أرشيف المقالات

غرز الجريد في القبور وعليها

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
غَرْزُ الجَريدِ في القُبُورِ وعليها
 
لا يجوزُ غرزُ الجريدِ في القُبورِ ولا عليها، وما وَرَدَ عنه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من وَضْعِهِ الجريدةَ على بعضِ القُبور هي حوادثُ أعيانٍ مَخصُوصةٍ، لأنَّ اللهَ أخبرَهُ بأنَّ أصحابَ هذهِ القُبور المذكورةِ يُعذَّبون، وذكَرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سَبَبَ عذاب بعضهم، كالنميمةِ، وعدم الاستتارِ والاستنزاهِ منَ البولِ، فأحَبَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بشفاعتهِ أنْ يُخفَّفَ عنهُم، وهو الرؤوفُ الرَّحيمُ بأُمَّتهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

فعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أنه مَرَّ بقبرينِ يُعذَّبان فقال: إنهما ليُعذبانِ، وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ، أمَّا أحدُهما: فكان لا يَستَترُ من البولِ، وأمَّا الآخرُ فكان يَمشي بالنميمةِ، ثُمَّ أخذَ جريدةً رطبةً فَشقَّها نصفينِ، ثمَّ غَرَزَ في كُلِّ قبرٍ واحدةً، فقالوا: لمَ صنعتَ هذا؟ فقال: لعلَّهُ أنْ يُخفَّفَ عنهما ما لَمْ يَيْبَسَا)[1].

وفي روايةٍ: (إني مَرَرْتُ بقبرينِ يُعذَّبانِ، فأحببتُ بشفاعتي أنْ يُرَفَّهَ عنهما ما دامَ الغُصنانِ رطبينِ)[2].

فدلَّت الروايتانِ على أنَّ مُدَّة تخفيفِ العذابِ هي بنهايةِ رُطوبةِ الغُصنينِ، فهيَ شفاعةٌ خاصَّةٌ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لهؤلاءِ المقبورين، وأنَّى لأَحَدٍ بعدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يُطْلِعَهُ اللهُ على عذابِ أحدٍ، وأنْ تُقبلَ شفاعتهُ عن أحَدٍ في رفعِ العذابِ عنهُ، ويُحدِّدهُ بمدَّةٍ ظاهرةٍ معلومةٍ، ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن 26-27 ]، ولم يَفعلْ ذلكَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلاَّ في هذهِ القُبورِ المخصوصةِ التي أطلَعَهُ اللهُ على تعذيبِ أهلها، ولو كان ذلكَ مشروعاً لفعَلَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في كُلِّ القُبُورِ، ولَفَعلَهُ الخلفاءُ الراشدونَ وكبارُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهُم، و (لبادَرُوا بأجمعِهِم إليهِ، ولكانَ يقتضي أنْ يكُونَ الدَّفنُ في البساتينِ مُستحبَّاً)[3]، ومَنْ يقولُ بذلكَ؟!.

قال الشيخ الألباني رحمه الله: (فهذا نصٌّ على أن التخفيف سبَبَهُ شفاعتهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ودعاؤُهُ لهما، وأن رطابة الغصنين إنما هي علامة لِمُدَّةِ الترفيه عنهما وليست سَبَباً، وبذلك يَظهر بدعيَّة ما يَصْنعُهُ كثيرٌ من الناس في بلادنا الشامية وغيرها، من وضع الآس والزهور على القبور عند زيارتها، الأمر الذي لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من بعده، على ما في ذلكَ من الإسرافِ وإضاعةِ المالِ، والله المستعان)[4].

وقالت اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءِ: (إنَّ وَضْعَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الجريدةَ على القَبْرَيْنِ، ورجاءه تخفيف العذابِ عمَّن وُضعَتْ على قبرِهِما، واقعة عينٍ لا عُمومَ لَهَا في شخصينِ أطلَعَهُ اللهُ على تعذيبهِما، وأنَّ ذلكَ خاصٌّ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأنه لم يكُنْ منهُ سُنَّة مُطَّردة في قُبورِ المسلمينَ، وإنما كانَ مرتينِ أو ثلاثاً على تقديرِ تعدُّدِ الواقعةِ لا أكثر، ولم يُعرَفْ فعلُ ذلكَ عن أحدٍ من الصحابةِ، وهم أحرص المسلمين على الاقتداءِ بهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأحرصهم على نفعِ المسلمين، إلاَّ ما رُويَ عن بريدةَ الأسلمي: أنه أوصى أنْ يُجعلَ في قبرهِ جريدتانِ[5]، ولا نعلمُ أنَّ أحَدَاً منَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهُم وافقَ بُريدةَ على ذلكَ)[6].

(ورأيُ بريدةَ رضيَ اللهُ عنه لا حُجَّةَ فيهِ، لأنه رأيٌ والحديثُ لا يَدُلُّ عليهِ حتى لو كان عامَّاً، فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمْ يَضَع الجريدةَ في القبرِ، بلْ عليهِ، كما سَبَقَ، وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ)[7].

(ولا يجوز أن نصنع ذلكَ لأُمور:
أولاً: أننا لم يُكشف لنا أن هذا الرَّجُلَ يُعذَّب، بخلاف النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلكَ فقد أسأنا إلى الْميِّت، لأننا ظَنَنَّا به ظنَّ سوءٍ أنه يُعذَّب، وما يُدرينا فلعلَّه يُنعَّم، لعلَّ هذا الْميِّت مِمَّن مَنَّ اللهُ عليهِ بالمغفرةِ قبلَ موتهِ، لوُجود سَبَبٍ مِن أسبابِ المغفرةِ الكثيرةِ، فمَات َوقد عَفَا رَبُّ العبادِ عنهُ، وحينئذٍ لا يَستحقُّ عذاباً.

ثالثاً: أن هذا الاستنباط مُخالفٌ لِما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله، فما فَعَلَ هذا أحدٌ من الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم فما بالنا نحنُ نفعلُه.

رابعاً: أنَّ اللهَ تعالى قد فتحَ لنا ما هو خيرٌ منه، فكان النبيُّ عليه الصلاة والسلام إذا فرغَ من دفنِ الْميِّتِ وَقَفَ عليهِ، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيتَ فإنهُ الآن يُسأل[8]»)
[9].

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.



[1] أخرجه البخاري واللفظ له ح1361 ص218 (باب الجريدة على القبر)، ومسلم 1/ 240 ح111-292 (باب الدليل على نجاسة البول، ووجوب الاستبراء منه).
قال ابن حجر: (تنبيهٌ: لم يُعرف اسمُ المقبورَيْنِ ولا أحدُهما، والظاهرُ: أن ذلك كان على عَمدٍ من الرُّواةِ لقصدِ السَّترِ عليهِما، وهو عمَلٌ مُستحسنٌ، وينبغي أن لا يُبالَغَ في الفحصِ عن تسميةِ مَن وقعَ في حقِّهِ ما يُذمُّ بهِ.
وما حكاهُ القرطبيُّ في التذكرةِ وضعَّفهُ عن بعضهِم: أن أحدَهما سعدُ بنُ معاذٍ رضيَ اللهُ عنه! فهُو قولٌ باطلٌ، لا ينبغي ذكرُه إلا مقروناً ببيانهِ.
ومما يَدلُّ على بُطلانِ الحكايةِ المذكورةِ: أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حضَرَ دفنَ سعدِ بنِ معاذٍ رضيَ اللهُ عنه كما ثبتَ في الحديثِ الصحيحِ، وأما قصةُ المقبورَينِ: ففي حديثِ أبي أُمامةَ رضيَ اللهُ عنه عند أحمدَ أنه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال لهم: «مَن دفنتُمُ اليوم ها هُنا»، فدلَّ على أنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لم يَحضُرْهُما، وإنما ذكرتُ هذا ذبَّاً عن هذا السيِّدِ الذي سمَّاهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سيِّداً، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لأصحابهِ: «قُومُوا إلى سيِّدكُم»، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إن حُكمَهُ قد وافقَ حكمَ اللهِ»، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إن عرشَ الرحمنِ اهتزَّ لموتهِ»، إلى غيرِ ذلكَ من مناقبهِ رضيَ اللهُ عنه الجليلةِ، خشيةَ أن يَغترَّ ناقصُ العلمِ بما ذكَرَهُ القرطُبيُّ، فيعتقدَ صحَّةَ ذلكَ، وهو باطلٌ)
فتح الباري 1/ 320-321 .


[2] أخرجه مسلم 4/ 2306 ح3012 (باب حديث جابر الطويل وقصَّة أبي اليسر).


[3] المدخل 3/ 280.


[4] إرواء الغليل 1/ 314.


[5] رواه الإمام البخاري (باب الجريد على القبر).


[6] فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء 3/ 453 فتوى رقم 1333 من المجموعة الأولى.
برئاسة شيخنا ابن باز رَحِمَهُ اللهُ.


[7] أحكام الجنائز وبدعها ص258 رقم 123.


[8] أخرجه أبو داود ح3221 (باب الاستغفار عند القبر للميِّت في وقت الانصراف)، وحسَّنه النووي في الأذكار ص217.


[9] مجموع فتاوى الشيخ محمد العثيمين رحمه الله 2/ 32.

شارك الخبر

المرئيات-١