خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
شرح زاد المستقنع باب عقد الذمة وأحكامها [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام؛ في النفس والمال والعرض]
شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تترتب على عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب ومن في حكمهم، وذلك أنه إذا وقع عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب، فهناك أمور يلتزم بها المسلمون، وهناك أمور يلتزم بها أهل الذمة، وقد بينا فيما تقدم جملة من تلك المسائل والأحكام، وشرع المصنف هنا في بيان ما الذي ينبغي على الإمام تجاه أهل الذمة في تصرفاتهم حينما يكونون في بلاد المسلمين؟
فقال رحمه الله: (ويلزم الإمام) أي: يجب عليه، وهذا من فرض الله الذي أوجبه أن يأخذهم بحكم الإسلام؛ لأن الحكم لله عز وجل، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فالحكم لله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يكون هؤلاء ملزَمون بحكم الإسلام في أمور وضوابط معينة، وعليهم أن يتقيدوا بها، وهي قد تتعارض مع شريعتهم وملتهم؛ لكن كونهم داخل بلاد المسلمين فهم ملزمون بشرعة الإسلام، وبما عليه المسلمون، ولهذا في عقد الذمة يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، والمسلمون يقومون بالدفاع عنهم وحفظ عوراتهم وأعراضهم ودمائهم، كأنهم في منزلة المسلمين، فيجب عليهم أن يلتزموا بما يلزم المسلمين.
ولو أننا فتحنا لهم أن يفعلوا ما شاءوا وأن يتصرفوا كيفما أرادوا -ولو كان ذلك في دينهم ونحلتهم- لانتشر الفساد بين المسلمين، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنهم لو مُكَِّنوا من فعل بعض الأمور المحرَّمة -وإن كانت جائزة في دينهم- وإظهارها فإن هذا قد يدفع بالفَسَقَة لمجاراتهم والعمل بدينهم والميل إلى ما هم عليه، ولذلك وجب حفظ بلاد المسلمين وأهل الإسلام من منكراتهم ومحرماتهم التي يرتكبونها.
كيفية الحكم بين أهل الذمة
(بحكم الإسلام) وإذا وقع الإخلال من الذمي، فإما أن يقع بشيء يوافق دينه، أو بشيء يخالف دينه، فهناك حالتان:
الحالة الأولى: أن يفعل شيئاً نحن نعتقد حرمته، ولكن دينه وشريعته تقره على ذلك.
الحالة الثانية: أن يفعل فعلاً نتفق نحن وهم على تحريمه وعدم جوازه.
فأما ما كان من الأمور التي نتفق على تحريمها، فمن أمثلتها:
- قتل النفس المحرمة.
- الاعتداء على أموال الناس بالسرقة، أو الغصب، أو قطع الطريق.
- الاعتداء على الأعراض بالزِّنا.
فهذه اتفقت الشرائع على تحريمها وأنه لا يجوز ارتكابها، فهي محرَّمة عند أهل الكتاب وعندنا.
وحينئذ لا تأويل له، فهو حينما يقدم على هذا الفعل فإنه يفعل فعلاً يعتقد حرمته، ونعتقد نحن حرمته، فإذا وقع منه -مثلاً- القتل، فلا يخلو قتلُه من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون قتلاً لمسلم.
الحالة الثانية: أن يكون قتلاً لغير مسلم.
فإن قتل مسلماً فإنه يُقتل به، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأنصارية التي قتلها يهودي على أوضاح لها كان يريد أن يسرقها منها، فأبت وأصرت فاختلسها منها، فلما دافعت رض رأسها بين حجرين، فوُجدت في آخر رمق وهي مشرفة على الموت، فقيل لها: (مَن فعل بكِ هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟) حتى ذكروا اسم اليهودي، فأشارت برأسها: أن نعم، كما ثبت في الصحيح، فأُخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضع رأسه بين حجرين، وأن يُرَضَّ كما رُضَّ رأسُها، وهذا يدل على عدة مسائل:
المسألة الأولى: أن أهل الذمة وأهل العهد ومن يعطَون الأمان إذا سفكوا دم مسلم فإنه ينتقض عهدهم ويستباح دمهم، ويؤخذون به.
المسألة الثانية: مسألة التدمية البيضاء، وهي من فوائد هذا الحديث، والتدمية البيضاء يقول بها بعض أئمة السلف، كإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فإنه يقول: إن من وجد في آخر رمق من الحياة، وهو مُشْفٍ على الموت، وقيل له: مَن قتلك؟ فقال: فلان، يقول: إن هذا لوث، ويوجب القسامة، ويوجب أخذ هذا المتهم، فإن أقر قُتِل به، وفقه مالك رحمه الله في هذا: أن من يُشْفِي على الموت يكون أقرب إلى الآخرة وأبعد عن الدنيا، فهو أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب، فشهادته على أن فلاناً قتله تكون قوية، وقرينة قد تقارب البينة بقتله.
وذهب الجمهور إلى أن هذا يوجب التهمة فقط، وهذا هو الصحيح؛ لأن اليهودي حينما أُخِذ أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره لا بمجرد قول المرأة، فينبغي أن يفرق بينهما.
وأياً ما كان: ففي الحديث دليل على أن الذمِّي والمعاهَد والمستأمَن إذا غدر وقتل وسفك دم المسلم، فإنه يقتل القاتل بمن قتله؛ لكن السؤال: لو أن كافراً قتل مسلماً، ثم قام الذميون ومنعوه، أو قاموا بحفظه والتلبيس وحفظه، والتمويه على جريمته بحيث لا يعرف، فكانوا معينين له على الجريمة أو مساعدين له، فإنه ينتقض عهدهم جميعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في قصة عبد الله بن سهيل رضي الله عنه حينما قتلته يهود بخيبر: (أو تؤذنكم يهود بحرب، فإما أن يدفعوا رجلاً منهم، وإما أن تؤذن يهود بحرب) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سفك دم المسلم على هذا الوجه، الذي فيه التواطؤ أو يشعر بالتواطؤ مؤذناً بزوال العهد والذمة لهم.
إذاً: يُفرَّق في مسألة القتل:
فإذا قتل القاتل منهم فإنه يُقتَل، إذا كانت جريمة منفردة.
أما إذا كانت جريمة عن تواطؤ، وكانوا ينظمون لذلك، أو يهيئون له، فإنهم حينئذ يتحملون جميعهم مسئولية ما أتى من جرم، ويكون هذا نقضاً للعهد، لما فيه من الخيانة والغدر بالمسلمين، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما غدر به اليهود وأرادوا أن يرموا الحجر عليه، حينما أمروه أن ينتظر، فعد ذلك ناقضاً للعهد بينه وبينهم.
وأما إذا قتل الذمي كافراً، فإن أصل العقد حينئذ أننا نقرهم على دينهم، فإذا وقع القتل فيما بينهم فلا يخلو أمرهم من أحوال:
الحالة الأولى: أن يترافعوا إلينا، فيأتون عن طواعية ويقولون: هذا قتل فلاناً، فيرفعون أمره إلى القضاء، بحيث يُحكم فيه بحكم الإسلام.
الحالة الثانية: ألاَّ يترافعوا إلينا، بل يترافعون إلى حكامهم وقضاتهم.
الحالة الثالثة التي تقتضيها القسمة العقلية: أن يترافع بعضهم ويمتنع البعض.
فأما إذا رضي الجميع وترافعوا إلينا وجاءونا عن طواعية منهم، وقالوا: هذا قَتَل رجلاً أو قتل امرأةً منا، فنريدكم أن تحكموا بحكم الإسلام، فللعلماء في هذه المسألة خلاف مشهور:
القول الأول: قال بعض أهل العلم: إن ترافع إلينا أهل الذمة، وجب علينا أن نطبق عليهم حكم الشرع، ولا نميل إلى دينهم، وإنما نحكِّم فيهم حكم الله عز وجل في عباده المسلمين.
القول الثاني: أنه يخير القاضي، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
القول الثالث: التفصيل في هذه المسألة.
أما بالنسبة للقول الذي يقول: إنه يجب عليه أن يحكم بينهم بحكم الإسلام فهو أصح الأقوال، فإذا ترافعوا إلينا وجب على القاضي أن يحكم بينهم بحكم شريعة الإسلام وذلك بدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فهذه الآية الكريمة محكمة ناسخة للتخيير الذي في قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [المائدة:42] فخيره الله عز وجل بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، ثم نسخها قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49] وقد قال مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح ، وطائفة من أئمة السلف وأئمة التفسير رحمهم الله: إن التخيير في آية المائدة منسوخ، ومن هنا قال بعض العلماء: إن هذه السورة الكريمة -أعني: سورة المائدة- كلها مُحْكَمة إلا آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42].
والآية الثانية: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2].
فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه يجب عليه أن ينفذ فيهم حكم الشرع؛ لكن المشكلة أنهم حينما يحتكمون إلينا في جرائمهم فإنه سيكون الشهود منهم؛ لأن المعاملات والحوادث التي تقع بينهم غالباً لا يشهدها إلا كفار منهم ومن نحلتهم، فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟
هذا فيه تفصيل:
فإما أن تكون شهادة بعضهم على بعض مع اتحاد الملة، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، ومجوسي على مجوسي، فلا إشكال، والصحيح أنه تقبل شهادتهم لوجود الضرورة، ومن هنا قَبِل الله عز وجل شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم إذا حضره الموت لوجود الضرورة، وهذا يختاره جمع من الأئمة والسلف رحمهم الله.
الحالة الثانية: شهادة بعضهم على بعض مع اختلاف الملة، كشهادة اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي، أو يشهد بعض أهل المذاهب المختلفة عندهم والتي بينها عداوة، فإذا شهد أهل ملة على أخرى، فإن هنا شبهةً، وذلك لوجود العداوة بين المذهبين وبين الملتين، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في باب الشهادات.
الحاصل: أنه يجب على الحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام.
ودليل السنة: حديث البراء بن عازب في قصة اليهوديين اللذَين زَنَيا وهما محصنان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِما، فحكم بينهم بحكم الإسلام، ولم يجعل ذلك على التخيير ولم يُعرِض عنهم عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه تلزمهم أحكام الإسلام، وأنه يجب على الحاكم أن يقضي بينهم بشريعة الله فقط، دون غيرها من الشرائع والملل.
أما إذا لم يترافعوا إلينا، فإننا نتركهم على دينهم وملتهم، وقد قرر العلماء والأئمة ذلك، فإننا حينما عقدنا معهم عقد الجزية وعقد الذمة، فإن هذا يستلزم ترك قضاتهم وأحكامهم، ولذلك تركوا على شرب الخمر، وأكل الخنزير، والصلاة في كنائسهم، وهي من أمور دينهم وملتهم، فلما كانوا يتعبدون ويتقربون إلى ربهم، ويعتقدون أن قضاتهم هم الذي يحكمون بينهم في شريعتهم، فإن المرد إلى حكامهم وقضاتهم؛ لأننا لو تدخلنا فيهم في هذه الحالة، فمعنى ذلك أننا جعلناهم كالمسلمين سواءً بسواء من كل وجه، وليس المراد أن يكونوا كالمسلمين من كل وجه، بدليل أنهم أقروا على دينهم، والله تعالى أمر بأخذ الجزية منهم من أجل أنهم تُرِكوا على دينهم يفعلون ما يعتقدونه في شريعتهم.
وعلى هذا: إن ترافعوا إلينا حكمنا فيهم بحكم الإسلام على الصحيح.
وإن لم يترافعوا تركناهم ودينهم.
وإن رضي بعضهم بالترافع وامتنع البعض، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه في هذه الحالة يُرْجع إلى الأصل من عدم التدخل في شئونهم، حتى تتفق كلمتهم على نقل الحكم إلى الإسلام.
هذا إذا حصل القتل، فقد اتفق بين الشرائع على أنه لا يجوز سفك الدم الحرام، وكذلك أيضاً الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح، كأن يعتدي يهودي على آخر، فيقطع يده، أو يجرحه أو يطعنه، ولا يموت، فهذا اعتداء على الأنفس، فحينئذ يقتص منهم ويلزم الإمام أن يأخذهم بحكم الإسلام في هذا.
فقوله رحمه الله: (ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام) أي: يلزمه أن يطبق وينفذ فيهم شريعة الإسلام.
الحالات التي يعاقب فيها أهل الذمة
(في النفس والمال): النفس تطلق على معانٍ:
- النفس بمعنى الروح.
- وتطلق على الجسد والروح معاً.
- تطلق ويراد بها: الدم، ومنه سمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه.
- وتطلق النفس بمعنى: العين، تقول: رأيت محمداً بنفسه، أي: بعينه وذاته.
فالمقصود أن قوله: (في النفس) يشمل هذا نوعين من الجرائم:
النوع الأول: ما فيه إزهاق للأرواح.
النوع الثاني: ما فيه إتلاف للأعضاء، كأن يطعن، أو يقطع اليد، أو يقطع الرجل، أو يفقأ العين، أو يفعل فعلاً يعيق مصالح البدن، فهذا من الاعتداء على الأبدان، وحينئذ يُقْتَصُّ منهم، وينفذ فيهم حكم الله عز وجل على التفصيل الذي ذكرناه.
هذا بالنسبة للاعتداء على الأنفس.
(والمال) الاعتداء على الأموال، كأن يسرق الذمي أو يغتصب المال، فإذا سرق مال مسلم، فحينئذ ينفذ فيه حكم الإسلام، وإن اغتصب حق مسلم نُفِّذ فيه حكم الإسلام، وإن فعل الحرابة وقطع الطريق وأخاف السبل، طلباً للأموال، فإنه حينئذ ينقض عهده ويباح دمه، ويصبح حكمه حكم الحربي، من وجده قتله، وهذا بالنسبة لحال نقضه للعهد في جمعه بين أخذ المال، وإخافة السبل.
(والعرض) الاعتداء على الأعراض، كأن يعتدي على العرض بالزِّنا، فإن الزِّنا مجمع على تحريمه بين الشرائع، وحينئذ لا شبهة للذمي ولا تأويل له إذا فعل الزِّنا، سواء كان بمحرم أو بغير محرم، فالزِّنا متفق على تحريمه، فيؤاخَذ به، والدليل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجم اليهوديين الزانيين.
إذاً: الخلاصة: إن وقع الذمي في محرم من المحرمات أو فعل جريمة من الجرائم، فإما أن تكون متفقاً على تحريمها بين المسلمين والذميين، فنفصِّل، ونقول: إن كانت على مسلم أقمنا حكم الإسلام عليه، وإن كانت بين بعضهم البعض فننظر: إن ترافعوا إلينا، حكمنا عليهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشريعتهم، وما رضوا بحكمه فيما بينهم.
هذا بالنسبة للذي اتُّفق على تحريمه.
النوع الثاني: الذي فيه شبهة في دينهم، كأن يفعلوا من المحرمات ما فيه شبهة في دينهم، كشرب الخمر، فشرب الخمر محرم في ديننا، ومباح في دينهم، وحينئذ يَرِد السؤال: هل نؤاخذهم بديننا أم نؤاخذهم بدينهم؟
فيه تفصيل:
فما يفعله الذمي متأولاً لدينه ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما يكون بأصل سماوي، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فهذه فيها أصل سماوي بإباحتها، فحينئذ يفعلها اليهود والنصارى، ونقول فيمن فعل ذلك من أهل الذمة:
- إن فعلها في بيته مستتراً فلا إشكال، فقد تدين بما يعتقد حله ولا يؤاخَذ.
- وإن ظهر أمام الناس ففعلها في السوق -مثلاً- أو شرب الخمر وخرج إلى الخارج، فحينئذ يطبق عليه حكم الإسلام، ويؤاخذ بذلك على تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه يعزَّر، وبعض العلماء يرى أنه يُجْلد، كالمسلم إذا شرب الخمر.
هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي: أن يفعل ما هو جريمة في ديننا دون دينه.
الثاني: ما ليس له أصل سماوي، كمجوسي يطأ مَحْرَمه، فعند المجوس -والعياذ بالله- أنه يجوز نكاح المحارم، فيتزوج الرجل منهم بِنْتَه، وأمَّه، وأختَه والعياذ بالله! وهذا الفعل ليس لهم فيه أصل سماوي، ومن هنا فإن هذا الفعل -مع أنهم يعتقدون جوازه- لا نقرهم عليه، ولو كان في بيوتهم أو في أنكحتهم، ويدل على ذلك: أنه جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في الأمصار: أن يفرقوا بين كل مجوسي ومجوسية من ذوات المحارم فلا يقر المجوسي على نكاح ذات المحرم.
فالخلاصة فيما يفعله أهل الذمة مما يتأولون فيه:
أولاً: إما أن يتأولوا بما له أصل من دين سماوي، كشرب خمر، وأكل لحم خنزير، ونحو ذلك، فهذا نفرق بين أن يكون ظاهراً ومستتراً:
- فإن كان مستتراً عذرناهم.
- وإن كان ظاهراً آخذناهم.
لكن هل نؤاخذهم بالحد كما يحد المسلم، أم أننا نؤاخذهم بالتعزير ويرجع الأمر إلى اجتهاد القاضي والحاكم؟
قولان للعلماء.
ثانياً: إذا فعلوا ما يعتقدون حله مما ليس له أصل في دين سماوي، كوطء المجوسي لذوات المحارم، فإنه ليس له أصل سماوي، والسبب في هذا عندهم: أنه كان لهم عظيم من عظمائهم شرب الخمر، ووطئ ابنته أو أخته -والعياذ بالله- وهو سكران، فلما وطئها، انكشف أمره بعد أن صحا، فأرادوا قتله، فلما أرادوا قتله، قال الخبيث: ألا هل تعلمون شريعةً أفضل من شريعة آدم؟ قالوا: لا، قال: إن آدم كان ينكح الأخت من أخيها، فلما قال لهم ذلك، انقسموا إلى طائفتين:
- طائفة أقرته.
- وطائفة أنكرت، وبقيت على الإصرار على قتله، فاقتتلوا.
وقد ورد في هذا أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه مُتَكَلَّمٌ في سنده.
لكن أياً ما كان، فقد بقي هذا في دينهم، وبقي عندهم أن وطء المحارم جائز، وإذا فعل مسلم ذلك، واعتقد حله، وقال: إن وطء المحارم أو الزواج بهن مباح، فإنه يكفر بإجماع العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه، دون ما يعتقدون حله].
أي: يلزمه أن يقيم الحدود عليهم، فيما يعتقدون تحريمه، لا ما يعتقدون حله، فيقام عليهم حد الزِّنا؛ لأنهم يعتقدون أنه حرام، ولا يقام عليهم حد الخمر؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر حلال.
هذا الذي جعل المصنف -رحمه الله- يفرق بين ما يعتقدون حله، وبين ما يعتقدون حرمته.
(ويلزم الإمام أخذهم) ويلزم الإمام أن يأخذهم.
(بحكم الإسلام) وإذا وقع الإخلال من الذمي، فإما أن يقع بشيء يوافق دينه، أو بشيء يخالف دينه، فهناك حالتان:
الحالة الأولى: أن يفعل شيئاً نحن نعتقد حرمته، ولكن دينه وشريعته تقره على ذلك.
الحالة الثانية: أن يفعل فعلاً نتفق نحن وهم على تحريمه وعدم جوازه.
فأما ما كان من الأمور التي نتفق على تحريمها، فمن أمثلتها:
- قتل النفس المحرمة.
- الاعتداء على أموال الناس بالسرقة، أو الغصب، أو قطع الطريق.
- الاعتداء على الأعراض بالزِّنا.
فهذه اتفقت الشرائع على تحريمها وأنه لا يجوز ارتكابها، فهي محرَّمة عند أهل الكتاب وعندنا.
وحينئذ لا تأويل له، فهو حينما يقدم على هذا الفعل فإنه يفعل فعلاً يعتقد حرمته، ونعتقد نحن حرمته، فإذا وقع منه -مثلاً- القتل، فلا يخلو قتلُه من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون قتلاً لمسلم.
الحالة الثانية: أن يكون قتلاً لغير مسلم.
فإن قتل مسلماً فإنه يُقتل به، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأنصارية التي قتلها يهودي على أوضاح لها كان يريد أن يسرقها منها، فأبت وأصرت فاختلسها منها، فلما دافعت رض رأسها بين حجرين، فوُجدت في آخر رمق وهي مشرفة على الموت، فقيل لها: (مَن فعل بكِ هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟) حتى ذكروا اسم اليهودي، فأشارت برأسها: أن نعم، كما ثبت في الصحيح، فأُخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضع رأسه بين حجرين، وأن يُرَضَّ كما رُضَّ رأسُها، وهذا يدل على عدة مسائل:
المسألة الأولى: أن أهل الذمة وأهل العهد ومن يعطَون الأمان إذا سفكوا دم مسلم فإنه ينتقض عهدهم ويستباح دمهم، ويؤخذون به.
المسألة الثانية: مسألة التدمية البيضاء، وهي من فوائد هذا الحديث، والتدمية البيضاء يقول بها بعض أئمة السلف، كإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فإنه يقول: إن من وجد في آخر رمق من الحياة، وهو مُشْفٍ على الموت، وقيل له: مَن قتلك؟ فقال: فلان، يقول: إن هذا لوث، ويوجب القسامة، ويوجب أخذ هذا المتهم، فإن أقر قُتِل به، وفقه مالك رحمه الله في هذا: أن من يُشْفِي على الموت يكون أقرب إلى الآخرة وأبعد عن الدنيا، فهو أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب، فشهادته على أن فلاناً قتله تكون قوية، وقرينة قد تقارب البينة بقتله.
وذهب الجمهور إلى أن هذا يوجب التهمة فقط، وهذا هو الصحيح؛ لأن اليهودي حينما أُخِذ أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره لا بمجرد قول المرأة، فينبغي أن يفرق بينهما.
وأياً ما كان: ففي الحديث دليل على أن الذمِّي والمعاهَد والمستأمَن إذا غدر وقتل وسفك دم المسلم، فإنه يقتل القاتل بمن قتله؛ لكن السؤال: لو أن كافراً قتل مسلماً، ثم قام الذميون ومنعوه، أو قاموا بحفظه والتلبيس وحفظه، والتمويه على جريمته بحيث لا يعرف، فكانوا معينين له على الجريمة أو مساعدين له، فإنه ينتقض عهدهم جميعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في قصة عبد الله بن سهيل رضي الله عنه حينما قتلته يهود بخيبر: (أو تؤذنكم يهود بحرب، فإما أن يدفعوا رجلاً منهم، وإما أن تؤذن يهود بحرب) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سفك دم المسلم على هذا الوجه، الذي فيه التواطؤ أو يشعر بالتواطؤ مؤذناً بزوال العهد والذمة لهم.
إذاً: يُفرَّق في مسألة القتل:
فإذا قتل القاتل منهم فإنه يُقتَل، إذا كانت جريمة منفردة.
أما إذا كانت جريمة عن تواطؤ، وكانوا ينظمون لذلك، أو يهيئون له، فإنهم حينئذ يتحملون جميعهم مسئولية ما أتى من جرم، ويكون هذا نقضاً للعهد، لما فيه من الخيانة والغدر بالمسلمين، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما غدر به اليهود وأرادوا أن يرموا الحجر عليه، حينما أمروه أن ينتظر، فعد ذلك ناقضاً للعهد بينه وبينهم.
وأما إذا قتل الذمي كافراً، فإن أصل العقد حينئذ أننا نقرهم على دينهم، فإذا وقع القتل فيما بينهم فلا يخلو أمرهم من أحوال:
الحالة الأولى: أن يترافعوا إلينا، فيأتون عن طواعية ويقولون: هذا قتل فلاناً، فيرفعون أمره إلى القضاء، بحيث يُحكم فيه بحكم الإسلام.
الحالة الثانية: ألاَّ يترافعوا إلينا، بل يترافعون إلى حكامهم وقضاتهم.
الحالة الثالثة التي تقتضيها القسمة العقلية: أن يترافع بعضهم ويمتنع البعض.
فأما إذا رضي الجميع وترافعوا إلينا وجاءونا عن طواعية منهم، وقالوا: هذا قَتَل رجلاً أو قتل امرأةً منا، فنريدكم أن تحكموا بحكم الإسلام، فللعلماء في هذه المسألة خلاف مشهور:
القول الأول: قال بعض أهل العلم: إن ترافع إلينا أهل الذمة، وجب علينا أن نطبق عليهم حكم الشرع، ولا نميل إلى دينهم، وإنما نحكِّم فيهم حكم الله عز وجل في عباده المسلمين.
القول الثاني: أنه يخير القاضي، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
القول الثالث: التفصيل في هذه المسألة.
أما بالنسبة للقول الذي يقول: إنه يجب عليه أن يحكم بينهم بحكم الإسلام فهو أصح الأقوال، فإذا ترافعوا إلينا وجب على القاضي أن يحكم بينهم بحكم شريعة الإسلام وذلك بدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فهذه الآية الكريمة محكمة ناسخة للتخيير الذي في قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً [المائدة:42] فخيره الله عز وجل بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، ثم نسخها قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49] وقد قال مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح ، وطائفة من أئمة السلف وأئمة التفسير رحمهم الله: إن التخيير في آية المائدة منسوخ، ومن هنا قال بعض العلماء: إن هذه السورة الكريمة -أعني: سورة المائدة- كلها مُحْكَمة إلا آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42].
والآية الثانية: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2].
فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه يجب عليه أن ينفذ فيهم حكم الشرع؛ لكن المشكلة أنهم حينما يحتكمون إلينا في جرائمهم فإنه سيكون الشهود منهم؛ لأن المعاملات والحوادث التي تقع بينهم غالباً لا يشهدها إلا كفار منهم ومن نحلتهم، فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟
هذا فيه تفصيل:
فإما أن تكون شهادة بعضهم على بعض مع اتحاد الملة، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، ومجوسي على مجوسي، فلا إشكال، والصحيح أنه تقبل شهادتهم لوجود الضرورة، ومن هنا قَبِل الله عز وجل شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم إذا حضره الموت لوجود الضرورة، وهذا يختاره جمع من الأئمة والسلف رحمهم الله.
الحالة الثانية: شهادة بعضهم على بعض مع اختلاف الملة، كشهادة اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي، أو يشهد بعض أهل المذاهب المختلفة عندهم والتي بينها عداوة، فإذا شهد أهل ملة على أخرى، فإن هنا شبهةً، وذلك لوجود العداوة بين المذهبين وبين الملتين، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في باب الشهادات.
الحاصل: أنه يجب على الحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام.
ودليل السنة: حديث البراء بن عازب في قصة اليهوديين اللذَين زَنَيا وهما محصنان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِما، فحكم بينهم بحكم الإسلام، ولم يجعل ذلك على التخيير ولم يُعرِض عنهم عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه تلزمهم أحكام الإسلام، وأنه يجب على الحاكم أن يقضي بينهم بشريعة الله فقط، دون غيرها من الشرائع والملل.
أما إذا لم يترافعوا إلينا، فإننا نتركهم على دينهم وملتهم، وقد قرر العلماء والأئمة ذلك، فإننا حينما عقدنا معهم عقد الجزية وعقد الذمة، فإن هذا يستلزم ترك قضاتهم وأحكامهم، ولذلك تركوا على شرب الخمر، وأكل الخنزير، والصلاة في كنائسهم، وهي من أمور دينهم وملتهم، فلما كانوا يتعبدون ويتقربون إلى ربهم، ويعتقدون أن قضاتهم هم الذي يحكمون بينهم في شريعتهم، فإن المرد إلى حكامهم وقضاتهم؛ لأننا لو تدخلنا فيهم في هذه الحالة، فمعنى ذلك أننا جعلناهم كالمسلمين سواءً بسواء من كل وجه، وليس المراد أن يكونوا كالمسلمين من كل وجه، بدليل أنهم أقروا على دينهم، والله تعالى أمر بأخذ الجزية منهم من أجل أنهم تُرِكوا على دينهم يفعلون ما يعتقدونه في شريعتهم.
وعلى هذا: إن ترافعوا إلينا حكمنا فيهم بحكم الإسلام على الصحيح.
وإن لم يترافعوا تركناهم ودينهم.
وإن رضي بعضهم بالترافع وامتنع البعض، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه في هذه الحالة يُرْجع إلى الأصل من عدم التدخل في شئونهم، حتى تتفق كلمتهم على نقل الحكم إلى الإسلام.
هذا إذا حصل القتل، فقد اتفق بين الشرائع على أنه لا يجوز سفك الدم الحرام، وكذلك أيضاً الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح، كأن يعتدي يهودي على آخر، فيقطع يده، أو يجرحه أو يطعنه، ولا يموت، فهذا اعتداء على الأنفس، فحينئذ يقتص منهم ويلزم الإمام أن يأخذهم بحكم الإسلام في هذا.
فقوله رحمه الله: (ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام) أي: يلزمه أن يطبق وينفذ فيهم شريعة الإسلام.
قوله: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض]
(في النفس والمال): النفس تطلق على معانٍ:
- النفس بمعنى الروح.
- وتطلق على الجسد والروح معاً.
- تطلق ويراد بها: الدم، ومنه سمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه.
- وتطلق النفس بمعنى: العين، تقول: رأيت محمداً بنفسه، أي: بعينه وذاته.
فالمقصود أن قوله: (في النفس) يشمل هذا نوعين من الجرائم:
النوع الأول: ما فيه إزهاق للأرواح.
النوع الثاني: ما فيه إتلاف للأعضاء، كأن يطعن، أو يقطع اليد، أو يقطع الرجل، أو يفقأ العين، أو يفعل فعلاً يعيق مصالح البدن، فهذا من الاعتداء على الأبدان، وحينئذ يُقْتَصُّ منهم، وينفذ فيهم حكم الله عز وجل على التفصيل الذي ذكرناه.
هذا بالنسبة للاعتداء على الأنفس.
(والمال) الاعتداء على الأموال، كأن يسرق الذمي أو يغتصب المال، فإذا سرق مال مسلم، فحينئذ ينفذ فيه حكم الإسلام، وإن اغتصب حق مسلم نُفِّذ فيه حكم الإسلام، وإن فعل الحرابة وقطع الطريق وأخاف السبل، طلباً للأموال، فإنه حينئذ ينقض عهده ويباح دمه، ويصبح حكمه حكم الحربي، من وجده قتله، وهذا بالنسبة لحال نقضه للعهد في جمعه بين أخذ المال، وإخافة السبل.
(والعرض) الاعتداء على الأعراض، كأن يعتدي على العرض بالزِّنا، فإن الزِّنا مجمع على تحريمه بين الشرائع، وحينئذ لا شبهة للذمي ولا تأويل له إذا فعل الزِّنا، سواء كان بمحرم أو بغير محرم، فالزِّنا متفق على تحريمه، فيؤاخَذ به، والدليل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجم اليهوديين الزانيين.
إذاً: الخلاصة: إن وقع الذمي في محرم من المحرمات أو فعل جريمة من الجرائم، فإما أن تكون متفقاً على تحريمها بين المسلمين والذميين، فنفصِّل، ونقول: إن كانت على مسلم أقمنا حكم الإسلام عليه، وإن كانت بين بعضهم البعض فننظر: إن ترافعوا إلينا، حكمنا عليهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشريعتهم، وما رضوا بحكمه فيما بينهم.
هذا بالنسبة للذي اتُّفق على تحريمه.
النوع الثاني: الذي فيه شبهة في دينهم، كأن يفعلوا من المحرمات ما فيه شبهة في دينهم، كشرب الخمر، فشرب الخمر محرم في ديننا، ومباح في دينهم، وحينئذ يَرِد السؤال: هل نؤاخذهم بديننا أم نؤاخذهم بدينهم؟
فيه تفصيل:
فما يفعله الذمي متأولاً لدينه ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما يكون بأصل سماوي، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فهذه فيها أصل سماوي بإباحتها، فحينئذ يفعلها اليهود والنصارى، ونقول فيمن فعل ذلك من أهل الذمة:
- إن فعلها في بيته مستتراً فلا إشكال، فقد تدين بما يعتقد حله ولا يؤاخَذ.
- وإن ظهر أمام الناس ففعلها في السوق -مثلاً- أو شرب الخمر وخرج إلى الخارج، فحينئذ يطبق عليه حكم الإسلام، ويؤاخذ بذلك على تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه يعزَّر، وبعض العلماء يرى أنه يُجْلد، كالمسلم إذا شرب الخمر.
هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي: أن يفعل ما هو جريمة في ديننا دون دينه.
الثاني: ما ليس له أصل سماوي، كمجوسي يطأ مَحْرَمه، فعند المجوس -والعياذ بالله- أنه يجوز نكاح المحارم، فيتزوج الرجل منهم بِنْتَه، وأمَّه، وأختَه والعياذ بالله! وهذا الفعل ليس لهم فيه أصل سماوي، ومن هنا فإن هذا الفعل -مع أنهم يعتقدون جوازه- لا نقرهم عليه، ولو كان في بيوتهم أو في أنكحتهم، ويدل على ذلك: أنه جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في الأمصار: أن يفرقوا بين كل مجوسي ومجوسية من ذوات المحارم فلا يقر المجوسي على نكاح ذات المحرم.
فالخلاصة فيما يفعله أهل الذمة مما يتأولون فيه:
أولاً: إما أن يتأولوا بما له أصل من دين سماوي، كشرب خمر، وأكل لحم خنزير، ونحو ذلك، فهذا نفرق بين أن يكون ظاهراً ومستتراً:
- فإن كان مستتراً عذرناهم.
- وإن كان ظاهراً آخذناهم.
لكن هل نؤاخذهم بالحد كما يحد المسلم، أم أننا نؤاخذهم بالتعزير ويرجع الأمر إلى اجتهاد القاضي والحاكم؟
قولان للعلماء.
ثانياً: إذا فعلوا ما يعتقدون حله مما ليس له أصل في دين سماوي، كوطء المجوسي لذوات المحارم، فإنه ليس له أصل سماوي، والسبب في هذا عندهم: أنه كان لهم عظيم من عظمائهم شرب الخمر، ووطئ ابنته أو أخته -والعياذ بالله- وهو سكران، فلما وطئها، انكشف أمره بعد أن صحا، فأرادوا قتله، فلما أرادوا قتله، قال الخبيث: ألا هل تعلمون شريعةً أفضل من شريعة آدم؟ قالوا: لا، قال: إن آدم كان ينكح الأخت من أخيها، فلما قال لهم ذلك، انقسموا إلى طائفتين:
- طائفة أقرته.
- وطائفة أنكرت، وبقيت على الإصرار على قتله، فاقتتلوا.
وقد ورد في هذا أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه مُتَكَلَّمٌ في سنده.
لكن أياً ما كان، فقد بقي هذا في دينهم، وبقي عندهم أن وطء المحارم جائز، وإذا فعل مسلم ذلك، واعتقد حله، وقال: إن وطء المحارم أو الزواج بهن مباح، فإنه يكفر بإجماع العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه، دون ما يعتقدون حله].
أي: يلزمه أن يقيم الحدود عليهم، فيما يعتقدون تحريمه، لا ما يعتقدون حله، فيقام عليهم حد الزِّنا؛ لأنهم يعتقدون أنه حرام، ولا يقام عليهم حد الخمر؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر حلال.
هذا الذي جعل المصنف -رحمه الله- يفرق بين ما يعتقدون حله، وبين ما يعتقدون حرمته.