شرح زاد المستقنع كتاب الوقف [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الوقف]

هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب التي بحثها الفقهاء رحمهم الله، وبينوا مسائلها، وما اشتمل عليه هذا الكتاب من أحكام، ونظراً لعظم أمره، وعموم البلوى به في كل زمان ومكان، ناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع.

وعبر بالكتاب، لكي يفصله عن الأبواب السابقة، فالأبواب السابقة متعلقة بالمعاملات المالية، والوقف يجمع بين المعاملة المالية من وجه، وبين العبادة من وجه آخر، وهو من حيث الأصل تسبيل لله عز وجل، ولذلك يخرج عن معنى المعاوضة من هذا الوجه، وعبر بالكتاب حتى لا يُظن أنه تابع للمعاوضات المالية.

وإلا فالأصل أن العلماء رحمهم الله يخُصون الكتاب بالأبواب الكثيرة، مثل أن يقال: كتاب المناسك ويقال: كتاب الصلاة؛ لأن أبوابه كثيرة، والوقف ليست له أبواب كثيرة؛ ولكنه منقطعٌ عما قبله، فلو قال المصنف: باب الوقف؛ لظن ظانٌ أنه تابع للمعاملات المالية التي تقدمت معنا في الدروس الماضية.

وقوله رحمه الله: (كتاب الوقف) أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوقف.

وهو: حبس أو تحبيس العين، وتسبيل المنفعة والثمرة، والمراد بالعين: العين الموقوفة، سواء كانت من العقارات، أو كانت من المنقولات، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا التعريف وحقيقته، حينما ذكره المصنف رحمه الله في صدر الكتاب.

مشروعية الوقف من الكتاب

والوقف يعتبر مشروعاً بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة من العلماء رحمهم الله، فأما دليل الكتاب فإن الوقف داخلٌ تحت عموم الآيات التي دلت على الطاعات والخير، والندب إلى البر، ولذلك يعتبره العلماء رحمهم الله من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله عز وجل به في كتابه بقوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

وإن المسلم إذا أوقف بيته أو سبَّل مزرعته، خاصة إذا جعلها للضعفاء والفقراء والمساكين، أو أوقف مسجداً للصلاة فيه، وانتفع الناس بعبادة ربهم وذكرهم لله عز وجل في هذا الموضع الموقوف، وكذلك بحلق الذكر في تلك المساجد الموقوفة، أو جعل صدقة كتسبيل المياه من حفر الآبار، وسقي العطشى، سواءً كانت داخل المدن، أو كانت خارج المدن، خاصة إذا كانت في السبل والمفازات التي تكون الحاجة فيها ماسة إلى وجود الماء، وهكذا إذا برّده أو وضع البرادات للماء، أو الأسباب التي تعين على تهيئته للعطشى والمحتاجين، ونحو ذلك من أفعال البر؛ فلا يشك أحد أنه من التعاون على البر والتقوى، وأنه من طاعة الله عز وجل، فهو داخل في عموم الصدقات والإحسان إلى المسلمين.

مشروعية الوقف من السنة

وأما دليل السنة فإنه صريح في الدلالة على مشروعية الوقف، فالفرق بين دليل القرآن والسنة على مشروعية الوقف أن دليل القرآن عام، وأما دليل السنة فإنه ورد في الوقف بخصوصه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمِره فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وسبّلت -وفي رواية تصدقت- على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث).

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة أولها قول عبد الله بن عمر : (أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضاً بخيبر) جاء في الرواية الأخرى أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أعز ما أصبت من مال، فما تأمرني فيها)؟ فانظر إلى فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الرجوع إلى العلماء، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو الخير والأحظ للإنسان في دينه ودنياه وآخرته.

فلا يزال العبد موفقاً مسدداً ملهماً للصواب ما رجع إلى أهل العلم، وأحبهم، واستشارهم، فإن الله يضع له البركة في ذلك؛ لأن الدافع في الرجوع إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإجلال شعائر الدين، ولذلك يُوفَّق من يرجع إليهم، ويسدد ويلهم الخير.

فهذا الصحابي الجليل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أصاب هذا المال الذي هو أعز ما يملك، فلم يتصرف فيه بمحض رأيه واجتهاده، مع أن التصرف مباح له شرعاً، فلو أنه باعها أو تصدق بها أو فعل بها ما شاء، فإن ذلك له، وهذا بتمليك الله عز وجل له ما دام أنه تصرف بما أحل الله وشرع؛ ولكن كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بالرجوع إلى الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك عظمت منزلتهم، وارتفعت درجتهم، وأثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات في كتابه، حتى بقي الثناء عليهم إلى يوم الدين يتلى في كتابه.

كل هذا بمحبة الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال المسائل به، حتى يُصيب الإنسان الأقوم، والأسلم، والأرشد له في دينه ودنياه وآخرته، ولا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب بمشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دينه ودنياه وآخرته.

وانظر إلى الأسلوب حين يرجع الإنسان إلى من هو أعلم وأفضل: (فما تأمرني)، ولم يقل: فماذا تشير علي؟ ولكن (فما تأمرني؟) وكأن الأمر أمره عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها)، فالوقف: هو التحبيس، فإذا أوقف الإنسان فقد حبس العين الموقوفة، فقوله: (حبّست) يعني أوقفت؛ لأن الشيء المحبوس موقوف عن الحركة وممنوع منها، فأصل الوقف الامتناع عن السير والحركة، يقال: وقفت الدابة؛ إذا أمسكت عن السير والحركة، ويقال: وقف الظل؛ إذا كانت الشمس في منتصف السماء وأمسكت عن الحركة.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) وهذا بالنسبة للأرض، وقد كانت خيبر أرض زرع، وكانت من أفاضل أراضي الجزيرة من حيث الزراعة ووجود النخل فيها، وكانت عامرة بذلك، ولا تزال إلى اليوم فيها بقية باقية من ذلك العمران، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) يعني حبست أصل الأرض، والمراد بذلك الأرض التي هي العين الموقوفة، وما عليها من الزروع والنخيل.

قال عليه الصلاة والسلام: (وتصدقت بها -وفي رواية: وسبلت- وجعلت ثمرتها في ذوي القربى) فقوله: (وتصدقت بها): يعني بنتاج الأرض، وهذا يقع في وقف المزارع، حيث توقف المزرعة فيشمل ذلك الأرض التي هي العقار المحبوس، وكذلك ما عليها من النخيل والزروع، (وحبست ثمرتها): ثمرة النخيل كالتمر والرطب والبلح، وكذلك إذا كان فيها العنب أو غير ذلك من المزروعات، وتصدقت بثمرتها.

فدل على أن العين تُحبس، وأنه إذا أوقف مزرعة وسبّلها؛ فإن ثمرتها تكون محبوسة، وذلك بصرفها في الوجه الذي خص الوقف به.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها) يعني الأرض: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) إذاً: معنى ذلك أن ملكية الواقف لها قد زالت، ومن هنا استدل طائفة من العلماء رحمهم الله على أن من أوقف شيئاً فقد زال ملكه عنه.

وبناءً عليه يتفرع أن الشخص ربما أوقف مسجداً، وجعل يتصرف فيه دون أن يشترط نظارة المسجد له، ولربما ضمه إلى جهة مختصة بالمسجد؛ لكنه يتصرف فيه، ويأمر وينهى وكأنه يملكه، ولربما منع أو أخرج الناس من المسجد، فهذا مخالف للأصل؛ لأنه بإيقافه للمسجد خرج المسجد عن ملكيته، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الوقف يخرجه الإنسان من نفسه صدقة لله عز وجل.

ولذلك يُعتبر من المعاملة بين المخلوق والخالق، والله عز وجل يملك المخلوق وما ملك، ولكنه سبحانه وتعالى جعل ابن آدم مستخلفاً في المال لكي يبتلي المحسن في إحسانه والمسيء في إساءته.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) البيع أصل في المعاوضات، أي: لا يجوز لك أن تعاوض عليها، ولذلك أجمع العلماء من حيث الأصل على أن الوقف لا يباع إلا في مسألة، وهي أن تتعطل مصالح الوقف، كرجل أوقف مزرعة ثم إن هذه المزرعة نضب ماؤها وتعذر سقيها، واحتيج إلى الانتقال إلى مكان آخر، فحينئذ يرفع إلى القاضي، فيحكم القاضي بجواز بيعها، فتباع ثم يشترى بدلاً منها ما يقوم مقامها.

أما من حيث الأصل فلا يجوز بيع الوقف، فلو أوقف عمارة -مثلاً- صدقة على المساكين، أو صدقة على طلاب العلم، أو رباطاً لهم، ثم أراد أن يبيعها ويشتري غيرها؛ فنقول: لا يجوز بيع الوقف، والأصل أنه محبّس، وممنوع صاحبه من التصرف فيه، إلا في حدود ما اشترط من نظارته لمصلحة الوقف.

فلو أنه أوقف أرضاً ثم وهبها لزيد أو وهبها لعمرو فإن الهبة لا تصح؛ لأن الهبة تفتقر إلى ملك، ومن هنا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملك زال ولا تصح الهبة.

وتتفرع المسألة المشهورة من هبة أعضاء الآدمي، فإن الآدمي ليس بمالك لنفسه حتى تصح هبته، فلما كان الوقف قد زالت ملكيته عن الإنسان بالوقفية، لم تصح هبته للغير، فكذلك كل شيء لا يملكه الإنسان لا يملك الهبة فيه.

ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا توهب ولا تورث) جمع عليه الصلاة والسلام بهذا الثلاثة الأصول: الانتقال بعوض، كما في البيع وجعل البيع أصلاً له، والانتقال بدون عوض كما في الهبة، وهذا انتقال اختياري، والانتقال الجبري كما في الإرث، وانظر إلى بديع هذه السنة ودقتها، وهذا يدل على صحة القياس؛ لأن الشريعة جاءت بأصل لكل باب على حدة، حتى تنبه على غيره.

فإذا تقرر هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث مشروعية الوقف، وبين جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على الوقف.

فهذا الحديث يعتبر عند العلماء أصلاً في مشروعية إيقاف المزارع والأرضين والعقارات، وتسبيل ثمرتها، وكذلك يعتبر أصلاً يقاس عليه غيره، فيقال: يجوز أن يوقف الإنسان كل عين في حكم المزرعة من جهة بقائها ودوامها، كما سيأتي إن شاء الله في شروط صحة العين الموقوفة.

أما الدليل الثاني: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أن سعداً رضي الله عنه جاءه وقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها) يعني ماتت فجأة، وكان سعد رضي الله عنه من أبر الناس بأمه (إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟) وكانت قد توفيت وهو خارج المدينة في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفُجع بها رضي الله عنه، وكان يحبها حباً شديداً، فلما أتى وأُخبر بخبرها قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم).

وفي رواية في صحيح البخاري: (فجعل لها حائط الخراف) وحائط الخراف: بستان من بساتين المدينة، وقد كانت العرب تسمي البساتين بأسماء، أي: تصدق به عنها براً منه رضي الله عنه بأمه، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت، ولو كانت بالوقف، فصح الوقف عن الحي، والوقف عن الميت.

ومن أوقف على والديه جعل الله له الأجر من وجهين: أجر بر والديه، وأجر الصدقة، فهو مثاب من الوجهين كالصدقة على ذي القرابة، فإن الله يجعلها صدقةً وبراً وصلة.

فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر وقفية المزرعة وأجازها، وقد فعل ذلك رضي الله عنه استئذاناً من النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الدليل الثالث من السنة: فما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

فقوله: (صدقة جارية) يدل على مشروعية الوقف؛ لأن الصدقات الجارية هي الصدقات المحبوسة الموقوفة، بحيث تبقى بعد موت صاحبها، كمن حفر بئراً أو أجرى نهراً أو قنطرة لسقي المزارع، وسقي الدواب، وسقي الناس، وكذلك الصدقة الجارية كمن بنى بيتاً وجعله للضعفاء والفقراء والأيتام والمحتاجين، أو جعله لقرابته، صلة رحم لهم، أو جعله لطلاب العلم رباطاً يستعينون به بعد الله عز وجل فيأوي إليه ضعيفهم.

وكذلك لو أوقف كتباً، فإنها صدقة جارية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة جارية)، فلما أقر عليه الصلاة والسلام الوقف على هذا الوجه، أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته.

الوقف عند الصحابة رضي الله عنهم

وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين.

وكذلك أيضاً أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذرِّيته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يَخُص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلاً: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدِرة إلا أوقف في سبيل الخير).

وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسُبُل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر)وذكر منهم: من أعطاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته.

فضل الوقف لوجه الله

فهذا هو شأن الموفق السعيد، فالوقف لا يُشك أنه مشروع، وأنه من خصال البر والطاعة، ولكن بشروط لا بد من توفرها، وهناك أُسس لا يكون الوقف خيراً للعبد في دينه ودنياه وآخرته إلا إذا حققها، أولها وأساسها أن يوقف لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياءً ولا سمعة، لا يطلب من الناس مدحاً ولا ثناءً، وإنما يوقف أمواله لوجه الله عز وجل يحتسب ثوابها عند الله سبحانه وتعالى.

وكأنه تأمل ونظر وتفكر فوجد أن هذا المال لو بقي عنده انتفع به في الدنيا، فارتاحت نفسه، وارتاح أهله وولده، ووجد لذة هذا المال، سواءً كان مزرعة أو عمارة أو أرضاً، ولكن إذا تصدق به فإن الله يتقبل الصدقة من عبده الصالح بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له، فلا يزال تكثر صدقته، ويعظم أجره حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فيجد صدقته أضاعفاً كثيرة، لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى.

ويتفاوت الناس في مضاعفة الله لهم في الصدقات على حسب نيتهم وعظم بلائهم في هذه الصدقة، فإذا نظر بين الأمرين وبين الخيارين، اختار ما عند الله على الدنيا، ومما ذكروا عن بعض الصالحين في زمان قريب أنه بنى بيتاً أنفق عليه أكثر أمواله، وكان من أفضل البيوت وأحسنها بالمدينة، واستغرق بناؤه سنوات، فلما كمل بناؤه وأحسنه وأتمه وأدخل فيه أزواجه وذريته، فلما استقروا فيه من أول النهار جمعهم في الظهيرة وقال: يا أبنائي! كيف وجدتم البيت؟ قالوا: وجدناه من أحسن ما يكون. فكل يثني على صفة موجودة في البيت.

فلما انتهوا وفرغوا من ثنائهم، قال: إني فكرت ونظرت ووجدت أن هذا البيت هو أعز ما أملكه في الدنيا، وأن أفضل ما يكون مني أن أقدمه صدقة لآخرتي، يقول لي الوالد رحمة الله عليه -نقل الثقة-: ما رد عليه أحد من أولاده أو زوجه؛ لأن العبد الصالح إذا حسنت نيته، ونشّأ تنشئة صالحة، وجد ثمار هذا الصلاح حينما يأمر بطاعة الله أو يلتمس مرضاة الله، والعكس بالعكس، فمن يقصر في تربية ذريته وأهله وزوجه، ولا يكون قائماً على البيت كما ينبغي أن يكون، يخذله الله في مثل هذه المواقف كما خذل دين الله.

فالشاهد أنه ما رد عليه أحد، بل وافقوه كلهم، فيقسم هذا الرجل الثقة للوالد يقول: والله لقد خرجوا في عز الظهيرة في الشمس، في الصيف من بيتهم إلى بيتهم القديم، وما غابت الشمس إلى وهو مليء بالأيتام والأرامل وضعفة المسلمين.

فالعبد الصالح إذا عظمت الآخرة في عينه، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، هانت عليه الدنيا، وإذا أحس أنه يعامل الله سبحانه وتعالى فإنه يقدم على الوقف بكل شجاعة ورضا، ويبذل وقفه ويحس أنه الرابح والغانم، وأنه لا يخسر في المعاملة مع الله عز وجل شيئاً.

فأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقف من أعظم الطاعات وأجلها، ثم يختلف الوقف بحسب اختلاف أحواله، فالوقف الذي تكون الجهة المستحقة فيه جهة عامة ومصلحة عامة من مصالح الدين، فإن الأجر فيه أعظم، كبناء المساجد والمدارس، فإن المساجد نفعها وخيرها عام، خاصة إذا كانت من مساجد الجمعة، فإن الأجر فيها لا يقتصر على الجماعات وإنما يشمل الجمعة والجماعات.

كذلك أيضاً.. المساجد تتفاوت، فالمساجد إذا كانت في أمكنة عُرف أهلها بالمحافظة والحرص على الصلوات، وربما لم يكن هناك مسجد غير هذا المسجد الذي بني، فلا شك أن الأجر فيها أعظم، والوقف في هذا المكان أفضل من الوقف في غيره.

كذلك أيضاً من المصالح العامة، وهي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى حفر الآبار، فإن الماء يحتاج إليه خاصة في الصيف، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غفر الذنوب بسقي الماء. فالبغي من بغايا بني إسرائيل مرت على كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش فرحمته فاستقت له من البئر، فغفر الله لها ذنوبها.

فإذا كان هذا في كلب وبهيمة، فكيف إذا كان إحساناً بضعفة المسلمين في القرى والهجر البعيدة التي يحتاج أهلها إلى الماء، أو يطلبون الماء من أماكن بعيدة، أو يشتري الإنسان لهم سيارة لنقل الماء، فهذه الصدقة لا شك أن نفعها أعظم، وخيرها أعظم وبِرها أكثر، فيكون الوقف على هذا الوجه أفضل من الوقف على غيره.

كذلك الوقف على ذي القربى والإحسان إليهم أعظم أجراً، كما ثبت في حديث زينب -امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها أنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة على أقرباء زوجها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها صدقة وصلة. أي أن الله يأجرها على أنها تصدقت ويأجرها على أنها صلة رحم.

كذلك يفضل الوقف بحسب الغايات الموجودة فيه، ولذلك قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس (قواعد الأحكام) في مسألة الفضائل أن الأعمال تتفاضل بحسب المقاصد والوسائل.

فإذا نظرت إلى الوقف على طلبة العلم، من بناء البيوت لهم، أو إعانتهم على الكتب، كإيقاف المكتبات للقراءة والمراجعة والمذاكرة، وكذلك شراء الكتب وتحبيسها عليهم، ونحو ذلك من الأمور التي تعين طالب العلم على طلب العلم، فإن الوقف عليها أفضل؛ لأنه ليس هناك أحب إلى الله عز وجل من ذكره سبحانه وتعالى، وليس هناك أفضل من طلب العلم، والعلم أفضل من العبادة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب).

فدل على أن الوقف على العلم أفضل من الوقف على غيره، ويُقاس على ذلك بناء المساجد لتعليم أبناء المسلمين، وخاصة إذا وُجدت الحاجة الماسة للمحافظة على عقيدتهم؛ كأن يكونوا في بلد يحتاج إلى بناء مدرسة ويخشى عليهم أن يضلوا عن سبيل الله، أو يصرفوا عن الإسلام بتهويدهم أو صرفهم بالنصرانية أو نحو ذلك.

فإن بناء المساجد في مثل هذه المواضع أجره عظيم، وثوابه كبير، فالوقف في هذه الحالة يكون أفضل من هذا الوجه، فإذا عظم بلاء الوقف وعظم نفعه، وكان نفعه عاماً، فالفضل فيه أعظم، والأجر فيه أكبر، ومما ذكره العلماء بناء البيوت في الطرقات نزلاً للمسافرين كما كان في القديم، حيث كانوا يبنون على طرقات السابلة بنياناً يجعلونه سبيلاً ووقفاً على من نزل فيه من المسلمين.

كل هذه الأعمال فضُلت من جهة كونها عامة، والمصلحة فيها لا تختص بشخص، ولا بطائفة، ولا بجنس ولا بأفراد دون أفراد، وإنما نفعها عام، ففضلت من هذا الوجه.

وأما بالنسبة للوقف الخاص، فالوقف الخاص لا بأس به، وهو مشروع، وسيأتي إن شاء الله بيان بعض المسائل المتعلقة به، ومن أمثلتها أن يوقف على ذريته، فإذا أوقف على ذريته أو قرابته، كأن يقول: صدقة على آل فلان، ويخص آل فلان، من قرابته، وقد يُخصِّص القرابة فيجعلها في العصبة، وقد يعمم القرابة، ففي هذه الحالة ينفذ الوقف، ويتقيد بما قيده الواقف، كما سيأتي إن شاء الله في شرط الواقف.

لكن يختلف من جهة الفضل، ومن جهة عظم الأجر وحسن البلاء، وأياً ما كان، فإن الواجب على من أراد أن يوقف، أن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد وقفاً خاصاً -أن يوقف على بعض ولده- أن يتحرى العدل، وقد ذكرنا قضية الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وهي محل خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

ولذلك يقولون: قد يوقف الإنسان فيظلم بعض الورثة، ولا يسلم الإنسان غالباً من هذا الظلم إلا إذا رجع لأهل العلم وسألهم، فالواجب على من أراد أن يوقف أن يستشير العلماء، وأن يسألهم الرأي السديد في الوقف، وأن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله.

والوقف يعتبر مشروعاً بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة من العلماء رحمهم الله، فأما دليل الكتاب فإن الوقف داخلٌ تحت عموم الآيات التي دلت على الطاعات والخير، والندب إلى البر، ولذلك يعتبره العلماء رحمهم الله من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله عز وجل به في كتابه بقوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

وإن المسلم إذا أوقف بيته أو سبَّل مزرعته، خاصة إذا جعلها للضعفاء والفقراء والمساكين، أو أوقف مسجداً للصلاة فيه، وانتفع الناس بعبادة ربهم وذكرهم لله عز وجل في هذا الموضع الموقوف، وكذلك بحلق الذكر في تلك المساجد الموقوفة، أو جعل صدقة كتسبيل المياه من حفر الآبار، وسقي العطشى، سواءً كانت داخل المدن، أو كانت خارج المدن، خاصة إذا كانت في السبل والمفازات التي تكون الحاجة فيها ماسة إلى وجود الماء، وهكذا إذا برّده أو وضع البرادات للماء، أو الأسباب التي تعين على تهيئته للعطشى والمحتاجين، ونحو ذلك من أفعال البر؛ فلا يشك أحد أنه من التعاون على البر والتقوى، وأنه من طاعة الله عز وجل، فهو داخل في عموم الصدقات والإحسان إلى المسلمين.

وأما دليل السنة فإنه صريح في الدلالة على مشروعية الوقف، فالفرق بين دليل القرآن والسنة على مشروعية الوقف أن دليل القرآن عام، وأما دليل السنة فإنه ورد في الوقف بخصوصه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمِره فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وسبّلت -وفي رواية تصدقت- على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث).

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة أولها قول عبد الله بن عمر : (أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضاً بخيبر) جاء في الرواية الأخرى أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أعز ما أصبت من مال، فما تأمرني فيها)؟ فانظر إلى فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الرجوع إلى العلماء، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو الخير والأحظ للإنسان في دينه ودنياه وآخرته.

فلا يزال العبد موفقاً مسدداً ملهماً للصواب ما رجع إلى أهل العلم، وأحبهم، واستشارهم، فإن الله يضع له البركة في ذلك؛ لأن الدافع في الرجوع إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإجلال شعائر الدين، ولذلك يُوفَّق من يرجع إليهم، ويسدد ويلهم الخير.

فهذا الصحابي الجليل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أصاب هذا المال الذي هو أعز ما يملك، فلم يتصرف فيه بمحض رأيه واجتهاده، مع أن التصرف مباح له شرعاً، فلو أنه باعها أو تصدق بها أو فعل بها ما شاء، فإن ذلك له، وهذا بتمليك الله عز وجل له ما دام أنه تصرف بما أحل الله وشرع؛ ولكن كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بالرجوع إلى الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك عظمت منزلتهم، وارتفعت درجتهم، وأثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات في كتابه، حتى بقي الثناء عليهم إلى يوم الدين يتلى في كتابه.

كل هذا بمحبة الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال المسائل به، حتى يُصيب الإنسان الأقوم، والأسلم، والأرشد له في دينه ودنياه وآخرته، ولا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب بمشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دينه ودنياه وآخرته.

وانظر إلى الأسلوب حين يرجع الإنسان إلى من هو أعلم وأفضل: (فما تأمرني)، ولم يقل: فماذا تشير علي؟ ولكن (فما تأمرني؟) وكأن الأمر أمره عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها)، فالوقف: هو التحبيس، فإذا أوقف الإنسان فقد حبس العين الموقوفة، فقوله: (حبّست) يعني أوقفت؛ لأن الشيء المحبوس موقوف عن الحركة وممنوع منها، فأصل الوقف الامتناع عن السير والحركة، يقال: وقفت الدابة؛ إذا أمسكت عن السير والحركة، ويقال: وقف الظل؛ إذا كانت الشمس في منتصف السماء وأمسكت عن الحركة.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) وهذا بالنسبة للأرض، وقد كانت خيبر أرض زرع، وكانت من أفاضل أراضي الجزيرة من حيث الزراعة ووجود النخل فيها، وكانت عامرة بذلك، ولا تزال إلى اليوم فيها بقية باقية من ذلك العمران، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) يعني حبست أصل الأرض، والمراد بذلك الأرض التي هي العين الموقوفة، وما عليها من الزروع والنخيل.

قال عليه الصلاة والسلام: (وتصدقت بها -وفي رواية: وسبلت- وجعلت ثمرتها في ذوي القربى) فقوله: (وتصدقت بها): يعني بنتاج الأرض، وهذا يقع في وقف المزارع، حيث توقف المزرعة فيشمل ذلك الأرض التي هي العقار المحبوس، وكذلك ما عليها من النخيل والزروع، (وحبست ثمرتها): ثمرة النخيل كالتمر والرطب والبلح، وكذلك إذا كان فيها العنب أو غير ذلك من المزروعات، وتصدقت بثمرتها.

فدل على أن العين تُحبس، وأنه إذا أوقف مزرعة وسبّلها؛ فإن ثمرتها تكون محبوسة، وذلك بصرفها في الوجه الذي خص الوقف به.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها) يعني الأرض: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) إذاً: معنى ذلك أن ملكية الواقف لها قد زالت، ومن هنا استدل طائفة من العلماء رحمهم الله على أن من أوقف شيئاً فقد زال ملكه عنه.

وبناءً عليه يتفرع أن الشخص ربما أوقف مسجداً، وجعل يتصرف فيه دون أن يشترط نظارة المسجد له، ولربما ضمه إلى جهة مختصة بالمسجد؛ لكنه يتصرف فيه، ويأمر وينهى وكأنه يملكه، ولربما منع أو أخرج الناس من المسجد، فهذا مخالف للأصل؛ لأنه بإيقافه للمسجد خرج المسجد عن ملكيته، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الوقف يخرجه الإنسان من نفسه صدقة لله عز وجل.

ولذلك يُعتبر من المعاملة بين المخلوق والخالق، والله عز وجل يملك المخلوق وما ملك، ولكنه سبحانه وتعالى جعل ابن آدم مستخلفاً في المال لكي يبتلي المحسن في إحسانه والمسيء في إساءته.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) البيع أصل في المعاوضات، أي: لا يجوز لك أن تعاوض عليها، ولذلك أجمع العلماء من حيث الأصل على أن الوقف لا يباع إلا في مسألة، وهي أن تتعطل مصالح الوقف، كرجل أوقف مزرعة ثم إن هذه المزرعة نضب ماؤها وتعذر سقيها، واحتيج إلى الانتقال إلى مكان آخر، فحينئذ يرفع إلى القاضي، فيحكم القاضي بجواز بيعها، فتباع ثم يشترى بدلاً منها ما يقوم مقامها.

أما من حيث الأصل فلا يجوز بيع الوقف، فلو أوقف عمارة -مثلاً- صدقة على المساكين، أو صدقة على طلاب العلم، أو رباطاً لهم، ثم أراد أن يبيعها ويشتري غيرها؛ فنقول: لا يجوز بيع الوقف، والأصل أنه محبّس، وممنوع صاحبه من التصرف فيه، إلا في حدود ما اشترط من نظارته لمصلحة الوقف.

فلو أنه أوقف أرضاً ثم وهبها لزيد أو وهبها لعمرو فإن الهبة لا تصح؛ لأن الهبة تفتقر إلى ملك، ومن هنا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملك زال ولا تصح الهبة.

وتتفرع المسألة المشهورة من هبة أعضاء الآدمي، فإن الآدمي ليس بمالك لنفسه حتى تصح هبته، فلما كان الوقف قد زالت ملكيته عن الإنسان بالوقفية، لم تصح هبته للغير، فكذلك كل شيء لا يملكه الإنسان لا يملك الهبة فيه.

ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا توهب ولا تورث) جمع عليه الصلاة والسلام بهذا الثلاثة الأصول: الانتقال بعوض، كما في البيع وجعل البيع أصلاً له، والانتقال بدون عوض كما في الهبة، وهذا انتقال اختياري، والانتقال الجبري كما في الإرث، وانظر إلى بديع هذه السنة ودقتها، وهذا يدل على صحة القياس؛ لأن الشريعة جاءت بأصل لكل باب على حدة، حتى تنبه على غيره.

فإذا تقرر هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث مشروعية الوقف، وبين جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على الوقف.

فهذا الحديث يعتبر عند العلماء أصلاً في مشروعية إيقاف المزارع والأرضين والعقارات، وتسبيل ثمرتها، وكذلك يعتبر أصلاً يقاس عليه غيره، فيقال: يجوز أن يوقف الإنسان كل عين في حكم المزرعة من جهة بقائها ودوامها، كما سيأتي إن شاء الله في شروط صحة العين الموقوفة.

أما الدليل الثاني: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أن سعداً رضي الله عنه جاءه وقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها) يعني ماتت فجأة، وكان سعد رضي الله عنه من أبر الناس بأمه (إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟) وكانت قد توفيت وهو خارج المدينة في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفُجع بها رضي الله عنه، وكان يحبها حباً شديداً، فلما أتى وأُخبر بخبرها قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم).

وفي رواية في صحيح البخاري: (فجعل لها حائط الخراف) وحائط الخراف: بستان من بساتين المدينة، وقد كانت العرب تسمي البساتين بأسماء، أي: تصدق به عنها براً منه رضي الله عنه بأمه، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت، ولو كانت بالوقف، فصح الوقف عن الحي، والوقف عن الميت.

ومن أوقف على والديه جعل الله له الأجر من وجهين: أجر بر والديه، وأجر الصدقة، فهو مثاب من الوجهين كالصدقة على ذي القرابة، فإن الله يجعلها صدقةً وبراً وصلة.

فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر وقفية المزرعة وأجازها، وقد فعل ذلك رضي الله عنه استئذاناً من النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الدليل الثالث من السنة: فما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

فقوله: (صدقة جارية) يدل على مشروعية الوقف؛ لأن الصدقات الجارية هي الصدقات المحبوسة الموقوفة، بحيث تبقى بعد موت صاحبها، كمن حفر بئراً أو أجرى نهراً أو قنطرة لسقي المزارع، وسقي الدواب، وسقي الناس، وكذلك الصدقة الجارية كمن بنى بيتاً وجعله للضعفاء والفقراء والأيتام والمحتاجين، أو جعله لقرابته، صلة رحم لهم، أو جعله لطلاب العلم رباطاً يستعينون به بعد الله عز وجل فيأوي إليه ضعيفهم.

وكذلك لو أوقف كتباً، فإنها صدقة جارية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة جارية)، فلما أقر عليه الصلاة والسلام الوقف على هذا الوجه، أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته.

وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين.

وكذلك أيضاً أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذرِّيته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يَخُص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلاً: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدِرة إلا أوقف في سبيل الخير).

وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسُبُل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر)وذكر منهم: من أعطاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع