شرح زاد المستقنع باب الموصى إليه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الموصى إليه]

.

لقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بالشخص الذي يُعهد إليه بتنفيذ الوصية، ولا شك في أن الوصية -عند بيان أحكامها ومسائلها- تفتقر إلى بيان الأمور التي ينبغي توفرها في الأشخاص الذين يعهد إليهم بتنفيذ الوصايا، فتحقيق المصالح ودرء المفاسد التي من أجلها شرع الله الوصية لا يمكن أن يكون على أتم الوجوه وأكملها إلا إذا كان الأشخاص الذين تناط بهم الوصايا ويناط بهم تنفيذها والقيام بها من الأشخاص الذين توفرت فيهم الصفات المعتبرة، ومن هنا اعتنى العلماء والأئمة رحمهم الله ببيان الصفات التي ينبغي توفرها في الموصى إليه، حتى لا يتساهل الناس ولا تضيع الحقوق، فإن الوصية إذا عُهِد بها إلى الشخص الذي ليس هو بأهل؛ ضيع حقوق الله عز وجل فيها، وربما أوصى الشخص بحق عنه، فضيع هذا الحق، وكذلك ضيع حقوق الناس، فلربما ضيع حقوق اليتامى وحقوق الأرامل إذا كان غير أهل. ومن هنا وجب بيان هذه المسائل، والاعتناء ببيان الشروط التي ينبغي توفرها في الموصى إليه.

يقول رحمه الله: (باب الموصى إليه) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفات الشخص الموصى إليه، وما ينبغي عليه، وما يجب من الأمور التي تلزم ويلزم مراعاتها ممن يُعهد إليه بتنفيذ الوصايا.

ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الوصايا قد تشتمل على حقوق لله عز وجل، كمن وصَّى أن يحج عنه ويعتمر، أو وصَّى بأن يصام عنه صيام نذر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه)، أو يوصي بحقوق من الكفارات والفدية في حجه أو عمرته، تكون لازمة عليه، أو يوصي بحقوق من كفارات أيمان، أو كفارات قتل أو ظهار أو جماع في نهار رمضان، أو غير ذلك، فهذه وصيةٌ مشتملة على حقوق الله عز وجل، وقد تشتمل الوصية على رعاية الأيتام، والإحسان في النظر في مصالحهم وما هم محتاجون إليه، وقد تشتمل الوصية على أمور أوصى بها من المستحبات؛ كالصدقات، والإحسان إلى المحتاجين والمساكين، فيوصي بثلثه للفقراء، ويعهد إلى شخص، ويوصي إليه أن يقوم بتنفيذ هذه الوصية.

إذاً: الوصية تتعدد وتختلف، وكل جانب من هذه الجوانب قد يصلح فيه شخص ولا يصلح فيه آخر، وقد يكون من تَعهد إليه برعاية شئون الأيتام من بعد الموت والوفاة يحتاج إلى أن يكون خبيراً بالأسواق، خبيراً بالأموال، وقد تحتاج إلى شخص قوي يدفع الضرر عنهم، فأمور اليتامى تختلف، وأمور الوصية أيضاً تختلف، فنظراً لاختلافها قد يوصي لشخص بشخص واحد، وقد يوصي لأكثر من شخص، فيجعل أحدهم لتنفيذ الثلث، ويجعل الثاني لرعاية مصالح اليتامى، ويجعل الثالث للقيام بحقوقٍ واجبة عليه يقوم بأدائها، ويجعل شخصاً رابعاً لرد الأمانات ورد حقوق الناس؛ لأن فيه أمانة أكثر من غيره.

المهم أن الشخص الموصى إليه لا بد أن تكون فيه صفات تتناسب مع هذه المهام، ومع هذه المصالح التي يريد تحقيقها، والمفاسد التي يطلب درءها، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص كما ذكرنا.

قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد ولو عبداً].

من صفات الموصى إليه: أن يكون مسلماً رجلاً كان أو امرأة

قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم].

قوله: (تصيح وصية المسلم ) أي: أنها معتبرة شرعاً، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر. والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أياً كانت هذه الوصايا.

أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء.

وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثاً ولا أصدق منه قيلاً، وهو القائل: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45] -أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، و(الإلّ) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و(والذمة): العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثاً وأصدق قيلاً. فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريباً، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم.

ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتباً نصرانياً عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].

فقوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم.

(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و(ما): مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم.

وكذلك أيضاً دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم.

فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف)، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ(كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكوراً وإناثاً، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع.

وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها.

فإذا أحس أن هناك خوفاً يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلاً، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعداً أو معيناً لها.

فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف،وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا)، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك.

من الموصى إليه: أن يكون مكلفاً

قال رحمه الله: [إلى كل مسلم مكلف].

قوله: (مكلف) أي: بالغ عاقل مختار، فلا يكون صبياً ولا مجنوناً ولا مكرهاً.

فأما المجنون والصبي؛ فإن كلاً منهما لا يستطيع أن يلي أمر نفسه، فمن باب أولى وأحرى ألَّا يلي أمور غيره، ولذلك فإن الصبي يحجر عليه، فلا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا إذا كان مأذوناً له على التفصيل الذي تقدم معنا في باب الحجر.

إذاً: لا يصح أن يعهد بالوصية إلى صبيانه، أو إلى الصغار الذين هم دون البلوغ، لكن يجوز أن يقول: وصيت أو عهدت إلى أخي فلان أن يقوم بالنظر على أيتامي، فإذا بلغ ابني محمد، فإنه هو الوصي من بعده. فقد جعل الوصية إلى أخيه، لكن قبل أن يبلغ ابنه، فإذا بلغ ابنه فإنه وصيه، فعلى هذا الوجه يصح أن يكون عهده إلى صبي، ويكون العهد في الأساس إلى كبير بالغ، مستوفٍ للشروط، مما يجعل الصبي من بعده تعليقاً، وهذا لا بأس به، وقد اختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من منعوا من ذلك، والصحيح جوازه؛ لأن هذا النوع من الوصية إلى الصبي إنما هو عند بلوغه، فتكون الوصية والقيام بمصالح أبنائه وبناته من بعده لهذا الصغير إذا بلغ.

وكذلك أيضاً يشترط: الاختيار، فلا يصح أن يكون الموصى إليه مكرهاً، فلو هدد الموصي شخصاً، وفرض عليه أن يكون وصياً له من بعده، ووافق؛ فإنه لا تصح الوصية؛ لأنه يشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً. وهذا هو المعتبر لأهلية التكليف.

وبالنسبة للمجنون يستوي فيه أن يكون جنونه متقطعاً أو مستديماً؛ لأنه في بعض الأحيان يختلف الأمر في الذي جنونه متقطع، لكن بالنسبة للوصية لا يصح أن يعهد إلى مجنون، سواء كان جنونه مطبقاً أو متقطعاً، فلو كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً، وعهد إليه في حال إفاقته؛ فإنه لا يصح هذا العهد، فالعهد إلى المجنون باطل أصلاً، وبغير خلاف بين العلماء رحمهم الله.

لكن لو أنه عهد إلى شخص أن يقوم بالنظر في وصيته من بعده بتنفيذها ورعاية شئون ذريته من بعده، ثم جن قبل أن يموت الموصي، بطلت الوصية، وحينئذ يعهد إلى شخص آخر ويقيمه مقامه.

من الموصى إليه: أن يكون عدلاً

قال رحمه الله: [عدل].

العدل: هو الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم:

العـدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغـائرا

وكبائر الذنوب: كبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة، وكذلك كل ذنب وردت عليه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، أو توعد عليه بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك.

مثل: شهادة الزور، وعقوق الوالدين، والشرك بالله -والعياذ بالله- فهذه أكبر الكبائر، ومذهب جمهور السلف والخلف رحمهم الله أن الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، خلافاً لمن قال: إن الذنوب كلها ليس فيها صغير ولا كبير، وأنها مستوية، والصحيح أن منها ما هو كبير وما هو صغير؛ لأن الله يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فأخبر أن الذنوب منها كبيرة، ومنها دون هذه الكبيرة، وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، فأخبر أن الذنب منه صغير ومنه كبير، ومنه اللمم: وهو صغار الذنوب، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر...) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل المكفر الصغائر بشرط اتقاء الكبائر، فدلت هذه النصوص كلها على أن الذنوب فيها صغير وكبير.

ومن هنا قال العلماء: الكبيرة موجبة للفسق، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، فبين سبحانه وتعالى انقسام المعاصي إلى ثلاثة أقسام: الكفر: وهو أعظمها وأكبرها، والفسوق: وهو الذي بين الصغائر وبين الكفر والخروج من الملة، وذلك بارتكاب الكبائر، والعصيان: الذي يكون بارتكاب صغائر الذنوب، والفسوق: هو الذي تنتقض به العدالة، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، فالفاسق خارج من طاعة الله عز وجل، مجانب لها، وذلك بارتكابه لكبير الذنب، أو إصراره على الصغير، فإذا أصرَّ على صغيرة، وأصبح إصراره ومداومته يعادل في الذنب الكبيرة لو فعلها مرة، فإن حكم هذه الصغيرة يكون في حكم الكبيرة، فتسقط عدالته، ويكون جرحه مؤثراً فيه.

وقوله (عدل) أي: يشترط أن يكون الوصي عدلاً، ولا تصح الوصية إلى فاسق.

وفي الحقيقة تفصيل عند العلماء: فالفاسق له أحوال: فتارة يكون فاسقاً بارتكابه بعض الذنوب، ولكنه في نظره بالوصية وقيامه على الوصية يحكم القيام بها على أتم الوجوه وأكملها، فحينئذ فسقه لا يؤثر في الوصية، فالحنابلة رحمهم الله عندهم يرون أن الفاسق لا يولى؛ وذلك لأن الفاسق إذا نقض حقاً من حقوق الله بارتكاب الكبيرة، فلا نأمن منه أن يضيع حقوق عباد الله، ومن هنا لا تقبل شهادته، ولم يجز تنفيذ العهد إليه بتنفيذ الوصية؛ لأنه كما ضيع حق الله لا يؤمن منه أن يضيع حقوق عباده، وذلك من باب أولى وأحوط.

ومن أهل العلم من قال: إننا نشاهد من الفساق من يرتكب بعض الأمور، ولكنه لا يخل بديانته ودينه في الأمور الأخرى، فتجده يشرب الخمر، ولكنه لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخون أمانته، ولا يمكن أن يضيع حقاً من الحقوق، لكن الله ابتلاه بشرب الخمر، وقد يكون -والعياذ بالله- مبتلىً بزنا أو فسوق آخر، ولكنه محافظ على الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث صدق، وإذا وعد وفىَّ، وإذا اؤتمن لم يخن.

فقالوا: إنه قد يكون عند الشخص تقصير يؤثر في عدالته، ولكن نشاهد منه الصدق في قوله، والأمانة في فعله، ونجد عنده التحفظ، وهذا ابتلاء ابتلي به في جانب من دينه، لا يستلزم أن يسري الحكم إلى ما عداه.

والحق هو مذهب الجمهور، والتفصيل فيه قوة؛ أي: إذا كان الفاسق ممن يؤثر فسقه في الوصية؛ فلا شك أنه يجتنب ولا يعهد إليه، وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الوصية، والغالب أنه يقوم بالوصية؛ كأن يكون قريباً كعم الأولاد وخال الأولاد، وعنده من الشفقة والرحمة ما يغلب على الظن أنه ينفذ الوصايا على أتم الوجوه وأكملها؛ فإنه لا بأس بالوصية إليه. فالتفصيل في هذا أقوى، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

من صفات الموصى إليه: أن يكون رشيداً

قال رحمة الله: [رشيد].

ينقسم الرشد إلى: رشد الدين، ورشد الدنيا. فرشد الدين: هو الإيمان، والذي يكون منه صلاح الإنسان واستقامته، كما قال الله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، وسمي الرشد رشداً؛ لأن الإنسان يصيبه فيه القوام والسداد في أموره المتعلقة بدينه.

وأما رشد الدنيا: فهذا يكون في مصالح الدنيا، ويضبطه العلماء رحمهم الله بوصفين فيقولون: الرشيد في الدنيا، هو الذي يحسن الأخذ لنفسه، والإعطاء لغيره، فإذا أراد أن يبيع شيئاً باعه بقيمته، فلا يغش ولا يضحك على أحد، فلو أراد أن يبيع بيتاً أحسن الإعطاء لغيره، فالبيت قيمته مثلاً مليون، فيبيعه بالمليون وزيادة، فهذا رشيد، لكن إذا كانت قيمته مليون، فيبيعه بثمانمائة ألف، فهذا غير رشيد؛ بل سفيه، ولا يحسن أن يولى السفيه النظر في المصالح المتعلقة بالأموال؛ لأنه محجور عليه في تصرفه في ماله، فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5].

وقد أشار الله عز وجل إلى رشد الدنيا في الأموال بقوله سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] أي: وجدتم فيهم الرشد؛ لكونهم يحسنون الأخذ لأنفسهم والإعطاء لغيرهم. فلا يجوز للمسلم أن يولي على أمواله من بعده من لا يحسن النظر فيها، فلو ولى سفيهاً أو طائشاً أو أحمق لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره، فقد ضيع الأمانة، وضيع حقوق ورثته من بعده، والغالب من مثل هذا أن لا تتحقق به مصالح الوصية، ولا تندرئ به مفاسدها، بل تزداد المفاسد أكثر مما هي عليه.

فبين رحمه الله أنه يشترط في الشخص الذي يولى في الوصية أن يكون رشيداً، وهذا من التصرفات المالية.

حكم الوصية إلى العبد

قال رحمه الله: [ولو عبداً].

(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، والعبد: هو الرقيق، وبين بهذا أنه يجوز أن يعهد بالوصية إلى الرقيق، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن العبد لا يكون وصياً؛ لأنه لا يلي أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره.

لكن المصنف هنا يقول: إنه يولى العبد ويستأذن سيده، فإذا أذن سيده له كان وصياً.

وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه إذا أذن له سيده لا نضمن أن يموت سيده، فينتقل العبد من الإذن له بالانشغال في مصالح ورثة الموصي وقيامه على الوصية ينتقل إلى ورثة سيده، والوصية تحتاج إلى وقت، وهذا فيه تغرير بحقوق الأيتام، وحقوق الأرامل، وما المقام عليه بالوصايا، فالوصية إلى العبد فيها مخاطرة؛ لأن هذا العبد في الأصل جعله الله ملكاً ليمين سيده، ومشغول بخدمة سيده، فلو أن سيده أذن له الآن فربما باعه في الغد، وإذا باعه فقد باعه إلى من لا يأذن له، فهذا تغرير بالوصية، ومخاطرة بها والصحيح هو قول من قال: إن العبد لا يلي أمر الوصية، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:

فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أجاز، ومنهم من فصَّل، فالذين منعوا مطلقاً هم الشافعية، والذين أجازوا هم الحنابلة، ومعهم المالكية، والذين فصلوا هم الحنفية، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يعهد إلى عبد نفسه، كما كانوا في القديم، إذا كان عنده أولاد صغار وعنده عبيد، وفيهم عبد صالح وديِّن ومستقيم وأمين، فيقول له: قم على شئون ورثتي من بعدي، فيعهد إليه بوصاياه من بعده، وفعلاً يكون على أحسن وأتم وأكمل الوجوه، ولكن الأمر لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه إذا عهد إلى هذا الرقيق، فإن أحد الأبناء سيكبر ويبلغ؛ وحينئذ سيكون هذا العبد ملكاً له، فهو وليه من وجه، ومولى عليه من وجه آخر، فتلزمه طاعته، ويكون تحت أمر الصبي؛ لأن الصبي يملكه، ومن حقه أن يأمره وينهاه.

إذاً: القول بالتفصيل من ناحية شرعية فيه نظر، والصحيح: أن الرقيق لا يكون ولياً في الوصايا؛ لأنه لا يلي على نفسه، فمن باب أولى أن لا يلي على غيره.

قال رحمه الله: [ويقبل بإذن سيده].

أي: يقبل الوصية بإذن سيده، فليس له قبول مطلق، وإنما يقيد قبوله بإذن السيد، فإذا أذن السيد له أن يقوم بتنفيذ وصايا هذا الموصي؛ صح، وإلا فلا.

حكم الوصية إلى اثنين

قال رحمه الله: [وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا].

هذه المسألة صورتها: أن يقول لزيد: أنت وصيي من بعدي، فيعهد إليه، ثم بعد ذلك بقليل أو كثير من الزمان يقول لشخص آخر: أنت وصيي من بعدي، فهل الوصية الثانية ناقضة للوصية الأولى، أم أن الوصية الثانية مشتركة مع الوصية الأولى؟

الثاني هو الأقوى: أن الوصية الثانية ليست ناقضة للوصية الأولى؛ لأنه لو أراد نقض الوصية الأولى؛ فإنه ينبغي أن يكون نقضها صريحاً بيناً، كما أن إثباتها وقع صريحاً بيناً، ولا يمتنع أنه قصد الاثنين؛ لأنك ربما عهدت إلى شخص واحد وأموالك قليلة، ثم طرأت أموال أخرى كثيرة يغلب على ظنك أن فلاناً وحده لا يقدر على القيام عليها، بل يحتاج إلى من يعينه، وربما عهدت إلى شخص في حال، ثم وجدت فيه ضعفاً بعد فترة، فاحتجت أن تقرن إليه شخصاً آخر يعينه ويساعده في حال آخر، فالذي يظهر أنه يعتبر وصياً ثانياً؛ وفي هذه الحالة يشترك الاثنان. وهذا إذا وصى لوصي ثانٍ بعد وصي أول.

فصورة مسألتنا: أنه إذا اتفقا في المكان الذي وصي به، مثل أن يقول: أنت وصيي من بعدي في رد ودائعي، والقيام على أيتامي، وصرف الثلث... إلخ، فيعطيه وصية مطلقة لجميع أموره وشئونه، ثم يقول للثاني نفس الذي قاله للأول، فحينئذ لا إشكال؛ فالوصية الأولى عامة، والوصية الثانية عامة، فيشتركان في العموم.

الصورة الثانية: أن تكون الوصية الأولى عامة، والثانية خاصة، كأن يقول له: أنت وصيي من بعدي في جميع أموري، ثم بعد ذلك يقول لشخص ثان: أنت وصيي من بعدي في رعاية أموال أيتامي، فحدد له فقط رعاية أموال اليتامى، فيكون الثاني مشاركاً للأول في هذا الخاص الذي ذكره الآن، ولا يشاركه في غيره، فصورة المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله تقع إذا كانت الوصيتان فيها عموم، هذه حالة.

والحالة الثانية: أن يكون في الوصيتين خصوص، لكل واحد منهما خصوص موافق، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، ثم يقول للثاني: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، لكن لو قال للأول: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، وقال للثاني: أنت وصيي من بعدي في الحج عني، أو في تقسيم الثلث، فاختلفت الوصيتان، فحينئذ هذا وصي في رعاية الأيتام، وهذا وصي في تنفيذ الثلث، فلا يشتركان.

إذاً صورة المسألة: أن يكون لفظه في الوصية الأولى موافقاً للفظه في الوصية الثانية، فإن اختلفا، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون بينهما عموم وخصوص، فحينئذ يشتركان في الخاص، وينفرد الأول بالعام، وإما أن يفترقا فيكون لكل منهما أمر لا يكون للآخر؛ فحينئذ لا يشتركان، وكل منهما ينفذ وصيته فيما اختص به من الأمور التي أناطها به الموصي.

حكم انفراد أحد الوصيين بتصرف لم يُجعل له

قال رحمه الله: [ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له].

أي: لم يجعله له الموصي، بمعنى: أن الاثنين يشتركان في الوصية إذا كانت عامة، فلو أراد أحدهما أن يبيع بيتاً من بيوته بعد وفاته؛ فنقول له: ليس من حقك أن تبيع البيت حتى يأذن الوصي الثاني، فلا بد من اتفاق كلمة الاثنين على أن المصلحة في البيع حتى يباع، أو يتفقان على أن المصلحة في عدم البيع فيبقى البيت، أو يتفقان على أن المصلحة في تأجير بيوت اليتامى فتؤجر.

إذاً: لا بد أن يكون تصرفهما معاً، فلو أن أحدهما أجر دون الآخر، وبدون رضاه أو إقراره؛ فإنه لا يصح ذلك، حتى يوافق الآخر؛ لأنه عهد إليهما معاً، فلا يصح تصرف أحدهما بدون رضا من الطرف الثاني.

قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم].

قوله: (تصيح وصية المسلم ) أي: أنها معتبرة شرعاً، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر. والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أياً كانت هذه الوصايا.

أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء.

وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثاً ولا أصدق منه قيلاً، وهو القائل: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45] -أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، و(الإلّ) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و(والذمة): العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثاً وأصدق قيلاً. فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريباً، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم.

ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتباً نصرانياً عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].

فقوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم.

(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و(ما): مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم.

وكذلك أيضاً دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم.

فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف)، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ(كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكوراً وإناثاً، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع.

وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها.

فإذا أحس أن هناك خوفاً يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلاً، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعداً أو معيناً لها.

فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف،وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا)، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك.

قال رحمه الله: [إلى كل مسلم مكلف].

قوله: (مكلف) أي: بالغ عاقل مختار، فلا يكون صبياً ولا مجنوناً ولا مكرهاً.

فأما المجنون والصبي؛ فإن كلاً منهما لا يستطيع أن يلي أمر نفسه، فمن باب أولى وأحرى ألَّا يلي أمور غيره، ولذلك فإن الصبي يحجر عليه، فلا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا إذا كان مأذوناً له على التفصيل الذي تقدم معنا في باب الحجر.

إذاً: لا يصح أن يعهد بالوصية إلى صبيانه، أو إلى الصغار الذين هم دون البلوغ، لكن يجوز أن يقول: وصيت أو عهدت إلى أخي فلان أن يقوم بالنظر على أيتامي، فإذا بلغ ابني محمد، فإنه هو الوصي من بعده. فقد جعل الوصية إلى أخيه، لكن قبل أن يبلغ ابنه، فإذا بلغ ابنه فإنه وصيه، فعلى هذا الوجه يصح أن يكون عهده إلى صبي، ويكون العهد في الأساس إلى كبير بالغ، مستوفٍ للشروط، مما يجعل الصبي من بعده تعليقاً، وهذا لا بأس به، وقد اختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من منعوا من ذلك، والصحيح جوازه؛ لأن هذا النوع من الوصية إلى الصبي إنما هو عند بلوغه، فتكون الوصية والقيام بمصالح أبنائه وبناته من بعده لهذا الصغير إذا بلغ.

وكذلك أيضاً يشترط: الاختيار، فلا يصح أن يكون الموصى إليه مكرهاً، فلو هدد الموصي شخصاً، وفرض عليه أن يكون وصياً له من بعده، ووافق؛ فإنه لا تصح الوصية؛ لأنه يشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً. وهذا هو المعتبر لأهلية التكليف.

وبالنسبة للمجنون يستوي فيه أن يكون جنونه متقطعاً أو مستديماً؛ لأنه في بعض الأحيان يختلف الأمر في الذي جنونه متقطع، لكن بالنسبة للوصية لا يصح أن يعهد إلى مجنون، سواء كان جنونه مطبقاً أو متقطعاً، فلو كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً، وعهد إليه في حال إفاقته؛ فإنه لا يصح هذا العهد، فالعهد إلى المجنون باطل أصلاً، وبغير خلاف بين العلماء رحمهم الله.

لكن لو أنه عهد إلى شخص أن يقوم بالنظر في وصيته من بعده بتنفيذها ورعاية شئون ذريته من بعده، ثم جن قبل أن يموت الموصي، بطلت الوصية، وحينئذ يعهد إلى شخص آخر ويقيمه مقامه.

قال رحمه الله: [عدل].

العدل: هو الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم:

العـدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغـائرا

وكبائر الذنوب: كبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة، وكذلك كل ذنب وردت عليه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، أو توعد عليه بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك.

مثل: شهادة الزور، وعقوق الوالدين، والشرك بالله -والعياذ بالله- فهذه أكبر الكبائر، ومذهب جمهور السلف والخلف رحمهم الله أن الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، خلافاً لمن قال: إن الذنوب كلها ليس فيها صغير ولا كبير، وأنها مستوية، والصحيح أن منها ما هو كبير وما هو صغير؛ لأن الله يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فأخبر أن الذنوب منها كبيرة، ومنها دون هذه الكبيرة، وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، فأخبر أن الذنب منه صغير ومنه كبير، ومنه اللمم: وهو صغار الذنوب، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر...) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل المكفر الصغائر بشرط اتقاء الكبائر، فدلت هذه النصوص كلها على أن الذنوب فيها صغير وكبير.

ومن هنا قال العلماء: الكبيرة موجبة للفسق، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، فبين سبحانه وتعالى انقسام المعاصي إلى ثلاثة أقسام: الكفر: وهو أعظمها وأكبرها، والفسوق: وهو الذي بين الصغائر وبين الكفر والخروج من الملة، وذلك بارتكاب الكبائر، والعصيان: الذي يكون بارتكاب صغائر الذنوب، والفسوق: هو الذي تنتقض به العدالة، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، فالفاسق خارج من طاعة الله عز وجل، مجانب لها، وذلك بارتكابه لكبير الذنب، أو إصراره على الصغير، فإذا أصرَّ على صغيرة، وأصبح إصراره ومداومته يعادل في الذنب الكبيرة لو فعلها مرة، فإن حكم هذه الصغيرة يكون في حكم الكبيرة، فتسقط عدالته، ويكون جرحه مؤثراً فيه.

وقوله (عدل) أي: يشترط أن يكون الوصي عدلاً، ولا تصح الوصية إلى فاسق.

وفي الحقيقة تفصيل عند العلماء: فالفاسق له أحوال: فتارة يكون فاسقاً بارتكابه بعض الذنوب، ولكنه في نظره بالوصية وقيامه على الوصية يحكم القيام بها على أتم الوجوه وأكملها، فحينئذ فسقه لا يؤثر في الوصية، فالحنابلة رحمهم الله عندهم يرون أن الفاسق لا يولى؛ وذلك لأن الفاسق إذا نقض حقاً من حقوق الله بارتكاب الكبيرة، فلا نأمن منه أن يضيع حقوق عباد الله، ومن هنا لا تقبل شهادته، ولم يجز تنفيذ العهد إليه بتنفيذ الوصية؛ لأنه كما ضيع حق الله لا يؤمن منه أن يضيع حقوق عباده، وذلك من باب أولى وأحوط.

ومن أهل العلم من قال: إننا نشاهد من الفساق من يرتكب بعض الأمور، ولكنه لا يخل بديانته ودينه في الأمور الأخرى، فتجده يشرب الخمر، ولكنه لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخون أمانته، ولا يمكن أن يضيع حقاً من الحقوق، لكن الله ابتلاه بشرب الخمر، وقد يكون -والعياذ بالله- مبتلىً بزنا أو فسوق آخر، ولكنه محافظ على الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث صدق، وإذا وعد وفىَّ، وإذا اؤتمن لم يخن.

فقالوا: إنه قد يكون عند الشخص تقصير يؤثر في عدالته، ولكن نشاهد منه الصدق في قوله، والأمانة في فعله، ونجد عنده التحفظ، وهذا ابتلاء ابتلي به في جانب من دينه، لا يستلزم أن يسري الحكم إلى ما عداه.

والحق هو مذهب الجمهور، والتفصيل فيه قوة؛ أي: إذا كان الفاسق ممن يؤثر فسقه في الوصية؛ فلا شك أنه يجتنب ولا يعهد إليه، وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الوصية، والغالب أنه يقوم بالوصية؛ كأن يكون قريباً كعم الأولاد وخال الأولاد، وعنده من الشفقة والرحمة ما يغلب على الظن أنه ينفذ الوصايا على أتم الوجوه وأكملها؛ فإنه لا بأس بالوصية إليه. فالتفصيل في هذا أقوى، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

قال رحمة الله: [رشيد].

ينقسم الرشد إلى: رشد الدين، ورشد الدنيا. فرشد الدين: هو الإيمان، والذي يكون منه صلاح الإنسان واستقامته، كما قال الله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، وسمي الرشد رشداً؛ لأن الإنسان يصيبه فيه القوام والسداد في أموره المتعلقة بدينه.

وأما رشد الدنيا: فهذا يكون في مصالح الدنيا، ويضبطه العلماء رحمهم الله بوصفين فيقولون: الرشيد في الدنيا، هو الذي يحسن الأخذ لنفسه، والإعطاء لغيره، فإذا أراد أن يبيع شيئاً باعه بقيمته، فلا يغش ولا يضحك على أحد، فلو أراد أن يبيع بيتاً أحسن الإعطاء لغيره، فالبيت قيمته مثلاً مليون، فيبيعه بالمليون وزيادة، فهذا رشيد، لكن إذا كانت قيمته مليون، فيبيعه بثمانمائة ألف، فهذا غير رشيد؛ بل سفيه، ولا يحسن أن يولى السفيه النظر في المصالح المتعلقة بالأموال؛ لأنه محجور عليه في تصرفه في ماله، فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5].

وقد أشار الله عز وجل إلى رشد الدنيا في الأموال بقوله سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] أي: وجدتم فيهم الرشد؛ لكونهم يحسنون الأخذ لأنفسهم والإعطاء لغيرهم. فلا يجوز للمسلم أن يولي على أمواله من بعده من لا يحسن النظر فيها، فلو ولى سفيهاً أو طائشاً أو أحمق لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره، فقد ضيع الأمانة، وضيع حقوق ورثته من بعده، والغالب من مثل هذا أن لا تتحقق به مصالح الوصية، ولا تندرئ به مفاسدها، بل تزداد المفاسد أكثر مما هي عليه.

فبين رحمه الله أنه يشترط في الشخص الذي يولى في الوصية أن يكون رشيداً، وهذا من التصرفات المالية.

قال رحمه الله: [ولو عبداً].

(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، والعبد: هو الرقيق، وبين بهذا أنه يجوز أن يعهد بالوصية إلى الرقيق، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن العبد لا يكون وصياً؛ لأنه لا يلي أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره.

لكن المصنف هنا يقول: إنه يولى العبد ويستأذن سيده، فإذا أذن سيده له كان وصياً.

وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه إذا أذن له سيده لا نضمن أن يموت سيده، فينتقل العبد من الإذن له بالانشغال في مصالح ورثة الموصي وقيامه على الوصية ينتقل إلى ورثة سيده، والوصية تحتاج إلى وقت، وهذا فيه تغرير بحقوق الأيتام، وحقوق الأرامل، وما المقام عليه بالوصايا، فالوصية إلى العبد فيها مخاطرة؛ لأن هذا العبد في الأصل جعله الله ملكاً ليمين سيده، ومشغول بخدمة سيده، فلو أن سيده أذن له الآن فربما باعه في الغد، وإذا باعه فقد باعه إلى من لا يأذن له، فهذا تغرير بالوصية، ومخاطرة بها والصحيح هو قول من قال: إن العبد لا يلي أمر الوصية، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:

فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أجاز، ومنهم من فصَّل، فالذين منعوا مطلقاً هم الشافعية، والذين أجازوا هم الحنابلة، ومعهم المالكية، والذين فصلوا هم الحنفية، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يعهد إلى عبد نفسه، كما كانوا في القديم، إذا كان عنده أولاد صغار وعنده عبيد، وفيهم عبد صالح وديِّن ومستقيم وأمين، فيقول له: قم على شئون ورثتي من بعدي، فيعهد إليه بوصاياه من بعده، وفعلاً يكون على أحسن وأتم وأكمل الوجوه، ولكن الأمر لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه إذا عهد إلى هذا الرقيق، فإن أحد الأبناء سيكبر ويبلغ؛ وحينئذ سيكون هذا العبد ملكاً له، فهو وليه من وجه، ومولى عليه من وجه آخر، فتلزمه طاعته، ويكون تحت أمر الصبي؛ لأن الصبي يملكه، ومن حقه أن يأمره وينهاه.

إذاً: القول بالتفصيل من ناحية شرعية فيه نظر، والصحيح: أن الرقيق لا يكون ولياً في الوصايا؛ لأنه لا يلي على نفسه، فمن باب أولى أن لا يلي على غيره.

قال رحمه الله: [ويقبل بإذن سيده].

أي: يقبل الوصية بإذن سيده، فليس له قبول مطلق، وإنما يقيد قبوله بإذن السيد، فإذا أذن السيد له أن يقوم بتنفيذ وصايا هذا الموصي؛ صح، وإلا فلا.

قال رحمه الله: [وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا].

هذه المسألة صورتها: أن يقول لزيد: أنت وصيي من بعدي، فيعهد إليه، ثم بعد ذلك بقليل أو كثير من الزمان يقول لشخص آخر: أنت وصيي من بعدي، فهل الوصية الثانية ناقضة للوصية الأولى، أم أن الوصية الثانية مشتركة مع الوصية الأولى؟

الثاني هو الأقوى: أن الوصية الثانية ليست ناقضة للوصية الأولى؛ لأنه لو أراد نقض الوصية الأولى؛ فإنه ينبغي أن يكون نقضها صريحاً بيناً، كما أن إثباتها وقع صريحاً بيناً، ولا يمتنع أنه قصد الاثنين؛ لأنك ربما عهدت إلى شخص واحد وأموالك قليلة، ثم طرأت أموال أخرى كثيرة يغلب على ظنك أن فلاناً وحده لا يقدر على القيام عليها، بل يحتاج إلى من يعينه، وربما عهدت إلى شخص في حال، ثم وجدت فيه ضعفاً بعد فترة، فاحتجت أن تقرن إليه شخصاً آخر يعينه ويساعده في حال آخر، فالذي يظهر أنه يعتبر وصياً ثانياً؛ وفي هذه الحالة يشترك الاثنان. وهذا إذا وصى لوصي ثانٍ بعد وصي أول.

فصورة مسألتنا: أنه إذا اتفقا في المكان الذي وصي به، مثل أن يقول: أنت وصيي من بعدي في رد ودائعي، والقيام على أيتامي، وصرف الثلث... إلخ، فيعطيه وصية مطلقة لجميع أموره وشئونه، ثم يقول للثاني نفس الذي قاله للأول، فحينئذ لا إشكال؛ فالوصية الأولى عامة، والوصية الثانية عامة، فيشتركان في العموم.

الصورة الثانية: أن تكون الوصية الأولى عامة، والثانية خاصة، كأن يقول له: أنت وصيي من بعدي في جميع أموري، ثم بعد ذلك يقول لشخص ثان: أنت وصيي من بعدي في رعاية أموال أيتامي، فحدد له فقط رعاية أموال اليتامى، فيكون الثاني مشاركاً للأول في هذا الخاص الذي ذكره الآن، ولا يشاركه في غيره، فصورة المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله تقع إذا كانت الوصيتان فيها عموم، هذه حالة.

والحالة الثانية: أن يكون في الوصيتين خصوص، لكل واحد منهما خصوص موافق، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، ثم يقول للثاني: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، لكن لو قال للأول: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، وقال للثاني: أنت وصيي من بعدي في الحج عني، أو في تقسيم الثلث، فاختلفت الوصيتان، فحينئذ هذا وصي في رعاية الأيتام، وهذا وصي في تنفيذ الثلث، فلا يشتركان.

إذاً صورة المسألة: أن يكون لفظه في الوصية الأولى موافقاً للفظه في الوصية الثانية، فإن اختلفا، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون بينهما عموم وخصوص، فحينئذ يشتركان في الخاص، وينفرد الأول بالعام، وإما أن يفترقا فيكون لكل منهما أمر لا يكون للآخر؛ فحينئذ لا يشتركان، وكل منهما ينفذ وصيته فيما اختص به من الأمور التي أناطها به الموصي.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع