شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 279-281


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيرًا.

أما اليوم فعندنا: باب صفة الصلاة.

الحديث الأول حديث أبي هريرة رضي الله عنه, يقول المصنف: أخرجه السبعة، أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الصلاة, باب وجوب القراءة على الإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر بها وما يخافت.

وأخرجه في مواضع أخرى عديدة أيضاً, لكن هذا أولها، وأخرجه أيضًا مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وأخرجه بقية السبعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد في كتاب الصلاة، وكذلك أخرجه الطحاوي، والبيهقي، وابن خزيمة في صحيحه، والبغوي في شرح السنة وغيرهم، فهو حديث مشهور متداول في الكتب, والفقهاء والمحدثون يسمون هذا الحديث: بحديث المسيء صلاته، فهو مشهور عندهم بحديث المسيء صلاته، وفي الحديث قصة في أوله عندهم, وهي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد, فدخل رجل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد, وقال: ارجع فصل؛ فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى, ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد, وقال: ارجع فصل؛ فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى ثلاثاً, ثم قال في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها، فعلمني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء, ثم استقبل القبلة فكبر, ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن, ثم اركع حتى تطمئن راكعاً, ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ) .. إلى آخر الحديث.

وهو حديث جليل عظيم, مشتمل على معظم أعمال الصلاة، من أقوال أو أفعال, ويعتبر من أهم الأحاديث الواردة في باب صفة الصلاة.

معاني ألفاظ الحديث

قوله: (جاء رجل) هذا الرجل هو خلاد بن رافع الزرقي الأنصاري، وهو صحابي معروف.

وقوله: (دخل رجل فصلى) هذه الصلاة يحتمل أن تكون فرضاً، ويحتمل أن تكون نفلاً، ولكن جاء في سنن النسائي : (دخل رجل فصلى ركعتين) وهذا يرجح أن الصلاة نافلة, ويحتمل أن تكون هذه الصلاة تحية المسجد.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ) إسباغ الوضوء هو تكميله, ولذلك جاء في لفظ: ( إذا قمت إلى الصلاة، فتوضأ كما أمرك الله, ثم تشهد وأقم ). وحينئذ يكون النبي صلى الله عليه وسلم شرع يبين ما يتعلق بالصلاة، الفريضة أو النافلة؟

يكون شرع صلى الله عليه وسلم يبين له ما يتعلق بالصلاة من فرض أو نفل، فإن الإقامة إنما تشرع للفريضة، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنها ). هذه رواية عند النسائي : ( إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله عز وجل, فيغسل وجهه ويديه، ويمسح برأسه ورجليه ). فبين صلى الله عليه وسلم تفصيل الوضوء, كما في هذه الرواية.

قوله عليه الصلاة والسلام: (فكبر), أي: قل: الله أكبر، والمقصود بالتكبيرة هذه تكبيرة الإحرام، وإنما سميت تكبيرة الإحرام؛ لأن الإنسان يدخل بها في الصلاة, كما قال صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير ). فيحرم عليه ما يحرم على المصلي من الأكل والشرب والكلام والضحك والحركة وغيرها, ولذلك سميت تكبيرة الإحرام.

والحديث ظاهر في أنه لابد في الدخول في الصلاة من التكبير, بلفظ: الله أكبر؛ لأنه سماه تكبيراً, فلا يكفي أن يقول: الله أعظم، أو الله أعلى وأجل, أو ما أشبه ذلك.

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً). جاء في رواية الإمام أحمد التي أشار إليها المصنف تفصيل الاطمئنان في الركوع، في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وأمدد ظهرك، ومكن لركوعك ). فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلقم يديه ركبتيه، ويمد ظهره, ويتمكن من ركوعه. فهذا معنى قوله: (حتى تطمئن راكعاً ).

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم ارفع ), يعني: من الركوع, ( حتى تعتدل قائماً ). الرواية الأخرى التي أشار إليها المصنف رواية ابن ماجه بدلاً من قوله: ( حتى تعتدل قائماً ) ذكر ( حتى تطمئن قائماً ). وقد عنى المصنف كما هو ظاهر بهذه الرواية، رواية ( حتى تطمئن قائماً). وهي عند ابن ماجه، وقد ساق الإمام مسلم في صحيحه إسنادها, ولكنه لم يسق اللفظ، ولذلك فهي على شرط مسلم، وكذلك جاءت اللفظة نفسها عند السراج في مسنده، بسند على شرط البخاري , حيث رواها الإمام السراج في مسنده، من طريق يوسف بن موسى، وهو أحد شيوخ البخاري , عن حماد بن أسامة , فساقها: ( حتى تطمئن قائماً ). وبذلك نستطيع أن نقول: إن رواية ( ثم ارفع ), يعني: من الركوع, ( حتى تطمئن قائماً ). أنها ثابتة بإسناد على شرط الشيخين، على شرط البخاري ومسلم، وهذا فيه رد على ما توهمه الإمام الجويني رحمه الله، حيث قال: في إثبات وجوب الاطمئنان بعد القيام من الركوع شيء؛ لأنه لم يذكره في حديث المسيء, فقد ظن الإمام الجويني رحمه الله أن الاطمئنان بعد الرفع من الركوع لم يرد في حديث المسيء، وتبين الآن أنه ورد في حديث المسيء بسند على شرط الشيخين, فما توهمه الجويني ليس بجيد.

حكم الطمأنينة في الصلاة

الحديث دليل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الرجل سرعته في الصلاة، ولم يعتبرها صلاة, بل قال: ( فإنك لم تصل ). ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ, ثم يركع مطمئناً, ثم يرفع مطمئناً, ثم يسجد مطمئناً، ثم يقعد مطمئناً, ثم يسجد مطمئناً, ثم يقعد للتشهد مطمئناً, ويفعل ذلك في صلاته كلها، فهو دليل على وجوب الطمأنينة في الصلاة، وهذا مذهب الجمهور, وجوب الطمأنينة في الصلاة هو مذهب الجمهور, هو مذهب الشافعية والإمام أحمد، وهو الصحيح في مذهب الإمام مالك رحمه الله, كما ذكره ابن عبد البر وغيره, وهو مذهب داود الظاهري وجماعة الفقهاء، يرون وجوب الطمأنينة في الصلاة، وأن الصلاة لا تجزئ بدون طمأنينة.

ويستدلون لذلك بأدلة كثيرة جداً, منها: حديث الباب، وقد بينت وجه الاستدلال به فيما سبق.

ومن الأدلة: حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: كيف يسرق من صلاته يا رسول الله؟! قال: لا يتم ركوعها، ولا سجودها، ولا خشوعها ). وحديث أبي قتادة هذا رواه الدارمي، والإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه وصححه، وهو حديث صحيح، وله شاهد أيضًا عند الطيالسي، والإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظه قريب منه، وله شاهد ثالث أيضاً عند الطيالسي، والطبراني في معجمه، والدارمي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. إذاً: لفظ: ( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته) ثابت عن طريق ثلاثة من الصحابة, هم: أبو قتادة وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو حديث صحيح.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها) واعتباره هذا سرقة من الصلاة، دليل على تحريم ذلك.

فإن السرقة كما هو معلوم من كبائر الذنوب، ولذلك توعد عليها العقوبة في الآخرة، والحد في الدنيا, فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الذي يسرق من صلاته أسوأ الناس سرقة.

الدليل الثالث من أدلتهم: حديث أبي مسعود الأنصارى البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجزئ صلاة رجل لا يقيم صلبه في الركوع، ولا في السجود ). وفي لفظ: ( لا صلاة لمن لا يقيم ). وهذا اللفظ أشهر. ( لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ). والحديث رواه أبو داود في سننه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والدارمي , فهو عند الخمسة، عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد , إضافة إلى من ذكرت, وصححه ابن خزيمة , وهو صحيح على شرط البخاري ومسلم، هو صحيح على شرطهما، ونسبه بعضهم إلى البخاري , كما فعل ابن قدامة في المغني فيما أظن، وهذا كأنه وهم، إنما رواه من ذكرت, وكذلك لحديث أبي مسعود رضي الله عنه شواهد, منها حديث علي بن شيبان الحنفي رضي الله عنه, بلفظ حديث الباب, ( لا صلاة لمن لا يقيم صلبه ). وحديثه عند الإمام أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن خزيمة , وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح, رجاله ثقات .. إلى آخر ما قال.

والمقصود بالصلب, ما هو الصلب؟ الصلب هو الظهر, فقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا صلاة لمن لا يقيم صلبه), أي: لمن لا يطمئن في ركوعه وسجوده.

فإن المقصود بإقامة الصلب -والله تعالى أعلم- الاطمئنان، وأنه لا يكفي أن تصل جبهتك إلى الأرض لتكون ساجداً، حتى تطمئن ساجداً، تمكث بعد وصول الجبهة إلى الأرض شيئاً ما, يكون صلبك استقام فيها للسجود، هذا هو الظاهر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة) دليل على تحريم ذلك، أي: عدم إقامة الصلب، فإن ظاهر قوله: (لا صلاة) أنه لا يجزئه إلا أن يفعل هذا، وهذا ما قاله الجمهور فيما يتعلق بوجوب الطمأنينة.

ومن الأدلة على وجوب الطمأنينة ما رواه البخاري وأحمد عن حذيفة رضي الله عنه: (أنه رأى رجلاً يصلي لا يطمئن في صلاته, فلما انصرف من صلاته قال له: ما صليت، ولو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم عليها). فلا شك أن هذا لا يقال إلا لمن ترك واجباً من واجبات الصلاة. فهذه أدلة الجمهور, ولهم أدلة أخرى كثيرة غير هذه.

القول الثاني في مسألة الطمأنينة في الصلاة: مذهب أبي حنيفة، فإن المشهور عند الحنفية عدم وجوب الطمأنينة، صرح بذلك كثير من مصنفيهم: أن الطمأنينة في الصلاة سنة, وإن كان كلام الإمام الطحاوي رحمه الله مشعر بعدم ذلك، فهو كالصريح في وجوب الطمأنينة عند الأحناف, فإنه نسب عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا: إن اعتدل راكعاً واطمأن ساجداً أجزأه ذلك, فكأن هذا اللفظ يشعر بأنهم يرون الوجوب، لكن المشهور في كتب فقهاء الحنفية عدم الوجوب.

ما هي أدلتهم على ذلك؟ ليس لهم في الواقع أدلة شرعية, إنما أدلتهم أصولية أو نظرية.

فمن أدلتهم: أنهم يقولون: إن الله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]. قالوا: فهذا نص متواتر، كما هو معلوم أن القرآن كله متواتر، قالوا: هذا نص متواتر يأمر بمطلق الركوع، ومطلق السجود، ومن دون إضافة صفة معينة إلى الركوع، أو إلى السجود، فإذا جاء في السنة إضافة صفة جديدة إلى الركوع، أو إلى السجود وأوجبناها، قالوا: معنى ذلك زدنا على المتواتر شيئاً بأحاديث آحاد ليست متواترة، وهذا لا يصلح في القاعدة عندهم, في بعض أصولهم: أنه لا يزاد على المتواتر بالآحاد.

ويجاب عن هذا الاستدلال الذي ذهبوا إليه بجوابين:

الجواب الأول أن يقال: إن هذا الذي ثبت في السنة من وجوب الطمأنينة ليس زيادة على المتواتر، بل هو بيان له، فإن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]. فجاءت السنة تبين لنا ما معنى الركوع، وما معنى السجود، أرأيت الصلاة حين يقول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43], ألم ترد السنة بتفصيل أحوال الصلاة من التكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والقعود، والسلام وغيرها؟ فتلقتها الأمة كلها بالقبول، سواء ما كان منها متواترًا، أو ما كان منها آحاداً؛ لأنها اعتبرت الذي جاء في السنة تفصيلاً، وبياناً لهذا المجمل الوارد في القرآن من قوله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]. فهكذا الحال في الركوع والسجود، فقوله: ارْكَعُوا [الحج:77] جاءت السنة في بيان صفة الركوع، وَاسْجُدُوا [الحج:77] جاءت السنة في بيان صفة السجود، فيجب العمل بما جاءت به السنة؛ لأنه داخل تحت قوله: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]. فهو تفصيل لهذا الإجمال.

الجواب الثاني: أننا نمنع القاعدة التي استدلوا بها، وهو أنه لا يزاد على المتواتر بالآحاد، فإن الآحاد عندنا حجة, وعند أكثر أهل العلم من السلف حجة, إذا ثبت إسناده وصح يعمل به في الفروع والأصول، ويجب العمل به إن كان واجباً، ويستحب إن كان مستحباً، المهم أنه يجب اعتبار أحاديث الآحاد، فليس صحيحاً أننا لا نعمل بالآحاد، ولو كان فيه زيادة على المتواتر, خاصة وأن هذه الزيادة ليست مخالفة أو منافية، بل هي كما سبق في النقطة الأولى بيان.

من أدلتهم: أنهم قالوا: إن هذا مخالف للسجود اللغوي, مخالف لمعنى السجود والركوع وغيرهما، من حيث اللغة, فإنه إذا قال: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77] فإن مجرد وضع الجبهة على الأرض يسمى سجوداً, ومجرد الانحناء يسمى ركوعاً. فقالوا: إن الزيادة على ذلك مخالفة لأصل المعنى اللغوي، وهذا أيضًا يقال فيه مثل ما يقال في الأول، أن الصلاة في اللغة: الدعاء, ومع ذلك نقلت في الشرع، أو أضيف إليها في الشرع معان جديدة لم تكن موجودة في اللغة, ولم يعرفها أهل اللغة الأولون, فكذلك الحال في هذا الموضع.

ولا شك أن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الطمأنينة في الصلاة، وأنه لا يجوز ولا تجزئ صلاة امرئ لا يطمئن في ركوعه، وسجوده، وقيامه، وقعوده، وقراءته.

فوائد الحديث

في حديث الباب فوائد كثيرة جداً كما أسلفت, أطال فيها وأطنب أهل العلم، وأكثروا من شرحه واستخراج فوائده, لكن نذكر بعض الفوائد الظاهرة، أو الفوائد اللطيفة التي تحتاج إلى استخراج وبيان. فمن فوائد الحديث: جواز تأخير البيان في المجلس للمصلحة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر البيان عن هذا الرجل، يعني لم يأمره أول مرة ويبين له الصلاة، بل أخر البيان مرة أخرى، ( ارجع فصل )، ثلاث مرات، فهو دليل على جواز تأخير البيان في المجلس الواحد للحاجة، ولماذا أخر النبي صلى الله عليه وسلم البيان في هذا المجلس، لماذا ما قال للرجل من أول مرة: صلاتك لا تجزئ، يجب أن تقرأ الفاتحة .. إلى آخره. لماذا أخر البيان عن أول وقت حاجته؟ الأول: حتى يكون عند الرجل تلهف وتطلع إلى معرفة الخطأ الذي وقع فيه، فإن هذا يشده إلى أن يعرف ما هو الخطأ الذي وقع فيه. الأمر الثاني: لعله أن يعدل الخطأ بنفسه, وهذا منهج نبوي عظيم في التربية والتعليم، وأحسن طريقة وأسلوب للتعليم: هو أن تشعر الإنسان بأنه أخطأ، وتجعله هو يحاول أن يكتشف الخطأ بنفسه؛ لأن الإنسان إذا اكتشف الخطأ بنفسه، فإنه يرسخ في ذهنه، وقلما يعود إليه مرة أخرى, لكنك إذا لقنته الصواب من أول مرة، فقد يعمل به أمامك، ولا يلتفت إليه أو لا يرسخ في ذهنه أو ينساه، لكن إذا اكتشف الخطأ بنفسه، فإنه يستقر ولا ينساه أبداً، ثم إن فيه تحريكاً لإمكانيات الإنسان، لقدرات الإنسان, لمواهبه التي أعطاه الله عز وجل، حتى يستثمرها في تصحيح أخطائه, سواء كان في العبادات .. أو في غيرها. أيضاً من مقاصده صلى الله عليه وسلم في تأخير البيان, هذا تبع الأول، هذا يدخل في الأول: أن يشد ذهنه لمعرفة الخطأ. قال بعض أهل العلم: إن من المقاصد حتى يتحقق النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الخطأ منه، ونوع الخطأ, بمعنى أنه قد يكون الرجل أخطأ أخطاء كثيرة، فمن أول مرة لحظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يلحظه، والصحابة حوله لا يشعرون بلحظ النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، فمن أول مرة قد يكون لاحظ بعض الأخطاء، فأحب أن يتأكد من بقيتها، ولذلك أمره بالرجوع. فهذه أهم المقاصد في تأخير البيان في نفس المجلس، عن أول وقت الحاجة. ومن فوائد الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والتربية, كما هو ظاهر، وحكمته تتجلى في أمور: الأول: أنه رد عليه السلام, كما في رواية البخاري

: ( فسلم فرد ). وقد توهم بعض أهل العلم؛ لأنه في بعض الروايات لم يذكر الرد، فتوهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الرد عليه، والواقع أنه ثبت في الرواية الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه السلام, ( ثم قال له: ارجع فصل )؛ وذلك لأن الرجل كان وقوعه في الخطأ عن جهل، فكان رد السلام عليه هو المناسب لحاله، بخلاف لو كان وقوعه في الخطأ عن عمد وإصرار وعلم، فهذا قد يحدث أن يهجره النبي صلى الله عليه وسلم تأديباً له، وزجراً عن فعله. كما يتجلى تعليمه صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ارجع فصل؛ فإنك لم تصل ). فإن الرجل حينئذ مثل ما يقولون بلغة العصر الحاضر: صار أمام مشكلة في الدنيا، وهي أنه صلى حقيقة من حيث الأمر, أنه ركع وسجد وكبر وقرأ, لكن النبي صلى الله عليه وسلم حكم عليه بأنه لم يصل، وهذا مدعاة إلى أن يفكر الإنسان: ما هي الصلاة إذن؟ وكيف يستطيع أن يصلي الصلاة التي يأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم, فهذه بداية أن يتعلم، لكن الرجل من شدة امتثاله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: كيف أصلي إذن، رجع وصلى على حسب استطاعته، (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[البقرة:286]. على حسب ما يستطيع, فلما تكرر أمره ثلاث مرات، قال بكل لباقة وحرص: ( والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني ). فاستدعى من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين له, وهذا هو ما كان يريده الرسول عليه الصلاة والسلام, يعني: زاد التطلع في نفس المتعلم والحرص والرغبة، حتى أعلن ذلك: ( لا أحسن غيرها فعلمني ). فلما طلب التعليم، دل هذا على أنه صار عنده تشوق ولهفة إلى معرفة صفة الصلاة الصحيحة, فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم. كما يتجلى حسن تعليمه وتربيته عليه الصلاة والسلام: بأنه بين للرجل ما يجب للصلاة قبلها, مثل: الوضوء, ومثل: الإقامة, ومثل: استقبال القبلة, وكذلك بين له أعمال الصلاة الواجبة في أثنائها من أقوال أو أفعال، فهذه كلها تدل على حسن أدبه، وحسن تعليمه صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث من الفوائد: بيان تفصيل أفعال الصلاة وما يجب لها؛ ولذلك قال ابن دقيق العيد

في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام قال: إن هذا الحديث يصلح أصلاً في إيجاب كل ما ذكر، يعني: لك أن تحتج على وجوب أي أمر ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته بهذا الحديث، تحتج بوجوبه على وجوبه بهذا الحديث، وتحتج على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في حديث المسيء في صلاته، بشرط أن تستقصي طرف الحديث ورواياته، ويضم بعضها إلى بعض، وقد فعل ذلك الحافظ ابن حجر

في فتح الباري، واستقصى روايات الحديث القوية وجمعها؛ ليبين من خلالها كل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به المسيء في صلاته. ووافق ابن دقيق العيد

على هذه القاعدة, أن كل ما ذكر في حديث المسيء فهو واجب، وكل ما لم يذكر فهو ليس بواجب، وافقه على ذلك كثير من أهل العلم, منهم الشوكاني

كما في نيل الأوطار، والسيل الجرار، ومنهم الصنعاني

كما في سبل السلام، وربما ابن حجر

يدل كلامه على شيء من ذلك, وغيرهم كثير ممن نقلوه ووافقوا عليه، وكذلك الصنعاني

في العدة، وافقه على ذلك. لكن قد يقول بعضهم: بأن كلام ابن دقيق العيد

أن كل ما ذكر في حديث المسيء فهو واجب، وكل ما لم يذكر فليس بواجب فيه نظر؛ وذلك لأنه لم يذكر أشياء كما قال بعضهم, منها: النية، هل ذكر النية فيه مع إجماع العلماء على وجوبها وشرطيتها؟ هل ذكر النية في حديث المسيء صلاته؟ نعم، ذكرها، هذا ابن حجر

قال: لم يذكر النية, لكن الواقع أنه قد تؤخذ من قوله: ( إذا قمت إلى الصلاة )، فإن النية هي لا تعني أكثر من القيام بنية قصد الصلاة, فقوله: ( قمت إلى الصلاة ) مشعر بأنه قام قاصداً الصلاة، فهي تتضمن النية إذن, وهذا أشار إليه الصنعاني

في حواشيه على العمدة. وكذلك من الأشياء التي لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء: التشهد الأخير مع أنه واجب, وكذلك السلام لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مع أنه واجب, لكن هذه الأشياء نقول: تجب بأدلة أخرى، وهناك من ذهب إلى عدم الوجوب. من الأشياء التي أمره بها النبي صلى الله عليه وسلم وليست بواجبة، الآن كأننا نقول فيما سبق من الكلام، هناك أشياء لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولم يبينها له مع أنها واجبة، كالنية عند من ظن أنها لم تذكر, والتشهد الأخير, والسلام. الآن نقول: الفاتحة قد تدخل في قوله: ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ). على كل حال موضوع الفاتحة سيأتي. طيب، حتى الفاتحة مذكورة في بعض الروايات أيضًا، لأننا نحن الآن نتكلم عن اللفظ الموجود أمامكم, نتكلم عن مجموع روايات الحديث بعد جمعها, فالفاتحة مذكورة في بعض الروايات أيضًا, مع أنه سيأتي الكلام عنه في الجلسة القادمة إن شاء الله تعالى. الكلام الثاني الذي سنقوله الآن: أن هناك أشياء ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وأمره بها مع أنها ليست بواجبة, مثل ماذا؟ مثل: إسباغ الوضوء، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء )، هل يجب الوضوء لكل صلاة، كلا، لا يجب الوضوء إلا من حدث، فقوله: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ) كقوله تعالى: (( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ))[المائدة:6]. ظاهرة والله تعالى أعلم أنه الوضوء المستحب عند كل صلاة، وقد يقال غير هذا، لكن هذا من باب الإحاطة بكل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. من الأشياء أيضًا التي أمره بها النبي صلى الله عليه وسلم وليست بواجبة دعاء الاستفتاح. نعم، في الروايات الأخرى، في رواية: ( ويثني عليه )، فهذا يحتمل أن يكون؛ لأن بعضهم قالوا: هذا قد يعني الأذان والإقامة والتكبير، وبعضهم قالوا: إن المقصود به دعاء الاستفتاح، فإن كان دعاء الاستفتاح، فهو دليل أيضاً على أنه ليس كل ما ذكر واجباً, ولم يقل بوجوب دعاء الاستفتاح إلا نفرٌ قليل من متأخري الفقهاء، والصحيح عند الجماهير إلى أنه ليس بواجب. على كل حال مسألة الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وليست بواجبة, من أظهرها وأقواها أشياء لم يذكرها المصنف في اللفظ الذي ساقه، من ذلك مثلاً في رواية الإمام أحمد

التي أشار إليها ولم يسق لفظها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى )، يعني: من السجود. وفي رواية أخرى: ( فإذا جلست في وسط الصلاة -يعني: جلسة التشهد- فاطمئن جالساً، ثم افترش فخذك اليسرى، ثم تشهد ). فالآن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفترش فخذه اليسرى، فهل يجب أن يفترش فخذه اليسرى؟ ليس بواجب، افتراش الفخذ اليسرى ليس بواجب, ولم يقل أحد فيما أعلم بوجوبه، ومع ذلك أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. على كل حال الظاهر والله تعالى أعلم أن معظم ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث واجب أو كله، ومعظم ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بواجب, ولا يثبت خلاف ذلك إلا بدليل ظاهر، فإنه إذا ثبت دليل آخر، فإنه يقضي على دلالة هذا الحديث, خاصة إذا كانت دلالة سلبية, بمعنى أننا نقول: وإن لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فقد ذكره في غيره من الأحاديث. من فوائد الحديث: استحباب الوضوء لكل صلاة، كما أشرت إليه. ومن فوائده: وجوب استقبال القبلة, وهو شرط وسبق بيانه. ومن فوائده: وجوب قراءة القرآن في الصلاة, خاصة سورة الفاتحة، وسيأتي تفصيل هذا الحكم في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

قوله: (جاء رجل) هذا الرجل هو خلاد بن رافع الزرقي الأنصاري، وهو صحابي معروف.

وقوله: (دخل رجل فصلى) هذه الصلاة يحتمل أن تكون فرضاً، ويحتمل أن تكون نفلاً، ولكن جاء في سنن النسائي : (دخل رجل فصلى ركعتين) وهذا يرجح أن الصلاة نافلة, ويحتمل أن تكون هذه الصلاة تحية المسجد.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ) إسباغ الوضوء هو تكميله, ولذلك جاء في لفظ: ( إذا قمت إلى الصلاة، فتوضأ كما أمرك الله, ثم تشهد وأقم ). وحينئذ يكون النبي صلى الله عليه وسلم شرع يبين ما يتعلق بالصلاة، الفريضة أو النافلة؟

يكون شرع صلى الله عليه وسلم يبين له ما يتعلق بالصلاة من فرض أو نفل، فإن الإقامة إنما تشرع للفريضة، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنها ). هذه رواية عند النسائي : ( إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله عز وجل, فيغسل وجهه ويديه، ويمسح برأسه ورجليه ). فبين صلى الله عليه وسلم تفصيل الوضوء, كما في هذه الرواية.

قوله عليه الصلاة والسلام: (فكبر), أي: قل: الله أكبر، والمقصود بالتكبيرة هذه تكبيرة الإحرام، وإنما سميت تكبيرة الإحرام؛ لأن الإنسان يدخل بها في الصلاة, كما قال صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير ). فيحرم عليه ما يحرم على المصلي من الأكل والشرب والكلام والضحك والحركة وغيرها, ولذلك سميت تكبيرة الإحرام.

والحديث ظاهر في أنه لابد في الدخول في الصلاة من التكبير, بلفظ: الله أكبر؛ لأنه سماه تكبيراً, فلا يكفي أن يقول: الله أعظم، أو الله أعلى وأجل, أو ما أشبه ذلك.

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً). جاء في رواية الإمام أحمد التي أشار إليها المصنف تفصيل الاطمئنان في الركوع، في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وأمدد ظهرك، ومكن لركوعك ). فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلقم يديه ركبتيه، ويمد ظهره, ويتمكن من ركوعه. فهذا معنى قوله: (حتى تطمئن راكعاً ).

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم ارفع ), يعني: من الركوع, ( حتى تعتدل قائماً ). الرواية الأخرى التي أشار إليها المصنف رواية ابن ماجه بدلاً من قوله: ( حتى تعتدل قائماً ) ذكر ( حتى تطمئن قائماً ). وقد عنى المصنف كما هو ظاهر بهذه الرواية، رواية ( حتى تطمئن قائماً). وهي عند ابن ماجه، وقد ساق الإمام مسلم في صحيحه إسنادها, ولكنه لم يسق اللفظ، ولذلك فهي على شرط مسلم، وكذلك جاءت اللفظة نفسها عند السراج في مسنده، بسند على شرط البخاري , حيث رواها الإمام السراج في مسنده، من طريق يوسف بن موسى، وهو أحد شيوخ البخاري , عن حماد بن أسامة , فساقها: ( حتى تطمئن قائماً ). وبذلك نستطيع أن نقول: إن رواية ( ثم ارفع ), يعني: من الركوع, ( حتى تطمئن قائماً ). أنها ثابتة بإسناد على شرط الشيخين، على شرط البخاري ومسلم، وهذا فيه رد على ما توهمه الإمام الجويني رحمه الله، حيث قال: في إثبات وجوب الاطمئنان بعد القيام من الركوع شيء؛ لأنه لم يذكره في حديث المسيء, فقد ظن الإمام الجويني رحمه الله أن الاطمئنان بعد الرفع من الركوع لم يرد في حديث المسيء، وتبين الآن أنه ورد في حديث المسيء بسند على شرط الشيخين, فما توهمه الجويني ليس بجيد.