شرح زاد المستقنع باب العارية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العارية].

تعريف العارية

العارية مأخوذة من اعتوار الشيء، وهو تردده مرة بعد المرة وتكراره.

وأما في الاصطلاح: فنوع من العقود يقصد منه تمكين الشخص من منفعة الشيء على سبيل البر والإحسان، وعرفها المصنف -رحمه الله- بأنها: إباحة منفعة العين، وعرفها بعض أئمة الحنفية والمالكية بأنها: تمليك المنافع بدون عوض، فالحنفية يقولون: تمليك المنافع مجاناً، والمالكية يقولون: تمليك المنافع المؤقتة بدون عوض، وهناك فرق بين أئمة الشافعية والحنابلة من وجه، وأئمة الحنفية والمالكية من وجه آخر، فعندنا طائفتان من العلماء:

طائفة تقول: العارية إباحة.

وطائفة تقول: العارية تمليك.

وتوضيح ذلك: أن الشخص لو كان عنده بيت فأراد أن يعطي شخصاً منفعة السكنى، فيقول له: أعرتك بيتي تسكنه شهراً، أو تكون عنده سيارة فيقول له: أعرتك سيارتي تركبها هذا اليوم، أو أعرتك سيارتي تذهب بها إلى المدينة. فحينما يأخذ السيارة من الشخص فإنه يملك منفعتها، وليس له حق بيع السيارة ولا هبتها، ولا التصرف فيها بغير الانتفاع بالمنفعة، فبعض العلماء يقول: إذا قلت له: خذ السيارة، أو أعطيتك السيارة إلى المدينة، أو أعرتك السيارة إلى المدينة، أو بكل لفظ دال على العارية، صراحة أو ضمناً؛ فقد ملكته المنفعة.

والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا: العارية تمليك يكون من حقك أن تعطي هذه المنفعة لشخص آخر، وإذا قلنا: العارية إباحة، فليس من حقك أن تعطيها لشخص آخر، فأنت إذا أعرت شخصاً سيارة من أجل الركوب عليها والذهاب بها إلى المدينة ثم الرجوع، فأعطاها غيرك، فعلى القول بأنها تمليك فإنك إن ملكت منفعتها جاز لك أن تتنازل عنها لأخيك، وعلى القول بأنها إباحة فقد أباح لك ولم يبح لغيرك.

وبناءً على ذلك: لو أعطيتها لغيرك فركبها وذهب بها إلى المدينة ورجع فإنك تدفع قيمة الأجرة، وتغرم لصاحبها أجرة مثلها من مكة إلى المدينة، فالعارية فيها وجهان: إما إباحة، وإما تمليك. واختيار المصنف رحمه الله ومن وافقه من أنها إباحة أصح وأقوى.

والسبب في هذا: أنها لو كانت تمليكاً لكانت مؤقتة، ولا تصح مطلقة؛ لأن التمليك المطلق فيه غرر، ولذلك وجب تقييدها لو كانت تمليكاً، والثابت في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار بدون تأقيت، كما في حديث صفوان حينما استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم أدرعه يوم حنين، وقال: (أغصباً يا محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: لا، بل عارية مضمونة) وهذا لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو الطائف واحتاج إلى السلاح، وكان الذين خرجوا معه من مكة من المسلمين عددهم كبير؛ لأن الجيش الذي خرج به من المدينة ازداد عدده بفتح مكة، وخرجت معه قريش حمية؛ لأنه يريد غزو الطائف؛ لذا طلب عارية صفوان ، فقال له صفوان : (أغصباً يا محمد؟!) هل تأخذ مني السلاح غصباً، قال : (لا. بل عارية مضمونة)، فلو كانت العارية تمليكاً لقال: عارية إلى شهر، أو إلى شهرين، ولأقت وحدد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤقت ولم يحدد؛ فدل على أنها إباحة، وأن الشخص حينما يعير فقد أباح المنافع ولم يملكها، وعلى هذا يأتي التفصيل -إن شاء الله- فيما لو أجر الدار لغيره، أو تصرف المستعير في العارية، وهل يضمن أو لا يضمن؛ كل ذلك يترتب على هذا الخلاف.

أدلة مشروعية العارية

والأصل في مشروعية العارية كتاب الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه في معرض الذم والتوبيخ لمن وهبه نعمته فَحَرَمها غيره: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7] فجاءت هذه الآية في سياق الذم لمن منع غيره أن ينتفع مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وذكر الماعون لأنه شيء يسير غالباً، وهو تنبيه إلى ما هو أكبر منه وأكثر، ولأن الحاجة إلى الماعون عظيمة فهو يحتاج إليه في صنع الطعام وإعداده، فيكون في منعه وحبسه المشقة على الغير، ففي هذه الآية الكريمة الدليل على مشروعية العارية، ولذلك فسرها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كحبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع: بأنهم كان يمنعون الماعون أن يعار.

وعلى هذا: دلت الآية الكريمة على مشروعية الإعارة؛ لأنها لو لم تكن مشروعة لما ورد الذم والتوبيخ لمن حرم الغير أن ينتفع بالماعون.

وكذلك دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، منها:

أنه استعار من صفوان أدرعه كما في الحديث المتقدم.

وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده، ووجه الدلالة من الحديث: أنه نقم عليه الصلاة والسلام منها جحد المتاع ولم ينقم منها عارية المتاع.

حكم العارية

أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العارية مشروعة، ولكن اختلفوا في حكمها، هل يجب عليك أن تعير الأشياء، أو يندب لك، أو يباح، هناك أوجه:

بعض العلماء يقول: إن العارية مباحة من حيث الأصل، وجائزة، ومنهم من يقول: ليست مباحة فقط بل مندوبة. وهذا هو الصحيح، بمعنى: أنه ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، ولا يفوته خيرها وبرها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا مر به أخوه المسلم وهو في الطريق واحتاج إلى الماء فمنعه وهو قادر على أن يعطيه -وهذا في غير العارية كما هو معلوم- أن الله تعالى يقول: (سألك عبدي أن تعطيه الماء فمنعته، فاليوم أمنعك فضلي كما منعته فضل مائك ) فهذا يدل على أنه لا ينبغي للمسلم أن يمنع إخوانه المسلمين من الانتفاع بالأشياء التي لا يحتاج إليها، والتي يكون في سعة منها، حتى ولو كان ذلك مدة معينة، فيقول له: أعرتك كتابي أو قلمي أو سيارتي، ويحدد ذلك على حسب ما يمكنه أن يبذله من منفعة ذلك الشيء المعار.

وقد تكون العارية واجبة، وذلك إذا احتاج إلى شيء عندك توقف عليه إنقاذ نفس محرمة، فلو أن غريقاً سقط في بئر ولا يمكن إخراجه إلا بحبل عندك وليس موجوداً عند غيرك، وبإمكانك أن تعطي الحبل ولا ضرر عليك؛ فإنه إذا امتنع في هذه الحالة يعتبر آثماً في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك، فإذا كان إنقاذها واجباً فقد توقف تحقق هذا الواجب على فعل وهو إعارة الحبل أو الشيء الذي يمكن تخليصه به، كذلك لو احتاج جارك أو صديقك شيئاً لمريض عنده أو مكروب أو نكبة نزلت به أو نحو ذلك، فإنه يجب عليك ويتعين أن تعطيه؛ لأنه ليس هناك غيرك، ويجب عليك في هذه الحالة أن تبذل ما تستطيعه لإنقاذ هذه النفس المحرمة أو دفع الضرر عنها.

وتكون العارية مندوبة إذا كان فيها توسعة على الجار وعلى الأخ والقريب، وتختلف درجات الندب، فإعارة الشيء للقريب أعظم أجراً من إعارته للغريب، ففيها أجران، أجر العارية وأجر صلة الرحم، ومن وصلها وصله الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإعارة الجار ليست كإعارة غير الجار، فإذا أعرت الجار كان الأجر أعظم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يخاطب نساء المؤمنين: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو كفرسن شاة) يعني: لا تحتقر أمة الله عز وجل ما تقدمه لأختها المسلمة من جيرانها ولو كان كفرسن شاة، وهو اللحم اليسير الذي يكون بين أظلاف الدابة، فهذا شيء حقير جداً، ولكن هذا الحقير عند الله عظيم الأجر؛ لما فيه من الإحسان للجار.

ولو أنك نظرت إلى الشيء الذي يعار؛ فإعارة ما فيه مصالح دنيوية أجره أقل من إعارة ما فيه مصالح دينية، ومن ذلك إعارة كتب العلم لمن يحفظها ويحافظ عليها، وينتفع بها، فإن هذه الإعارة أعظم أجراً والندب فيها آكد من الإعارة لشيء دنيوي، وإعارة السيارة لطالب علم يذهب لطلب علم والمعونة له على طلبه للعلم، أعظم أجراً من إعانته على أمر دنيوي.

فإذاً العارية تتفاوت من جهتين:

أولاً: من جهة الشخص الذي يستعير؛ من حيث قربه من الشخص وعدم قربه، وعظيم حقه على الشخص، وذلك على حسب تفاوت الناس في مراتبهم في الحقوق.

ثانياً: من جهة الشيء الذي يستعار، فإن كان الشيء الذي يستعار لمصلحة أفضل فالأجر فيه أعظم، وإذا كان لمصلحة مفضولة فالأجر فيه أقل، هذا بالنسبة للمندوبة.

وتكون العارية محرمة إذا أعارها لشيء حرام يعينه بها -والعياذ بالله- على قطيعة رحم، أو عقوق والدين.

مثلاً: لو أن شخصاً خرج إلى سفر ووالداه لم يأذنا له بالسفر، وهما بحاجة إليه، وقد خرج في نزهة أو صيد، وأنت تعلم أن والده لا يأذن له وغير راضٍ على خروجه، فخروجه عقوق لوالديه، فإذا مكنته من سارتك فقد مكنته من العقوق.

فإذاً: تكون العارية حراماً إن توصل بها إلى حرام، وتصبح المسألة تابعة لمسألة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) فإن كانت العارية وسيلة إلى واجب فواجبة، وإن كانت وسيلة إلى مندوب فمندوبة، وإن كانت وسيلة إلى مكروه فمكروهة، وإن كانت وسيلة إلى محرم فمحرمة، وإن كانت خلية من الدوافع وسلمت من الموانع فإنها مباحة مستوية الطرفين.

هذا بالنسبة لحكم العارية من حيث الأصل، وهذا الباب يعتني العلماء -رحمهم الله- فيه ببيان حقيقة العارية، وما تجوز إعارته وما لا تجوز، وكذلك أيضاً بيان الأثر المترتب على العارية، ويعتبر هذا الباب مما تعم به البلوى، فالناس يستعير بعضهم من بعض، ويحتاج بعضهم إلى الحوائج الموجودة عند البعض، يقضون بها مصالحهم، ويرتفقون بها في معاشهم، فلذلك تنشأ الأسئلة عن هذا النوع من العقود، وقد تحدث هناك أضرار في الشيء الذي يستعار، فيرد السؤال من الناس عن كثير من هذه المسائل والأحكام.

حكم العارية عند المصنف

يقول المصنف رحمه الله: [باب العارية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام العواري.

قال رحمه الله: [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه].

(وهي) أي: العارية (إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه) يعني: بعد استيفاء النفع، والمراد ببعد استيفاء النفع: بعد أخذ المنفعة.

)وهي) أي: العارية (إباحة) تقدم أن المراد بالإباحة أن تجيز للشخص أن ينتفع بالشيء ولا يملك المنفعة، وبناء على ذلك فليس من حق المستعير أن يعير غيره، ولا أن يبيع هذه المنفعة للغير، فيؤجرها على الغير بثمن وعوض، وإذا ثبت هذا فإنه لو أعار الغير -كما سيأتي- فإنه يضمن ويغرم، وتصبح يده يد ضمان، خاصة على القول بالتفريق بين الضمان والأمانة، وكذلك أيضاً يكون ملزماً بدفع الأجرة التي تجب لقاء هذه المنفعة المبذولة للغير.

(تبقى) العين، (بعد استيفائه) يعني: بعد استيفاء النفع. تدل هذه العبارة على أن العارية تدخل في المنافع ولا تدخل في الذوات، يعني: تبيح المنافع ولا تبيح الذوات، بناء على ذلك: لو أن شخصاً أعطى غيره تفاحةً ليأكلها، هل نقول: هذه عارية؟ لا؛ لأن العين هنا لا تبقى، وإذا كانت العين لا تبقى بعد الاستيفاء فإنها ليست بعارية وإنما هي هبة، وتعطيها حكم الهبات أو صدقة إن قصد بها القربة لله سبحانه وتعالى، فهي هبة أو عطية أو صدقة على التفصيل الذي ذكرناه.

وبناء عليه لا بد من أن تكون العارية في المنافع، والمنافع تكون في العقارات والمنقولات.

فإما أن تكون منفعة عقار أو منفعة منقول. منفعة عقار: مثل: البيت، والمزرعة، والمسبح، والديوان، والحوش، هذه كلها عقارات، تقول له: أعرتك بيتي تسكن فيه شهراً أو سنة، أعرتك مزرعتي أو الديوان أو المسبح... هذه كلها إباحة منفعة تستوفيها، وهذا الاستيفاء يكون بدون عوض، ولذلك قال الحنفية والمالكية: بلا عوض؛ لأنه تمليك، لكن الشافعية والحنابلة قالوا: إباحة. فلم يحتاجوا إلى قيد: بلا عوض؛ لأن قولنا: إباحة، معناه: الإذن بالشيء بدون وجود عوض فيه، وعلى هذا فليس فيها عوض، وتكون العين مضمونة بالرد كما سيأتي إن شاء الله.

العارية مأخوذة من اعتوار الشيء، وهو تردده مرة بعد المرة وتكراره.

وأما في الاصطلاح: فنوع من العقود يقصد منه تمكين الشخص من منفعة الشيء على سبيل البر والإحسان، وعرفها المصنف -رحمه الله- بأنها: إباحة منفعة العين، وعرفها بعض أئمة الحنفية والمالكية بأنها: تمليك المنافع بدون عوض، فالحنفية يقولون: تمليك المنافع مجاناً، والمالكية يقولون: تمليك المنافع المؤقتة بدون عوض، وهناك فرق بين أئمة الشافعية والحنابلة من وجه، وأئمة الحنفية والمالكية من وجه آخر، فعندنا طائفتان من العلماء:

طائفة تقول: العارية إباحة.

وطائفة تقول: العارية تمليك.

وتوضيح ذلك: أن الشخص لو كان عنده بيت فأراد أن يعطي شخصاً منفعة السكنى، فيقول له: أعرتك بيتي تسكنه شهراً، أو تكون عنده سيارة فيقول له: أعرتك سيارتي تركبها هذا اليوم، أو أعرتك سيارتي تذهب بها إلى المدينة. فحينما يأخذ السيارة من الشخص فإنه يملك منفعتها، وليس له حق بيع السيارة ولا هبتها، ولا التصرف فيها بغير الانتفاع بالمنفعة، فبعض العلماء يقول: إذا قلت له: خذ السيارة، أو أعطيتك السيارة إلى المدينة، أو أعرتك السيارة إلى المدينة، أو بكل لفظ دال على العارية، صراحة أو ضمناً؛ فقد ملكته المنفعة.

والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا: العارية تمليك يكون من حقك أن تعطي هذه المنفعة لشخص آخر، وإذا قلنا: العارية إباحة، فليس من حقك أن تعطيها لشخص آخر، فأنت إذا أعرت شخصاً سيارة من أجل الركوب عليها والذهاب بها إلى المدينة ثم الرجوع، فأعطاها غيرك، فعلى القول بأنها تمليك فإنك إن ملكت منفعتها جاز لك أن تتنازل عنها لأخيك، وعلى القول بأنها إباحة فقد أباح لك ولم يبح لغيرك.

وبناءً على ذلك: لو أعطيتها لغيرك فركبها وذهب بها إلى المدينة ورجع فإنك تدفع قيمة الأجرة، وتغرم لصاحبها أجرة مثلها من مكة إلى المدينة، فالعارية فيها وجهان: إما إباحة، وإما تمليك. واختيار المصنف رحمه الله ومن وافقه من أنها إباحة أصح وأقوى.

والسبب في هذا: أنها لو كانت تمليكاً لكانت مؤقتة، ولا تصح مطلقة؛ لأن التمليك المطلق فيه غرر، ولذلك وجب تقييدها لو كانت تمليكاً، والثابت في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار بدون تأقيت، كما في حديث صفوان حينما استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم أدرعه يوم حنين، وقال: (أغصباً يا محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: لا، بل عارية مضمونة) وهذا لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو الطائف واحتاج إلى السلاح، وكان الذين خرجوا معه من مكة من المسلمين عددهم كبير؛ لأن الجيش الذي خرج به من المدينة ازداد عدده بفتح مكة، وخرجت معه قريش حمية؛ لأنه يريد غزو الطائف؛ لذا طلب عارية صفوان ، فقال له صفوان : (أغصباً يا محمد؟!) هل تأخذ مني السلاح غصباً، قال : (لا. بل عارية مضمونة)، فلو كانت العارية تمليكاً لقال: عارية إلى شهر، أو إلى شهرين، ولأقت وحدد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤقت ولم يحدد؛ فدل على أنها إباحة، وأن الشخص حينما يعير فقد أباح المنافع ولم يملكها، وعلى هذا يأتي التفصيل -إن شاء الله- فيما لو أجر الدار لغيره، أو تصرف المستعير في العارية، وهل يضمن أو لا يضمن؛ كل ذلك يترتب على هذا الخلاف.

والأصل في مشروعية العارية كتاب الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه في معرض الذم والتوبيخ لمن وهبه نعمته فَحَرَمها غيره: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7] فجاءت هذه الآية في سياق الذم لمن منع غيره أن ينتفع مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وذكر الماعون لأنه شيء يسير غالباً، وهو تنبيه إلى ما هو أكبر منه وأكثر، ولأن الحاجة إلى الماعون عظيمة فهو يحتاج إليه في صنع الطعام وإعداده، فيكون في منعه وحبسه المشقة على الغير، ففي هذه الآية الكريمة الدليل على مشروعية العارية، ولذلك فسرها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كحبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع: بأنهم كان يمنعون الماعون أن يعار.

وعلى هذا: دلت الآية الكريمة على مشروعية الإعارة؛ لأنها لو لم تكن مشروعة لما ورد الذم والتوبيخ لمن حرم الغير أن ينتفع بالماعون.

وكذلك دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، منها:

أنه استعار من صفوان أدرعه كما في الحديث المتقدم.

وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده، ووجه الدلالة من الحديث: أنه نقم عليه الصلاة والسلام منها جحد المتاع ولم ينقم منها عارية المتاع.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع