شرح زاد المستقنع بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد تقدمت معنا جملة من الأبواب التي تتعلق بالمسائل الفقهية المالية، وكان آخرها باب القرض والرهن والضمان والكفالة والحوالة، وهذه الأبواب ترتب بعضها على بعض.

وذكرنا أن العلماء رحمهم الله من المحدثين والفقهاء ذكروا القرض؛ لأن الرهن ينبني عليه فأتبعوه بالرهن، وكذلك الكفالة والضمان كلٌ منهما متعلق بالذمم، ومن هنا أتبعوا باب الرهن بباب الضمان.

ثم ذكرنا باب الحوالة؛ لأنه يتعلق بالديون وشغل الذمم، فهو طريق لإبراء الذمة بإحالة صاحب الدين على مدينٍ آخر، وذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأبواب.

ونظراً إلى أن بعض المعاملات المالية المعاصرة تندرج تحت بعض هذه الأبواب، كان من الأهمية بمكان أن يعتنى ببيان حكمها الشرعي، وما يتعلق بها من مسائل؛ لأن قديم الإسلام جديد وجديده قديم، وحكم الله سبحانه وتعالى في المسائل المالية كحكمه في المسائل المتعلقة بالعبادات، فالإسلام دين كامل، ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيّن حكمها وأصلها، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ، فمن كمال هذه الشريعة أنها وفّت للناس لبيان حكم الله عز وجل في كل صغير وكبير، وجليل وحقير.

وقد اعتنت الشريعة الإسلامية واعتنى العلماء من المحدثين والفقهاء ببيان الأحكام لكل ما جدّ وطرأ، ولم تقف الشريعة يوماً من الأيام عاجزة أمام مسألة أياً كانت المسألة، وإن قصرت أفهام بعض العلماء عن فهم بعض المسائل، فهذا لا يعني أن الشريعة عاجزة عن بيان الحكم: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] فكلمات الله تامة، والقواعد التي جاءت بها آيات الكتاب وأحاديث السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد عامة جامعة شاملة، اندرجت تحتها المسائل وأيضاً تبعتها النوازل؛ ولذلك لما شعّ ضياء الإسلام على مشارق الأرض ومغاربها، وكانت الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط ما وقفت يوماً من الأيام عاجزة عن بيان حكم من أحكام الله عز وجل في مسألة أياً كانت المسألة.

وعلى هذا كان من الأهمية بمكان لطالب العلم أن يربط بين المسائل المعاصرة والمسائل القديمة، وأن يعرف حكم الله عز وجل في هذه المسائل، وإذا كانت المسألة قد طرأت وجدّت في أي عصر من العصور، خاصة إذا كانت مسألة متعلقة بالمعاملات المالية، فإن على طالب العلم أولاً أن يعرف حقيقة المعاملة أو صورة المسألة، فأول ما ينبغي على طالب العلم في المسائل العصرية مرحلة التصور، ومرحلة التصور تحتاج من طالب العلم أن يسأل أهل الخبرة وأهل المعرفة عن هذه المسائل، فإن كانت المسألة التي طرأت عليك في الفقه متعلقة بالأموال، رجعت إلى من عنده خبرة بمسائل الاقتصاد والمال وسألته، وإن كانت المسألة متعلقة بالطب رجعت إلى الأطباء وسألتهم، وخلال ذلك ينبغي على السائل عند سؤال للمختصين أن يكون سؤاله لأوثق الناس وأعرف الناس وأعلم الناس في كل فن، وقد قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله وأئمة الإسلام الأعلام، أنه يرجع في كل فن إلى أهل العلم به، فإذا سألتهم وبينوا لك حقيقة المعاملة حينئذٍ تصورت، وبعد أن تتصور تكون قد درست الباب الذي تندرج تحته المسألة، فإن كانت المسألة مالية متعلقة مثلاً بباب الشركات تتصور ما هي حقيقة الشركة المعاصرة، وقد بين الفقهاء رحمهم الله في كتبهم كنوزاً عظيمة ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها أيما عناية، فتجدهم يذكرون في كل باب أركانه وشروطه وواجباته، وهذه الأمور التي ذكروها إذا أتقنها طالب العلم يستطيع في أي مسألة أن يلمّ بشتاتها؛ لأنه إذا كانت المسألة متعلقة بالشركات -وهي مسألة معاصرة- سألت فاستبانت حقيقة الشركة، وعرفت أطراف الأفراد المشتركين فيها، والمقصودة منها، ومجال التعامل فيها، ثم بعد ذلك رجعت إلى ما قرره العلماء: ما هي أركان هذه الشركة، وما هي الشروط المعتبرة للحكم بصحة الشركة، وما هي الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بسلامة عقود الشركات، ثم بعد ذلك تبيّن هل هي جائزة أو غير جائزة.

فإذاً: عندنا أمران:

الأمر الأول: يتعلق بالتصور.

والأمر الثاني: يتعلق بما يسمى بالتخريج الفقهي.

فأنت إذا تصورت الذي أمامك مما جدّ ونزل من المسائل، بعد ذلك تكون عندك الخلفية القديمة للمسائل القديمة التي قعّدها العلماء فتنظر، قالوا: هذا عقد حوالة، وسموه حوالة مثلاً، ترجع إلى باب الحوالة في الفقه، وتسأل: ما هي حقيقة الحوالة أولاً؟ ثم ما هي أركانها؟ وما هي شروطها المعتبرة للحكم بصحتها؟ ثم تنظر في الذي أمامك هل ينطبق عليه تعريف الحوالة الذي ذكره العلماء؟ وما هي الأركان في هذا العقد المعاصر للحوالة المعاصرة؟ فإن وجدته تنطبق عليه الصفات حينئذٍ تفرّع عليه ما ذكره العلماء، وتكون حوالة إلا أنها اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة، إلا أن الحقيقة والجوهر شيء واحد. هذا بالنسبة لمسألة التخريج.

في بعض الأحيان قد تجد أن الاسم شيء والحقيقة شيء آخر، فيقال: هذه وديعة، فترجع إلى أساس الوديعة وضابط الوديعة عند الفقهاء فتجده لا ينطبق على ما يسمونه مثلاً وديعة، فتقول: هذا العقد يسمى في زماننا بالوديعة، ولكنه في الحقيقة قرض وآخذ حكم القروض.

فإذاً مسألة الخلط في الفتوى في المسائل المعاصرة، تأتي بقصور في التصور، وهنا أنبّه على أنه إذا كان طالب العلم يريد أن يتكلم في مسألة ينبغي ألا يستعجل، وعلى العالم ألا يستعجل الفتوى في المسألة حتى يرجع لأهل الخبرة؛ لأن عرض الناس وسؤال الناس يؤثر في الفتوى أحياناً؛ فلربما دخل في السؤال عاطفة، أو دخل نوع من التحيل لإقناع العالم بالتحريم، ونحو ذلك من الأخطاء التي قد يقع فيها من يستعجل في فتواه دون الرجوع إلى أهل الخبرة؛ لأنه ليس الهدف أن نتكلم في زيد أو عمرو، إنما الهدف أن نعرف حكم الله عز وجل، وليس الهدف أن ينجرّ الإنسان وراء عاطفته بتحليل أمر أو تحريم أمر يتحمل مسئوليته أمام الله عز وجل، وإنما المهم أن ينصح لله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين وللأمة ببيان حقيقة الحكم الشرعي في المسائل.

فإذاً لابد من العناية بهذه الأمور التي حصل فيها الاختلاف وتباينت فيها وجهات النظر بسبب دخول العواطف، وينبغي إذا اخترت أحداً من أهل الخبرة أن يكون معروفاً بالورع والعدالة، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك الإمام ابن فرحون في تبصرة الحكّام: أن الرجوع لأهل الخبرة على حسب الأوثق منهم، ولو كانوا من غير ديننا، كأن يكون من أهل الكتاب وعنده خبرة ولكن يعرف بالأمانة والنصيحة، وقد ذكر هذه المسألة شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية، وبيّن رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستطب الحارث بن كلدة ويأمر الصحابة باستطبابه، وكذلك استأجر عبد الله بن أريقط وهو رجل من بني الديل هادياً خريتاً وذلك لمعرفة الطرق، فإذا أعجز الإنسان أن يجد العدل المأمون فلا بأس أن يرجع إلى أمثل أهل الخبرة في كل فنٍ ممن عرف بالإتقان والضبط.

وإذا علم هذا فإن المسائل المالية المعاصرة كبطاقة الائتمان أو خطاب الضمان أو الاعتماد المستندي أو الكمبيالات أو الأوراق التجارية أو الحوالات المصرفية، ينبغي أن نفرق في تصورها بين أمرين:

الأمر الأول: فهم وتصور ماهية المعاملة وحقيقتها وأركانها وما يتبع ذلك من شروط التعاقد فيها.

الأمر الثاني: عدم الخوض في مسألة كيفية العقود بطريقة مفصلة والتي هي من شأن أهل الاختصاص، وليست من شأن طالب الفقه أو طالب العلم.

وبناءً على ذلك: سنتكلم إن شاء الله على بطاقة الائتمان. وقد اخترنا جملة من المسائل لتطبيق الأبواب التي ذكرناها سابقاً، فعندنا باب القرض والرهن والضمان والكفالة والحوالة، سنختار لباب القرض والرهن بطاقة الائتمان، وكذلك أيضاً نختار للكفالة والضمان خطاب الضمان، وبعد ذلك نتكلم على جملة من المسائل المتعلقة بالتحويلات أو الحوالات، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد وأن يلهمنا الرشاد، وأن يجعل ما نتعلمه ونُعلِّمه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا وهو نعم الوكيل.

نبذة تاريخية عن نشأة بطائق الائتمان

بطاقة الائتمان نوع من المعاملات المعاصرة، جدّت وطرأت في هذا القرن المعاصر الذي نحن في آخره، فيقال: إنها أول ما نشأت في عام (1918م)، وكان التعامل بها على مستوى الشركات، فكانوا يعطونها لأفرادهم، ويقوم الفرد بالتعامل مع المحلات التجارية بواسطتها على أن تلتزم الشركات بالدفع عنه، وكانت أشبه ما تكون بعقد الوفاء.

ثم بعد ذلك تطورت هذه البطاقة في ما يقرب من عام (1950م) إلى عام (1958م)؛ والسبب في هذا أن الكتب التي تكلمت على تاريخها تتكلم بالتاريخ الميلادي، لكن المهم التصور عن نشأتها، في هذه الفترة صدرت بطاقات من هيئات مالية، وكانت هذه الهيئات قد وجدت الجدوى والفائدة في إصدار هذا النوع من البطاقات؛ لأنها تدر أرباحاً وفوائد وعوائد مالية، فدخلت البطاقة إلى البنوك والمصارف في هذه السنوات تقريباً، وصدرت بطاقات مشهورة في هذه الفترة، ثم انتشرت من بلاد الغرب حتى عمّت أكثر أرجاء المعمورة كما هو موجود في زماننا.

تعريف بطاقة الائتمان

هذه البطاقات وهي بطاقات الائتمان لم يوضع لها تعريف محدد، إلا أن بعض المجامع العلمية وضعت تعريفاً يعتبر من أنسب التعاريف لهذا النوع من البطاقات، وتعريف بطاقات الائتمان أمر من الأهمية بمكان؛ لأننا ذكرنا أنك إذا عرفت حقيقة المعاملة والعقد المعاصر، أمكنك تخريجه على ما تقدّم من أبواب الفقه، وأيضاً معرفة أركانه وشروطه على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله.

فبطاقة الائتمان حقيقتها: مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري، بناءً على عقد بينهما يمكِّنه من شراء السلع والخدمات مِن مَن يعتمد المستند، دون أن يدفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدِر الدفع عنه. إلى هذا الحد يتمّ تعريف البطاقة، إلا أنهم ألحقوا بهذا التعريف جملة وهي: ومن أنواع هذا المستند ما يمكِّن صاحبه من صرف النقود أو سحبها من المصارف.

وهذا التعريف نريد أن نقف معه وقفة نتصور بها حقيقة ما يسمى ببطاقة الائتمان، وهذا التصور وهو في الحقيقة تعريف مجمع الفقه الإسلامي لبطائق الائتمان، وهو من أنسب التعاريف وأجمعها وأفضلها ويعطي تصوراً شبه كامل لما يسمى ببطاقة الائتمان.

فقالوا: (بطاقة الائتمان مستند) والمستند: هو عمدة الشيء، والمراد بالمستند هنا هو البطاقة، وعُبّر عنه بكونه مستنداً؛ لأن صاحبه يستند إليه في التعامل، وبطبيعة الحال هذه البطاقة تتميز من باب التصور بشعار معين ومعلومات معينة يمكن من خلالها معرفة حساب العميل أو رقم العميل.

قالوا: (مستند يعطيه مُصدِرُه) بطاقة الائتمان فيها مصطلحات معروفة عند من يتعامل بها، فهناك شيء يسمى المصدِر، والمصدِر: هو الجهة التي تقوم بإصدار هذا النوع من البطاقات، وتشمل في الغالب البنوك والشركات والمصارف، فقولهم: (مستند يعطيه مُصدِرُه) يعني الجهة التي تلتزم بما في هذه البطاقة مما ذكرنا.

قالوا: (لشخص طبيعي أو اعتباري) يعني هذه البطاقة تعطى لطرف ثانٍ، فعندنا في هذه الحالة طرفان:

الطرف الأول: المصدِر وهو البنك أو الشركة أو المصنع، وعندنا الطرف الثاني: وهو الذي يستفيد من هذه البطاقة، ويسمى في الاصطلاح حامل البطاقة، ودائماً ما يعبّر عنه بالحامل، يقال: الحامل ويلتزم الحامل وعلى الحامل، والمراد بالحامل العميل، إلا أن هذا العميل جاء في التعريف أنه يشمل نوعين من العملاء الذين يتعاملون بهذا النوع من البطاقات، فقالوا: (لشخص طبيعي أو اعتباري)، الشخص الطبيعي هو أنت أو أنا أو أي شخص زيد أو عمرو من الناس، لكن الذي يهمنا قولهم: (أو اعتباري)، فمن هو الشخص الاعتباري؟

الشخصية الاعتبارية: مصطلح حادث، جدّ وطرأ في العصور المتأخرة، وتعاملوا به في الالتزامات وفي العقود لوجود الحاجة، والشخصية الاعتبارية في الحقيقة ليست شخصية طبيعية -يعني ذاتية وحقيقية- إنما هي شخصية مقدّرة، وتنطبق على الشركات والمجموعات، فلو أن عشرة منّا اجتمعوا واشتركوا في مؤسسة أو شركة، وهؤلاء العشرة تعاقدوا مع عامل مثلاً، فلا تستطيع أن تأتي تقول: اتفق محمد وعبد الله وصالح وزيد وبكر.. وتعدد أسماء المشتركين الذين قد يقاربون المائة في بعض الأحيان، أو أكثر من ذلك، فحينئذٍ يحتاجون إلى مصطلح يجمع هؤلاء كلهم: شركة النور.. شركة الإصلاح.. شركة السماحة.. شركة كذا، فاسم الشركة يعتبر شخصية اعتبارية، بمعنى: أنك لو جئت تقول: اتفقت شركة السماحة مع زيد، فقدرت شركة السماحة كشخص، هذا ما يسمى بالشخصية الاعتبارية، وهي في الحقيقة ليست بشخص معين وليس لها ذات أو حقيقة، وإنما نزلت في الاعتبار على أنها منزلة الشخص الواحد، ولذلك يقول: التزمت شركة السماحة، ففي الحقيقة هذا الاسم لا يلتزم ولا يُلزم، لكنه قدر تقديراً كأنه شخص حقيقي، وهذا ما يسمى بمصطلح الشخصية الاعتبارية.

فإذاً: الذي يحمل هذه البطاقة إما شخص بعينه أو شركة أو مجموعة أو نحوها، وهذا ما عبّر عنه بالشخصية الاعتبارية.

قالوا: (بناء على عقد بينهما) العقد الذي بين العميل -الذي هو حامل البطاقة- وبين المصدر -وهو البنك الملتزم- يتم على الصورة التالية: يتقدم العميل أو طالب البطاقة إلى البنك أو الشركة أو المؤسسة بطلب هذه البطاقة، وجرت العادة أن يعطى الأنموذج المشتمل على جملة من البيانات والشروط التي فيها التزامات من جهة البنك والتزامات من جهة العميل، وهذه الالتزامات والشروط يتفق عليها الطرفان، فتعطى للعميل ويقرأها، فإذا وافق عليها تقدم بالطلب، وتشتمل على معلومات كاملة، ويدرس هذا الطلب فإما أن يوافق على منحه وإلا فلا.

والذي يهمنا أن هناك اتفاقاً، ولابد لطالب العلم أن ينتبه لهذه الأمور كلها؛ لأن طبيعة البطاقة وحقيقتها فيها شيء من الالتزامات، ومعنى ذلك أنه لا يدخل العميل ولا يدخل حامل البطاقة للتعامل بهذا النوع من البطاقات إلا بعد أن يكون على بينة بجملة من الشروط وطبيعة التعامل بهذا النوع من البطاقات.

الالتزامات المناطة بحامل بطاقة الائتمان

الالتزام الأول: بأن يقوم بالسحب في حدود مبلغ معين متفق عليه بين الطرفين.

الالتزام الثاني: يلتزم هذا العميل أو هذا الحامل للبطاقة بدفع الرسوم التي تتضمن:

أولاً: رسوم الاشتراك في البطاقة، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه إذا ثبت أن البطاقة نوع من القرض كانت الرسوم المعجلة أشبه بالفائدة الربوية المعجلة، فلذلك يلزم بالاشتراك، فإذا كنتُ أُريد أن أتعامل معك لماذا تلزمني بدفع قيمة وفائدة من أجل أن أتعامل معك، فأنا في الحقيقة أتعامل معك وتتعامل معي على أساس عقد معين، وعلى أساس منفعة لها قيمة شرعية معينة، فإذا كان العقد الذي بيني وبينك قرض، فالشريعة لا تجيز أن تأخذ على الاقتراض منفعة لا مقدمة ولا مؤخرة.

ثانياً: يلتزم بدفع الرسوم التي تسمى برسوم التجديد، وهذه الرسوم ليست بالهينة، مثلاً: إذا كانت البطاقة من النوع الذهبي أو الممتاز، يكون اشتراكها ربما يقارب الألف، وإذا كانت من النوع العادي يقارب خمسمائة، وهذا ليس بالسهل، فهذه البطاقة أدفع عليها رسماً سنوياً لماذا؟! وبأي حق؟! لأن الشريعة عندها قاعدة: لا تجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم إلا بحق، فأنا حينما آخذ البطاقة وتمضي عليّ سنة فما معنى أن أدفع الرسم السنوي؟! هذا أمر لابد من النظر فيه، لماذا نحن تعرضنا لمسألة العقد، فالعقد يلتزم فيه العميل -حامل البطاقة- بدفع هذه النسبة المعينة الذي يضعها البنك أو يحددها المصدر الذي يقوم بإصدار البطاقة.

إذاً: يلتزم أيضاً بدفع الرسوم المتعلقة بتجديد البطاقة على الفترات التي يحددها المصرف أو المصدر لها، فيدفع رسوماً على البطاقة -خمسمائة -مثلاً- على البطاقة الذهبية وثلاثمائة أو مائتين على البطاقة العادية- والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، هذه البطاقة تجديدها على أي أساس؟! ما الذي يكون فيها حتى تجدد؟!! هل فعلاً يقوم المصدِر بتجديد شيء فيها له قيمة محسوسة؟!! فإذا كان تجديد التعهّد بلا اقتراض كان أقبل للفائدة المعجلة.

ثالثاً: يلتزم بدفع جميع الفواتير والمستحقات على سحبه بناءً على هذه البطاقة؛ لأنه سيقوم بالسحب بناءً عليها، وإذا قام بالسحب بناء على هذه البطاقة فسيلتزم بكل ما ينشأ عن هذا السحب من قيمة السلع التي اشتراها أو الخدمات التي انتفع بها، فهذه أيضاً رسوم أخرى، وهي رسوم في الأصل وقد تكون مستحقة للمصدر على التفصيل الذي سنذكره.

فمثلاً: إذا جاء إلى فندق ونزل فيه، وكلفت إقامته خمسة آلاف، وسجلت في البطاقة، فيلتزم بدفع الخمسة آلاف بطريقة معينة، وليست كما هي فعلاً في الدين، بل يدفع عليها أيضاً رسوم خدمة، فتدفع نسبة إضافية على المبلغ نفسه.

رابعاً: يلتزم العميل بدفع قيمة الفواتير المستحقة للاتصالات أو نحوها كما لو كانت هناك تكاليف بريدية أو نحوها.

فكل هذه الالتزامات على كاهل العميل، ونحن نأخذ الأغلب أو الأكثر من الشروط؛ لأن الشروط الموجودة في البيانات وحسب الاطلاع على أنواع البطاقات المختلفة، منها ما هو شرط خاص ومنها ما هو شرط عام، فنحن نأخذ أغلب الشروط العامة التي في الغالب تكون موجودة، مثل رسوم التجديد.. رسوم تكاليف البطاقة وسحب البطاقة، فهذه شروط موجودة في البطاقات كلها، لكن هناك أيضاً شروط خاصة، قد يكون المصرف عنده نوع من التعامل أو طريقة للتعامل أو نوع من الرسوم يفرضه على العميل.

سادساً: أنه يلزم بتفويض المصدر بصرف العمولة بأي قدر يراه دون اعتراض أو امتناع، فلو فرضنا مثلاً أنه تعامل بالدولارات، فنزل في فندق أو استأجر سيارة أو حافلة أو قطاراً بالدولارات، وهو قد اتفق مع المصرف أو جهة المصدِر بالتعامل بالريالات، فمعناه: أن هناك عملية صرف ما بين المصدِر وما بين الجهة التي قامت ببذل هذه المنفعة أو دفع هذه السلعة المعينة، فلو كانت هذه المنفعة التي قدمت لحامل البطاقة تكلّف -مثلاً- ثلاثة آلاف دولار، ففي طبيعة الحال ستحوّل القيمة إلى الريالات، فيفوّض المصرف أو المصدِر سواء كان بنكاً أو مصرفاً أو شركة للتحويل بالصرف بأي قيمة يراها، أي لو كان الدولار يصرف بأربعة ريالات إلا ربعاً أو بثلاثة ريالات ونصف أو بثلاثة ريالات وربع، فعندنا قيم مختلفة، ويمكن للمصدر أن يصرف بأعلى قيمة؛ لأنه أربح له وأكثر فائدة وعائدة من جهة الخدمات، وهذا دون أي اعتراض، فمثل هذا البند يفرض على العميل، ولا يمكن أبداً أن يراجع في هذا. فإذاً يفوض تفويضاً كاملاً في أن يصرف العملة أو العملات أياً كانت بأي قيمة يراها، سواءً كانت غالية أو رخيصة. هذا أيضاً من الالتزامات، وهو لا شك التزام فيه مخاطرة، وفيه غرر وضرر.

كذلك أيضاً هناك التزامات أخرى قد تختلف كما ذكرنا من مصدر إلى آخر، لكن هذه من أهم الالتزامات، وفي بعض العقود يصل البيان إلى ما يقرب من عشرين بنداً.

ومما يجدر ذكره أنه من حق المصدِر أن يلغي هذه البطاقة في أي وقت شاء، سواء أشعر العميل أم لم يشعر، لكن لا يحق للعميل أن يلغي هذه البطاقة إلا بعد أن يتصل على المصدِر ويشعره، ويمزّق البطاقة أو يرسلها إلى مكتبها، فلاحظوا الفرق بين الطرفين، فمن جانب المصدِر يمكنه في أي وقت أن يلغيها ولا يحاسبه أحد، أما من جانب العميل فإذا أراد إلغاءها فلابد من إشعار المصدِر، ثم لو أنه ألغاها فإنه يتحمل التبعات والمسئولية الكاملة عن هذا الإلغاء.

الالتزامات المتعلقة بالمصْدِر لبطاقة الائتمان

أما الالتزامات من جهة المصدِر، فالمصدِر يلتزم للعميل بالتالي:

أولاً: يلتزم له أن يقوم بالدفع عنه، فيقوم عقد البطاقة على التزام البنك بالدفع عن العميل، ومن هنا جاءت شبهة الكفالة وجاءت شبهة الضمان، وأنها بطاقة تأخذ حكم الضمان، لكن هذا أمر يحتاج إلى نظر سنبينه إن شاء الله في التخريج الفقهي، فلو أن العميل قام بشراء سلعة قيمتها خمسة آلاف ريال يلتزم المصرف أو المصدر أياً كان بدفع الخمسة آلاف ريال، لكن المشكلة ليست هنا، فالمصدر الذي يصدر البطاقة له اتفاق مع جهات معينة، فلا يمكن أن تستفيد من هذه البطاقة إلا من خلال متاجر معينة ومحلات معينة، بينها وبين المصدر اتفاق معين، هذا الاتفاق تقوم فيه هذه المحلات التجارية بإبرام عقد آخر مع البنك أو المصرف أو مصدر البطاقة، على أن تمكن من يحمل البطاقة من شراء ما شاء من السلع في الحدود التي اتفق عليها، ثم يفتح هذا المحل حساباً في البنك، وإذا حسبت القيمة لا تحسب كاملة، فلو كانت العملية التي تمت من العميل مع المتجر تكلف خمسة آلاف ريال، وهناك اتفاق على أخذ عمولة للبنك، فالبنك مثلاً يأخذ نسبة معينة -على فرض أنه يأخذ مائتي ريال- فهو لا يعطي الخمسة آلاف كاملة -وهذا أمر مهم جداً- وإنما يعطي أربعة آلاف وثمانمائة ريال تدخل لحساب المحل الذي اتفق معه، أيضاً فلو قلت: إن البطاقة نخرجها على أنه تكفل بدين على أن يقوم العميل بدفع هذا الدين، فإن هذا الدين يؤخذ بصورة ويدفع بصورة أخرى، ومن يتحمل هذه الكفالة أو يلتزم هذا الالتزام يأخذ عمولة، حتى على الطرف الثاني، ولا يمكن أبداً أن نمكِّن المصدِر أو البنك أو المصرف أو أي جهة من التعامل مع هذه البطاقة إلا إذا وضع شعاراً معيناً في التعامل معه، ولا تستطيع أن تقدم هذه البطاقة إلا لمن يعتمد هذه البطاقة، بمعنى: أنه يجب أن يكون بينه وبين المصدِر اتفاق ثانٍ، فالمصدر يلتزم للعميل بأن يمكنه من شراء السلع والخدمات كما سيأتي، ويقوم بالدفع عنه بالطريقة التي يتم الاتفاق بها بين المصدر وبين الطرف الثاني.

وفي التعريف قلنا: (مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكِّنه) أي: يمكِّن الحامل للبطاقة.

جوانب الانتفاع من بطاقة الائتمان

قالوا: (يمكِّنه من شراء السلع والخدمات) هذه العبارة تبيّن محل العقد، فالعقد منصبّ على بطاقة لها فائدتان:

الفائدة الأولى: في شراء السلع، والفائدة الثانية: في شراء الخدمات.

وهناك فرق بين شراء السلع وبين شراء الخدمات، وكل منهما له مصطلح فقهي خاص، فشراء السلع بيع، وشراء الخدمات إجارة، شراء السلع كأن يدخل بالبطاقة إلى محل يريد أن يشتري ما شاء من الأطعمة أو الأدوية أو الأكسية أو ما شاء من القطع أو الأشياء التي يريدها، فالبطاقة تدخل في عقود البيوعات، وتدخل أيضاً في عقود الإجارات وهذا هو المعبر عنه بشراء الخدمات، إما في سكن أو ركوب أو غير ذلك من المصالح التي تكون من الخدمات في الإجارات، ومن ذلك خدمة السكن في الفندق، فإن نزول العميل في الفندق وبقاءه الليلة والليلتين والثلاث والأربع هذا يسمى إجارة، ودفع العميل المائة أو المائتين أو الألف مقابل السكن ليلة أو ليلتين أو ثلاث، هذا يسمى شراء خدمة سكن، وهناك خدمة تنقل كأن يبرز البطاقة للركوب في قطار أو طائرة أو سفينة أو عبّارة أو سيارة فهذا كله شراء منفعة تمكنه من الانتقال من موضع إلى موضع بقيمة معينة. إذاً البطاقة تقع في البيوعات والإجارات، ويلتزم المصدِر السداد بدفع الثمن في المعاوضات المتعلقة بالبيوعات ودفع الثمن في المعاوضات المتعلقة بالإجارات.

قالوا: (مِن من يعتمد المستند) يعني: لا يتعامل بالبطاقة إلا مع من يعتمد المستند، فلو قدّم البطاقة إلى محل لا يعتمدها لا يمكن أن يقبلها، وبطبيعة الحال إذا قُدّمت البطاقة إلى محل تجاري أو شركة نقل أو نحوها فهناك آلة تقوم بفحص البطاقة وأخذ معلومات معينة عنها، كمعرفة مدة صلاحيتها وعدمها وأخذ المعلومات المتعلقة بها، ثم تسجل في الفاتورة، فإذاً (مِن من يعتمد المستند) وفي الاصطلاح من يقوم بالخدمة مثل المحل التجاري أو السوبر ماركت أو نحوه هذا يسمى بالمستفيد.

عقد بطاقة الائتمان عقد مؤجل

قالوا: (دون أن يدفع الثمن حالاً) أي أن الفائدة التي يريدها العميل أو العملاء أو حامل البطاقة في الغالب هو الأمن من حمل النقود، خاصة إذا كان في مواضع يخشى فيها من حمل النقود، وكذلك أيضاً سهولة الانتفاع بها دون وجود كلفة أو عبء حمل الأموال أو صرفها، كما لو كان في موضع تختلف فيه العملة عن عملة بلده أو نحو ذلك، فيستفيد العميل من هذه الفائدة دون أن يدفع الثمن حالاً وهو ثمن النقد، إذاً معنى ذلك أن عقد البطاقة عقد مؤجل، وأصبح عقد البطاقة فيه جانبان لابد من التنبه لهما:

الجانب الأول: تعاقد حامل البطاقة مع المتجر، وفعلاً قد تعاقد معه؛ لأنه يحدد معه السعر ويحدد معه السلعة التي يريد شراءها وأخذها، أو يحدد نوعية الخدمة التي يريدها، ونوعية السكن الذي يريد أن ينزل فيه، معناه: أن الطرف الأول في العقد هو الحامل، والطرف الثاني هو الجهة التي تتكفل أو تقوم بتمكين العميل من هذه المنافع، وهذا عقد مبرم، ويصبح هذا العقد الذي بين العميل وبين المستفيد الذي هو التاجر أو نحوه، إما عقد بيع إذا كان على السلع، وإما عقد إجارة إذا كان على الخدمات.

الجانب الثاني: وهو التزام البنك بالدفع.

فإذاً: قالوا: (يمكِّنه من شراء السلع والخدمات مِن مَن يعتمد المستَند دون أن يدفع الثمن حالاً لتضمن المصدر الدفع عنه) اللام للتعليل، أي: امتنع دفع العميل للثمن نقداً وحالاً لوجود التزام من المصدر بالدفع عنه، وبناءً على ذلك فهناك عقد ما بين البنك أو المصرف أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة وبين المحل التجاري كما ذكرنا لتضمنه التزام المصدِر الدفع عنه، فيلتزم بدفع المال قليلاً كان أو كثيراً وسواء كان بالعملة نفسها أو بغيرها. وبهذا ينتهي التعريف، وتتضح الصورة للبطاقة وطبيعة التعامل بها.

بطاقة ائتمان لسحب النقود فقط

لكن قولهم: (ومن هذه المستندات ما يمكِّن العميل من سحب النقود) هناك نوع ثانٍ، هذا النوع الثاني من البطاقات لسحب النقود، أي مع وجود ما ذكر آنفاً هناك منفعة ثانية وهي منفعة سحب النقود، فيمكِّنه من سحب النقود وبنفس الالتزام، فإذا سحب من المصرف يلتزم طبعاً بالسحب في حدود الإطار المحدد المتفق عليه بين الطرفين، سواء كان مع اتحاد العملة أو اختلاف العملة، ويكون في كلتا الحالتين إذا قام بالسحب أو قام بشراء السلعة أو شراء الخدمات هناك أمر مهم جداً وهو أن المصرف أو المصدِر يعطي العميل فترة ما بين خمسة وعشرين يوماً إلى خمسة وخمسين يوماً في الغالب التي هي أعلى حد لتسديد الثمن المقدم، وبعد ذلك إذا لم يتم السداد تحسب الفائدة (1%) أو (2%) عن كل يوم يتأخر فيه عن السداد.

فإذاً: عندنا ثلاثة جوانب: بداية التعاقد بالبطاقة، وعندنا طبيعة الاستفادة من البطاقة، وعندنا الأثر المترتب على التعامل بالبطاقة.

وطبيعة التعاقد سبق أن بيّناها وبيّنا أصلها، وأنها تشتمل على نوعين من العقود، والعقد الذي يكون بين العميل وبين المصرف مع المستفيد، والعقد الذي يكون ما بين المستفيد وبين المصرف.

ثم بيّنا طبيعة الاستفادة التي يستفيدها العميل سواء كان في عقود البيع أو الإجارات، وإن كانت البطاقة من النوع الثاني الذي هو دفع النقود فحينئذ تكون مشتملة على بيع الصرف في بعض الصور، وهو يشتمل على إبدال العملة بالعملة مع وجود القرض، وأما بالنسبة للأثر فالأثر وجود الفوائد الربوية التي تتركب على التأخير عن السداد والدفع.

التخريج الفقهي لبطائق الائتمان

أما بالنسبة للجزئية الأخيرة وهي جزئية التخريج الفقهي: هذا النوع من المعاملات هل هو قرض، أم هو حوالة، أم هو كفالة؟

هذا أمر يحتاج إلى نظر، فالبطاقة إذا تأملناها وجدنا فيها الآتي:

بالنسبة للعميل: تعاقد مع المحل التجاري أو الشركة التي تقوم بالخدمة، (بعقد بيع أو إجارة) عقد البيع والإجارة من حيث الأصل كونه يشتري السلع أو كونه يشتري الخدمات كأن ينزل في الفندق أو نحوه هذا أمر لا إشكال في جوازه، كونه مثلاً يستفيد في شراء السلع أو كونه يشتري الخدمات هذه أمور إذا كانت من جنس ما أحلّ الله لا كلام لنا فيه، إنما الكلام في مسألة الالتزام؛ لأن المصرف التزم بالدفع عن العميل الحامل، والعميل الحامل التزم بالدفع للمصرف.

فعلى هذا عندنا قرض وهو شراء السلعة من المحل بالأجل، وهذا الأجل لا يدفع، بدليل أن الحامل حينما اشترى البضاعة أو اشترى الخدمة؛ كما لو نزل في الفندق أو ركب السيارة أو القطار أو طائرة أو نحو ذلك لم يدفع الثمن حالاً، وإنما أنسأ الثمن وأخّره، وبتأخير الثمن صار بالبيع إلى أجل أو بالبيع المؤجل، وهذا البيع المؤجل لم يلتزم فيه العميل نفسه بدفع المال وإنما أحيل صاحب المتجر أو صاحب المحل على المصرف أو المصدِر.

فهنا حصل خلط في بعض الفتاوى المعاصرة قالوا: نعتبر هذا النوع من الضمان ووجه الضمان فيه قالوا: إن البنك أو المصرف تضمن والتزم في ذمته أن يدفع عن العميل، ونحن ذكرنا فعلاً في باب الضمان أنه يجوز أن يضمن الديون المجهولة التي تئول في المستقبل إلى العلم، وهذا يتخرّج على المسألة التي ذكرناها: أن يأتي إلى صاحب البقالة ويقول له: أعط محمداً ما شاء من البضائع، وأنا ألتزم بالدفع عنه إذا لم يسدد، فكأن صاحب البطاقة المصدر الذي هو البنك يقول للمتجر: أعط حامل البطاقة ما شاء في الحدود التي اتفق عليها في البطاقة، وأنا ألتزم بالدفع عنه. إذاً فعلاً هناك نوع من المشابهة من كونها تدخل تحت الضمان؛ لأن المصرف فعلاً تضمن والتزم، وقالوا: بناءً على ذلك هذا أشبه ما يكون بعقد الضمان، وتسري عليه أحكام الضمان أو أحكام الكفالة عند من لا يفرق بين الضمان وبين الكفالة، فإن شئت سميتها كفالة وإن شئت سميتها ضماناً، على نفس التفصيل الذي ذكرناه.

إذاً: نريد أن نحدد طبيعة عقد الكفالة هنا، أصبح الكفيل الذي يغرم هو البنك، والمكفول هو حامل البطاقة، والذي تكفل به البنك قيمة التعامل الموجود أو المعاملة التي تمت بين الطرفين، وعلى هذا قالوا: تدخل تحت الكفالة، ومن حيث الأصل الشرعي يبقى السؤال: أنتم تعلمون أن هناك نوعاً من البطاقات يكون فيه للعميل رصيد، والذي هو غطاء للتعامل، فرضاً خمسة آلاف، هذا الغطاء في الحقيقة مثل الرهن، فهذه مسألة ثانية تحتاج إلى بحث، فقالوا: هذا يأخذ حكم الضمان، قالوا: ونعتبر الثمن المدفوع مقدماً الذي هو الغطاء الموجود في الحساب الجاري أو غيره آخذ حكم الرهن، كأن العميل أعطى البنك خمسة آلاف رهناً لسداد الحقوق المستحقة على تعامله.

فإذن عندنا جانبان:

الجانب الأول: أن البنك لما التزم بالدفع عن العميل صار في حكم الضمان، وتخرّج على مسائل الكفالة.

ثانياً: وجود الغطاء البنكي أو المبلغ المدفوع أو الرصيد الموجود للعميل يعتبر بمثابة الرهن.

ومن المعلوم أنه يشرع في الديون وجود الرهن، لكن عند العلماء خلاف في مسألة: هل يجوز الرهن أن يكون من الذهب والفضة؟

صحح غير واحد من العلماء أنه يجوز رهن الذهب والفضة والنقود لقاء السداد؛ لأن الله تعالى يقول: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] وهذا نكرة عامة شاملة لأي شيء كان مرتهناً، ولم يفرق بين النقود وغيرها.

ولأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الحق، فإذا كان يجوز في السلع التي تباع من أجل السداد، فلأن يجوز بالنقود التي تسدد فوراً من باب أولى وأحرى؛ قالوا: لأن العلة في الرهن السداد، فأنت إذا استدنت عشرة آلاف وقيل لك: أعط رهناً، إنما قصد من قوله: أعط رهناً حتى يتمكن من بيعه إذا عجزت عن السداد، فقالوا: فبدلاً من أن يبيع إذا عجز عن السداد ويكون الرهن نقوداً لا تحتاج إلى بيع، فيأخذ منها حقه وينتهي.

النقطة الثانية: لو قلنا بطبيعة الحال: إنه ضمان واشتمل على الرهن، فهل يجوز الضمان بالرهن؟ هذه مسألة ثانية: هل يجوز أخذ الرهن على الكفالة؟

أي: لو أن شخصاً قال لك: اكفلني في عشرة آلاف ريال، فقلت له: أعطني رهناً، هل من حقك أن تقول ذلك؟

قال طائفة من العلماء: يجوز أخذ الرهن على الكفالة، ومن حقك أن تطالبه برهن تصل به إلى حقك إذا غرر بك في كفالة، كما أن الأصيل يجوز له أن يأخذ الكفالة. وأنا أميل إلى هذا القول، وإنما ذكرت هذه الأقوال لأنها فعلاً صحيحة؛ أولاً: لما ذكرناه من وجود الأدلة التي تدل على جواز صحة الرهن بالذهب والفضة، وثانياً: جواز أخذ الرهن للكفالة.

وإذا ثبت هذا أصبح عندنا تخريجان:

التخريج الأول: قالوا: التزام البنك والمصرف بالدفع عن العميل يعتبر في حكم الضمان أو الكفالة على التفصيل الذي ذكرناه: هل هما عقد واحد، أو عقدان؟

التخريج الثاني: يعتبر وضع الغطاء البنكي أو الدفع أو وجود الرصيد بمثابة الرهن المعجل، الذي دفعه العميل ضماناً لحق البنك عند عجزه عن السداد، ويتخرج هذا على مسألتين:

المسألة الأولى: جواز أخذ الذهب والفضة رهناً.

والمسألة الثانية: جواز أخذ الرهن عن الكفالة.

لكن يبقى الإشكال إذا قلنا: إنها كفالة، وقلنا: إنها آخذة حكم الضمان، وفعلاً يسري عليها حكم القرض، ففي هذه الحال عندنا قرض، وعندنا ضمان للقرض، وعندنا رهن يتوصل به إلى هذا الضمان، لكن يبقى الإشكال في أخذ الفائدة على الكفالة، هل يجوز أخذ الفائدة على الكفالة؟

هناك فوائد التزم بها العميل لابد من النظر فيها.

الفائدة الأولى: دفع الرسم للاشتراك.

الفائدة الثانية: دفع الرسم للسند.

الفائدة الثالثة: التجديدات.

وهناك فوائد مركبة على الدين عند العجز عن السداد.

والواقع بالنسبة لهذه الفوائد: الرسم الذي للدخول، وفائدة التجديد السنوي، وفائدة الرسوم السندية، كل هذا يعتبر من أخذ الفائدة على الدين، ومخرّج على ما ذكرناه من أنه قرض جر منفعة، وقد ذكرنا إجماع العلماء على تحريم القرض الذي جر منفعة، (وأيما قرض جر منفعة فهو رباً) إما رباً صريحاً أو في حكم الربا الصريح فهذه الرسوم في الحقيقة هي عبارة عن فوائد معجلة باسم الرسم أو نحوه، وبدل أن تكون مؤخرة صارت مقدمة أو معجلة، ولأن هذه الرسوم ليس فيها استحقاق شرعي؛ فالعميل لا يأخذ لقاءها شيئاً له قيمة معتبرة شرعاً، وإذا قال قائل: يأخذ لقاءها الدين، نقول: هذا الدين ليس له قيمة؛ لأن الديون لا يجوز أخذ الفوائد عليها، فقد يكون المصدِر أو البنك أو نحوه يرى أن من حقه أن يأخذ على الدين فائدة؛ لأنه يرى أن الفوائد الربوية تعتبر استحقاقاً له على العميل إذا تعامل معه.

بعد أن ذكرنا التخريجات كلها، وذكرنا أولاً كونه ضماناً محملاً أو كون هذا الضمان مبني على رهن، ترد هنا مسألة مهمة وهي: أننا صححنا أصول المسائل، فقلنا: إن الضمان مشروع، وقلنا: إن الرهن مشروع، وقلنا: يجوز الرهن بالمال الذي هو الذهب والفضة، قررنا جواز الرهن المتقدم أو الضمان المتقدم، كل هذا قررنا جوازه، لكن لا يعني هذا صحة التخريج، وتوضيح ذلك: أن المبلغ الذي هو غطاء للسداد في الحقيقة المصرف لا يقوم بسحب استحقاقه مباشرة منه، هذا أمر مهم جداً؛ لأن المصرف من فائدته ألا يسدد المبلغ مباشرة؛ لترتب الفوائد على التأخير، والعميل يعتبر بتأخره ملزماً بدفع الفائدة المقررة والعائد المقرر الربوي على الدين بعد فوات الأجل المحدد للسداد، فإذاً مسألة كونه رهناً ليست من كل وجه صحيح؛ لأننا لا نجد المصرف يقول: بمجرد أن تمر خمسة وعشرون يوماً أو خمسة وخمسون يوماً ولم تسدد سنسحب من رصيدك المبلغ وانتهى الإشكال، لا، بل إن لم تسدد بعد الفترة المسموح بها سنحسب عليك فائدة (1%)، ومعنى ذلك أنه لا يعتبر رهناً بصورة الرهن الشرعي، فهو في الظاهر تراه رهناً، لكنه في الحقيقة والتعامل ليس برهن.

المسألة الأخيرة وهي المهمة: أن هذا الدين تركّب بعقد فيه التزام أنه إذا لم يسدد فعليه الفائدة، وهذا الالتزام محرم -بغض النظر عن كونه بادر بالتسديد، أو ترتب عليه فائدة أو لم تترتب ولا يجوز للمسلم أن يلتزم ذلك الأمر المحرم؛ لأنه يكون راضياً بالمحرم، وهذا من الربا الذي نص صريح الكتاب والسنة على تحريمه، وبناءً على ذلك لا يجوز الالتزام.

وهنا بعض الناس يقول: آخذ العشرة آلاف -والعياذ بالله- ديناً وأسدد في الأمد المحدد.

نقول: رضاك بالعقد يعتبر في حكم الفعل للعقد؛ لأن العقد فيه شرط والتزام بمحرم، وبناءً على ذلك يدخل في كتابة الربا المحرم الذي لعن فاعله -نسأل الله العافية-.

وعلى هذا خلاصة ما نقول: أولاً: إن بطاقة الائتمان تخريجها الفقهي دين.

ثانياً: الضمان فيها ليس بصحيح من كل وجه من جهة الالتزام، ووجه بطلان هذا الضمان أن نقول: إن المصرف التزم بدين كامل بدفع دين ناقص؛ لأنه يدفع إلى المستفيد أقل مما يأخذ من الحامل، وهذا أمر يبطل التخريج بكونه حوالة أو ضماناً؛ لأنه لم يتوفر فيه الشرط الشرعي.

ثالثاً: أنه لو كان ضماناً وديناً على الصفة المعتبرة، فوجود شرط الفائدة المركبة أو الرسم المقدم على الدين يدخله في قرض جر نفعاً، وهو محرم بالإجماع.

وبهذا يكون الحكم فيه عدم الجواز على التفصيل الذي تقدم بيانه، والله تعالى أعلم وأحكم، وهو المستعان وعليه التكلان.

بطاقة الائتمان نوع من المعاملات المعاصرة، جدّت وطرأت في هذا القرن المعاصر الذي نحن في آخره، فيقال: إنها أول ما نشأت في عام (1918م)، وكان التعامل بها على مستوى الشركات، فكانوا يعطونها لأفرادهم، ويقوم الفرد بالتعامل مع المحلات التجارية بواسطتها على أن تلتزم الشركات بالدفع عنه، وكانت أشبه ما تكون بعقد الوفاء.

ثم بعد ذلك تطورت هذه البطاقة في ما يقرب من عام (1950م) إلى عام (1958م)؛ والسبب في هذا أن الكتب التي تكلمت على تاريخها تتكلم بالتاريخ الميلادي، لكن المهم التصور عن نشأتها، في هذه الفترة صدرت بطاقات من هيئات مالية، وكانت هذه الهيئات قد وجدت الجدوى والفائدة في إصدار هذا النوع من البطاقات؛ لأنها تدر أرباحاً وفوائد وعوائد مالية، فدخلت البطاقة إلى البنوك والمصارف في هذه السنوات تقريباً، وصدرت بطاقات مشهورة في هذه الفترة، ثم انتشرت من بلاد الغرب حتى عمّت أكثر أرجاء المعمورة كما هو موجود في زماننا.