شرح زاد المستقنع كتاب النكاح [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألَّا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

وفي بداية هذه الدروس أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن الله إذا أحب عبداً من عباده رزقه التقوى وجعله من أهلها ووفقه لخصالها وخلالها، وطالب العلم عليه مسئولية عظيمة فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وفيما بينه وبين العلم، وأعظم مسئولية بينه وبين الله سبحانه: إرادة وجه الله الكريم، والقصد لما عند الله.

ولو أن طالب العلم في كل مجلس يستفتح مجلسه ويختمه بالوصية بالإخلاص لما كان ذلك كثيراً، فحق الله أعظم الحقوق؛ إخلاص الدين لوجهه وإفراده بالعبادة، وترك الرياء والسمعة وحب الظهور، ويتجه طالب العلم بكليته إلى الله سبحانه حتى يحبه وإذا أحبه وفقه.

وخير ما نتواصى به: أن يجدد طالب العلم في قلبه الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، وأن يتفقد ما في سريرته، فإن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح لله سريرته أصلح الله له علانيته، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم إخلاص القول والعمل.

ستكون دروسنا إن شاء الله تتمة لما مضى من مسائل النكاح، وقد قدمنا بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمقدمات كتاب النكاح، واليوم إن شاء الله نتم الحديث عن الشروط التي ينبغي توفرها وينبغي وجودها للحكم بصحة عقد النكاح، فالنكاح الشرعي يفتقر إلى صفات وأسباب لابد من وجودها لكي يُحْكَم من خلالها بصحة العقد.

يقول المصنف رحمه الله: [فصل: وله]: أي: لعقد النكاح [ شروطٌ ]: أي: أمارات وعلامات لابد من توفرها، وهي شروط لصحة عقد النكاح.

[ أحدها: تعيين الزوجين ]: فلا يصح النكاح حتى يعيِّن الولي الزوجة، ويعيَّن الزوج الذي يريد نكاحها، والمعين ضد المجهول، فلا يصح نكاح المرأة المجهولة، فلو قال له: أزوجك امرأةً، فإن (امرأةً) نكرة، وحينئذٍ تصدق على أي امرأة، وكذلك لو قال له: أزوجك بنتاً من بناتي. وعنده أكثر من بنت مختلفة الصفات، فإنه في هذه الحالة لا تجيز الشريعة هذا العقد؛ لأنه ربما انصرف ذهن الزوج إلى الجميلة فصرفه الولي إلى من هي أردأ.

في عقود المعاوضات تشدد الشريعة على الجهالة، فلا تجيز العقد بالمجهول، ففي الزواج لابد أن تكون الزوجة معلومة ويكون الزوج معلوماً، فلو قال الولي لجماعة من الناس: زوجت واحداً منكم بنتي فلانة، فقوله: (واحداً منكم) هذا كلام مجهول، فلا يصح العقد على مجهول، ولا ندري من هو، أو قال: زوجتُ بنتي لواحدٍ من أبنائك، وعنده خمسة أبناء، ولم يحدد أحدهم، فإن العقد لا يصح، فلابد من معرفة الزوجة والزوج.

وهذا هو مراده رحمه الله من قوله: (أحدها: تعيين الزوجين)، والتعيين بمعنى أن يعينه؛ ويكون التعيين بالاسم، ويكون بالصفة، ويكون بما يتميز به، فلو كان عند الولي خمس بنات في المجلس، فأشار إلى واحدة منهن وقال: زوجتك بنتي هذه، فهذا يصح؛ لأنه يقع بالإشارة، ويقع بالاسم، ويقع بما يتميز به الشيء.

قال رحمه الله: [تعيين الزوجين، فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به]:

قوله: (فإن أشار الولي إلى الزوجة).

كأن يقول: هذه -كما ذكرنا- فالإشارة تعيين، كما لو قلت له: أبيعك كتابي هذا.. أبيعك سيارتي هذه.. أبيعك بيتي هذا، فالشريعة الإسلامية توجب صرف الجهالة، يعني: في العقود لابد أن يكون المعقود عليه معلوماً لا مجهولاً، فقال رحمه الله: (فإن أشار) الفاء للتفريق، يعني: إذا ثبت هذا فإنه ينبني عليه أنه إذا حصل التعيين إما بالوصف أو بالاسم أو بالإشارة، كأن يقول: زوجتك بنتي المتعلمة، وعنده بنت متعلمة وبنت غير متعلمة، أو يقول: زوجتك بنتي البالغة، وعنده بنت بالغة وبنت صغيرة، فلما قال: البالغة، عيَّن وحدَّد فينصرف العقد إليها.

فإذاً: التعيين يكون بالوصف، وبالاسم، وبالإشارة، ويكون بما يتميز به.

في بعض الأحيان يبهم الولي، ولكن هذا الإبهام ينصرف إلى معلوم، كقوله: زوجتك بنتي. وليس عنده بنت غيرها، فإنه حينئذٍ نعلم أن مراده فلانة التي ليس له غيرها، فيصح العقد كما لو قال له: زوجتك عائشة، وليس له بنت غيرها.

[ أو قال: زوجتك بنتي وله واحدة لا أكثر صح ]

هذا كما يقولون: المجهول الذي يئول إلى العلم، فعندنا مجهول يئول إلى العلم، وهذا يصح به العقد، ومجهول لا يئول إلى العلم وإنما يبقى على جهالته، فهذا لا يصح، فلو قال رجل عنده بنتان فأكثر: زوجتك بنتي بعشرة آلاف قال: قبلت، لم يصح العقد؛ لأننا لا ندري هل يعني الكبيرة أو الصغيرة، هل يعني الجاهلة أو المتعلمة، هل يعني الصالحة أو غير الصالحة، فيتردد، والشريعة لا تجيز التردد؛ لأن التردد يحدث الخصومات والنزاعات، فلربما أحببت أن تأخذ الأفضل فيقول: إنما زوجتك بنتاً من بناتي فيلزمك أن تأخذ الأردى ، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع حينما ذكرنا جهالة المبيع، وأن الجهالة سبب من أسباب النزاع، والشريعة الإسلامية أغلقت جميع الأبواب والأسباب المفضية إلى النزاع والخصومة.

قال رحمه الله تعالى: [فصل: الثاني: رضاهما]

قوله: (الثاني) أي: الشرط الثاني من شروط النكاح رضا الزوجين، فلا يعقد عقد النكاح بدون الرضا، والرضا يفسد به الاختيار وينعدم، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ولطفه وتيسيره، وشريعتنا شريعة رحمة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

عقود المعاوضات مثل البيع، فإنك في البيع تدفع عشرة ريالات في مقابل كتاب، وفي الزواج تدفع عوضاً عن المرأة ثلاثين ألف ريال مهراً لها، فالمهر في مقابل المرأة.

إذاً: عقد النكاح عقد معاوضة، وإذا كان عقد معاوضة ففيه معاوضة من وجوه عديدة، ولذلك قال الله عز وجل في بيت الزوجية للنساء وللرجال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ [البقرة:228] فلا يمكن أن تلزم المرأة بنكاح ولا يمكن أن تلزم الرجل بنكاح وليس هناك الرضا، خاصة وأن العشرة الزوجية وصفها الله بأنها مودة ورحمة، فقال سبحانه: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] فلا يمكن أن تتحقق المودة ولا يمكن أن تكون الرحمة إذا لم يكن هناك إلف وود بين الزوجين، ولهذا لن يكون بالإكراه ولن يكون بالغصب، فالمرأة إذا زُوجت ينبغي أن تكون راضية عن الزواج، والزوج إذا زُوج ينبغي أن يكون راضياً عن الزواج؛ لأنه إذا تزوج بشيء يحبه ويألفه ويرضاه حصل مقصود الشرع من الألفة والمحبة، وكانت المرأة سكناً لزوجها، وكان الزوج أيضاً سكناً لها، وعصمة من الله سبحانه وتعالى يعصمها بها من السوء والردى.

إذا ثبت هذا فلو أن رجلاً هدده رجل وانطبقت عليه شروط الإكراه، وهذا سنبحثه إن شاء الله في الطلاق، فسنذكر في كتاب الطلاق ما هي شروط الإكراه؟ ومتى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟ فلو أكره رجل وهدد وقيل له: لابد أن تتزوج بنت فلان وجاء تحت التهديد والإكراه فقيل له: زوجناك فلانة قال: قبلت، قيل: على عشرة آلاف قال: قبلت، لكنه مكره، ففي هذه الحالة لا يصح العقد ولا النكاح، ولو أن ولي المرأة هُدد وأُكره على النكاح وهو غير راضٍ بالنكاح ولا يريده ولا يرغبه ثم جيء به فقيل له: أترضى فلاناً يكون زوجها؟ فقال وهو غير راضٍ: زوجته أو زوجت بنتي فلانة على فلان، أو قبلت زواج فلان من موليتي فلانة، فكل ذلك لا ينبني عليه الحكم بصحة عقد النكاح لفوات الشرط المعتبر وهو الرضا.

الأشخاص الذين لا يشترط رضاهم في النكاح

قال رحمه الله: [إلا البالغ المعتوه]

وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم الرضا في حق النساء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (البكر تستأذن وإذنها صُماتها، والثيب أحق بنفسها من وليها -وفي رواية: والثيب تستأمر، يعني: لها أمر نفسها-) فجعل للمرأة حظاً في النظر، وهذا إن شاء الله سنبينه في الولاية على عقد النكاح.

قوله رحمه الله: (إلا البالغ المعتوه) هناك نوعان من الناس:

نوع توفرت فيه الأهلية للقيام بالعقود، فهذا النوع يلي نفسه كالرجل البالغ العاقل، فله أن يزوج نفسه ويتزوج من شاء، ولكن لو فسدت أو انعدمت الشروط المعتبرة للأهلية في ولاية عقد النكاح أو في النكاح، كرجل بالغ، يعني: بلغ ولكنه معتوه، والعته: نوع من الجنون وهو يفسد شرط التكليف، ليس بمكلف وليس عنده الأهلية لكي ينظر مصلحة نفسه، فالمعتوه الأخرق حتى ولو كان عنده نوع من الخرق ليس بجنون كامل لكنه نوع من نقص في العقل بحيث لا يحسن النظر لمصلحة نفسه، فهذا النوع من الناس الشريعة تجعل له قريباً يليه، وهذا ما يسمى بالولاية، وهذا النوع من الولاية يسمى: الولاية الخاصة، والولاية الخاصة: هي أن يتولى المسلم النظر في أمر خاص لأخيه المسلم؛ لأن الولاية نوعان:

ولاية عامة وولاية خاصة، وهذا نوع من الولايات الخاصة، فالبالغ المعتوه هو بالغ -والبالغ ينظر في مصلحة نفسه- وقد بلغ سن التكليف لكن كونه معتوهاً، يعني: عنده نقص في العقل والإدراك، وعنده نقص في التمييز، فمثل هذا يولى عليه، فوليه يكون من قرابته -كما سنبينه في أولياء المرأة- فوالده يمكن أن يعقد عنه، وأيضاً قريبه، كأخيه الشقيق، وابن أخيه الشقيق، وأخيه لأب، وابن أخيه لأب، وعمه الشقيق، وابن عمه الشقيق، وعمه لأب، وابن عمه لأب.. ونحو ذلك فهؤلاء يتولون النظر له، وإنما قلنا من قرابته؛ لأن القريب يعطف على قريبه، والإنسان مع قرابته يحس أن عيب القريب عيب له، وأن الضرر على القريب كالضرر عليه، فلذلك جعل الله أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، وجعل القرابة يلي بعضهم النظر في مصالح البعض رحمة من الله عز وجل ولطفاً بعباده.

[إلا البالغ المعتوه] إلا: حرف استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: [رضاهما -رضا الزوجين- إلا البالغ المعتوه] أي: البالغ المعتوه ليس لنفسه أن ينظر وإنما ينظر له وليه ومن يلي مصالحه، وجرت العادة أن أحد أقرباء قاصري العقل والنظر هم الذين يتولون مصالحه.

قال: [والمجنون]

تقدم معنا ضابطه، وبعض العلماء يقول: المجنون لا يلي عقد النكاح، وفي الواقع من العلماء من يفصل بين الجنون المستمر والجنون المتقطع، فيرى أنه إذا كان جنونه متقطعاً يمكن أن يلي عقد النكاح -يعني: ممكن أن يزوج نفسه في حال الإفاقة- وفائدة الخلاف: أنه إذا رُفع إلى القاضي رجل يجن أحياناً وقد زوج نفسه حال الإفاقة، فعلى القول الذي لا يعتبر الجنون مطلقاً سواءً متقطعاً أو مستمراً فإنه يلغي النكاح ويرد الأمر إلى أوليائه والعكس بالعكس، وعلى القول الثاني: يصح العقد في حال الإفاقة ولا يصح في حال وجود العذر وهذا أقوى.

يقول المصنف: [والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب، فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم]

قوله: [والصغير] الصغر هو الصبا، والصبا دون البلوغ، والصبي هو: الذي لم يبلغ الحلم، والحلم طور وحالة وهيئة، ينتقل فيها الإنسان من طور الصبا إلى طور العقل والإدراك، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [النور:58] أي: لم يبلغوا سن العقل.

فبالنسبة للصغير يمكن أن يزوجه والده سواءً رضي أو لم يرضى، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نكح عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، فإن عائشة رضي الله عنها فوجئت بأمها ومعها النسوة قد أخذنها إلى الماشطة ولم تشعر إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليها.

فإذاً: لم يكن لديها علم بالمسألة، وما استشيرت ولا أخذ رأيها، قد يقول قائل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن فقه المسألة: أن الوالد عنده من العطف والشفقة والرحمة ما يبعد معه أن يدخل الضرر على ولده، ويدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث فاطمة : (إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) فجعلها كالقطعة منه، والقطعة من الشيء كالشيء.

فكما أن الوالد يلي حظ نفسه، كذلك يلي حظ أولاده الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً.

صورة المسألة: لو قال رجل عنده بنت صغيرة ورجل آخر عنده ابن صغير مثل ما يقع بين أولاد العم، يقول: بنتي لابنك فلان، فيقول: قبلت، إذاً حدث زواج، وإذا تم بشروطه ودفع المهر ثم العقد وصارا زوجين من حيث الأصل، ولم نسأل هل هما راضيان أو غير راضيين؟ لكن في الأصل تم العقد، يعني: يمكن للأب أن يزوج بنته ولو كانت بنت تسع سنين.

فبما دون التسع سنوات من ست سنوات سبع سنوات.. ثمان سنوات.. فالأب له ولاية قوية عليهم، والأب غالباً لا يسعى في الضرر على ولده، ولذلك قالوا: لو قتل الوالد ولده لم يقتل به في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأنه يبعد أن يتخطى الوالد حاجز الرحمة والحنان والشفقة التي ملأ الله بها قلبه فيقتل ابنه، ولذلك قالوا: لا يقاد به؛ لأن الغالب أنه لا يضربه إلا وهو يريد الأدب له؛ ولأنه فيه شبهة الأدب، والحدود تدرأ بالشبهات.

فالشاهد: كمال شفقة الوالد على ولده، وإذا ثبت هذا فإن الوالد يزوج ولده الصغير ويزوج بنته الصغيرة إذا كانت دون البلوغ.

قال: [والبكر ولو مكلفة]

البكر ضد الثيب، وقوله: (ولو مكلفة) ولو إشارة إلى خلاف أي: ولو كانت مكلفة، فإذا بلغت سن التكليف فإنه في هذه الحالة يجوز أن يزوجها والدها بدون رضاها كما ذكرنا لقوة ولاية الوالد؛ لأن البكر في الغالب تجهل الرجال، وكانت المرأة يسمونها: ذات الخدر، كما في الصحيحين من حديث أم عطية : (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض) فكانت المرأة (ذات خدر) يعني: في داخل خدرها لا تعلم ما هي الحياة، فكان والدها هو الذي يلي أمورها، فإذا كانت بكراً فالغالب أنها تجهل أمور الناس، وتجهل الرجال، فلو أن والدها زوجها بدون علمها وبدون رضاها فالأمر في الوالد أخف من غيره من بقية الأولياء كما سيأتي إن شاء الله.

وقوله: (لا الثيب)

الثيب نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (والثيب أحق بنفسها من وليها) والفرق بينهما واضح، فإن المرأة الثيب عاشرت الرجال وابتليت بالأخذ والعطاء مع زوجها السابق وانفصلت عنه، فهذا الانفصال ما وقع إلا بعد حياة زوجية، ولذلك قالوا: إنه لابد من رضا الثيب وهي أحق بنفسها من وليها ولو كان أباً.

قال: [فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم]

وصي الأب في النكاح هو الشخص الذي يقول له الوالد: زوج بنتي فلانة، ويحدد له، كأن يقول: زوج بنتي فلانة من فلان، فهذا وكيل وفيه نوع من الوصاية، أو يطلق له ويقول: انظر لابنتي الأصلح فزوجها منه، فحينئذٍ يكون وصياً على بناته لكن في خصوص أمر النكاح، والأصل في هذا عند من يقول بهذا القول مبني على قاعدة شرعية مأخوذة من النصوص الشرعية: أن الفرع تابع لأصله وراجع إلى أصله.

فوصي الوالد منزل منزلة الأب؛ لأنه وصاه، فله الحق كوالده، وبعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إذا عين له وحدد فيجوز ويكون الأمر كأنه للوالد، أما لو أطلق له فلا.

قال: [كالسيد مع إمائه وعبده الصغير]

السيد يزوج إماءه لمن شاء وبدون إذنهن؛ لأنه يملك الرقبة بنص الشرع، وهكذا بالنسبة لمواليه الذكور الصغار دون البالغين.

حكم تزويج الأولياء غير الأب للصغيرة والصغير والكبيرة العاقلة

قال رحمه الله: [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع ولا صغيراً ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسعٍ إلا بإذنهما]

قوله: (ولا يزوج باقي الأولياء) كالأخ الشقيق، فلو أن أخاً شقيقاً أراد أن يزوج أختاً له دون تسع لم يصح؛ لأن هذا خاص بالوالد، أو يزوج أخته دون البلوغ بدون رضاها، أو بكراً مكلفة دون رضاها لم يكن له، وإنما هذا خاص بالوالد، والعلة في هذا: أن في الوالد من الشفقة والرحمة ما ليس في غيره كما بيناه وقررناه، فالأمر في الوالد يختلف عن بقية الورثة وبقية الأولياء، والذي سيأتي من هؤلاء الذين ذكرهم المصنف هو في الحقيقة عكس ما تقدم، يعني: إذا أثبت أن الأمر للوالد فعكس هذه الجملة أن غير الوالد لا يزوج، والأمر في هذا واضح.

قال: [صغيرة دون تسع ولا صغيراً ولا كبيرة عاقلة]

يعني: لا يزوج الصغيرة ولا يزوج الكبيرة العاقلة إلا بالإذن والرضا، فإن رضيت وأذنت فلا إشكال، وإن لم ترض ولم تأذن لا يصح، وليس له حق ولاية النظر عليها في هذا.

قال: [ولا بنت تسع إلا بإذنهما]

يعني: إذا كانت البنت لها تسع سنين فلا يحق له أن يزوجها إلا إذا أذنت ورضيت، والغالب أن المرأة في التسع -خاصة في المناطق الحارة- تبلغ، وقد قدمنا هذا في باب الحيض، وذكرنا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إذا بلغت الصبية تسع سنين فهي امرأة، يعني: تتأهل لأن تكون امرأة ويأتيها الحيض.

قال: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب]

هناك جانبان لابد من التنبه لهما في الولاية على النكاح:

الجانب الأول: يتعلق بالذكر، والجانب الثاني: يتعلق بالإناث، وإذا قلنا: الإناث، فنخص بالزوجة التي يراد إنكاحها وتزويجها، وإذا قلنا: الذكور، فمرادنا الأولياء وليس الزوج.

نحن نتكلم على مسألة تزويج المرأة، فعندنا مزوجة، وعندنا شخص يريد تزويجها، ومن حكمة الله عز وجل ومن حكمة الشريعة وكمال علمه سبحانه وتعالى أن جعل الرضا منقسماً بين الطرفين، والشريعة جاءت بالوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط، فأعطى الرجال حقوقهم وأعطى النساء حقوقهن، ونريد أن نعرف كيف أخذت المرأة حقها؟ وكيف أخذ الرجل حقه؟

إذا علم طالب العلم حق الرجل وحق المرأة اتضحت له مسائل الباب في الولاية وفي الرضا؛ لأنه في بعض الأحيان تتداخل النصوص ويحصل شيء من الخلط فيها بحيث يصعب الفهم.

فعندنا إفراط وتفريط، فتارة تجد وجهة نظر تقول: النظر كله للرجل، يعني: الذي يلي عقد النكاح ويبرم عقد النكاح ويبت في عقد النكاح هو الرجل فقط، بحيث لا يكون للمرأة أي نظرة، هذه وجهة نظر، وتارة تجد في مقابلها وجهة نظر أخرى تقول: المرأة لها كل شيء، بحيث يمكن أن تأتي برجل ليس بأهل فتتزوج منه على رغم أوليائها حتى لو كان فيه ضرر عليهم.

والعدل أن نقول: للنساء ما لهن من الحقوق، وللرجال ما لهم من الحقوق، ونرجع إلى طبيعة حقوق النساء وطبيعة حقوق الرجال، فانظر رحمك الله إلى كمال هذه الشريعة، فالمرأة لها حقها من حيث الرغبة في الرجل؛ فإن للنساء نظرة، وهذه النظرة جبلية فطرية من ارتياحها للرجل وحبها لمعاشرته، فالشريعة أعطتها هذا الحب وهذا الميل القلبي الذي لا تملكه، فتنظر في الرجل فإن أعجبها وقبلته فالحمد لله، وإن لم يعجبها هل يفرض عليها فرضاً؟ وهل تكره على معاشرة شخص لا تريده؟ لا يمكن.

مسألة محبتها وكراهيتها ترجع إلى تقديرها، فإن كانت المرأة كرهت الرجل لدمامة في خِلقته فهذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يفرض عليها فيه، فقد جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يار سول الله! إني امرأة أكره الكفر بعد الإسلام -أنا امرأة أخشى أن أقع في معصية الله بعد طاعة الله- زوجي لا أحبه، قال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وأزيده، فقال للرجل: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فالمرأة نفرت من زوجها لأسباب ذكرتها في الحديث، فكما أن الرجل يذهب ويختار المرأة التي يريدها، كذلك المرأة تختار الرجل الذي تريده، فإذا كان في الرجل أشياء معينة بينتها المرأة أو أن قلبها نفر منه، والمرأة صادقة ليست بمتلاعبة ولا متهتكة فرأيها يحترم ويقدر؛ لأنه شيء جعله الله فطرة في المرأة، فلا يمكن أن نأتي بالرجل وندخله عليها فجأة ونقول لها: هذا زوجكِ شئت أو أبيتِ،حاشا. هذا لا يرضي الله عز وجل وليس من دين الله عز وجل.

إذاً: لابد أن نعطي المرأة حظ النظر، لكن إغراق النساء في هذا الحظ وتوسعهن ومبالغتهن يوجب تدخل الولي بقدر، فمثلاً: الأب عنده شفقة وعنده رحمة ويخاف على بنته أن تقع في الحرام، خاصة إذا كان هناك بواعث للفتنة، فجاء واختار لها زوجاً كفئاً كريماً جميع الصفات الحسنة متوفرة فيه، لكن جماله نسبي ليس بكامل، فقالت المرأة بنوع من الاستخفاف: لا أريده. ولم تذكر السبب، حينئذٍ تكون ولاية الرجل؛ لأن الرجل أكمل عقلاً في هذا، ومن حقه إذا خاف على ابنته أنها إذا لم تتزوج من هذا أنها في الغد تقع في الحرام، أو تبقى عانسة.

إذاً: هناك ولاية للرجال وولاية للنساء، فالمرأة لها حقها، ولا تستغل هذا الحق لكي تدخل في أمور تسيء إلى قرابتها.

هذا حق النساء فما هو حق الرجال؟ من المعلوم أن المجتمعات يترابط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض، والرجال أعرف بالرجال، فهناك أشياء إذا قُبلت أضرت بسمعة القرابة، فالرجل الشرير أو الفاسد أو الذي يكون منه الضرر، إذا تزوج هذه المرأة فإنه سيجر الضرر والعار على قرابتها، فليس من المعقول أن نرضخ لعاطفة المرأة على حساب أمة، وليس من المعقول أن نضر بجماعة على حساب فرد، وقواعد الشريعة تقول: الضرر يزال، فهذا النوع من الرجال يضر، مثل ما يقع مثلاً في بعض الأحيان بأن يكون الرجل معروفاً بفساده وسوء أخلاقه، فمثل هذا -أعاذنا الله وإياكم- لو أنه تزوج امرأة أُناس محافظين ولهم مكانتهم أضر بهم وأضر بسمعتهم وأضر بمكانتهم، فلو جاءت المرأة تقول: أريد أن أتزوج بفلان، وقال الولي: لا. فانظر إلى قول المرأة، وانظر إلى قول الرجل، وانظر إلى الضرر الذي يلحق المرأة، والضرر الذي يلحق الرجل؛ فتجد ما يلي:

تجد أن الرجل لو لم نوافق عليه فهناك البديل، والمرأة إذا منع عنها الرجل فإنها قد تقع في الحرام، وهذا في حالة عدم وجود البديل، فهذا الضرر يمكن تلافيه، لكن لو أن هذا الرجل تزوج من هذه الجماعة لأضر بهم ولألحق بهم في بعض الأحيان عاراً لا ينمحي عنهم، فهذا الضرر لا يمكن إزالته، وخاصة أضرار العار التي تلحق بها من السب والنقيصة والضرر، أو يكون رجلاً شريراً كثير الاعتداء على الناس، فكل يوم يقال: هذا زوج ابنتكم، أبو أولادكم، ويتضرر أولادها، والشريعة لم تأت بالزواج فقط، بل جاءت بالنظر إلى مصالح ومفاسد قريبة وبعيدة، وأضرار خاصة وعامة، ومصالح خاصة وعامة. فلابد من النظر بين الجانبين.

فالخلط يقع في المسائل الفقهية والاجتهادات والأقوال وشروح الأحاديث، فهناك أحاديث ليس المراد بها إذن المرأة بإطلاق، وليس المراد ولاية الرجال بإطلاق، وإنما المراد أن يعدل كل واحد ويتقي الله في حقه وما له وما عليه، فالمرأة تتقي الله في أهلها وقرابتها، فلا تقول: زوجوني من فلان، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أتزوج، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أدخل بيت الزوجية أبداً، هذه كلها أمور مبنية على الإساءة والإضرار، والشريعة لا تجيز هذا، ولو قالت هذا الكلام فليس من حقها، ومن حق الأولياء إذا خافوا عليها الحرام والوقوع فيه أو خافوا عليها أن يلحقوها بزوج كفء كريم ويزوجونها منه.

إذاً لابد من الجانبين: جانب الرجل وجانب المرأة، ولما كانت هذه القاعدة معروفة اعتنى العلماء بمسألة الرضا وسيتبعونها فيما بعد بمسألة الولاية على النساء في النكاح.

فبين رحمه الله مسألة رضا المرأة، وأن النكاح لا يصح بدون رضاها.

والمرأة -خاصة إذا كانت بكراً- إذا زُوجت من رجل لا ترغبه أو من رجل فيه نقص يؤذيها أو يضر بها أو ينفرها، فإن هذا من أعظم الإضرار، ومن أعظم الظلم أن لا يتقي الولي في موليته، فيحابي ويجامل ويرضخ لأمور معينة يتنازل بها عن حق الولاية الذي فرضه الله عز وجل عليه من حسن النظر لموليته.

قال رحمه الله: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب]

(إلا بإذنهما) فلابد من إذن الزوج البالغ وإذن الزوجة البالغة، ورضا الزوج البالغ ورضا الزوجة البالغة، والإذن بالنسبة للمرأة يختلف باختلاف البكر والثيب، فالبكر تُستأذن، فيقال لها: يا فلانة! إن فلاناً يرغب بك، يا فلانة! إن فلاناً تقدم للزواج منكِ، فإذا كانت لا تريده قالت: لا أريده، وإذا سكتت كان صماتها وسكوتها قرينة دالة على الإذن؛ وهذا نوع من التيسير من الله عز وجل؛ لأن البكر تستحي، لكن إذا كان الصمات عن خوف وإكراه فوجوده وعدمه على حدٍ سواء، فالمقصود بالصمات هو صمات الحياء، وهو الصمات الذي تستحي فيه من بيان الموافقة.

أما إذا كان صمات خوفٍ بأن تخشى أن تزعج والدها فذهبت إلى أمها وقالت: لا أريده، فعلى والدها أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله سائله عن هذه الأمانة، فإنها قد تبقى عمرها عند هذا الرجل، فخير له ألا يصاب بدعوات السوء، فكم من امرأة والعياذ بالله ظلمها والدها فدعت عليه، فمثل هذا يتقى، فعلى الإنسان أن يتقي ربه ما أمكنه في حقوق الأبناء، وبخاصة البنت، فإن ظلم الوالد لها من أعظم الظلم، فإنها إذا ظلمت من والدها واضطهدت قد تسكت وقد تصبر، فتصبح بين نارين؛ نار العذاب الذي تجده من هذا الزوج الذي ليس بأهل، ونار والدها أن تخالفه، ولذلك ينبغي للوالد أن يقدر هذه المشاعر وأن يرحمها، والله سبحانه وتعالى لاشك أنه سيعوضها خيراً، لكن المراد بيان الحكم الشرعي من حيث الأصل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.