شرح زاد المستقنع باب الخيار [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والملك مدة الخيارين للمشتري]:

شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان بعض الأمور المترتبة على خيار المجلس، وخيار الشرط، ومن ذلك:

مسألة ملكية المبيع، فإذا وقع خيار الشرط، أو وقع خيار المجلس، فهل هذا المبيع يكون في مدة الخيار ملكاً للبائع أو ملكاً للمشتري.

والسبب في هذا: أنه لو باع إنسان سيارة مثلاً لرجل آخر، وقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإن قوله: (بعتك بعشرة آلاف) إيجاب، وقول المشتري: (قبلت)، قبول، والعقد مركب من الإيجاب والقبول، فمعناه أن الأصل يقتضي أنه قد تم البيع، ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى وتيسيره على خلقه أن جعل الخيار للمتعاقدين مدة جلوسهما.

فكأن الأصل يقتضي أن البيع قد وجب، وأن الملكية قد انتقلت إلى المشتري، فكما أن البائع قد ملك الثمن كذلك المشتري قد ملك المثمن؛ لأنه قال: بعتك، وقال الآخر: اشتريت، وقد قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فالأصل يقتضي أن صدور الإيجاب والقبول من الأهل في المحل القابل يتم به العقد، ولكن الخيار جعل فسحة من الله جل وعلا للبائع والمشتري، ولا يتركب إلا على عقد صحيح، فإذا صح عقد البيع لحقه الخيار والمهلة، ومدة الخيار والنظرة لا تقتضي بطلان العقد، ولذلك يقول بعض العلماء: الملك في مدة الخيار للمشتري كما اختاره المصنف وطائفة.

والمُلك والمِلك والمَلك مثلث الميم، وكله صحيح.

وقوله: [مدة الخيارين] أي: ما داما في فسحة الخيارين والخياران هما خيار المجلس وخيار الشرط، فأنت إذا قلت لرجل: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف وأنتما في المجلس، فقال: قبلت، وقلنا: بخيار المجلس، فإن الملك مدة جلوسكما في المجلس للمشتري وليس للبائع.

كذلك في خيار الشرط لو قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، ثم اشترط وقال: قبلت على أنني بالخيار ثلاثة أيام، فإن الملك في هذه المدة للمشتري ومعنى ذلك أن العقد صحيح، فإنا لا نحكم بخيار على عقد فاسد؛ لأن الخيار إنما يكون في عقد صحيح ماض قد أوجبه المتعاقدان، ولذلك نبه المصنف رحمه الله بهذه الجملة على أن العقد قد تم، وأن نظرة الخيار لا تقتضي إلغاء العقد الأول بين المتعاقدين.

ملكية النماء المنفصل والمتصل بالمبيع

قال رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل وكسبه]:

[وله] أي: للمشتري، [نماؤه] الضمير عائد إلى المبيع، [المنفصل] أي: دون المتصل.

أصل النماء الزيادة، يقال: نما الزرع إذا زاد وكثر، والنماء يكون في المحسوسات ويطلق في المعنويات، والعلماء رحمهم الله يقولون: نماء المبيع المتصل، ونماء المبيع المنفصل، وهي عبارة يذكرونها في كتاب البيع، وتختلف الأحكام بحسب اختلاف النوعين من النماء.

فالنماء المتصل: هو الذي لا ينفك عن المبيع، مثال ذلك: لو باعك رجل فرساً أو ناقة أو شاة، وكانت هذه الناقة كانت هزيلة حينما اشتريتها منه ثم اعتنيت بها وعلفتها، أو كانت سقيمة فسعيت في علاجها فشفيت بإذن الله عز وجل، فمعنى ذلك أن وضعها سيختلف، وأن حالها سيرتقي إلى الأحسن والأكمل، فلما أحسنت القيام على البعير، والقيام على الفرس، والقيام على الشاة، نمت وازداد حجمها، فحينئذ نقول: هذا نماء متصل؛ لأنه لا يمكنك أن تزيل السمن الذي في الدابة عنها، ولا يمكنك أن تزيل هذا الاستحسان الذي طرأ في بدنها عنها، فهو متصل بها، ولا يمكن فكاكه عنها.

والنماء المنفصل عن المبيع، كرجل يبيعك البستان وله ثمر، فإن هذا الثمر يجنى وينفصل عن المبيع، أو يبيعك ناقة عشراء، أو بقرة أو شاة حاملاً، فإنه بعد مدة قد تضع هذه الناقة أو البقرة أو الشاة حملها، فينفصل النماء عنها.

فيقسم العلماء رحمهم الله النماء في المبيعات إلى قسمين: النماء المتصل والنماء المنفصل.

والسبب في هذا اختلاف الحكم، وتعذر الاستيفاء في أحد النماءين دون الآخر، ولذلك يختلف الحكم في النماء بحسب اختلاف نوعية النماء.

أما سبب ذكر المصنف لهذه المسألة: فلأنك تقول: إن خيار الشرط جائز ومشروع، فلو أن رجلاً اشترى شاة وهي حامل على أن له الخيار شهراً، وفي أثناء الشهر ألقت هذه الشاة ما في بطنها فولدت، فهذا النماء كان متصلاً بالمبيع، ثم أصبح منفصلاً عنه، فحينئذ يرد السؤال: ما حكم هذه الزيادة لو رد المبيع؟ هل يرد المشتري الشاة فقط؛ لأن العقد إنما كان على الشاة فقط، أم أنه يرد الشاة وولدها؛ لأنه باعه الشاة وفيها الولد؟

كذلك أيضاً ربما اشترى منه شاة وهي ضعيفة هزيلة، فقال له: بعتك هذه الشاة بخمسمائة، فأخذت الشاة، ثم قلت: لي الخيار شهراً.. أو لي الخيار أسبوعين، ففي مدة الخيار كنت تحلبها وتشرب من لبنها، ثم رجعت وقلت: لا أريد، فهو يقول لك: أنت استفدت من شاتي، واللبن الذي فيها تابع لعقد بيعنا، فما دمت لا تريد الشاة فأعطني قيمة اللبن الذي شربته، وأنت إذا جئت تتأمل تقول: من حقه أن يقول هذا الكلام مبدئيا،ً وله وجه؛ لأن الصفقة إنما كانت على المبيع، وهذا المبيع منه نتاج فينبغي أن يرد المبيع ونتاجه، أو يرد المبيع ويضمن النتاج، ففي هذه الحالة يكون الحق للبائع.

وقد يكون الحق للمشتري، كأن تشتري الناقة هزيلة، فتردها سمينة، وتقول له: يا أخي! قد بعتني هذه الناقة وهي هزيلة ضعيفة، وأوجبنا البيع على مبيع بهذه الصفة الناقصة، وقد اعلفتها وأحسنت القيام عليها، أو داويتها وعالجتها فأعطني حقي ما دمت لا تريد إمضاء البيع، وهذا مما تقع فيه الخصومات والنزاعات بين طرفي العقد (البائع والمشتري) إذا اختار أحدهما في خيار الشرط عدم إمضاء الصفقة.

ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بهذه المسألة، ومن دقة الفقهاء أنهم إذا ذكروا الحكم ذكروا ما يترتب عليه من مسائل، واعتنوا بما يترتب عليه من مشاكل؛ لأن طالب العلم يحتاج الفقه للفتوى ويحتاجه للقضاء والفصل في الخصومات، فمن هنا يرد السؤال: إذا كان النماء متصلاً أو كان النماء منفصلاً فهو لمن؟

فقال المصنف رحمه الله: [وله] الضمير عائد إلى المشتري، [نماؤه] أي: نماء المبيع يكون للمشتري دون البائع.

[المنفصل] مفهوم ذلك أن المتصل يكون للبائع؛ لأنه يرده، يرد المبيع بحالة أكمل، فقوله رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل] أي: للمشتري، وعند العلماء في المتون الفقهية شيء يسمى: مفهوم الصفات أو مفاهيم المتون الفقهية.

وهنا لما قال: [وله نماؤه المنفصل] مفهومه أن للبائع النماء المتصل؛ لأن السلعة تعاد إلى البائع، فقابل رحمه الله المنطوق بالمفهوم، فمنطوق العبارة: للمشتري نماء المبيع المنفصل، ومفهومها: وللبائع نماء المبيع المتصل، إذا ألغيا الصفقة، فأعيد المبيع للبائع؛ لأنه لا يمكن فكه عنه بحال، وكذلك العكس.

[وله نماؤه المنفصل وكسبه]

أي: للمشتري في مدة الخيار أن ينتفع بالنماء والزيادة الموجودة في المبيع منفصلة عنه، فيشمل اللبن إذا كان يحلب الشاة، أو يحلب الناقة أو يحلب البقرة؛ لأن هذا الحليب يكون نماءً منفصلاً ملكاً للمشتري دون البائع.

وكذلك (كسبه)، وهو يكون من نتاج ينتفع به ويرتفق، ولو جز صوفها أو نحو ذلك مما ينتفع به كالثمرة الموجودة في البستان، فإنها تكون للمشتري، إذا استفاد منها أثناء مدة الخيار.

لكن لو أن المشتري لم يجز الثمرة، ولم يتصرف بها، وأعاد المبيع كما هو، ثم قال: سآخذ هذا النماء؟ فيقال له: إنما كان لك قبل أن يتبين أن البائع لا يريد البيع، أما وقد تبين أن البائع يريد البيع، فحينئذ ليس لك من النماء المنفصل شيئاً.

قال رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل وكسبه]:

[وله] أي: للمشتري، [نماؤه] الضمير عائد إلى المبيع، [المنفصل] أي: دون المتصل.

أصل النماء الزيادة، يقال: نما الزرع إذا زاد وكثر، والنماء يكون في المحسوسات ويطلق في المعنويات، والعلماء رحمهم الله يقولون: نماء المبيع المتصل، ونماء المبيع المنفصل، وهي عبارة يذكرونها في كتاب البيع، وتختلف الأحكام بحسب اختلاف النوعين من النماء.

فالنماء المتصل: هو الذي لا ينفك عن المبيع، مثال ذلك: لو باعك رجل فرساً أو ناقة أو شاة، وكانت هذه الناقة كانت هزيلة حينما اشتريتها منه ثم اعتنيت بها وعلفتها، أو كانت سقيمة فسعيت في علاجها فشفيت بإذن الله عز وجل، فمعنى ذلك أن وضعها سيختلف، وأن حالها سيرتقي إلى الأحسن والأكمل، فلما أحسنت القيام على البعير، والقيام على الفرس، والقيام على الشاة، نمت وازداد حجمها، فحينئذ نقول: هذا نماء متصل؛ لأنه لا يمكنك أن تزيل السمن الذي في الدابة عنها، ولا يمكنك أن تزيل هذا الاستحسان الذي طرأ في بدنها عنها، فهو متصل بها، ولا يمكن فكاكه عنها.

والنماء المنفصل عن المبيع، كرجل يبيعك البستان وله ثمر، فإن هذا الثمر يجنى وينفصل عن المبيع، أو يبيعك ناقة عشراء، أو بقرة أو شاة حاملاً، فإنه بعد مدة قد تضع هذه الناقة أو البقرة أو الشاة حملها، فينفصل النماء عنها.

فيقسم العلماء رحمهم الله النماء في المبيعات إلى قسمين: النماء المتصل والنماء المنفصل.

والسبب في هذا اختلاف الحكم، وتعذر الاستيفاء في أحد النماءين دون الآخر، ولذلك يختلف الحكم في النماء بحسب اختلاف نوعية النماء.

أما سبب ذكر المصنف لهذه المسألة: فلأنك تقول: إن خيار الشرط جائز ومشروع، فلو أن رجلاً اشترى شاة وهي حامل على أن له الخيار شهراً، وفي أثناء الشهر ألقت هذه الشاة ما في بطنها فولدت، فهذا النماء كان متصلاً بالمبيع، ثم أصبح منفصلاً عنه، فحينئذ يرد السؤال: ما حكم هذه الزيادة لو رد المبيع؟ هل يرد المشتري الشاة فقط؛ لأن العقد إنما كان على الشاة فقط، أم أنه يرد الشاة وولدها؛ لأنه باعه الشاة وفيها الولد؟

كذلك أيضاً ربما اشترى منه شاة وهي ضعيفة هزيلة، فقال له: بعتك هذه الشاة بخمسمائة، فأخذت الشاة، ثم قلت: لي الخيار شهراً.. أو لي الخيار أسبوعين، ففي مدة الخيار كنت تحلبها وتشرب من لبنها، ثم رجعت وقلت: لا أريد، فهو يقول لك: أنت استفدت من شاتي، واللبن الذي فيها تابع لعقد بيعنا، فما دمت لا تريد الشاة فأعطني قيمة اللبن الذي شربته، وأنت إذا جئت تتأمل تقول: من حقه أن يقول هذا الكلام مبدئيا،ً وله وجه؛ لأن الصفقة إنما كانت على المبيع، وهذا المبيع منه نتاج فينبغي أن يرد المبيع ونتاجه، أو يرد المبيع ويضمن النتاج، ففي هذه الحالة يكون الحق للبائع.

وقد يكون الحق للمشتري، كأن تشتري الناقة هزيلة، فتردها سمينة، وتقول له: يا أخي! قد بعتني هذه الناقة وهي هزيلة ضعيفة، وأوجبنا البيع على مبيع بهذه الصفة الناقصة، وقد اعلفتها وأحسنت القيام عليها، أو داويتها وعالجتها فأعطني حقي ما دمت لا تريد إمضاء البيع، وهذا مما تقع فيه الخصومات والنزاعات بين طرفي العقد (البائع والمشتري) إذا اختار أحدهما في خيار الشرط عدم إمضاء الصفقة.

ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بهذه المسألة، ومن دقة الفقهاء أنهم إذا ذكروا الحكم ذكروا ما يترتب عليه من مسائل، واعتنوا بما يترتب عليه من مشاكل؛ لأن طالب العلم يحتاج الفقه للفتوى ويحتاجه للقضاء والفصل في الخصومات، فمن هنا يرد السؤال: إذا كان النماء متصلاً أو كان النماء منفصلاً فهو لمن؟

فقال المصنف رحمه الله: [وله] الضمير عائد إلى المشتري، [نماؤه] أي: نماء المبيع يكون للمشتري دون البائع.

[المنفصل] مفهوم ذلك أن المتصل يكون للبائع؛ لأنه يرده، يرد المبيع بحالة أكمل، فقوله رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل] أي: للمشتري، وعند العلماء في المتون الفقهية شيء يسمى: مفهوم الصفات أو مفاهيم المتون الفقهية.

وهنا لما قال: [وله نماؤه المنفصل] مفهومه أن للبائع النماء المتصل؛ لأن السلعة تعاد إلى البائع، فقابل رحمه الله المنطوق بالمفهوم، فمنطوق العبارة: للمشتري نماء المبيع المنفصل، ومفهومها: وللبائع نماء المبيع المتصل، إذا ألغيا الصفقة، فأعيد المبيع للبائع؛ لأنه لا يمكن فكه عنه بحال، وكذلك العكس.

[وله نماؤه المنفصل وكسبه]

أي: للمشتري في مدة الخيار أن ينتفع بالنماء والزيادة الموجودة في المبيع منفصلة عنه، فيشمل اللبن إذا كان يحلب الشاة، أو يحلب الناقة أو يحلب البقرة؛ لأن هذا الحليب يكون نماءً منفصلاً ملكاً للمشتري دون البائع.

وكذلك (كسبه)، وهو يكون من نتاج ينتفع به ويرتفق، ولو جز صوفها أو نحو ذلك مما ينتفع به كالثمرة الموجودة في البستان، فإنها تكون للمشتري، إذا استفاد منها أثناء مدة الخيار.

لكن لو أن المشتري لم يجز الثمرة، ولم يتصرف بها، وأعاد المبيع كما هو، ثم قال: سآخذ هذا النماء؟ فيقال له: إنما كان لك قبل أن يتبين أن البائع لا يريد البيع، أما وقد تبين أن البائع يريد البيع، فحينئذ ليس لك من النماء المنفصل شيئاً.

قال رحمه الله: [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع، وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر بغير تجربة المبيع إلا عتق المشتري]:

حكم التصرف في المبيع مدة الخيار

قوله: (ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع)

هذه مسألة ثانية تتركب على مدة الخيار، فالآن حينما يبيع البيت، أو يبيع العمارة أو يبيع الحيوان أو يبيع المزرعة، ويكون الخيار للمشتري شهراً، أو شهرين، أو ثلاثة، ففي هذه الحالة خاصة إذا كانت المدة طويلة كالشهر والشهرين، بل حتى الأسابيع، يكون المبيع -سواء كان من العقارات أو المنقولات- محبوساً على الصفقة، فلا يتصرف لا البائع ولا المشتري، لا يتصرف البائع لأنه قد أخرج المبيع عن ذمته بعقد البيع، ولا يتصرف المشتري في المبيع لأن هذا العقد معلق، فحينئذٍ اتفق الطرفان على شرط بينهما، والمسلمون على شروطهم، فينبغي أن يفي كل منهما للآخر، فلو أنه قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال له المشتري: قبلت، على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإن الصفقة التي هي السيارة لا يجوز للبائع أن يبيعها لطرف ثانٍ؛ لأن الطرف الأول قد رضي بالصفقة، ولا يجوز للمشتري أن يتصرف ببيع هذه السيارة أو هبتها أو أي من التصرفات حتى تتم مدة الخيار، ويمضي الشرط على صورته، فإذا مضت مدة الخيار وتم الشرط بينهما على ما اتفقا عليه، فكل منهما وشأنه فإن كان تمت الصفقة فالمبيع ملك للمشتري، وإن لم تتم الصفقة فالمبيع ملك للبائع، أما أن يتصرف أحدهما مثلاً: لو أنه باعه عمارة، فقال له: بعتك هذه العمارة بمائة ألف أو بمليون، قال: قبلت، قال: ولي الخيار شهراً، فربما جاء قبل نهاية الشهر وقال: لا أريد، وربما جاء الشهر، ومضى وتم، والمشتري يريد الصفقة، فحينئذٍ لو جاء البائع يبيع، ربما باع والمشتري يرغب الصفقة، وكذلك لو جاء المشتري يبيع ويتصرف ربما تصرف والبائع لا يريد إمضاء الصفقة، فتصرف أحد الطرفين في المبيع ببيعٍ أو هبةٍ أو عتقٍ كما يقع في العبيد، أو ذبح الشاة أو نحر الناقة كل هذا مخالف للشرط الذي بين المتعاقدين، والله أمرنا بالوفاء بالشروط، وأمرنا أن يفي المسلم لأخيه المسلم، فليس من الذمة والعهد بين المسلمين أن يخفر المسلم أخاه، فيقول له: بعتك هذه السيارة على أن لي الخيار يوماً أو أسبوعاً، فيتصرف بالصفقة قبل تمام هذا الشرط الذي بينهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، وهو يتعاقد مع المشركين بالشرط: (بل نفي لهم، ونستعين الله عليهم) فإذا كان هذا بين المسلم والكافر، فكيف بين المسلم والمسلم، فحينئذٍ ينبغي لكلا الطرفين أن يعظم الشروط، وعليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، فنحن لم نبع المبيع بيعاً، فلم نبع البيت ولا السيارة، ولا الأرض ولا المزرعة إلا معلقة على شرط، فينبغي أن يفي البائع للمشتري بإعطائه المهلة والنظرة ويفي المشتري للبائع بإعطائه المهلة والمدة، فكل منهم عليه الوفاء، والله تعالى قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وهذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم، فقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يلزم المسلم أن يفي لأخيه المسلم بما تضمنه العقد، فالعقد الذي بين البائع والمشتري إنما هو عقد معلق بشرط معين، ولا بد من وفاء كل منهم به للآخر، وعلى هذا: لا يجوز أن يتصرف البائع ببيع المبيع أو هبته، أو عتقه ولا يجوز للمشتري أيضاً أن يقول: أنا اشتريت وأعطيت المال، إذاً أبيع وأهب، وأعتق، نقول: لا، لا يجوز لك لأنك أنعمت بيعاً معلقاً، فوجب عليك أن تنتظر هل يئول هذا البيع إلى البت فتتصرف، أو يئول إلى القطع وعدم الإمضاء فترد الحقوق إلى أهلها؛ لأنه من الشرط، والعقد بينكما معلق على هذا الخيار، فيجب على كل واحد منكما أن يفي للآخر على هذا الوجه.

[وعوضه المعين فيها]:

وهذه الجملة صدَّرها المصنف رحمه الله بقوله: [ويحرم ولا يصح].

أما (يحرم) فإن من يقدم على التصرف في المبيعات في مدة الخيار، بائعاً كان أو مشترياً فإنه معتد لحدود الله عز وجل؛ لأنه ظلم أخاه المسلم، فمثلاً: إذا كان البائع والمشتري في مجلس واحد، فقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقبل وأعطاه العشرة آلاف، وتم العقد بينهما، فالله قد جعل لكل منهما أن ينظر ما داما جالسين، فلو قال المشتري: يا فلان -يخاطب غيره- اشترِ مني هذه السيارة بأحد عشر ألفاً، فلا يجوز؛ لأنه لم يفترق عن أخيه حتى يتم البيع الأول. فالمعنى أنه يحرم ولا يصح في مدة الخيار تصرف أحد المتعاقدين بائعاً كان أو مشترياً؛ لأنه يخالف شرع الله عز وجل، فنص المصنف أولاً على الحرمة؛ لأنه ليس من شيمة المسلم أن يكذب على أخيه المسلم وليس من شيمته أن يغشه، ويختله أو يخدعه في بيعه فيقول له: بعتك، ويقول الآخر: اشتريت على أن لي الشرط ويتم البيع بينهما بشرط، فيتصرف قبل تمام الشرط بل على كل منهما أن يتم للآخر شرطه.

وجمع المصنف بين (يحرم ولا يصح)؛ لأنه في بعض الأحيان قد يحرم الشيء ويصح البيع، مثلاً: البيع بعد آذان الجمعة الثاني حرام ولكنه صحيح عند جمهور العلماء؛ لأن الأركان تامة والشروط تامة، وجاء النهي من جهة الوقت والزمان، فهو ليس براجع إلى ذات البيع وإلى ما هو متعلق بعين المبيع ثمناً كان أو مثمناً، فأوجب الصحة.

وعلى هذا يقولون: يأثم والبيع صحيح، فيأثم لأنه باع في وقت لا يأذن الشرع بالبيع فيه، والبيع صحيح لأنه تام الشروط تام الأركان.

فعلى قوله: (يحرم ولا يصح) فإنه إذا تصرف فباع العمارة قبل تمام الشرط فسخ البيع الثاني، ولو تصرف بالعمارة فوهبها لغيره، فسخت هبته ولم تصح، والحكم للبيع الأول، فإما أن يمضي، وإما أن يلغي على حسب ما اتفق عليه المتعاقدان.

حكم التصرف في الثمن المعين مدة الخيار

قوله رحمه الله: [وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر]:

(فيها) أي: في صفقة البيع.

سبق في أول كتاب البيع معنى المبيع المعين، والمبيع المعين: أن تقع الصفقة على عين المبيع، فمثلاً: بعتك هذا الكتاب، فإذا قال: بعتك هذا الكتاب، فقد تعين، فلا يصح أن يأتي بكتاب ولو كان مثله وشبيهه تماماً؛ لأن البيع وقع على معين، ولا بد أن يكون الإمضاء على هذا المعين الذي اتفقا عليه؛ لأنه خصص البيع به، فليس بيعاً على موصوف في الذمة، وإنما هو بيع على حاضر أو على معين، فحينئذٍ يلتزم الطرفان بهذا الشيء المعين، فلا يجوز أن يتصرف أحدهما فيه في مدة الخيار.

فمثلاً: لو قال له: بعتك هذا الكتاب بهذه العشرة، على أن لي الخيار يوماً، فيحفظ العشرة بعينها، فإن كانت برأسها -كما يقولون- حفظها برأسها، وإن كانت من فئة الخمسة يحفظ الخمستين بعينهما، ولا يتصرف في عين العشرة فيردها مصروفة مثلاً.

ولو قال لك: بعني هذا القلم بهذه العشرة، فلما قال لك: بعني هذا القلم بهذه العشرة، فالعشرة تعينت، فلو أنك أثناء المجلس، أخذت العشرة ووضعتها وأردت أن تشتري بها شيئاً آخر، فقال لك: يا أخي هذه العشرة عليها خيار، فقلت: سأرد مثلها، نقول: لا يجوز؛ لأن البيع وقع على عينها.

وهذا يدل على دقة الشريعة الإسلامية وحفظها حتى لألفاظ المتبايعين، وهذا يدل أيضاً على أن الشريعة تريد أن تنصف كلاًّ من البائع والمشتري في حقه، لماذا؟

لأني لو قلت: بعتك بهذه العشرة، فمعناه أنها بعينها، فإن كانت مصروفة فمصروفة، وإن كانت غير مصروفة وكانت كاملة برأسها فهي كاملة؛ لأنها إذا كانت كاملة برأسها فصرفها فيه مشقة، والعكس:

فحينما يقع البيع على شيء معين، ينبغي أن يتقيد بذلك الشيء المعين، ولذلك لو جئت إلى (الصيدلية) مثلاً وقلت له: بكم تبيعني هذا الدواء، قال: أبيعك إياه بعشرة ريالات، فأعطيته العشرة ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً، فجئت ترده قال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولا أرد لك المال، فليس من حقه؛ لأن البيع وقع على معين، ولم يقع على موصوف في الذمة، لكن لو أعطيته الورقة التي فيها وصفة الطبيب فالتزم أن يحضر لك ما تنطبق عليه صفات هذه الوصفة، فقد وقع البيع على موصوف في الذمة.

وبناءً على هذا: إذا وقعت الصفقة بين المتبايعين على شيء معين، ينبغي أن يرد العين، ولا يتصرف في عينه؛ لأن بعض الأشياء إذا عينت وحددت وجاء الشخص ببدل عنها، لم يرض الناس بالبدل، ولو كان مثله.

فهو مثلاً يريد هذا الشيء بعينه، ويريد هذا الكتاب بعينه، فليس من حقك أن تتصرف فتأتي له بمثله.

فلو باعك نسخة من صحيح البخاري بمائة ريال، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، وهو أيضاً له الخيار ثلاثة أيام، فتم البيع بخيار شرط، فالنسخة هذه من صحيح البخاري التي لونها أخضر، وبهذه الصفات المعينة المحددة، لو أنك جئت بمثلها قبل تمام الثلاثة أيام وقلت: لا أريد هذا البيع وهذه نسخة مثل نسختك؛ فليس من حقك، بل عليك أن ترد له عين النسخة؛ لأن الشريعة تعظم العقود، والعقد الذي وقع بينكما وقع على معين، فإما أن يمضي على هذا المعين، وتوجبا وتمضيا ويختار كل منكما إمضاء البيع، وإما أن يرد كل واحد منكما للآخر عين ما أخذ منه، وهذا معنى قوله: (المعين)، لكن لو كان في غير المعين، فالأمر فيه أيسر وأخف مما عينه وأوجب العقد عليه.

[بغير إذن الآخر]:

أي: لا يجوز أن يتصرف في المبيع بدون إذن الآخر، فمثلاً عندما يبيعه العمارة، ويؤجرها، يقول له: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت بشرط أن لي الخيار شهراً، فتم البيع على أن كلاً منهما له الخيار، فالمشتري اشترط الخيار، والبائع قال: وأنا كذلك لي الخيار، فخلال الشهر لا يجوز أن يؤجر العمارة، ولا يجوز أن يتصرف بالعمارة، دون أن يستأذن المالك الحقيقي لها، ويحرم ولا يصح، فهذا التصرف لا يجوز بغير إذن الآخر، فإذا أذن له فلا إشكال؛ لأنه حق له إن شاء ألزمه بحفظه ورده وإن شاء أذن له أن يأخذه فالمال ماله.

جواز تجربة المبيع في مدة الخيار

قال رحمه الله: [بغير تجربة المبيع]:

تجربة المبيع المراد بها أن يأخذ العينة يجربها هل هي صالحة له أو لا، بل إن بعض الخيارات في الشرط يقصد منها تجربة المبيع، فأنت مثلاً إذا باعك رجل سيارةً فقلت له: اشتريتها بشرط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإنك تنوي خلال الثلاثة الأيام أن تذهب بها إلى خبير يكشفها ويفحصها، وتسأل من له علم ومعرفة بالسيارات هل هذه القيمة تصلح وتليق لقاء هذا المبيع أو لا، فأنت تريد أن تشاور.

بل حتى خيار الشرط حينما نظرنا في حديث حبان رضي الله عنه، وجدناه مبنياً على المشاورة، فكونك تأخذ المبيع وتجربه هذا من حقك؛ لأن أصل الخيار إنما هو من أجل أن تختار خير الأمرين، وتنكشف لك حقيقة المبيع، هل هو مما يرغب فيه، أو مما لا يرغب فيه؟!

وعلى هذا يجوز لك أن تجرب المبيع، فلو ركبت السيارة وأسرعت بها من باب تجربتها ومن أجل أن تفحص فيها سرعتها وما فيها من آلات هل هي مريحة أو غير مريحة فلك ذلك؛ لأن رؤية الشيء ليس كتجربته وعلى هذا: فلو أخذ القلم وكتب به، فهذه تجربة، وهكذا لو ركب السيارة فهذه تجربة، لكن بشرط أن يكون التصرف من المشتري في المبيع على وجه المعروف، فلو كان لا يحسن قيادة السيارة، وقادها وهو لا يحسن القيادة فأتلف ما فيها، أو تسبب في تعطيل بعض المصالح الموجودة في المبيع، فإنه حينئذٍ يضمن لو تصرف على هذا الوجه، ويجب عليه أن يصرف ذلك إلى من له خبرة وله معرفة، ويقول: يا فلان! جرب لي هذه السيارة، أو يا فلان جرب لي هذا المبيع، ولا يقوم بنفسه؛ ضماناً لحقوق الناس، وصيانة لها من الضرر.

حكم العتق في مدة الخيار

قال رحمه الله: [إلا عتق المشتري]:

فلو أن رجلاً باع عبداً، فاشتراه الآخر على أن له الخيار، فهذا الخيار يقتضي أن العبد يبقى مدة الخيار خالياً من التصرف من المشتري، فإذا أقدم المشتري وتصرف فأعتق العبد، فيقول المصنف في أول العبارة: [ويحرم ولا يصح]، فقوله: (ولا يصح) معناه لا ينفذ؛ لأن الصحة ضابطها عند العلماء ترتب الأثر على الشيء، فإذا قلت: صحت الصلاة فأثر ذلك أنه لا يعيدها بحيث تبرأ ذمته منها، وكذلك أيضاً يترتب الأثر من حصول الثواب الأخروي، فإذا قلنا: (لا يصح) فمعناه أنه لا يترتب الأثر، فإذا وهب، قلنا: لا تصح الهبة، ولو باع لم يصح البيع.

فإذاً: معنى ذلك أنه لا يترتب الأثر على التصرف الذي يتصرفه أحد المتعاقدين في السلعة، إلا إذا كان التصرف عتقاً، فإن العتق لا يمكن تداركه، ولذلك لو هزل في العتق فقال لعبده: أنت حر، نفذ ومضى عليه: (ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ)، ولذلك قال عمر : (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر)، فلو كان يمزح مع عبده فقال له: أنت حر، فإن هذا مما لا يمكن تداركه.

ونحن أثبتنا أولاً قاعدة: وهي أن المبيع في مدة الخيار في ملك المشتري، فإذا جاء المشتري واجترأ على حدود الله، فأعتق العبد في مدة الخيار، فالحكم أنه يمضي العتق؛ لأنه ورد على ملكه، ولأنه لا يمكن تدارك العتق، وقال بعض العلماء: العتق لا ينفذ، والسبب في هذا: أنهم لا يرون أن المبيع في مدة الخيار ملك للمشتري، فكأنه أعتق مال غيره، ومن أعتق عبد غيره أو أمة غيره فلا ينفذ العتق إجماعاً، وهذا حكاه ابن هبيرة وغيره.

وكنت أقول: إن العتق لا ينفذ؛ ولكن بعد التأمل وبعد النظر ظهر لي رجحان ما قاله المصنف رحمه الله من أن العتق ماضٍ ولا يمكن تداركه، ويضمن له إما بالقيمة وإما بالمثل على الأصل المعروف في باب الضمانات، وعلى حسب ما يريد مالك الرقبة الأصلية.

إسقاط الخيار وفسخه وبطلانه

قال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]:

المصنف رحمه الله جاءنا بثلاث جمل بعضها مرتب على بعض:

فقد بيّن مسألة ملكية المبيع أثناء مدة الخيار، وأنه لا يجوز أن يتصرف أحدهما في المبيع لا البائع ولا المشتري في مدة الخيار، ثم بين ما يترتب على التصرف لو وقع، فهذه ثلاثة أشياء بعضها مرتب على بعض، ثم ذكر رحمه الله هذه الجملة وهي أيضاً تابعة لما قبل فقال رحمه الله:[وتصرف المشتري فسخ لخياره]:

والمعنى أن المشتري إذا تصرف فسخ خياره، وإذا تصرف في المبيع فقد أفسد الخيار ورفعه، فكأنه حينما تصرف أسقط حقه؛ لأن الإسقاط إما بالقول وإما بالفعل، وقد سبق وأن نبهنا وقلنا: إن الخيار يمكن لكلا الطرفين أن يسقطه أثناء المدة، فمثلاً:

لو أنني اتفقت معك على أننا بالخيار ثلاثة أيام، ثم اتفقنا على إمضاء البيع وإسقاط الخيار بعد يوم، فإنه إذا مضى اليوم تم البيع، وحينئذٍ لا يلزمنا أن ننتظر إلى الثلاثة أيام، فإذاً: معنى ذلك أنه إذا اتفق الطرفان على إسقاط الخيار فإنه.

فلو قال: بعني هذه الأرض بمائة ألف قال: قبلت، على أن لي الخيار شهراً، قال المشتري: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فالبيع بينهما معلق على خيار لمدة شهر، فقبل تمام الشهر، بل ولو بعد ساعة من العقد واتفقا على أنهما يمضيان البيع، ويرفعان ما اتفقا عليه من الخيار، كان لهما، لكن بشرط أن يتفق الطرفان، فكما أن لهما أن يثبتا ذلك الخيار، فمن حقهما رفع الخيار.

لكن لو أن أحدهما أسقط خيار نفسه فهل يسري الإسقاط إلى خيار الآخر؟

الجواب: لا، فأنا لو قلت لك: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: قبلت على أن لي الخيار شهراً، قلت: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فجئت وقلت: يا فلان! إني قد أتممت الصفقة -والخيار قد عدلت عنه والذي اخترته إمضاء الصفقة وكان هذا في اليوم الثاني- حينئذٍ أسقطت الخيار الذي لي، وأصبح البيع لازماً لي؛ لكن تبقى أنت على خيارك شهراً كاملاً، ففي هذه المدة لو أنني مت، وبقيت أنت فإنك تبقى على خيارك شهراً إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت.

وقد تقدم أن إسقاط الخيار يكون بالقول ويكون بالفعل، فلو أن المشتري تصرف في المبيع، فإن دلالة الفعل تنزل منزلة القول، ولذلك ذكرنا في بيع المعاطاة أن الأفعال تقوم مقام الأقوال، وأنها دالة -إذا لم تكن محتملة- وكانت صريحة في الدلالة تدل كما تدل الأقوال على ما تتضمنه من دلائل، فمثلاً:

لو أن رجلاً أخذ منك العمارة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وجاء خلال الثلاثة أيام وتصرف تصرفاً ما، بهبة أو نحوها فهذا يدل على أنه قد أمضى البيع، ورضي بإتمام البيع، فكأنه يقول: أسقطت خياري، أو لا خيار لي، وعلى هذا قال: [وتصرف المشتري فسخ لخياره].

قال رحمه الله: [ومن مات منهما بطل خياره]:

أي: إذا باعه سلعة على أنهما بالخيار أسبوعاً أو ثلاثة أيام، ثم مات أحدهما خلال المدة، فإنه يبطل الخيار في حقه ويبقى الخيار في حق الآخر، فالمصنف رحمه الله قال: (بطل خياره) والضمير عائد إلى الميت، ومفهوم ذلك أنه لا يبطل خيار الطرف الثاني؛ كما ذكرنا في المسألة الأولى أنه إذا أسقط أحدهما خياره فليس من حقه أن يلزم الآخر بإسقاط الخيار.

وقد اختلف العلماء هل يرث الورثة الخيار، أو لا يرثون؟

فبعض العلماء يرى أن الورثة يرثون، وهذا القول قواه غير واحد، وقالوا: إن الملكية للأموال تنتقل إلى الورثة، ولذلك لا يتصرف المريض مرض الموت في ماله إلا في حدود الثلث، وكأن المال قد صار في حكم الملكية للورثة، وعلى هذا قالوا: كما أنهم يرثون العين يرثون الاستحقاقات، ومن الاستحقاقات الشفعة والخيار، ونحوها من الأمور التي يكون فيها حق للميت، فتنتقل إلى ورثته؛ لأنهم كما يستحقون المال بعينه يستحقونه بوصفه، ويستحقون العقد عليه إذا كان مرتباً على شرط بذلك الشرط الذي أوجبه مورثهم، فهم يملكون الخيار، فعلى هذا القول: يبقى الخيار للورثة إن شاءوا أمضوا الصفقة وإن شاءوا ألغوها.

قوله: (ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع)

هذه مسألة ثانية تتركب على مدة الخيار، فالآن حينما يبيع البيت، أو يبيع العمارة أو يبيع الحيوان أو يبيع المزرعة، ويكون الخيار للمشتري شهراً، أو شهرين، أو ثلاثة، ففي هذه الحالة خاصة إذا كانت المدة طويلة كالشهر والشهرين، بل حتى الأسابيع، يكون المبيع -سواء كان من العقارات أو المنقولات- محبوساً على الصفقة، فلا يتصرف لا البائع ولا المشتري، لا يتصرف البائع لأنه قد أخرج المبيع عن ذمته بعقد البيع، ولا يتصرف المشتري في المبيع لأن هذا العقد معلق، فحينئذٍ اتفق الطرفان على شرط بينهما، والمسلمون على شروطهم، فينبغي أن يفي كل منهما للآخر، فلو أنه قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال له المشتري: قبلت، على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإن الصفقة التي هي السيارة لا يجوز للبائع أن يبيعها لطرف ثانٍ؛ لأن الطرف الأول قد رضي بالصفقة، ولا يجوز للمشتري أن يتصرف ببيع هذه السيارة أو هبتها أو أي من التصرفات حتى تتم مدة الخيار، ويمضي الشرط على صورته، فإذا مضت مدة الخيار وتم الشرط بينهما على ما اتفقا عليه، فكل منهما وشأنه فإن كان تمت الصفقة فالمبيع ملك للمشتري، وإن لم تتم الصفقة فالمبيع ملك للبائع، أما أن يتصرف أحدهما مثلاً: لو أنه باعه عمارة، فقال له: بعتك هذه العمارة بمائة ألف أو بمليون، قال: قبلت، قال: ولي الخيار شهراً، فربما جاء قبل نهاية الشهر وقال: لا أريد، وربما جاء الشهر، ومضى وتم، والمشتري يريد الصفقة، فحينئذٍ لو جاء البائع يبيع، ربما باع والمشتري يرغب الصفقة، وكذلك لو جاء المشتري يبيع ويتصرف ربما تصرف والبائع لا يريد إمضاء الصفقة، فتصرف أحد الطرفين في المبيع ببيعٍ أو هبةٍ أو عتقٍ كما يقع في العبيد، أو ذبح الشاة أو نحر الناقة كل هذا مخالف للشرط الذي بين المتعاقدين، والله أمرنا بالوفاء بالشروط، وأمرنا أن يفي المسلم لأخيه المسلم، فليس من الذمة والعهد بين المسلمين أن يخفر المسلم أخاه، فيقول له: بعتك هذه السيارة على أن لي الخيار يوماً أو أسبوعاً، فيتصرف بالصفقة قبل تمام هذا الشرط الذي بينهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، وهو يتعاقد مع المشركين بالشرط: (بل نفي لهم، ونستعين الله عليهم) فإذا كان هذا بين المسلم والكافر، فكيف بين المسلم والمسلم، فحينئذٍ ينبغي لكلا الطرفين أن يعظم الشروط، وعليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، فنحن لم نبع المبيع بيعاً، فلم نبع البيت ولا السيارة، ولا الأرض ولا المزرعة إلا معلقة على شرط، فينبغي أن يفي البائع للمشتري بإعطائه المهلة والنظرة ويفي المشتري للبائع بإعطائه المهلة والمدة، فكل منهم عليه الوفاء، والله تعالى قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وهذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم، فقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يلزم المسلم أن يفي لأخيه المسلم بما تضمنه العقد، فالعقد الذي بين البائع والمشتري إنما هو عقد معلق بشرط معين، ولا بد من وفاء كل منهم به للآخر، وعلى هذا: لا يجوز أن يتصرف البائع ببيع المبيع أو هبته، أو عتقه ولا يجوز للمشتري أيضاً أن يقول: أنا اشتريت وأعطيت المال، إذاً أبيع وأهب، وأعتق، نقول: لا، لا يجوز لك لأنك أنعمت بيعاً معلقاً، فوجب عليك أن تنتظر هل يئول هذا البيع إلى البت فتتصرف، أو يئول إلى القطع وعدم الإمضاء فترد الحقوق إلى أهلها؛ لأنه من الشرط، والعقد بينكما معلق على هذا الخيار، فيجب على كل واحد منكما أن يفي للآخر على هذا الوجه.

[وعوضه المعين فيها]:

وهذه الجملة صدَّرها المصنف رحمه الله بقوله: [ويحرم ولا يصح].

أما (يحرم) فإن من يقدم على التصرف في المبيعات في مدة الخيار، بائعاً كان أو مشترياً فإنه معتد لحدود الله عز وجل؛ لأنه ظلم أخاه المسلم، فمثلاً: إذا كان البائع والمشتري في مجلس واحد، فقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقبل وأعطاه العشرة آلاف، وتم العقد بينهما، فالله قد جعل لكل منهما أن ينظر ما داما جالسين، فلو قال المشتري: يا فلان -يخاطب غيره- اشترِ مني هذه السيارة بأحد عشر ألفاً، فلا يجوز؛ لأنه لم يفترق عن أخيه حتى يتم البيع الأول. فالمعنى أنه يحرم ولا يصح في مدة الخيار تصرف أحد المتعاقدين بائعاً كان أو مشترياً؛ لأنه يخالف شرع الله عز وجل، فنص المصنف أولاً على الحرمة؛ لأنه ليس من شيمة المسلم أن يكذب على أخيه المسلم وليس من شيمته أن يغشه، ويختله أو يخدعه في بيعه فيقول له: بعتك، ويقول الآخر: اشتريت على أن لي الشرط ويتم البيع بينهما بشرط، فيتصرف قبل تمام الشرط بل على كل منهما أن يتم للآخر شرطه.

وجمع المصنف بين (يحرم ولا يصح)؛ لأنه في بعض الأحيان قد يحرم الشيء ويصح البيع، مثلاً: البيع بعد آذان الجمعة الثاني حرام ولكنه صحيح عند جمهور العلماء؛ لأن الأركان تامة والشروط تامة، وجاء النهي من جهة الوقت والزمان، فهو ليس براجع إلى ذات البيع وإلى ما هو متعلق بعين المبيع ثمناً كان أو مثمناً، فأوجب الصحة.

وعلى هذا يقولون: يأثم والبيع صحيح، فيأثم لأنه باع في وقت لا يأذن الشرع بالبيع فيه، والبيع صحيح لأنه تام الشروط تام الأركان.

فعلى قوله: (يحرم ولا يصح) فإنه إذا تصرف فباع العمارة قبل تمام الشرط فسخ البيع الثاني، ولو تصرف بالعمارة فوهبها لغيره، فسخت هبته ولم تصح، والحكم للبيع الأول، فإما أن يمضي، وإما أن يلغي على حسب ما اتفق عليه المتعاقدان.