شرح العقيدة الطحاوية [21]


الحلقة مفرغة

السؤال: يشكو بعض الإخوة مما يعترض الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في سائر بلاد المسلمين من عقبات ومضايقات للدعاة، وغير ذلك مما هو معروف، ومن ذلك ما يحدث من إيقاف لبعض الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى عن ممارسة الدعوة في بلاد المسلمين عموماً، وفي بعض البلاد على وجه الخصوص، وما يستتبع ذلك من التضييق على القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يسميه بعضهم محاولة إغلاق بعض سبل الخير، فما قولكم في ذلك؟

الجواب: هذا أمر معلوم، لكن ما ينبغي أن نفهمه جميعاً أن هذا كله من الابتلاء الذي جعله الله سبحانه وتعالى من لوازم الدعوة إلى الله، بل من لوازم الإيمان بالله سبحانه وتعالى الابتلاء في عمومه، مع العلم بأن الابتلاء في الدعوة إلى الله والابتلاء للدعاة آكد وأكثر، بل هو أمر محتم، فلا يعرف في الدنيا أن دعوة من الدعوات تمكنت وأدت رسالتها دون أن يتعرض أصحابها لشيء من الأذى والبلوى، هذا أمر لا يعرف أبداً، بل هو خلاف سنن الله في خلقه، فدعوات النبيين ورد فيها من الابتلاء والمحن شيء عظيم، ودعوة نبينا صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص ما قامت إلا بعد شيء من الابتلاء، فلذلك أوصى الله بالصبر، والله تعالى يقول: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، ولذلك يرد الأمر بالصبر كثيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وفي هذه الآية نجد أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصبر والمصابرة، وبالمرابطة بعد الصبر، ثم بعد ذلك علق الفلاح على هذا الصبر.

فالذين يتعرضون لشيء من الأذى أو يوقفون عن الدعوة لا يضرهم ذلك، ويجب أن نتواصى ونوصيهم بالصبر، وألا نجزعهم أو ندخل عليهم اليأس والجزع والتذمر، حتى لو كان إيقافهم بغير حق، أو بأمور يلتبس فيها الحق بالباطل، أو كان بظلم صريح؛ فإن ذلك أعظم لأجرهم، وعلى أقل الأحوال برئت ذمتهم، فإنهم بذلوا ما يستطيعون، وعلى كل من يرى هذه المضايقات التي يتعرض لها الدعاة في ديار المسلمين ألا ييأس، بل يجب أن يناصح ويبين جميع السبل المشروعة، ويدرأ السيئة بالحسنة.

ثم بعد ذلك وقبله يجب على كل مسلم ألا يتوقف عن الدعوة؛ لأن سبل الدعوة كثيرة، ومهما بلغ الأمر في إغلاق سبل الدعوة فلن تنتهي أبداً، فالمسلم يجب عليه أن يصبر ويصابر ويرابط ولا يفتر عن عمل الخير، ذلك أن وجوه الخير والنفع ووجوه البر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح لا حصر لها، فإن أوقف داعية أو سدت سبيل من سبل الخير، فإن المسلم يجب عليه ألا يعجز وألا يتخاذل ولا يفتر ولا يقعد عن فعل الخير، وإذا لم يتمكن فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

إذاً: فالتحسر والجزع والتصرفات المتشنجة التي يفعلها بعض المتعجلين والمواقف الاستفزازية التي تحدث لسبب ما ذكر ليست مما يخدم الدعوة، وليست من الوسائل المشروعة، إنما المشروع هو الصبر والحكمة والحلم مع العزيمة والمضي في الدعوة إلى الله سبحانه، ومع بذل الجهد والاجتهاد وبذل الوسع.

السؤال: هناك من يحرجه الوقوف أمام الناس إذا أراد أن يدعو إلى الله أو يتكلم ويأمر بما أوجبه الله عليه، فما نصيحتكم له؟

الجواب: كل أحد لا بد من أن يهاب أي موقف جديد عليه، خاصة الموقف الذي يعرضه لنقد الآخرين ولنظراتهم، كالموقف للكلام والخطابة، لكن على من يشعر بذلك أن يبدأ بالتدرج، فيبدأ -مثلاً- بنصح أهله وذويه الذين ليس بينهم وبينه شيء من الكلفة، ثم مع زملائه الأقربين، ثم يتدرج فيقصد الأرياف ويتكلم في المساجد التي يكون الناس فيها قلة، وهكذا، وأهم من ذلك كله أن يعلم أن ما يشعر به يشعر به غيره، وإنما ينتهي هذا الشعور بالجرأة.

السؤال: إحدى الجماعات الإسلامية العاملة لها جهد ملحوظ، وفيها بعض الأخطاء في المنهج الذي تسير عليه، وخطر هذه الجماعة على أهل البلاد لا يكاد يذكر، فهل لي أن أحذر منها المجتمع وأشهر بدعاتها أم لا؟ وإذا اهتدى رجل على أيديهم فهل لي أن أحذره منهم حتى ولو أدى ذلك إلى انحرافه مرة أخرى؟

الجواب: السؤال يتضمن الجواب، والسؤال عام ويعرض بجماعة معينة من الجماعات، لكن أقول: إذا كنت تعرف من حال المدعو أن ذهابه وتأثره بهذه الجماعة أصلح في دينه فلا مانع من تركه ليستفيد، لا سيما إذا كانت هذه الجماعة لا تكاد بدعها توجد في البلاد التي هي فيها، فأقول: إذا كانت حالة الشخص حالة رديئة -كأن يكون من أصحاب الفجور والفسق المعلن وترك الفرائض وترك شعائر الإسلام- ورأيت أن دينه وإيمانه يزيد مع هذه الجماعة؛ فالأولى أن تتركه، أما إذا كان العكس -بمعنى أنك تجد عنده من الصلاح والتقوى واستقامة العقيدة ما يغنيه عن مثل هذا الاتجاه- فلا بأس أن تنصحه، ولكن تعدل في الكلام في الجماعة، بأن تذكر ما فيها وتذكر ما لها من حسنات وما يوجد في أهلها من خير.

وهذه المسألة تتعلق بجميع الجماعات ليس بجماعة بعينها؛ فإني لا أعرف أن جماعة من الجماعات يمكن أن يحكم عليها حكماً قاطعاً، أي: على جميع الأشخاص، بل لا بد من التفصيل عند الكلام عن هذه الجماعة، نعم قد يوجد من الجماعات جماعات في أصولها انحراف، لكن ليس هذا انحرافاً شاملاً لجميع من ينتمي إليها، فلذلك لا بد عندما نتكلم في الجماعات أن نفصل.

السؤال: ما هو حال أهل السنة في عُمان، وما الذي يواجهه علماء السنة وشبابها من الإباضية؟

الجواب: ليس عندي في ذلك معلومات مفصلة، لكن المعروف أن أهل السنة والجماعة في عُمان كثيرون، وليسوا أقلية في عرف الدول، وكونهم بين الأباضية وعاشوا زمناً طويلاً بينهم يعني أن كلاً منهم يعرف الآخر على الجملة وليس على التفصيل، وربما يكون هناك من العوام من لا يعرف حقائق الأمور، فالإباضية لا شك في أنها فرقة من فرق الخوارج، لكنها من أكثر فرق الخوارج اعتدالاً، وأصولها معروفة، فعندها أصول كلامية تشبه أصول المعتزلة، بل تأخذ بكثير من أصول المعتزلة، وعندها ما عند الخوارج من التكفير بالذنوب، والخروج بالسيف عند المقدرة، ومع ذلك فإن الذي نعرفه أن الدولة في عمان دولة إباضية، لكنها -فيما أعلم- لم يصل الأمر بها إلى أن تعلن وتشهر محاربة السنة حرباً صريحة، فلذلك الذي أراه وينبغي اعتباره أن أهل السنة والجماعة هناك أحوج إلى التعقل والهدوء، وعلى كل داعية أن يوصيهم بذلك؛ نظراً لأنهم بحاجة إلى ألا يقفوا مع تلك الفرقة موقفاً معادياً صريحاً يؤدي إلى فتنة ربما يكون ضررها على أهل السنة أكثر من غيرهم.

السؤال: ما معنى أن قدرة الله تعالى عز وجل لا تتعلق بالمستحيلات بخلاف علمه سبحانه وتعالى؟

الجواب: هذه كلمة لا أدري بمدى صحتها، غير أني أرى أن نقتصد في التفصيل في الكلاميات، ولولا أنها وردت في الكتاب لمناقشة قضايا أساسية عند المتكلمين للرد عليهم لتجاوزناها، ومع ذلك كنا نتجاوز بعض المقاطع المعضلة.

وحاصل ما أعلق به على ما فهمته من ظاهر السؤال أن المستحيل كالعدم المحض، لا يتصور عقلاً ولا يفترض أن له حكماً، فالعدم ليس له أحكام، وكذلك المستحيل الذي يحيل العقل وجوده ليس له أحكام، وأما ما يتعلق بالقدرة فقدرة الله سبحانه وتعالى ليس لها حدود، لكن تعلقها بالمستحيل أمر وهمي، أما العلم فيشمل ما حدث وما لم يحدث، وعلم الله تعالى -كقدرته- علم كامل.

السؤال: هل القرامطة والصفوية هم الباطنية؟

الجواب: القرامطة والصفوية وغيرهم باطنيون، وهناك فرق أخرى هي باطنية من وجوه أخرى، فمثلاً أغلب المتصوفة باطنية؛ لأنهم يقولون بأن علم الحقائق غير علم الشرائع، ويجعلون علم الحقائق الذي هو أوهامهم وخرافاتهم فوق علم الشرائع، ويزعمون أن للنصوص ظاهراً وباطناً كما تزعم الباطنية، فهؤلاء باطنية من وجه، والباطنية فيهم غلاة وفيهم معتدلة، والمعتدل منهم كافر كما أن المغالي كافر، لكن قد توجد نزعة باطنية عند إنسان ليس هو على الكفر، وهذه النزعة تكون لها أسباب أخرى ولا تشمل الاعتقاد، فلذلك الباطنية ليست فرقة واحدة، ولا مذهباً واحداً، ولا اتجاهاً واحداً، بل هي تعبير عن كل من أبطن شيئاً يخالف الشرع، سواء أكان هذا الإبطان تفسيراً للنصوص أم اعتقادات أخرى فيما يتعلق بالعقائد، ومن ذلك النفاق نفسه، فالنفاق باطني، ولذلك قامت الرافضة على النفاق الذي يسمونه التقية، فهي باطنية من هذا الوجه، وباطنية أيضاً من حيث تفسيرها للنصوص، وباطنية من حيث اعتقادها العقائد الباطلة التي يتوهمونها.

السؤال: أشكل علينا موضوع المجاز في القرآن، فهل هناك آراء تقول بجواز المجاز وآراء تقول بمنع المجاز؟

الجواب: مسألة المجاز مسألة طارئة لم تكن تعرف في القرون الثلاثة الفاضلة، وهي مصطلح أدبي اصطلح عليه أهل اللغة، ويجوز أن يعبر به عن بعض كلام البشر؛ لأنه قد يكون مجازاً على اصطلاح اللغويين في مفهوم المجاز، أما فيما يتعلق بكلام الله تعالى وهو القرآن، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وحي؛ فالمجاز غير وارد، لا بمفهوم اللغويين ولا بمفهوم المتكلمين، ولا بمفهوم المؤولة لصفات الله تعالى، فالمجاز إن ورد لغوياً في بعض كلام البشر؛ فإنه لا يمكن أن يرد في كلام الله تعالى؛ لأنه يؤدي إلى الاضطراب في فهم كلام الله تعالى والتفريق بين المعاني الظاهرة والمعاني الباطنة، ويؤدي إلى التأويل الباطل، فكلام الله كله حقيقة، وينبغي أن يعبر عما يفهم بأنه مجاز بتعبير آخر غير كلمة (مجاز)؛ لأن كلمة (مجاز) هي من معاول المؤولة والمعطلة في تأويلهم لبعض الأمور الغيبية من صفات الله تعالى أو غيرها، ويكفي أنها كلمة طارئة لم يكن يعرفها السلف ولا يستعملونها، والذين استعملوها استعملوها في تأويل صفات الله ولم يستعملوها في نصرة الحق، فهي -وإن جازت في كلام الناس- لا تجوز في كلام الله تعالى؛ لما تؤدي إليه من اختلال في العقيدة.

السؤال: في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه كيف يتحقق الشرط الثاني من شروط الشفاعة، وهو أن يكون المشفوع له من أهل التوحيد ممن رضي الله عنه؟

الجواب: هذه مسألة توقيفية، فشروط الشفاعة صحيحة، ولا بد من رضا الله تعالى عن المشفوع له وإذنه للشافع، لكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ليست مخرجة له من النار، فهو -نسأل الله العافية- من أهل النار، وإنما يخفف عنه من عذابها، فليست كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، هذا أمر.

الأمر الآخر: أنه قد يرد في الأمور التي فيها شروط أمر يخالف هذه الشروط شرعاً، فيكون هذا الأمر مسلماً به وتبقى الشروط لغيره، وهذا يرد في كثير من الأمور الغيبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بخبره الصادق بشفاعته لعمه، فهذه الشفاعة نؤمن بها بعينها ولا يقاس عليها غيرها، ولا يقال: إنها تشمل أحداً من الناس غير هذا الشخص، ثم إنها ليست شفاعة كاملة إنما هي شفاعة ناقصة، ولا يخرج بها من العذاب، والشفاعة التي وردت شروطها هي الشفاعة التي تنجي من النار وتدخل الجنة.

السؤال: ذكرت أن الغيب نوعان: النوع الأول: غيب يمكن قياسه بالموجودات كالطوفان وأخبار النبيين، النوع الثاني: غيب لا يمكن قياسه لعدم وجود مثله في الدنيا، وعللت بأنه لو كان كذلك لما سمي غيباً، مع أنك في النوع الأول ذكرت أنه يمكن معرفة كيفيته، ومع ذلك يسمى غيباً؟

الجواب: النوع الأول لا يمكن معرفة كيفيته، إنما كيفية ما يشبهه، أو يقرب من أذهاننا بعينه، أما الثاني فلا يمكن أن يقرب من أذهاننا بعينه، وهذا هو وجه الفرق، وذاك غيب لأنه سبق لا لأنه غيب لذاته تغيب أمثاله عن أذهاننا، إنما لأنه غاب بأحداثه عنا؛ لأنه حدث قبلنا.

فأقول: إن الغيب على نوعين: فهناك من أخبار الغيب ما نعرف كيفياته من خلال ما يشبهه من الموجودات، كالطوفان، وهو ماء يغرق به الناس، أو غرق فرعون، أو غير ذلك من الأحداث والقصص التي تشبه أفعال الموجودين الآن، فهذه عرفنا كيفيتها لا بأعيانها، لكن بأعيان ما يشابهها.

أما النوع الآخر فلا يمكن الوصول إلى كيفياته لا بذاته ولا بشبيهه ولا بمثيله ولا بنظيره، وهو ما يتعلق بأمور الغيب الأخرى، كأمور القيامة وصفات الله وأسمائه ونحو ذلك.

السؤال: هل التعبير بقدم الله صحيح، أم أنا نقول: قديم أزلي؟

الجواب: كلمة (قدم) و(قديم) ليست واردة في الشرع إلا على سبيل شرح الاسم لله تعالى، فالله سبحانه وتعالى من أسمائه الأول وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الأول بالذي ليس قبله شيء، وهذا هو الذي يجب أن نقف عليه عندما نعبر عن أسماء الله وصفاته، لكن عندما نشرح معاني هذه الأسماء والصفات، أو عندما نجادل من يعبرون عن هذه المعاني بألفاظ أخرى، نشرح لهم هذه المعاني بألفاظ أخرى، أما على سبيل الإثبات للعقيدة وتقريبها وبيانها وتفهيمها للناس فلا يجوز أن نستعمل كلمة (قديم) ولا (القدم)، ولا (واجب الوجود) ولا نحوها، إنما يجب أن نعبر بألفاظ الشرع، وفرق بين التقرير والبيان والشرح وتعليم العقيدة، وبين المجادلة وإقامة الحجة على من يستعمل تلك الألفاظ، ففي المجادلة تستعمل الألفاظ التي يعرفها الخصم مع تقييدها بمعاني النصوص الواردة.