حمص .. ستالينجراد سوريا
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
سجل تاريخ الحرب العالمية الثانية أنه في أغسطس/آب من سنة 1942م زحفت جحافل الجيش السادس الألماني -الذي كان يعتبر مفخرة الآلة العسكرية النازية، وخلاصة خبرتها ومجدها في الحربين العالميتين- على مدينة ستالينجراد الروسية (فولجوجراد حاليًّا)؛ بهدف احتلالها، وتوجيه ضربة قاضية إلى الاتحاد السوفيتي آنذاك، وحسم الجبهة الشرقية في تلك الحرب.
كانت ستالينجراد مدينة صناعية تقع على ضفاف نهر الفولجا في الجنوب الشرقي للاتحاد السوفيتي، عرفت خلال الحرب العالمية الثانية بصناعة الأسلحة وبقربها من حقول النفط القوقازية؛ مما جعلها هدفًا إستراتيجيًّا للنازيين، بعد فشلهم في حملتهم على العاصمة موسكو.
بعد حصار دام حوالي شهرين، شاركت فيه فرقة البانزر النازية "الرابعة"، التي كانت قد شاركت في مجازر ضد المدنيين وأسرى الحرب أثناء غزو النازيين لبولندا، وبعد معارك طاحنة استمرت حوالي ستة أشهر، هُزم النازيون، وقُصم ظهر دولتهم، ونال الجيش الألماني السادس "شرف" أن يكون أول جيش نازي يُباد عن بكرة أبيه، فيما وقفت ستالينجراد شامخة من بين الأنقاض والجماجم، متحدية هتلر وجيشه، فكانت ستالينجراد آخر محطة وصل إليها النازيون في عمق الجبهة الشرقية.
تعتبر معركة ستالينجراد من أشرس المعارك في تاريخ البشرية، حيث خلفت حوالي مليوني ضحية بين قتيل وجريح من الطرفين، إلا أنها كانت نقطة التحول في الحرب العالمية الثانية، حيث زعزعت أركان دول المحور (ألمانيا وحلفائها)، وسجلت نهاية التوسع النازي في أوربا، وأعطت الجيش السوفيتي مبادرة الهجوم التي كانت بدايةً لانحسار الدولة النازية وهزيمتها بشكل حاسم ونهائي.
واليوم، يرسل بشار جيشه المدعوم بالفرقة الرابعة إلى مدينة حمص على ضفاف نهر العاصي، ليوجه ضربته القاضية إلى الثورة السورية العظمى؛ كي لا تقوم لها قائمة من بعدها، إلا أن حمص عاصمة الثورة -بفضل الله تعالى- صبرت وصابرت واحتسبت الأجر، وهي ما تزال على ذلك منتظرةً أمر ربها، ترى النصر قاب قوسين أو أدنى، ولكنها على يقين أن النصر لن يأتي إلا بعد أن يختبر الله القلوب ، ويزكي النفوس، ويصطفي الشهداء من أهلها؛ ليعلم الذين سيرثون هذه المدينة بعد الثورة المظفرة بإذنه -تعالى- ثمن الحرية والكرامة.
لقد فاجأ أهل حمص أنفسهم قبل أن يذهلوا أهل المعمورة ببسالتهم وإصرارهم وتضحياتهم، حمص العنقاء التي ما فتئت تنتفض من تحت الرماد، كلما ظنَّ النظام أنه أخمد نارها، على الرغم من الاجتياحات المتواصلة لأحيائها العتيدة لعدة أشهر متواصلة، وتقطيع أوصال المدينة منذ مجزرة يوم الاعتصام في ساحة الحرية، وإطلاق يد "الجماعات المسلحة" الطائفيَّة لتستبيح الأرواح والأعراض والممتلكات..
ثم تتويج كل ذلك بعمليات عسكرية في ريف حمص، أعادت إلى الأذهان الجرائم الإسرائيلية في جنين وغزة، على الرغم من كل ذلك بقيت حمص وأهل حمص صامدين في وجه الإعصار لا يثنيهم تنكُّر القريب، ولا تجهُّم الغريب، يواجهون مع إخوانهم في باقي المدن والقرى الثائرة الباسلة في سوريا "المؤامرة الكونية" التي زعم الباطني بشار أنها تُحاك ضده! ولكن في واقع الأمر، هذه المؤامرة تُنفذ ضد الثورة اليتيمة إلا من كنف الله وحفظه، وكفى بالله حافظًا ونصيرًا.
خيارات النظام في حمص باتت محدودة جدًّا، فقد استهلك معظمها ولم يبق أمامه سوى تدمير المدينة بأكملها، كما فعل في حماة في الثمانينيات، مستعملاً كامل ترسانته العسكرية التي بناها من عرق جبين الشعب، مدعيًا نيته في تحرير الجولان، ولكن ذلك سيكلفه ملكه.
إن الدور الذي تلعبه حمص اليوم يذكرنا بـ"الفلوجة" يوم احتلال العراق، وبـ"مصراتة" يوم ثورة أحفاد عمر المختار رحمه الله.
لا شك أن أمام أبناء حمص فرصة فريدة لإعادة كتابة تاريخ مدينتهم وتاريخ سوريا بأكملها، وأن تتحول حمص إلى رمز بل أسطورة، وأن يلد من رحم هذه الملحمة جيل جديد مختلف، يعي إرثه العقائدي والتاريخي، ويرتقي إلى مستوى المسئولية المطلوبة في المرحلة القادمة؛ لبناء دولة ما بعد آل الأسد.
نذكر حمص في هذا المقام، ولا ننسى أن لها أخوات شربن من نفس الكأس المرّ، وأظهرن نفس الإقدام والشجاعة في مواجهة الظلم وأهله؛ فدرعا وحماة وإدلب ودوما ودير الزور وبانياس وغيرهن لسن ببعيدات عنها..!
ولكن الله اصطفى حمص لتكون من تدفع الثمن الأغلى لنصرة الحق، وإعلاء كلمته، لكنها نالت الشرف الأرفع ودخلت التاريخ من بابه العريض، وسيأتي اليوم الذي يقف الزائر بعد الثورة على أبواب حمص، وبين أحيائها ليسمع مناديًا يقول: ارفع رأسك..
أنت في حمص.
الأحد، 19 شباط/فبراير 2012 م