مراتب أعمار الإنسان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، وقد جعل للإنسان خمسة أعمار، العمر الأول منها في عالم الذر عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي ربي! من هؤلاء؟! قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي ربي! من هؤلاء؟! قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، فأقروا له جميعاً بالربوبية؛ فأخذ عليهم العهد أن يعبدوه وأن لا يشركوا به شيئاً، وقد قال الله في ذلك العهد: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61].

وهذا العمر الأول دخلنا فيه حيز الوجود حينما كلمنا ربنا جل جلاله فرددنا بجواب فصيح، وبقيت الأرواح من ذلك الوقت محبوسة في سماء الدنيا، وقد ثبت في حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به إلى سماء الدنيا قال: ( فاستأذن جبريل؛ فقيل: من؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به! ونعم المجيء جاء؛ ففتح له باب السماء.. )، قال: ( فإذا آدم وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل : ما هذه الأسودة؟! فقال: نسم بنيك )، أي: نسمات بنيك في هذه الأرواح، ( أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم ).

والعمر الثاني هو عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا، وهو عمر الامتحان ومدته يسيرة محصورة، إذا قورنت بالعمر السابق نجد بوناً شاسعاً كبيراً، فالعمر السابق دخلت حيز الوجود فيه في حياة آدم، ومن ذلك الوقت وأنت موجود في السماء الدنيا حتى أهبطت روحك فنفخت فيك وأنت جنين في بطن أمك عندما أكملت أربعة أشهر في بطن أمك، بعد ذلك النفخ بدأ العمر الجديد، وهو عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا.

وهذا العمر الإنسان فيه بين نوعين من أنواع الخلائق:

نوع أسمى منه، وهو الملائكة كلفهم الله بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وقد محضهم لطاعته فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20].

والصنف الثاني صنف أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، سلط الله عليه الشهوات ولم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الأمرين؛ فهو مكلف بالتكاليف ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي، بل يكون أدنى من الحيوان؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان بالعقل والوحي أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44].

وهذا العمر هو أيام وليال، ومدته محصورة يسيرة، والإنسان فيه غريب، أهبطت روحه من السماء إلى هذه الأرض فكانت غريبة فيها تنتظر الخروج فهي محبوسة داخل البدن، وانتزاعها من البدن عند الموت هو نهاية هذا الحبس، ومدة بقائها في البدن مجهولة، لا يدري الإنسان هل يكون من المعمرين فيعيش مائة سنة أو أكثر، أو يكون من الذين تقصر أعمارهم فيموت في أسرع رعيل، ولا شك أن ليلة القدر من كل عام فيها يفرق كل أمر حيم، فيكتب من يموت في ذلك العام من الناس، وقد تحدد ذلك حتى لدى ملائكة الأرض؛ فهم يعرفون أن فلاناً من الناس مثلاً من موتى هذا العام.

وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

كثير من الأحياء الآن أكفانهم موجودة في السوق، قد نسجت واستوردت وحضرت، ولكنهم لا يدرون ذلك.

ومدة هذا العمر هي مدة تأشيرة جاء فيها الإنسان لعمل محدد ولمدة مؤقتة، فإذا جلس في الفندق ولن يباشر عمله حتى انتهت التأشيرة ورجع خائباً هل يكون رشيداً؟! لا يمكن أن يعتبر رشيداً.

الوظيفة التي يكلف بها الإنسان في هذا العمر

والوظيفة التي يكلف بها الإنسان في هذا العمر هي إحدى وظيفتين:

إحداهما خاصة بالبشر وهي الاستخلاف في الأرض، أي: السعي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه والتمكين لمنهج الله في الأرض، والسعي لأن تكون كلمة الله هي العليا، يبذل الإنسان جهده في تعبيد الناس لرب الناس، وتحريرهم مما سوى ذلك من العبوديات، من عبودية الهوى، ومن كل العبوديات الأخرى، وهذه المهمة والوظيفة خاصة بالجنس البشري؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، قال ذلك وآدم منجدل في طينته؛ فجعل هذا الجنس خلفاء في الأرض.

والوظيفة الثانية يشترك فيها الإنس والجن وهي العبادة لله سبحانه وتعالى، عبادة الإنسان كطهارته وصلاته وصيامه وتركه للمحرمات وأدائه للواجبات، هذه العبادات الشخصية، والقسم الأول - الاستخلاف -عبادات عامة، وكثير من الناس لا يستشعر إلا النوع الثاني المشترك بين الإنس الجن ويترك الوظيفة الكبرى التي يختص بها الجنس البشري؛ فلا يظن أن عليه أية مسؤولية تجاه هذا الدين ولا أنه مسؤول عن نصرته ولا عن إعلاء كلمة الله ولا عن تعبيد الناس لله، وقد قامت عليه الحجة بما آتاه الله من العلم والعقل والإدراك، وبما عاشه من هذا العمر فوق الأرض، ولو كان عمراً يسيراً فإن الحجة لله قائمة به؛ ولذلك يقول الله لأهل النار يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].

الرقابة على الإنسان في هذا العمر

وهذا العمر هو أقصر أعمار الإنسان، وهو فيه تحت خمس رقابات:

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله؛ فهو الشاهد الذي لا يغيب، وهو يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، يعلم ما يدور في خلده وما يفكر فيه، مجرد خطرة يفكر فيها الإنسان فهي معلومة عند الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو أسرع الحاسبين، لا يفوته أي شيء من تصرفات عباده ولا يختلط عليه تصرف إنسان بتصرف إنسان آخر، ولا يلتبس عليه تصرف الوالد بتصرف الولد ولا تصرف أحد الأخوين بالآخر؛ لأنه فصلهم، فكل إنسان سيأتيه فرداً يوم القيامة؛ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[النحل:111]، فكل إنسان سيبعث وحده يجادل عن نفسه؛ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، فالعلاقات النسبية والسببية تنقطع بمجرد النفخ في الصور؛ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، وأعظم الناس سيادة الأنبياء، وهم يقولون يوم القيامة: نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي.

والرقابة الثانية هي: رقابة الرسول الشاهد؛ فكل أمة بعث الله فيها رسولاً يشهد عليها بأعمالها، وهذه الأمة اختار الله لها أفضل الرسل وأزكاهم وهو الحكم الذي لا يعزل والشاهد المزكى المعدل، اختاره الله سبحانه وتعالى وفضله وشرفه، وشهادته لا يمكن أن يطعن فيها من وجه من الوجوه، وهو يطلع على أعمال أمته تعرض عليه؛ لأن الشهادة من شرطها العلم وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، فيعلمه الله سبحانه وتعالى بأعمال أمته ليشهد بها يوم القيامة؛ فهو شهيد على أعمالها كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا[النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ[النحل:89]، فهو شاهد لا يستطيع الإنسان جرحه ولا منازعته، وهو يشهد عليه بأعماله.

والرقابة الثالثة: رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، فكل واحد من البشر رتب الله عليه واحداً وعشرين من الملائكة، يحصون عليه أعماله ولا يمكن أن يفوتهم منها شيء؛ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وهؤلاء الملائكة منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وملائكة الجوارح، كل جارحة عليها ملك، والمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، والملائكة الذين يتعاقبون في الناس يجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر؛ فجميع ذلك يحصل منه واحد وعشرون ملكاً، وهؤلاء الملائكة يحصون على الإنسان أعماله ويكتبونها ويشهدون بها عند الله وهو أعلم منهم.

والرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين؛ فهم شهداء الله في أرضه، يشهدون على الناس بأعمالهم، كما قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وكما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[البقرة:143]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان في مجلس فمر بجنازة، فأثنى الناس عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى فأثنى الناس عليها شراً فقال: وجبت؛ فقال عمر : وما وجبت يا رسول الله؟! قال: أنتم شهداء الله في أرضه؛ فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار )، والمقصود بــ(أنتم) العدول، وليس عوام الناس والسواد الأعظم من الناس، فلا يغتر الإنسان بمدح المادحين الكاذبين ولا يغتر بثنائهم؛ فأغلب المثنين والمداحين هم من الكذابين كما قال الله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[الشعراء:224-226]، وقد قال الفرزدق :

يقولون ما لا يفعلون مذمة من الله مذموم بها الشعراء

ولم يك ذاكم وحدهم بل زيادة يقولون ما لا يفعل الأمراء

وكذلك الرقابة الخامسة هي رقابة الإنسان على نفسه؛ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[القيامة:14]، يشهد على نفسه بكل أعماله، فما من شعرة فيه ولا عضلة إلا تشهد عليه بما اقترفه يوم القيامة، عندما يختم على فمه وتتكلم جوارحه؛ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النور:24]، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[فصلت:21]، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت:22].

فرص النجاة من عذاب الله في هذا العمر

وهذا العمر للإنسان فيه ثلاث فرص للنجاة من عذاب الله:

الفرصة الأولى هي عمر هذه الحياة الدنيا؛ فهي دار العمل، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل، فما لم يعمله الإنسان في هذه الحياة الدنيا لن يجده؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30]، وهذه الدنيا قد وقفت بثنية الوداع، وهم قبلي مزنها بالإقلاع؛ فهي الآن في نهايتها، مضت القرون وتبعتها القرون، وآخر الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مضى منها عدد من القرون، ونحن قطعاً في آخرها؛ فلذلك لا ننتظر الآن إلا خروج الدجال أو بعض الأشراط الكبرى مثل طلوع الشمس من مغربها، أو أن يأذن الله لإسرافيل في النفخ في الصور فإنه سينفخ فيه، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً، أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، وإذا نفخ فيه نفخة الفزع يصعق لها الخلائق جميعاً، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون.

والفرصة الثانية هي عمر الإنسان الشخصي نفسه؛ فهذ العمر إذا مات الإنسان حيل بينه وبين العمل؛ فأنت الآن يمكن أن تقول: لا إله إلا الله وسيحال بينك وبينها، وهكذا في كل تصرف من تصرفاتك يمكن أن تؤدي ما عليك الآن، لكن سيأتي الوقت الذي يحال بينك وبينه فيه؛ فما كنا نذكره في أداء الزكاة ومثل ذلك في أداء الصلاة ومثل ذلك في كل الفرائض يستطيعه الإنسان الآن في صحته ومضاء تصرفه، لكن سيأتي الوقت الذي يمنع منها، لا يستطيعها؛ فلذلك عليه أن يبادر قبل فوات الأوان.

والفرصة الثالثة: ما أنعم الله به علينا من أنواع النعم؛ فهذه النعم في هذا العمر الدنيوي لها آجال محددة، كل نعمة منها لها أجل مسمى، وإذا لم يستغلها الإنسان كانت ترة عليه وحجة، فكل وظيفة يشغلها الإنسان إذا لم يستغلها في مرضات الله ونصرة دين الله فلن يمتع بها وسيفارقها؛ لأن بقاءه في أية نعمة كبقائه على كرسي الحلاق ينتظر الحلاقة ثم يقوم ليترك مكانه لغيره، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك؛ فكل نعمة تشغلها قد كان متع بها قبلك غيرك وستؤول بعدك إلى غيرك فلذلك بادر مدة بقائك فيها فاستغلها في مرضات الله قبل أن يفوت الأوان، وكم من إنسان كان في نعمة عظيمة فلم يصرفها في طاعة الله ففارقته تلك النعمة فندم ندماً شديداً، ولا شك أن من تقدم به العمر يتذكر نعمة الشباب ونعمة الفراغ ونعمة القوة، وقد ذهبت، كان يستطيع قيام الليل، كان يستطيع كثيراً من نصرة الدين، كان يستطيع كثيراً من الأعمال وقد ضعف عنها، لا يستطيعها الآن؛ فما تشتهي غير أن تشتهي.

فهذا الحال إذا كان الإنسان يدركه فليعلم أن الفرص لا تتكرر وأنها إذا حصلت ينبغي أن يستغلها، إذا كان في أية وظيفة، سواءً كانت رسمية أو اجتماعية كما مكن الله فيهم من أنواع النعم في الأسرة والبيت وغير ذلك وما جعل تحت أيدينا من الأموال وغير هذا، كلها لها آجال محددة، وهي عند الأجل تقبض كما تقبض الروح، فإذا لم يستغلها الإنسان فات الأوان.

أقسام الناس مع النعمة

ولذلك فإن الناس في النعم على أربعة أقسام:

القسم الأول: لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، ما دام أحدهم صحيح الجسم، لا يشكو سراطاناً في الكبد ولا ضعفاً في عضلة القلب ولا فشلاً في الكلى ولا جلطة في المخ؛ لا يحس بالعافية، فإذا أصيب بمرض من هذه الأمراض وشخص له الطبيب المرض ذكر هذه النعمة بعد أن فات الأوان وزالت، متى يشكرها لله؟ لم يعرفها إلا بعد زوالها.

والنوع الثاني: يعرفون النعمة بوجودها، ولكن لا يعرفون من أين أتت، فهم يعرفون أنهم متميزون، لديهم علم ولديهم جاه ولديهم مال ولديهم مكانة، فلا يدرون من أين جاءتهم هذه النعم، يظنون أنها من كدهم وكسبهم وجدهم واجتهادهم، أو ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؛ فهم يتسورون بها على عباد الله ويفخرون بها، لا يدرون من أين أتت، حالهم حال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ[القصص:78].

والنوع الثالث: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، منغمسون في النعمة الليل والنهار؛ فالصباح الباكر يدخلون في أعمالهم الدنيوية ويستغلون ضوء النهار جميعاً في هذه الأعمال، وإذا جاء الليل ناموا، وتفكيرهم كله منصب على عملهم في الصباح، فهؤلاء عرفوا النعمة وعرفوا أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم انشغلوا بالنعمة عن شكرها، حالهم حال المخلفين من الأعراب: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11]، وهذا الحال حذر الله منه، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].

والنوع الرابع: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضات الله، فهم يستغلون ما أنعم الله به عليهم فيما أذن به، إذا أنعم عليهم بساعة من العمر لم تذهب هباءً منثوراً، كحال كثير من الناس ينعم الله عليهم بالساعات الطوال فتذهب هذه الساعات دون أن تكون في كفة الحسنات، وهذه خسارة كبرى؛ لأن رأس المال هو العمر؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، وقد قال أحد الحكما:

خسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته

فالعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته

فإذا أنعم الله على الإنسان من هذا النوع من عباد الله بساعة نظر إلى أربح الصفقات مع الله؛ فاستغلها فيها، أربح الصفقات هي الفرائض، فإذا كان الوقت ليس فيه فريضة فهي النوافل، ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )؛ فهذا المقام الذي يطلبه هؤلاء ويتنافسون فيه هو الوصول إلى المحبة الله وحضرة القدس؛ حتى يكونوا من أولياء الله، هذا النوع من عباد الله هم الشاكرون وهم أقل عباد الله؛ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13].

والوظيفة التي يكلف بها الإنسان في هذا العمر هي إحدى وظيفتين:

إحداهما خاصة بالبشر وهي الاستخلاف في الأرض، أي: السعي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه والتمكين لمنهج الله في الأرض، والسعي لأن تكون كلمة الله هي العليا، يبذل الإنسان جهده في تعبيد الناس لرب الناس، وتحريرهم مما سوى ذلك من العبوديات، من عبودية الهوى، ومن كل العبوديات الأخرى، وهذه المهمة والوظيفة خاصة بالجنس البشري؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، قال ذلك وآدم منجدل في طينته؛ فجعل هذا الجنس خلفاء في الأرض.

والوظيفة الثانية يشترك فيها الإنس والجن وهي العبادة لله سبحانه وتعالى، عبادة الإنسان كطهارته وصلاته وصيامه وتركه للمحرمات وأدائه للواجبات، هذه العبادات الشخصية، والقسم الأول - الاستخلاف -عبادات عامة، وكثير من الناس لا يستشعر إلا النوع الثاني المشترك بين الإنس الجن ويترك الوظيفة الكبرى التي يختص بها الجنس البشري؛ فلا يظن أن عليه أية مسؤولية تجاه هذا الدين ولا أنه مسؤول عن نصرته ولا عن إعلاء كلمة الله ولا عن تعبيد الناس لله، وقد قامت عليه الحجة بما آتاه الله من العلم والعقل والإدراك، وبما عاشه من هذا العمر فوق الأرض، ولو كان عمراً يسيراً فإن الحجة لله قائمة به؛ ولذلك يقول الله لأهل النار يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].

وهذا العمر هو أقصر أعمار الإنسان، وهو فيه تحت خمس رقابات:

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله؛ فهو الشاهد الذي لا يغيب، وهو يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، يعلم ما يدور في خلده وما يفكر فيه، مجرد خطرة يفكر فيها الإنسان فهي معلومة عند الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو أسرع الحاسبين، لا يفوته أي شيء من تصرفات عباده ولا يختلط عليه تصرف إنسان بتصرف إنسان آخر، ولا يلتبس عليه تصرف الوالد بتصرف الولد ولا تصرف أحد الأخوين بالآخر؛ لأنه فصلهم، فكل إنسان سيأتيه فرداً يوم القيامة؛ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[النحل:111]، فكل إنسان سيبعث وحده يجادل عن نفسه؛ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، فالعلاقات النسبية والسببية تنقطع بمجرد النفخ في الصور؛ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، وأعظم الناس سيادة الأنبياء، وهم يقولون يوم القيامة: نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي.

والرقابة الثانية هي: رقابة الرسول الشاهد؛ فكل أمة بعث الله فيها رسولاً يشهد عليها بأعمالها، وهذه الأمة اختار الله لها أفضل الرسل وأزكاهم وهو الحكم الذي لا يعزل والشاهد المزكى المعدل، اختاره الله سبحانه وتعالى وفضله وشرفه، وشهادته لا يمكن أن يطعن فيها من وجه من الوجوه، وهو يطلع على أعمال أمته تعرض عليه؛ لأن الشهادة من شرطها العلم وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، فيعلمه الله سبحانه وتعالى بأعمال أمته ليشهد بها يوم القيامة؛ فهو شهيد على أعمالها كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا[النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ[النحل:89]، فهو شاهد لا يستطيع الإنسان جرحه ولا منازعته، وهو يشهد عليه بأعماله.

والرقابة الثالثة: رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، فكل واحد من البشر رتب الله عليه واحداً وعشرين من الملائكة، يحصون عليه أعماله ولا يمكن أن يفوتهم منها شيء؛ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وهؤلاء الملائكة منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وملائكة الجوارح، كل جارحة عليها ملك، والمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، والملائكة الذين يتعاقبون في الناس يجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر؛ فجميع ذلك يحصل منه واحد وعشرون ملكاً، وهؤلاء الملائكة يحصون على الإنسان أعماله ويكتبونها ويشهدون بها عند الله وهو أعلم منهم.

والرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين؛ فهم شهداء الله في أرضه، يشهدون على الناس بأعمالهم، كما قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وكما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[البقرة:143]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان في مجلس فمر بجنازة، فأثنى الناس عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى فأثنى الناس عليها شراً فقال: وجبت؛ فقال عمر : وما وجبت يا رسول الله؟! قال: أنتم شهداء الله في أرضه؛ فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار )، والمقصود بــ(أنتم) العدول، وليس عوام الناس والسواد الأعظم من الناس، فلا يغتر الإنسان بمدح المادحين الكاذبين ولا يغتر بثنائهم؛ فأغلب المثنين والمداحين هم من الكذابين كما قال الله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[الشعراء:224-226]، وقد قال الفرزدق :

يقولون ما لا يفعلون مذمة من الله مذموم بها الشعراء

ولم يك ذاكم وحدهم بل زيادة يقولون ما لا يفعل الأمراء

وكذلك الرقابة الخامسة هي رقابة الإنسان على نفسه؛ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[القيامة:14]، يشهد على نفسه بكل أعماله، فما من شعرة فيه ولا عضلة إلا تشهد عليه بما اقترفه يوم القيامة، عندما يختم على فمه وتتكلم جوارحه؛ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النور:24]، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[فصلت:21]، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت:22].

وهذا العمر للإنسان فيه ثلاث فرص للنجاة من عذاب الله:

الفرصة الأولى هي عمر هذه الحياة الدنيا؛ فهي دار العمل، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل، فما لم يعمله الإنسان في هذه الحياة الدنيا لن يجده؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30]، وهذه الدنيا قد وقفت بثنية الوداع، وهم قبلي مزنها بالإقلاع؛ فهي الآن في نهايتها، مضت القرون وتبعتها القرون، وآخر الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مضى منها عدد من القرون، ونحن قطعاً في آخرها؛ فلذلك لا ننتظر الآن إلا خروج الدجال أو بعض الأشراط الكبرى مثل طلوع الشمس من مغربها، أو أن يأذن الله لإسرافيل في النفخ في الصور فإنه سينفخ فيه، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً، أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، وإذا نفخ فيه نفخة الفزع يصعق لها الخلائق جميعاً، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون.

والفرصة الثانية هي عمر الإنسان الشخصي نفسه؛ فهذ العمر إذا مات الإنسان حيل بينه وبين العمل؛ فأنت الآن يمكن أن تقول: لا إله إلا الله وسيحال بينك وبينها، وهكذا في كل تصرف من تصرفاتك يمكن أن تؤدي ما عليك الآن، لكن سيأتي الوقت الذي يحال بينك وبينه فيه؛ فما كنا نذكره في أداء الزكاة ومثل ذلك في أداء الصلاة ومثل ذلك في كل الفرائض يستطيعه الإنسان الآن في صحته ومضاء تصرفه، لكن سيأتي الوقت الذي يمنع منها، لا يستطيعها؛ فلذلك عليه أن يبادر قبل فوات الأوان.

والفرصة الثالثة: ما أنعم الله به علينا من أنواع النعم؛ فهذه النعم في هذا العمر الدنيوي لها آجال محددة، كل نعمة منها لها أجل مسمى، وإذا لم يستغلها الإنسان كانت ترة عليه وحجة، فكل وظيفة يشغلها الإنسان إذا لم يستغلها في مرضات الله ونصرة دين الله فلن يمتع بها وسيفارقها؛ لأن بقاءه في أية نعمة كبقائه على كرسي الحلاق ينتظر الحلاقة ثم يقوم ليترك مكانه لغيره، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك؛ فكل نعمة تشغلها قد كان متع بها قبلك غيرك وستؤول بعدك إلى غيرك فلذلك بادر مدة بقائك فيها فاستغلها في مرضات الله قبل أن يفوت الأوان، وكم من إنسان كان في نعمة عظيمة فلم يصرفها في طاعة الله ففارقته تلك النعمة فندم ندماً شديداً، ولا شك أن من تقدم به العمر يتذكر نعمة الشباب ونعمة الفراغ ونعمة القوة، وقد ذهبت، كان يستطيع قيام الليل، كان يستطيع كثيراً من نصرة الدين، كان يستطيع كثيراً من الأعمال وقد ضعف عنها، لا يستطيعها الآن؛ فما تشتهي غير أن تشتهي.

فهذا الحال إذا كان الإنسان يدركه فليعلم أن الفرص لا تتكرر وأنها إذا حصلت ينبغي أن يستغلها، إذا كان في أية وظيفة، سواءً كانت رسمية أو اجتماعية كما مكن الله فيهم من أنواع النعم في الأسرة والبيت وغير ذلك وما جعل تحت أيدينا من الأموال وغير هذا، كلها لها آجال محددة، وهي عند الأجل تقبض كما تقبض الروح، فإذا لم يستغلها الإنسان فات الأوان.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع