شرح زاد المستقنع باب الغصب [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرهاً أو حبسه فعليه أجرته].

فقد تقدم معنا بيان حكم الغصب، وبيان حقيقته في اللغة والاصطلاح، وبينا أن للغصب آثاراً تترتب عليه، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان هذه الآثار وذكر ما دل عليها من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله، ولا بد لطالب العلم من أن يعلم هذه الأحكام والمسائل في باب الغصب.

أول ما يترتب على الغصب: الحكم بإثم الغاصب وقد تقدم، والسبب في ذلك: عصيانه لله عز وجل، واعتداؤه على حق أخيه المسلم، ونسيانه لحرمته، وتجاهله للأصول الشرعية التي حظرت عليه ذلك الفعل من الغصب.

أما الأمر الثاني الذي يترتب على الغصب: وجوب رد الشيء المغصوب، وهذا بإجماع العلماء، أن الواجب على من غصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، سواء كان من العقارات أو من المنقولات، وأنه إذا تصرف في الشيء المغصوب فنقله من بلد إلى بلد ومن موضع إلى موضع، فإنه ملزم شرعاً برده إلى الموضع الذي أخذه منه، ولو كلفه ذلك ما كلفه، فلو أنه اغتصب دابة وسار عليها إلى بلد بعيد وجب عليه أن يردها إلى البلد الذي اغتصبها منه.

كذلك لو أنه أخذ متاعاً ثم نقله إلى موضع؛ وجب عليه أن يرد ذلك المتاع إلى الموضع الذي اغتصب فيه ذلك المتاع.

فإذاً: الرد، لكن مسألة رد المغصوب تتوقف على وجود الشيء المغصوب، فإن من غصب شيئاً تارة يبقى الشيء وتارة لا يبقى، فإذا بقي الشيء وكان على صفاته وجب رده على الصفة التي أخذه عليها ضماناً لنقصه من حيث الأصل، ووجب رده على صفة الكمال إن طرأ كمال وزيادة بعد الغصب، وهذا كله سنفصله إن شاء الله تعالى.

وبناء على ذلك: ثبت عندنا أنه يجب رد المغصوب، فلو أن هذا المغصوب تلف، كرجل أخذ طعام أخيه المسلم ثم أكله، ففي هذه الحالة لا يمكن رد عين الشيء المغصوب، فيطالب برد مثله، فالأشياء المغصوبة لا تخلو من حالتين:

ضمان المثلي بمثله

الحالة الأولى: أن تكون من الأشياء التي لها مثليات، وذلك مثل المكيلات والموزونات، كرجل اغتصب صاعاً من بر، أو كيلاً من أرز ثم استهلكه واستنفذه وأكله فإنه مستحيل عليه أن يرد عين الذي أخذ، فنقول له: يجب عليك أن تنظر إلى مثل الطعام الذي أخذته في الصفة من حيث جودته ورداءته، ونفس النوع الذي أخذته، ثم ترده إلى صاحبه بالقدر، فإن كان صاعاً فصاع، وإن كان أكثر من ذلك فكل شيء بحسابه.

إذاً: يرد عين المغصوب إذا كان موجوداً، وإذا تعذر رد عين المغصوب وجب رد مثله، وهذا المثلي -كما ذكرنا- في المكيلات والموزونات، فالمكيلات مثل: الحبوب، والموزونات مثل: القطن والحديد والنحاس، فلو أنه أخذ حديداً ثم أتلف الحديد على وجه لا يمكن رد العين به، فحينئذٍ ينظر إلى مثل الحديد الذي أخذه، فلو أخذ من جيد الحديد -وهو الصلب- طناً واغتصبه وجب عليه رد طن مثله، فإذاً: يرد مثله في النوع، ويرد مثله في الصفة من حيث الجودة والرداءة، ويرد مثله في القدر من حيث الكيل والوزن.

الضمان بالقيمة عند تعذر المثلي

فإن تعذر وجود المثلي انتقل إلى القيمة، ويتعذر وجود، إما حقيقة، وإما حكماً وتقديراً، وإما شرعاً، فيتعذر وجود المثلي حقيقة وحساً، مثل: أن يكون أخذ إناءً من الأواني التي لا تنضبط ويكون صنعها على وجه لا مثيل له من حيث التقدير، بحيث لا يمكن الإتيان بمثله في مثل ما ذكرنا، وتقدم معنا في السلم أن الأواني ونحوها التي ليس لها ضوابط في صفاتها -بخلاف الأواني الموجودة في زماننا هذا- كالأواني التي تصنع عند الحدادين ونحوهم لا يمكن رد مثلها، بحيث تنطبق الصفات على وجه تام كامل فعند ذلك ينتقل إلى القيمة، ونقول: تعذر وجود المثلي حقيقة وحساً.

كذلك أيضاً: يتعذر وجود المثلي شرعاً كما تقدم معنا في خمر الذمي، فإنه على مذهب من قال: إن الخمر تضمن إذا كانت لذمي، فإن المسلم لا يمكنه أن يشتري الخمر؛ لأنه لا يجوز أن يتملكها، فحينئذٍ ينتقل إلى قيمتها ويضمنها لصاحبها؛ لأن أهل الذمة لهم حق كما تقدم معنا في باب الذمة.

أما من حيث التعذر الحكمي فهذا من أمثلته كما ذكر العلماء: أن يكون قد أتلف شيئاً له مثل في السوق، ولكن سعره في السوق مبالغ فيه وقيمته أكثر من المثل، فوجد مثل هذه السيارة التي أتلفها ولكن يطلب فيها صاحبها أضعاف قيمتها، فهي موجودة حقيقة لكنها مفقودة حكماً؛ والله يقول: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] فإذا كلفناه أضعاف قيمتها فهذا ليس بمثلي، ولذلك قالوا: هو موجود حقيقة، مفقود حكماً.

إذاً: أولاً: نضمنه العين، فيجب رد العين، فإن تعذر؛ أوجبنا عليه رد المثل، فإن تعذر وجود المثلي حقيقة وحساً أو شرعاً أو حكماً؛ انتقلنا إلى القيمة.

كيفية تقدير القيمة عند الضمان

وتقدر قيمة الشيء المغصوب ويجب عليه ضمان القيمة على التفصيل عند أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي، فمنهم من يقول: نقدر قيمة المغصوب حين الغصب، وبعضهم يقول: نقدر قيمة المغصوب عند التلف.

وفائدة المسألة: لو أن شخصاً أخذ سيارة واغتصبها من أخيه، واغتصبها في أول العام وكانت قيمة السيارة باهظة الثمن، فرضنا: كانت قيمتها خمسون ألفاً، ثم لما أصبحت في نهاية العام أتلفها وتعذر وجود مثلها وكانت قيمتها حين أتلفت تساوي خمسةً وعشرين، أي: نصف القيمة؛ لأن السيارة في أول العام تختلف قيمتها عن آخر العام، فهل ننظر إلى قيمة المغصوب عند أخذه وغصبه؟ أو ننظر إلى قيمة المغصوب عند تلفه؟ فمن قال: يضمن بالقيمة عند أخذه؛ لأن يده ضمنت ذلك الشيء بأخذه، قالوا: يدفع خمسين ألف ريال. ومن قال: يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه؛ لأنه استحق القيمة عند التلف، وكان الواجب عليه أن يرد، فلما امتنع من الرد وحصل التلف ننظر إلى وقت التلف فيدفع خمسة وعشرين أي: نصف القيمة.

إذاً: تضمن المغصوبات بقيمتها يوم أتلفت أو بقيمتها يوم أخذت على الوجهين المشهورين عند أهل العلم رحمهم الله، وهذه كلها آثار مترتبة على الغصب، لكن هذه الآثار متعلقة بمسألة عين المغصوب.

وجوب ضمان منافع المغصوب

يبقى السؤال: هذا الشيء الذي اغتصب وتلف قد يكون الغاصب استفاد منه ومضت مدة انتفع فيها منه؟!

فالمغصوب إما أن يكون من العقارات أو من المنقولات، فيكون من العقارات كمن اغتصب بيتاً أو عمارة أو شقة وأخذها بالغصب وسكنها ثلاث سنين مثلاً، فهذا غصب لعقار مستفاد منه مدة الغصب، فهذه الثلاث سنوات لها أجرة وحينئذ إذا جئت تنظر إلى مسألة أجرتها رجعت إلى مسألة منافع المغصوب، فعندنا عين المغصوب، وعندنا منافع المغصوب، ففي منافع المغصوب من حيث الأصل الشرعي يجب ضمانها، وهذا قول فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله، والنصوص تدل على صحة هذا القول؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب ضمان الأشياء بمثلها، ولا شك أن هذه المدة مستحقة للمالك، فلما كان الغاصب قد أخذها ومنع المغصوب منه من الانتفاع بها، ومنعه من تأجيرها على الغير، فإنه يجب عليه ضمانها حتى ولو لم يسكنها، فلو أنه منعه من دخول العمارة واستولى على العمارة، أو منعه من شقته أو منعه من سيارته، وعطلت هذه العين سنة كاملة سواء سكن أو ركب السيارة أو انتفع أو أجرها على الغير أو لم يفعل شيئاً من ذلك فإنه يضمن.

وإذا سئلت عن وجه التضمين، فتقول: لأن المالك الحقيقي كان بإمكانه أن يستفيد من هذه العين، وأن يتحصل على حقه ولكن هذا الغاصب حينما غصبه وحال بينه وبين ماله امتنع وتعذر عليه أن يصل إلى ذلك الحق ووجب على الغاصب أن يضمن.

إذاً: على الغاصب ضمان المنافع، والمنافع تشمل المركوبات كالسيارات والدواب، وتشمل المساكن كالبيوت والعمائر ونحو ذلك من الحرف والصنائع الموجودة في زماننا ومما يستفاد منه من الآلات.

ففي زماننا لو أخذ آلة نجر الخشب للنجارة، أو أخذ آلة للحدادة، وأخذ هذه الآلة وعطلها سنة، فهذه الآلة يسأل أهل الخبرة كم أجرتها في سنة كاملة؟ سيقولون: أجرتها في كل شهر ألف ريال، فمعنى ذلك: أنه يلزم بدفع اثني عشر ألفاً استحقاقاً للمالك الحقيقي لهذه الآلة؛ لأنه حال بينه وبين الانتفاع بها.

إذاً: يستوي أن يكون قد انتفع هو أو مكن الغير من الانتفاع أو حبس الآلة وعطلها؛ لأنه لما حبسها وعطلها كان ضامناً لذلك التعدي متحملاً لمسئوليته فيجب عليه دفع القيمة التي هي مستحقة لفوات ذلك الزمان ....

كيفية ضمان العين إذا زادت أو نقصت

إذاً: يجب ضمان عين المغصوب، ويجب ضمان منفعة العين، فإذا قلنا بالضمان برد عين المغصوب أو ضمانه على التفصيل المتقدم يبقى السؤال في مسألة رد العين المغصوبة، فتارة تكون العين المغصوبة موجودة كما هي، ليس فيها زيادة ولا فيها نقصان، فحينئذٍ لا إشكال.

فإذا جئت تحكم في هذه المسألة تقول: ننظر إن كانت العين قد مضت مدة على غصبها وجب ردها ومنفعتها، بدفع قيمة المنفعة التي هي الأجرة، وإن لم تمض المدة وجب رد العين وحدها، هذا إذا كانت العين كما هي بدون زيادة وبدون نقصان.

أما لو أن العين اختلفت فإما أن تختلف بزيادة وإما أن تختلف بنقص، فإما أن تختلف فيزيد سعرها وتجمل وتكمل، وإما أن تختلف فينقص سعرها، وحينئذٍ يجب أن يفرق بين المسألتين ويفرق في حكمهما.

فتارة تختلف العين بالزيادة، كرجل أخذ دابة هزيلة واغتصبها ثم اعتنى بطعامها وشرابها فأصبحت كأحسن ما تكون عليه الدابة، إذاً: اختلفت في الزيادة.

أو أخذ أرضاً واستحدث فيها البناء وهي أرض بيضاء، فأحدث فيها البناء أو أحدث فيها الزرع، فحينئذٍ تكون العين المغصوبة قد زادت ولم تبق على حالتها الأصلية يوم أخذت، وهذه من أمثلة الزيادة في العين.

وفي زماننا يأخذ سيارة -مثلاً- فيصلح مراكبها ويحسن مقاعدها، أو يتصرف في آلة السيارة، تكون السيارة على حالة ضعيفة فتصبح على حالة أفضل، فإذاً: تصرف بزيادة.

الحالة الثانية: أن يأخذ العين على أحسن ما تكون فيردها على أسوأ ما تكون لكنها صالحة؛ لأنه إذا ردها وهي تالفة فالحكم حينئذٍ: الضمان على التفصيل الذي تقدم، لكن نتكلم في حالة أن العين باقية ولكن فيها نقص، كرجل أخذ دابة وهي سمينة صالحة على أحسن ما تكون عليه، فأساء علفها وإطعامها والقيام عليها، فأصبحت هزيلة، فحينئذٍ عادت ناقصة، وأخذها كاملة فردها ناقصة.

وفي زماننا لو أخذ البيت واغتصب العمارة أو الأرض وفيها الزرع فأفسد زرعها، أو فيها نخل فأتلف النخل الذي فيها، أو عطش النخل حتى مات بعضه وبقي بعضه، فحينئذٍ عادت العين بالنقص.

أما في حالة الزيادة وحالة النقص فكلتا الحالتين فيهما تفصيل من حيث الأصل الشرعي فنقول: كل زيادة حدثت في العين المغصوبة فإما أن تكون من فعل الغاصب، وتكون العين لا يمكن فصل الزيادة عنها، كالسمن لا يمكن أن نسحبه من الدابة مع صلاح حالها فهذا صعب جداً، ولا يمكن أن يحدث ذلك، فحينئذٍ ترد كاملة، ولو أخذ الرقيق فعلمه صنعة فلا يمكن سحب الصنعة منه، فيجب رده كاملاً على الصفة التي أصبح عليها.

وأما إذا كانت الزيادة يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، مثلاً: لو أنه وضع على الأرض بناءً من الصناديق، أو البيوت الجاهزة في زماننا فنقول: يجب عليه رفع ما له ورد الأرض كما أخذها إلى صاحبها، فلو أحدث الزرع فيها وجب عليه قلع الزرع ورد الأرض مستوية، وتطمس حفرها وتصلح كما كانت، ويضمن النقص لو أنها نقصت قيمتها بعد هذه الحفر واستصلاحها، وسنفصل هذا كله -إن شاء الله- ونذكر خلاف العلماء رحمهم الله.

لكن نريد الآن أن نشير إلى مجمل مسائل الغصب حتى إذا دخلنا في التفصيل تكون الصور إن شاء الله واضحة.

فمن حيث الأصل لما نظرنا إلى الزيادة، قلنا: في حالة الزيادة التي لا يمكن فصلها عن العين المستحقة وتابعة للعين، فيجب على الغاصب أن يرد العين بكمالها، ويضمن هذا الكمال، ويصبح الكمال ملكاً لصاحب الأرض، هذا إذا كان قد أحدث فيها زيادة لا يمكن فصلها.

أما لو أحدث زيادة من ملكه يمكن فصلها نقول له: خذ ما لك واترك ما لغيرك، ورد الأرض كما أخذتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديها) وترد الأرض على الصفة التي أخذتها عليها، حتى لو أنك نقلت النخلة عنها أو هدمت البناء الذي عليها فاختلفت صفاتها ونقصت قيمتها لزمك أن تدفع هذا الفارق، وسنفصل إن شاء الله.

إذاً: يلزم برد الأرض على صفتها، ويأخذ ما له من الزيادة التي استحدثها، ولا يأخذها إن كانت متصلة لا يمكن فصلها عن العين.

أما إذا كان هناك نقص وأحدث في العين المغصوبة نقصاً فيجب عليه أن يضمن النقص كاملاً، ويرد العين ويرد ضمان النقص، فلو كانت العين -أعني: الأرض- لما أخذها واغتصبها صالحة وطيبة وفيها زرع وكانت قيمتها تساوي مائة ألف مثلاً، ولما أراد أن يردها ردها بنقص نصف قيمتها نقول: رد الأرض وادفع نصف قيمتها إلى المغصوب منه، هذا من حيث الزيادة والنقص.

يد الغاصب يد ضمان

يتفرع على هذا أن تقول: القاعدة أن يد الغاصب ضامنة، فتضمن الزيادة وتضمن النقص، فإذا قلت: إنها ضامنة ففي ضمان النقص تضمن الشيء من الاثنين: ما كان بتعد منها وما كان بآفة سماوية بدون تعد منها.

فمثلاً: لو أنه أخذ أرضاً واغتصبها، وكانت الأرض فيها مزرعة وجاء إعصار فيه نار فأحرق المزرعة، نقول: يجب عليك أن ترد الأرض كما هي، لأنك بمجرد اغتصابك تصبح يدك ضامنة، فأي تلف يحدث في العين لا نسأل عن سببه، سواء كان منك أو كان من غيرك فيلزمك أن ترد العين كما أخذتها، فإن حصل التلف فتضمن هذا التلف سواء كان بفعلك أو كان بفعل غيرك، وهذا معنى قول بعضهم: يضمن ما كان بأمر الله، أو ما كان إفساداً من مخلوقين، يعني: يضمن في كلتا الحالتين، ولا يقال: إن الضمان يختص فقط بحال التعدي، والسر في هذا أن يده لما اعتدت على هذه العين وأخذتها من مالكها يصبح عندنا أصل وهو الضمان، أي: أن يده يد ضمان، فواجب عليه أن يرد العين، فإذا قلت: يجب عليه شرعاً أن يرد العين وكما هي كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) نهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لأكل أموال الناس، ثم أمر كل من تعرض لمال أخيه المسلم أن يرده.

فنقول في هذه الحالة: دل الأصل الشرعي على أنه يجب عليه الرد، فإذا حصل التلف والنقص وجب عليه أن يرد المغصوب كاملاً لا ناقصاً؛ لأنه أخذه كاملاً، ثم ما طرأ من النقص يكون متحملاً لمسئوليته، كما أن ما طرأ من الزيادة يكون أيضاً واجباً عليه ضمانه، وهذا كله سنفصله ونبين موقف العلماء رحمهم الله فيه.

إذا تقرر هذا فالأشياء التي تغصب منها يكون من الأموال التي تباع وتشترى وهي محل للمعاوضات، وهذا ينقسم إلى عقارات ومنقولات، فيكون الغصب في العقارات كالأراضي والدور ونحوها، ويكون الغصب في المنقولات كالأطعمة والأكسية ونحوها.

الحالة الأولى: أن تكون من الأشياء التي لها مثليات، وذلك مثل المكيلات والموزونات، كرجل اغتصب صاعاً من بر، أو كيلاً من أرز ثم استهلكه واستنفذه وأكله فإنه مستحيل عليه أن يرد عين الذي أخذ، فنقول له: يجب عليك أن تنظر إلى مثل الطعام الذي أخذته في الصفة من حيث جودته ورداءته، ونفس النوع الذي أخذته، ثم ترده إلى صاحبه بالقدر، فإن كان صاعاً فصاع، وإن كان أكثر من ذلك فكل شيء بحسابه.

إذاً: يرد عين المغصوب إذا كان موجوداً، وإذا تعذر رد عين المغصوب وجب رد مثله، وهذا المثلي -كما ذكرنا- في المكيلات والموزونات، فالمكيلات مثل: الحبوب، والموزونات مثل: القطن والحديد والنحاس، فلو أنه أخذ حديداً ثم أتلف الحديد على وجه لا يمكن رد العين به، فحينئذٍ ينظر إلى مثل الحديد الذي أخذه، فلو أخذ من جيد الحديد -وهو الصلب- طناً واغتصبه وجب عليه رد طن مثله، فإذاً: يرد مثله في النوع، ويرد مثله في الصفة من حيث الجودة والرداءة، ويرد مثله في القدر من حيث الكيل والوزن.

فإن تعذر وجود المثلي انتقل إلى القيمة، ويتعذر وجود، إما حقيقة، وإما حكماً وتقديراً، وإما شرعاً، فيتعذر وجود المثلي حقيقة وحساً، مثل: أن يكون أخذ إناءً من الأواني التي لا تنضبط ويكون صنعها على وجه لا مثيل له من حيث التقدير، بحيث لا يمكن الإتيان بمثله في مثل ما ذكرنا، وتقدم معنا في السلم أن الأواني ونحوها التي ليس لها ضوابط في صفاتها -بخلاف الأواني الموجودة في زماننا هذا- كالأواني التي تصنع عند الحدادين ونحوهم لا يمكن رد مثلها، بحيث تنطبق الصفات على وجه تام كامل فعند ذلك ينتقل إلى القيمة، ونقول: تعذر وجود المثلي حقيقة وحساً.

كذلك أيضاً: يتعذر وجود المثلي شرعاً كما تقدم معنا في خمر الذمي، فإنه على مذهب من قال: إن الخمر تضمن إذا كانت لذمي، فإن المسلم لا يمكنه أن يشتري الخمر؛ لأنه لا يجوز أن يتملكها، فحينئذٍ ينتقل إلى قيمتها ويضمنها لصاحبها؛ لأن أهل الذمة لهم حق كما تقدم معنا في باب الذمة.

أما من حيث التعذر الحكمي فهذا من أمثلته كما ذكر العلماء: أن يكون قد أتلف شيئاً له مثل في السوق، ولكن سعره في السوق مبالغ فيه وقيمته أكثر من المثل، فوجد مثل هذه السيارة التي أتلفها ولكن يطلب فيها صاحبها أضعاف قيمتها، فهي موجودة حقيقة لكنها مفقودة حكماً؛ والله يقول: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] فإذا كلفناه أضعاف قيمتها فهذا ليس بمثلي، ولذلك قالوا: هو موجود حقيقة، مفقود حكماً.

إذاً: أولاً: نضمنه العين، فيجب رد العين، فإن تعذر؛ أوجبنا عليه رد المثل، فإن تعذر وجود المثلي حقيقة وحساً أو شرعاً أو حكماً؛ انتقلنا إلى القيمة.

وتقدر قيمة الشيء المغصوب ويجب عليه ضمان القيمة على التفصيل عند أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي، فمنهم من يقول: نقدر قيمة المغصوب حين الغصب، وبعضهم يقول: نقدر قيمة المغصوب عند التلف.

وفائدة المسألة: لو أن شخصاً أخذ سيارة واغتصبها من أخيه، واغتصبها في أول العام وكانت قيمة السيارة باهظة الثمن، فرضنا: كانت قيمتها خمسون ألفاً، ثم لما أصبحت في نهاية العام أتلفها وتعذر وجود مثلها وكانت قيمتها حين أتلفت تساوي خمسةً وعشرين، أي: نصف القيمة؛ لأن السيارة في أول العام تختلف قيمتها عن آخر العام، فهل ننظر إلى قيمة المغصوب عند أخذه وغصبه؟ أو ننظر إلى قيمة المغصوب عند تلفه؟ فمن قال: يضمن بالقيمة عند أخذه؛ لأن يده ضمنت ذلك الشيء بأخذه، قالوا: يدفع خمسين ألف ريال. ومن قال: يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه؛ لأنه استحق القيمة عند التلف، وكان الواجب عليه أن يرد، فلما امتنع من الرد وحصل التلف ننظر إلى وقت التلف فيدفع خمسة وعشرين أي: نصف القيمة.

إذاً: تضمن المغصوبات بقيمتها يوم أتلفت أو بقيمتها يوم أخذت على الوجهين المشهورين عند أهل العلم رحمهم الله، وهذه كلها آثار مترتبة على الغصب، لكن هذه الآثار متعلقة بمسألة عين المغصوب.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع