أرشيف المقالات

فوائد من شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
فوائد من شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
لابن القيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فمن مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه الموسوم بـ"شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل"، وهو كتاب يبحث في موضوع مهم من موضوعات العقيدة؛ وهو موضوع: القضاء والقدر، وقد أشبعه بحثًا على وفق منهج أهل السنة والجماعة، فجزاه الله عما قدم للإسلام والمسلمين خيرًا.
 
وفي ثنايا البحث في أبواب الكتاب التي بلغت ثلاثين بابًا، سال قلم العلامة ابن القيم رحمه الله بالعديد من الفوائد المتنوعة، يسر الله الكريم لي فجمعتُ شيئًا منها، أسأل الله أن ينفع بها، ويبارك فيها.
 
حكم ومنافع الطهارة والوضوء:
كم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن، وتفريح للقلب، وتنشيط للجوارح، وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة وألقاه عز النفس من دَرَنِ المخالفات، فهي منظفة للقلب والروح والبدن ...
وتأمل كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل، فجُعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق، وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها، منها يدخل إليها، ثم جُعل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطى، ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى، ولما كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرجًا ومشقة جعل مكانه المسح، وجعل ذلك مخرجًا للخطايا من هذه المواضع ...
ففي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أظفاره))، فهذا من أجلِّ حِكم الوضوء وفوائده.
 
ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء وقلبه بالتوبة؛ ليستعد للدخول على ربه ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب - فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا؟
 
الجزاء من جنس العمل:
قال تعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [الأعلى: 10 - 13]، فإن الجزاء من جنس العمل، فإنه في الدنيا لما لم يحي الحياة النافعة الحقيقة التي خُلق لها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتًا عديم الإحساس - كانت حياته في الآخرة كذلك.
 
من توفيق الله لعبده أن يستخير قبل وقوع المقدور ويرضى بعد وقوعه:
في المسند من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله عز وجل، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله))، فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبله، والرضا بعده، فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه، ويرضى بعد وقوعه، ومن خذلان الله له ألَّا يستخيره قبل وقوعه، ولا يرضى به بعد وقوعه.
 
تلاوة القرآن ربيع للقلوب وشفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للأرواح:
ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة ربيع القلب، وشفاء الصدور، ونور البصائر، وحياة الأرواح، وهو كلام رب العالمين، فيحل به فيما شاء من روضات مونقات، وحدائق معجبات، زاهية أزهارها، مونقة ثمارها، قد ذُلِّلت قطوفها تذليلًا، وسُهلت لمتناولها تسهيلًا، فهو يجتني من تلك الثمار خيرًا يُؤمر به، وشرًّا يُنهى عنه، وحكمة وموعظة، وتبصرة وتذكرة، وعبرة ...
وإزالة لشبهة، وجوابًا عن مسألة، وإيضاحًا لمشكل، وترغيبًا في أسباب فلاح وسعادة، وتحذيرًا من أسباب خسران وشقاوة، ودعوة إلى هدًى.
 
بل هي فتنة:
قال تعالى: ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي: النعم التي أوتيها فتنة نختبره فيها، ومحنة نمتحنه بها، لا يدل على اصطفائه واجتبائه، وأنه محبوب لنا مقرب عندنا؛ ولهذا قال في قصة قارون: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78]، فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضاء الله سبحانه عمن آتاه ذلك، وشرف قدره وعلو منزلته عنده - لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون، فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته، عُلم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة لا محبة ولا ورضًا واصطفاءً لهم على غيرهم؛ أي: النعمة فتنة لا كرامة، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49].
 
اللذة والألم:
لا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداءً ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة، وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداءً، ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها، والذين يصبرون عليها يألمون بفقدها ابتداءً، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوا منها، فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير، والآجل الدائم العظيم بون.
 
من وافق الناس على ما يريدون ليتخلص من أذاهم أصابته الآلام والمشقة:
الإنسان ...
مدني بالطبع، لا يمكنه أن يعيش وحده، بل لا يعيش إلا معهم - المقصود: الناس - وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة ومتعارضة لا يمكن الجمع بينها، بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء، فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته، وهم يريدون منه ذلك، فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته، وإن لم يوافقهم آذَوه وعذبوه وسعَوا في تعطيل مراداته كما لم يوافقهم على مراداتهم؛ فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك؛ فهو في ألم ومشقة وعناء وافقهم أو خالفهم، ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها، ففي موافقتهم أعظم الألم، وفي مخالفتهم حصول الألم، فالعقل والدين والمروءة تأمره باحتمال أخف الألمين؛ تخلصًا من أشدهما، وبإيثار المنقطع منهما؛ لينجو من الدائم المستمر ...
وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم، أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة، وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويذلهم له، بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه، وإذا كان لا بد من الألم والعذاب، فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم ...
فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلي سبحانه - هان عليه ما هو فيه وخف عليه حمله.
 
دواء لإزالة الهموم والغموم والأحزان:
الهم يكون على مكروه يُتوقع في المستقبل يهتم به القلب، والحزن على مكروه ماضٍ من فوات محبوب، أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنًا، والغم يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغم، فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه، وقد تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها، وتباينت طرقهم في ذلك تباينًا لا يحصيه إلا الله، بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها، وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها، وكمن يتداوى منها باللغو واللعب، والغناء وسماع الأصوات المطربة، ونحو ذلك، فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها، وكلهم قد أخطأ الطريق إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركب من مجموع أمور متى نقص منها جزء، نقص من الشفاء بقدره، وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار.
 
قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وفي الحديث: ((فإن الشيطان يقول: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله ...)) ...
فالتوحيد يُدخل العبد على الله، والاستغفار والتوبة يرفع المانع ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه، فإذا وصل القلب إليه زال عنه همه وغمه وحزنه، وإذا انقطع عنه حضرته الهموم والغموم والأحزان، وأتته من كل طريق، ودخلت عليه من كل باب.
 
فوائد متفرقة:
• الهداية: معرفة الحق، والعمل به.
 
• إذا تدبر العبد ...
أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله فيشكر ربه على ذلك، فزاده من فضله عملًا صالحًا ونعمًا يفيضها عليه، وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربه وتاب، فزال عنه سبب الشر؛ فيكون دائمًا شاكرًا مستغفرًا.
 
• لما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه ...
كان أكثر الحيوان أعداء لها، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه، وهو العزيز الحكيم.
 
• تأمل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها، كيف تجدها مشحونة بالحكم المقصودة، والغايات الحميدة التي شُرعت لأجلها، التي لولاها لكان الناس كالبهائم بل أسوأ حالًا.
 
• استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حفَّ الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير