية أقوى، يرد السؤال: لو أن رجلاً قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نجعل طلاق المرأة موقوفاً على القيام مطلقاً؟ أو فيه تفصيل؟

الجواب: إذا قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق فله ثلاثة أحوال:

الحالة الأول: أن يقصد ترتيب الجملة الثانية على الجملة الأولى، أو ترتيب الشرط على المشروط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، فإذا قصد الشرطية وقال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ونوى في قلبه أنها لا تطلق إلا إذا قامت فإنها لا تطلق إذا لم تقم، وذلك لأن اللفظ يدل على الشرطية، وجاءت نصوص القرآن باعتبار الشروط كما سنبين، كقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة:6] اشترط الله عز وجل وجود طلب الجوار، وأمر وحكم بأنه مجار بذمة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على اعتبار صيغة الشرط، وترتب الحكم عليها، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها لا تطلق إلا إذا قامت؛ يتوقف الطلاق على وجود القيام، هذه الحالة الأولى.

الحالة الثانية: أن يكون مقصوده إيقاع الطلاق مباشرة، فلو قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها طالق فوراً ألغينا قوله: إن قمتِ. وأوقعنا الطلاق بقوله: أنتِ طالق، وعلى هذا لا تؤثر صيغة الشرطية لأنه تلفظ بالطلاق، ونوى الطلاق على التنجيز فلا يحكم بالتعليق، إذاً عندنا حالتان متقابلتان:

الأولى: أن ينوي الشرط ويقول: إن قمتِ فأنتِ طالق. ومراده أنها لا تطلق إلا إذا وجد القيام، فبإجماع العلماء من حيث الأصل أنها لا تطلق إلا إذا قامت.

ثانياً: إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. قاصداً بت الطلاق ووقوعه مباشرة، طلقت عليه مباشرة، ولم يلتفت إلى قوله: إن قمت أو قعدت أو غير ذلك من الشروط.

الحالة الثالثة: إذا لم ينو الشرطية، ولم ينو البت في الطلاق وتنجيزه، قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: يا فلان ما الذي قصدت؟ قال: ما دار بخلدي شيء، أتيت بهذا اللفظ وقلت لزوجتي: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: هل قصدت أن الطلاق يقع فوراً؟ قال: لا. قلنا: هل قصدت الشرطية؟ قال: لا. إذاً يحكم بالظاهر، ويعتد باللفظ على ظاهره ويؤاخذ به، ولا نلتفت إلى كونه قصد الطلاق أو لم يقصده؛ لأن الشرع في الهازل الذي لم ينو الطلاق اعتد بظاهره وأسقط الباطن، وفي هذه الحالة أيضاً إذا لم يقصد الشرطية ولم يقصد تنجيز الطلاق نحكم بظاهر قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فظاهر لفظه أنه لفظ يقع فيه الطلاق بشرط معين، فنقول: بينك وبين الله إن وقع هذا الشرط أمضينا عليك الطلاق، وإلا فلا.

فهي ثلاثة أحوال:

أولاً: أن يقصد الشرط، اعتد به وأخذ بظاهر قوله، فاجتمع الظاهر والباطن على الشرطية ولا إشكال.

ثانياً: أن يقصد التنجيز والإيقاع فوراً، والصيغة لا يلتفت إليها ولا يعتد بها فيمضي عليه طلاقه.

ثالثاً: أن لا يقصد شيئاً من الأمرين فنقول: إنه تلفظ بالطلاق، وحينئذٍ ننظر إلى ظاهر لفظه، فنؤاخذه على ظاهر اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).

مسألة أخيرة في (إن قمتِ) -وبعضهم يجعلها مطردة في أدوات الشروط كلها- من حيث الأصل يعبرون بقوله: إن قمتِ، وإذا قمتِ، إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نطلقها بمجرد الارتفاع للقيام؟ أو بعد تمام القيام؟ عندنا شيء هو الابتداء بحيث يوصف الإنسان بأنه ابتدأ في المحذور، وعندنا شيء هو تمام المحذور بحيث نصفها بأنها قد قامت فعلاً ودخلت فعلاً، وقد كتبت، مثلاً: قال لها: إذا ولدتِ فأنتِ طالق، فهل نطلق في ابتداء الولادة؟ أو نطلق بتمامها؟ وهل نطلق بابتداء الدخول؟ أو بانتهائه وتمامه وكماله؟ لو قال لها: إذا حملت هذه الصخرة فأنت طالق، وهي حامل وجاءت تحمل الصخرة، فلما انتصبت لحملها أسقطت جنينها، وهو مكتمل الخلقة فهل يعتد بسقوطه، وتخرج من العدة؟ إن قلت: إنها تطلق بابتداء الشروع، فقد خرجت من عدتها بالولادة؛ لأنها قد وقعت بعد استيفاء الشروط، وإن قلت: إنها لا تطلق إلا بعد تمام حمل الصخرة واستتمامه والوقوف به، فحينئذٍ يكون سقوط الحمل الموجب للخروج من عدة الطلاق سابقاً للطلاق فلا يعتد به، ويحكم بكونها مطلقة بعد تمام الحمل.

هذه مسألة: هل يطلق بابتداء الصفة أو بتمامها وكمالها.

(وإذا( لو قال: إذا دخلتِ الدار، أو تكلمتِ، أو إذا سكتِ، أو إذا قمتِ، أو إذا قعدتِ. فهذه صفات تعلق الحكم بالطلاق على وجودها، فنحن في هذه الحالة لا ننظر إلى الزمان، فنقول: هذه المرأة إذا قال لها زوجها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق. فإنها زوجة له ما لم تتكلم، فإن تكلمت يحكم بطلاقها، فلا ندري هل تتكلم الآن؟ أو تتكلم اليوم؟ أو تتكلم الغد؟ لا ندري متى زمان الإخلال ولذلك يقولون: (إذا) أداة على الخطر، يحتمل أن تقع ويحتمل أن لا تقع، لو قال لها: إذا كتبتِ فأنتِ طالق، ربما جلست حياتها كلها لا تكتب فلا طلاق، ولربما كتبت بعد تلفظه مباشرة فطلقت، ولربما جلست اليوم والأسبوع أو مدة ما شاء الله، فإذاً: هذه الصيغة ليس لها تعلق إلا بالشرطية وهي (إن).

ثم (إذا) بعض العلماء يلحقها بإن ويقول: إنها تقتضي الشرطية وتدل على الشرطية، لكن الذي رجحه طائفة من العلماء أنها أقرب إلى الزمان، وبناءً على ذلك: إذا قال لها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق، فإنه في هذه الحالة لا نحكم بطلاقها إلا بوجود الكلام أو بوجود الدخول ونحو ذلك من الصفات التي علق وقوع الطلاق عليها.

(ومتى)

هذا بالنسبة للزمان، متى قمتِ فأنتِ طالق، فإنه متى وجد القيام وفي زمان القيام يحكم بطلاقها، وهناك فرق بين قوله: متى قمتِ فأنتِ طالق، وبين قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق، وقوله: إن قمتِ فأنتِ طالق، فإن متى متصلة بالزمان وهي ألصق بالزمان، ولذلك يقولون: إنها متعلقة بالحين، قال الشاعر:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

قال بعض العلماء: إن لها وجهاً من الشرطية وإن كانت متعلقة بالحين، فكأن الشاعر يقول: في أي حين تأتيه تعشو إلى ناره تجد..، وعلى هذا فإن (متى) لها اتصال بالزمان أقرب من الأداتين الماضيتين، وعليه: فإننا لا نحكم بالطلاق إلا بوجود زمان القيام، متى قامت، فتطلق في زمان القيام.

واعتد بعض العلماء بابتداء الزمان فقال: تطلق عند ابتداء قيامها، وبعضهم يقول: لا تطلق إلا في أثناء الوقت الذي هو يستغرق القيام، فيأتي فيها ما لا يأتي في صيغة إن قمت، أو إذا قمت، هل المراد الابتداء أو الانتهاء؟ لأن الظرفية في الشيء تكون داخل الظرف إما زماناً أو مكاناً، فحينئذٍ يكون طلاقها في ظرف الوقت الذي فيه القيام، وعلى هذا: يشمل ما بين الابتداء والانتهاء، فهي في الوسطية أقرب منها من قوله: إذا قمت، أو إن قمت، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. يحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ وتم قيامكِ فأنتِ طالق، ويحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ، أي: بمجرد القيام.

والسبب في هذا: أن العرب تعبر بإذا وتريد ابتداء الشيء، وتريد انتهاء الشيء، وتريد أثناء الشيء، فهي ثلاثة أحوال:

ابتداء الشيء، إما عند ابتدائه أو عند إرادته كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] فإن غسل الوجه يكون عند إرادة القيام، والقيام لم يقع حقيقة، فهي لا تكون من هذا الوجه لا أثناء الفعل، ولا بعد تمام الفعل، وكذلك قول أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (كان إذا دخل الخلاء) فليس المراد أنه دخل؛ لأن هذا الذكر يشرع قبل الدخول إلى المكان المهيأ لقضاء الحاجة، فهذا من إطلاق الصيغة قبل الفعل كقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] هذا كله قبل ابتداء الفعل.

وقال بعض العلماء: إنه ليس بها قبل الشيء وإنما المراد عند وهي عند إرادة الشيء، وهذا أشبه بالمصاحب لأول الشيء.

وقد يعبر بهذه الصيغة المقتضية للشرط بما يكون أثناء الفعل، كقولك: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، وكقولك: إذا قرأت القرآن فرتل، فإن الترتيل لا يكون قبل القراءة، وإنما يكون أثناء القراءة، وكقولك: إذا صليت فاطمئن، فإن الطمأنينة مصاحبة لأفعال الصلاة، وتكون من المكلف أثناء صلاته، فهذه شرطية والمراد بها ما يكون أثناء فعل الشيء، وتعبر بهذه الصيغة، وتريد ما يكون بعد تمام الشيء وكماله، فتقول: إذا صليت فائتني، أي: إذا أتممت الصلاة وفعلتها كاملة فائتني.

وعلى هذا يكون قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق. هل المراد به الابتداء، أي: إذا أردت القيام؟ أم المراد: ابتداء الفعل، بمعنى: أنها شرعت في القيام وتهيأت له؟ أم المراد: تمام القيام واكتمال الانتصاب؟ كل هذا يجعل الأمر محتملاً، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله وغيره من العلماء الوجهين:

بعض العلماء يقول: إنها تطلق عند ابتداء الفعل؛ لأن الإخلال واقع بالابتداء، وابتداء الشيء والدخول في الشيء في حكم الشيء، وقد جعل الشرع ابتداء الشيء كالشيء.

وبعضهم يقول: الأصل أنها زوجته، فتبقى زوجة له حتى يتم الفعل، وحينئذٍ نحكم بطلاقها، وكلا القولين له وجهه.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع