Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

شرح زاد المستقنع أحكام القبور وأحكام أهل الميت


الحلقة مفرغة

حكم رفع القبر قدر شبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المصنف عليه رحمة الله: [ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً].

ذكر المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بدفن الميت؛ ثم شرع في بيان ما ينبغي أن يُفعل بظاهر القبر، فبين رحمه الله بهذه الجملة أن القبر يرفع شبراً، بمعنى: أن القبور لا ينبغي أن تكون مستوية بالأرض؛ لأن استواءها بالأرض يوجب الجهل بها، وعدم الرعاية لحرمتها، فكلما كانت معروفةً بينة كان ذلك أدعى لحفظها بعدم الوطء والجلوس عليها والصلاة إليها، وأما إذا كانت مستويةً بالأرض فالأمر على خلاف ذلك.

وقوله: (شبراً): الشبر: من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر، فهذا القدر يوصف في لغة العرب بكونه شبراً كما ذكر صاحب اللسان.

وقد يطلق (الشبر) بمعنى العطية والهِبة، ومنه: تسمى المرأة الكريمة (مشبورة).

وقوله: (يرفع شبراً) مأخوذٌ من السنة؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مرتفعاً عن الأرض، فلم يكن لاصقاً بالأرض ولا مبالغاً في رفعه؛ بل كان مرفوعاً قدر شبر كما ورد في بعض الروايات، وهذا القدر هو المأذون به: وهو ما يقارب الشبر؛ يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً؛ لأنه تتحقق به الحاجة من العلم بالقبر، فلا يصلى ولا يجلس ولا يوطأ عليه، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرناها.

ومما يدل على مشروعية رفع القبر: ما ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال لـأبي الهياج : (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورةً إلا طمستها، ولا تمثالاً إلا كسرته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل هذا الحديث على أن السنة: ألا يترك القبر مشرفاً، وهو: أن يبالغ في رفعه على الأرض، وكذلك أيضاً لا يترك مستوياً بالأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الإزالة بالمشرف، فدل على أن القبر غير المشرف، وهو الذي ارتفع ارتفاعاً معقولاً دون أن يكون فيه مبالغة؛ يترك على حاله.

وكذلك ورد في صحيح البخاري عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما كُشِف لبعض التابعين رحمهم الله، أنه كان مرتفعاً عن الأرض، لهذا كله نص العلماء على أن السنة في القبور أن ترفع عن الأرض، وذكروا هذا القدر -قدر شبر- كما ورد في بعض الروايات في قبره صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: (مسنماً) تسنيم الشيء رفعه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:27-28] فقوله: (من تسنيم) قيل: إنها عين تأتي من أعلى الجنة، فلا يتكلف الإنسان في طلبها فأنهار الجنة تكون حاضرة للإنسان حتى إنها تصب عليه من علوٍ، فإذا اشتهاها وأرادها كانت أقرب ما تكون إليه، وهذا على أحد الأقوال في تفسيرها.

وسنم الشيء إذا رفعه وأعلاه، وقوله: (مسنماً) أي: غير مسطح، وقد عرف أهل اللغة كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: أن التسنيم ضد التسطيح، وكأنه رفع القبر، وذلك يكون باجتماع طرفيه، وقد ورد ذلك في حديث التمار بن التمار ،كما أشار إليه البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه لما كُشِفَ له عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رآه مسنماً، ورأى قبر صاحبيه على هذه الصفة، ثلاثة قبور غير لاصقة بالأرض ولا مرتفعة، وهي مسنمة، وهذه هي السنة: أن يكون القبر مسنماً خلافاً لمن قال من العلماء: إن السنة أن يكون مسطحاً.

فالتسنيم اجتماع الطرفين كسنام البعير.

حكم تجصيص القبر

قال المصنف رحمه الله: [ويكره تجصيصه].

الكراهة تطلق عند العلماء على معنيين:

الكراهة التحريمية، بمعنى: أنه لا يجوز فعل الشيء المكروه، ومن فعله أثم، ومن تركه أثيب.

والكراهة التنزيهية، وهي التي يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها.

فقوله: (ويكره) مترددٌ بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه، والأكثر في تعبيرات السلف الصالح رحمةُ الله عليهم حمل الكراهة على التحريم، فقد تجد الأئمة كالإمام أحمد ومالك رحمة الله على الجميع يقول: هذا شيءٌ أكرهه، ومراده: أنه حرام، وإنما اتقى ويتقي كل منهم التعبير بالحرمة ورعاً وخوفاً من الله سبحانه وتعالى من التصريح بالحرمة، فيقول: أكرهه، فعبر رحمه الله بكراهية البناء على القبر، والكراهة تحريمية.

وقوله: (ويكره تجصيصه) أي: تجصيص القبر، وهو وضع الجص فيه، وذلك يكون ببناء داخله، وهكذا يكون بتزويقه وتجميله ووضع الرخام ونحو ذلك في داخل القبر، فكل ذلك مكروهٌ كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر كما ثبت في حديث جابر وغيره، وهذا النهي الأصل أنه للتحريم حتى يدل الدليل على ما دون التحريم وهو الكراهة، ولا دليل يدل على أنه مكروهٌ كراهة تنزيه، فهو مكروهٌ كراهةً تحريمية.

وعلى هذا: فإنه يعتبر من المحرمات، فلا يجوز تزويق القبور ولا تبطين داخلها ولا تطيينه ولا تجصيصه، وإنما يكون على حال الأرض وعلى هيئتها؛ إلا في أحوال مستثناة يشد فيها القبر كما في المواضع التي فيها الرمال ونحوها، فقد رخص بأشياء قدر الحاجة والضرورة على سبيل أن يثبت القبر على المقبور فلا ينهدم عليه، وليس على سبيل البناء.

فقوله: (ويكره تجصيصه) شرع رحمه الله في الأمور التي لا يجوز فعلها بالقبر، فبعد أن بين ما هي السنة في القبر، وأنه يرفع ولا يترك مستوياً على الأرض، وأنه يسنم، فابتدأ بالتجصيص الذي يكون من الداخل، ثم سيذكر ما بعد ذلك من البناء والكتابة عليه، وهي تكون في الظاهر، وكل ذلك من ترتيب الأفكار وتتابعها على النسق المعروف، وابتدأ بالتجصيص؛ لأنه أول ما يكون بعد وضع الميت.

حكم البناء على القبور

قال المصنف رحمه الله: [والبناء عليه]:

أي: أن البناء على القبر محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عتب على اليهود والنصارى بناء الكنائس على العبد الصالح إذا مات منهم، وقال: (أولئك شرار الخلق) فعدهم من شرار الخلق، والسبب في هذا: أن أعظم الأمور وأجلها عند الله سبحانه وتعالى، والتي أنزل من أجلها كتبه وأرسل رسله، هي التوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى.

والبناء على القبور مفضٍ إلى التعظيم، وإلى الاعتقاد فيها والتعلق بأهلها وأصحابها؛ ولذلك كان البناء من كبائر الذنوب المحرمة التي لا يجوز فعلها، ولا شك أن الحي أولى بالبناء من الميت؛ أما الميت فعمران داره بالعمل الصالح، وبما يكون منه من الخير وما قدم لآخرته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما البناء فإنه لا ينفعه بشيء.

ولذلك لما افتتن الناس بالبناء على القبور حصلت الأمور المحظورة، فكان الأولون يبنون، ثم خلف من بعدهم خلوف اعتقدوا تعظيم القبور، ثم خلف من بعدهم خلوف طافوا بها واستغاثوا بأهلها واستجاروا بهم، حتى صرفوا ما لله لعباد الله، وكل ذلك من أعظم الأمور وأشدها؛ لأنه يمس عقيدة الإنسان وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويفضي إلى الشرك بالله عز وجل.

وقد أجمع العلماء والفقهاء رحمهم الله على اختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على تحريم البناء على القبور، وأن هذا الفعل من كبائر الذنوب، وأنه لا يترك البناء على القبر لما فيه من فتنة الحي وصرفه إلى تعظيم المقبور، وهذا كما هو محل إجماعٍ بين العلماء رحمة الله عليهم، فالنص أيضاً ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم البناء على القبر.

حكم الكتابة على القبور

قال المصنف رحمه الله: [والكتابة]:

أي: والكتابة على القبر، فقد ورد في الترمذي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة على القبر)، والكتابة على القبر نوعٌ من الإعلان، والكتابة تأتي على صور:

الصورة الأولى: الكتابة على القبر من باب المدح والثناء كما كان يفعله أهل الجاهلية، فيكتبون على قبور بعضهم بما فيه ثناء على صاحب القبر، وقد يكون ذماً له وتوبيخاً له، وقد تكون فيها شماتة، كأن يكتب أبياتاً على عظيمٍ لكي يشمت به بعد موته، وهذه الأحوال كلها محرمة؛ لأنه لا مصلحة في هذه الكتابة، بل الشماتة بالميت معتبرة، وكذلك مدحه لا يفيده، ولربما ضر كما في حديث الصحابي لما نُدِب، فلا خير في كتابتها مدحاً ولا ذماً.

الصورة الثانية: الكتابة للإعلام وهي: أن يكتب اسم الشخص، وللعلماء فيها وجهان:

من أهل العلم من يرى أن عموم النهي يشملها، وأنه لا يجوز كتابة اسم المقبور على قبره، وأنه يترك كسائر الخلق، حتى يكون ذلك أدعى للاتعاظ والاعتبار، وإذا زار الإنسان قريبه سلم عليه؛ فإن السلام يبلغه، فليس ثم حاجة لتخصيصه بالإعلام.

ورخص بعض أهل العلم رحمهم الله في الكتابة فقالوا: إن المنهي عنه إنما هو الكتابة من أجل الذم والمدح، فخصصوا النهي ولا مخصص، وإنما خصصوه بما عرف في عادة الجاهلية.

والذي يظهر أن المنع مطلقاً أولى، وأنه لا يشرع الكتابة على القبر لا إعلاماً ولا ندباً ولا مدحاً ولا ذماً، وإنما يفعل كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين من بعده، فتترك القبور دون حاجة إلى ذكر الأسماء أو الإعلام بعلامات.

الصورة الثانية: وضع علامة يتميز بها القبر لكي يزور الإنسان قريبة أو يدفن الأقارب بجانب هذا الميت، وقد ورد ما يدل على ذلك في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبره أمر بحجرٍ عليه حتى يُعلّم، قال: فأدفن إليه أهل بيته أو قرابته.

قال العلماء: في هذا دليل على مشروعية تعليم القبر للحاجة، حتى يدفن إليه القرابة، وفرقٌ بين التعليم وبين الكتابة، فالكتابة شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، ولا شك أن الكتابة فيها نوع من الإجلال والتمييز لهذا القبر عن بقية القبور، أما وضع العلامة التي لا تكلف فيها، فإنه لا حرج فيها إذا كانت على السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: حتى يدفن الإنسان إليه قرابته، كأن يكون والداً له أو ولداً، ويريد أن يدفن إليه قرابة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وفعله، فدل على أنه لا حرج أن يدفن الإنسان عنده قرابته بأن يضع علامةً على قبره.

ومن هنا قالوا: حديث عثمان رضي الله عنه فيه دليلٌ على مسائل:

المسألة الأولى: فضيلة عثمان وما له من منقبة؛ حيث خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة إذ أضاف إليه قبر قرابته.

والمسألة الثانية: أن فيه دليلاً على مشروعية إعلام القبر، وهي أن تضع علامةً عليه دون أن تكون شاخصةً بينة تصل إلى الحد الممنوع؛ بل تكون علامة واضحة بقدر، كالحجر الذي يوضع على رأس الرجل من باب الإعلام.

والمسألة الثالثة: مشروعية الدفن بجوار الخير والصالح، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ورود السنة به؛ فإن أبا بكر طلب أن يدفن إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر طلب أن يدفن إلى جوار صاحبيه، ومن هنا نص بعض العلماء على استحباب أن يكون الإنسان مقبوراً إلى جوار العلماء ونحوهم ممن عرف بالفضل والتمسك بالسنة والاستقامة على الطاعة، وهذا عُرِفَ من حال السلف رحمة الله عليهم، ونص شيخ الإسلام رحمةُ الله عليه على أنه درج على ذلك فعل السلف رحمهم الله، دون غلو ودون أن يعتقد أنهم ينفعوه أو يكون هناك غلو في الاعتقاد فيهم؛ وإنما يفعل هذا تأسياً بـعمر ؛ لأن عمر استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه؛ فإذا كان قصد الإنسان أن يصيب ذلك فإنه لا حرج فيه.

ولذلك قالوا: إنه لا حرج أن يطلب الدفن إلى جوار العالم ونحو ذلك ممن عُرِف بالتمسك بالسنة، وهكذا الشهداء من كانت خاتمته على الشهادة.

وهكذا الأرض المقدسة التي لها فضل؛ ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقربه إلى الأرض المقدسة؛ لأن القرب من الأرض المفضلة أولى من البعد منها، والدفن في المواضع المفضلة كبقيع الغرقد ونحوه من الأرض التي شُهِدَ بفضلها أولى من الدفن بغيرها، وهذا بالإجماع؛ فإن الدفن في البقيع أفضل لورود النصوص في تفضيله على غيره.

وأما بالنسبة لضم القرابة بعضهم إلى بعض: فحديث عثمان واضح في الدلالة على هذا؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (حتى أدفن إليه قرابتي).

حكم الجلوس على القبور

قال المصنف رحمه الله: [والجلوس].

أي: ويحرم الجلوس على القبر، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يجلس الرجل على جمرة من نار فتحرق ثيابه وتخلص إلى جسده، أهون من أن يجلس على قبر) وقال: (لا تؤذه )، كما في حديث عامر بن حزم لما اتكأ على القبر، (فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الاتكاء وقال: لا تؤذه) أي: لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك.

ومن هنا نص العلماء رحمهم الله على حرمة الجلوس على القبور، وحرمة الاتكاء عليها، وحرمة النوم عليها، وهذه من الحرمة التي تتعلق بالقبر، وألحقوا بذلك الامتهان: كالبول وقضاء الحاجة بين القبور، ووطئها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت)، وأما حديث: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فهو إخبار، وقد كانت القبور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليست محوطة ولا محسورة؛ ولذلك يسلكون الفجاج بعد دفنهم.

فقوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فيه إشارة إلى السماع الخالي عن حكم القرع بالنعال على القبر، وفرقٌ بين الإشارة إلى حكم السماع وبين الحكم بجواز المشي بالنعال على القبور، فنهيه عليه الصلاة والسلام كما في السنن والمسند يدل على تحريم المشي على القبور بالنعال، إلا في أحوال مستثناه، ومن ذلك:

أن يكون الحر شديداً يؤذي الإنسان، أو تكون الأرض فيها ضرر من شوك ونحو ذلك؛ يضطر الإنسان معه إلى لبس حذاءٍ ونحو ذلك، فلا حرج في هذه الحالة أن يلبس حذاءه، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يشرع أن يمتهن القبر ولا أن يطأه بنعاله، وهذه من حرمة القبور وحرمة أهلها، فلا يشرع أن يسير بينها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت) فنص على وجوب نزع السبتية.

وقال بعض العلماء بتخصيص الحكم بالنعال السبتية التي لا شعر فيها، فيختص الحكم بهذا النوع من النعال.

والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه بوصفها، لا أن الحكم مختص بالسبتية، لقوله: ( فقد آذيتَ )، فدل على أن العبرة بالمرور بالنعال بين القبور، لا أن الحكم متعلقٌ بنعلٍ مخصوص دون غيرهِ.

وعلى هذا فإنه يحرم المشي بالنعال على القبور، ووطؤها بالنعال أشد، وإنما ينصح بحمل نعاله معه أو خلعه قبل دخول المقبرة.

وأما الطرقات التي بين القبور: فإن كانت خالية من المقابر فيجوز أن يمشي بنعله فيها؛ لأن الحكم يختص بالقبور، وأما بالنسبة للتحريم فيختص في حالة ما إذا دخل بالجنازة بين القبور، أو أراد أن يقبرها بين قبرين، فإنه يشرع أن يخلع حذاءه قبل أن يدخل في هذا الموضع أو يمر عليه.

حكم وطء القبر والاتكاء عليه

قال المصنف رحمه الله: [والوطء عليه والاتكاء إليه].

أي: على القبر، وهذه من الأمور السمعية الغيبية، التي لا يستطيع الإنسان أن يعرف حكمتها وعلتها، فما على الله إلا الأمر، وما على رسولنا صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم، والله أعلم بحقيقة الأمر.

فقد يقول قائل: هذا ميتٌ مقبور، كيف يتضرر ويتأذى بالوطء على قبره؟

فهذا أمرٌ لا يبحث فيه بالعقل، فالعقل يقف عند حدٍ معين، والله سبحانه وتعالى لم يكشف لنا حقيقة هذه الأذية ولا كيفيتها ولا صفتها، فيتوقف المؤمن عند الحكم، ونقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لا يزيد المؤمن على الامتثال؛ أما كيف يتأذى ويتضرر إذا وُطئ على قبره أو اتُكئَ عليه ونحو ذلك، فهذا أمرٌ لا يبحث فيه ولا يسأل عنه، وإنما يفوض علمه إلى الله علاّم الغيوب.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المصنف عليه رحمة الله: [ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً].

ذكر المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بدفن الميت؛ ثم شرع في بيان ما ينبغي أن يُفعل بظاهر القبر، فبين رحمه الله بهذه الجملة أن القبر يرفع شبراً، بمعنى: أن القبور لا ينبغي أن تكون مستوية بالأرض؛ لأن استواءها بالأرض يوجب الجهل بها، وعدم الرعاية لحرمتها، فكلما كانت معروفةً بينة كان ذلك أدعى لحفظها بعدم الوطء والجلوس عليها والصلاة إليها، وأما إذا كانت مستويةً بالأرض فالأمر على خلاف ذلك.

وقوله: (شبراً): الشبر: من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر، فهذا القدر يوصف في لغة العرب بكونه شبراً كما ذكر صاحب اللسان.

وقد يطلق (الشبر) بمعنى العطية والهِبة، ومنه: تسمى المرأة الكريمة (مشبورة).

وقوله: (يرفع شبراً) مأخوذٌ من السنة؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مرتفعاً عن الأرض، فلم يكن لاصقاً بالأرض ولا مبالغاً في رفعه؛ بل كان مرفوعاً قدر شبر كما ورد في بعض الروايات، وهذا القدر هو المأذون به: وهو ما يقارب الشبر؛ يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً؛ لأنه تتحقق به الحاجة من العلم بالقبر، فلا يصلى ولا يجلس ولا يوطأ عليه، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرناها.

ومما يدل على مشروعية رفع القبر: ما ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال لـأبي الهياج : (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورةً إلا طمستها، ولا تمثالاً إلا كسرته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل هذا الحديث على أن السنة: ألا يترك القبر مشرفاً، وهو: أن يبالغ في رفعه على الأرض، وكذلك أيضاً لا يترك مستوياً بالأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الإزالة بالمشرف، فدل على أن القبر غير المشرف، وهو الذي ارتفع ارتفاعاً معقولاً دون أن يكون فيه مبالغة؛ يترك على حاله.

وكذلك ورد في صحيح البخاري عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما كُشِف لبعض التابعين رحمهم الله، أنه كان مرتفعاً عن الأرض، لهذا كله نص العلماء على أن السنة في القبور أن ترفع عن الأرض، وذكروا هذا القدر -قدر شبر- كما ورد في بعض الروايات في قبره صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: (مسنماً) تسنيم الشيء رفعه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:27-28] فقوله: (من تسنيم) قيل: إنها عين تأتي من أعلى الجنة، فلا يتكلف الإنسان في طلبها فأنهار الجنة تكون حاضرة للإنسان حتى إنها تصب عليه من علوٍ، فإذا اشتهاها وأرادها كانت أقرب ما تكون إليه، وهذا على أحد الأقوال في تفسيرها.

وسنم الشيء إذا رفعه وأعلاه، وقوله: (مسنماً) أي: غير مسطح، وقد عرف أهل اللغة كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: أن التسنيم ضد التسطيح، وكأنه رفع القبر، وذلك يكون باجتماع طرفيه، وقد ورد ذلك في حديث التمار بن التمار ،كما أشار إليه البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه لما كُشِفَ له عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رآه مسنماً، ورأى قبر صاحبيه على هذه الصفة، ثلاثة قبور غير لاصقة بالأرض ولا مرتفعة، وهي مسنمة، وهذه هي السنة: أن يكون القبر مسنماً خلافاً لمن قال من العلماء: إن السنة أن يكون مسطحاً.

فالتسنيم اجتماع الطرفين كسنام البعير.

قال المصنف رحمه الله: [ويكره تجصيصه].

الكراهة تطلق عند العلماء على معنيين:

الكراهة التحريمية، بمعنى: أنه لا يجوز فعل الشيء المكروه، ومن فعله أثم، ومن تركه أثيب.

والكراهة التنزيهية، وهي التي يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها.

فقوله: (ويكره) مترددٌ بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه، والأكثر في تعبيرات السلف الصالح رحمةُ الله عليهم حمل الكراهة على التحريم، فقد تجد الأئمة كالإمام أحمد ومالك رحمة الله على الجميع يقول: هذا شيءٌ أكرهه، ومراده: أنه حرام، وإنما اتقى ويتقي كل منهم التعبير بالحرمة ورعاً وخوفاً من الله سبحانه وتعالى من التصريح بالحرمة، فيقول: أكرهه، فعبر رحمه الله بكراهية البناء على القبر، والكراهة تحريمية.

وقوله: (ويكره تجصيصه) أي: تجصيص القبر، وهو وضع الجص فيه، وذلك يكون ببناء داخله، وهكذا يكون بتزويقه وتجميله ووضع الرخام ونحو ذلك في داخل القبر، فكل ذلك مكروهٌ كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر كما ثبت في حديث جابر وغيره، وهذا النهي الأصل أنه للتحريم حتى يدل الدليل على ما دون التحريم وهو الكراهة، ولا دليل يدل على أنه مكروهٌ كراهة تنزيه، فهو مكروهٌ كراهةً تحريمية.

وعلى هذا: فإنه يعتبر من المحرمات، فلا يجوز تزويق القبور ولا تبطين داخلها ولا تطيينه ولا تجصيصه، وإنما يكون على حال الأرض وعلى هيئتها؛ إلا في أحوال مستثناة يشد فيها القبر كما في المواضع التي فيها الرمال ونحوها، فقد رخص بأشياء قدر الحاجة والضرورة على سبيل أن يثبت القبر على المقبور فلا ينهدم عليه، وليس على سبيل البناء.

فقوله: (ويكره تجصيصه) شرع رحمه الله في الأمور التي لا يجوز فعلها بالقبر، فبعد أن بين ما هي السنة في القبر، وأنه يرفع ولا يترك مستوياً على الأرض، وأنه يسنم، فابتدأ بالتجصيص الذي يكون من الداخل، ثم سيذكر ما بعد ذلك من البناء والكتابة عليه، وهي تكون في الظاهر، وكل ذلك من ترتيب الأفكار وتتابعها على النسق المعروف، وابتدأ بالتجصيص؛ لأنه أول ما يكون بعد وضع الميت.

قال المصنف رحمه الله: [والبناء عليه]:

أي: أن البناء على القبر محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عتب على اليهود والنصارى بناء الكنائس على العبد الصالح إذا مات منهم، وقال: (أولئك شرار الخلق) فعدهم من شرار الخلق، والسبب في هذا: أن أعظم الأمور وأجلها عند الله سبحانه وتعالى، والتي أنزل من أجلها كتبه وأرسل رسله، هي التوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى.

والبناء على القبور مفضٍ إلى التعظيم، وإلى الاعتقاد فيها والتعلق بأهلها وأصحابها؛ ولذلك كان البناء من كبائر الذنوب المحرمة التي لا يجوز فعلها، ولا شك أن الحي أولى بالبناء من الميت؛ أما الميت فعمران داره بالعمل الصالح، وبما يكون منه من الخير وما قدم لآخرته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما البناء فإنه لا ينفعه بشيء.

ولذلك لما افتتن الناس بالبناء على القبور حصلت الأمور المحظورة، فكان الأولون يبنون، ثم خلف من بعدهم خلوف اعتقدوا تعظيم القبور، ثم خلف من بعدهم خلوف طافوا بها واستغاثوا بأهلها واستجاروا بهم، حتى صرفوا ما لله لعباد الله، وكل ذلك من أعظم الأمور وأشدها؛ لأنه يمس عقيدة الإنسان وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويفضي إلى الشرك بالله عز وجل.

وقد أجمع العلماء والفقهاء رحمهم الله على اختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على تحريم البناء على القبور، وأن هذا الفعل من كبائر الذنوب، وأنه لا يترك البناء على القبر لما فيه من فتنة الحي وصرفه إلى تعظيم المقبور، وهذا كما هو محل إجماعٍ بين العلماء رحمة الله عليهم، فالنص أيضاً ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم البناء على القبر.

قال المصنف رحمه الله: [والكتابة]:

أي: والكتابة على القبر، فقد ورد في الترمذي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة على القبر)، والكتابة على القبر نوعٌ من الإعلان، والكتابة تأتي على صور:

الصورة الأولى: الكتابة على القبر من باب المدح والثناء كما كان يفعله أهل الجاهلية، فيكتبون على قبور بعضهم بما فيه ثناء على صاحب القبر، وقد يكون ذماً له وتوبيخاً له، وقد تكون فيها شماتة، كأن يكتب أبياتاً على عظيمٍ لكي يشمت به بعد موته، وهذه الأحوال كلها محرمة؛ لأنه لا مصلحة في هذه الكتابة، بل الشماتة بالميت معتبرة، وكذلك مدحه لا يفيده، ولربما ضر كما في حديث الصحابي لما نُدِب، فلا خير في كتابتها مدحاً ولا ذماً.

الصورة الثانية: الكتابة للإعلام وهي: أن يكتب اسم الشخص، وللعلماء فيها وجهان:

من أهل العلم من يرى أن عموم النهي يشملها، وأنه لا يجوز كتابة اسم المقبور على قبره، وأنه يترك كسائر الخلق، حتى يكون ذلك أدعى للاتعاظ والاعتبار، وإذا زار الإنسان قريبه سلم عليه؛ فإن السلام يبلغه، فليس ثم حاجة لتخصيصه بالإعلام.

ورخص بعض أهل العلم رحمهم الله في الكتابة فقالوا: إن المنهي عنه إنما هو الكتابة من أجل الذم والمدح، فخصصوا النهي ولا مخصص، وإنما خصصوه بما عرف في عادة الجاهلية.

والذي يظهر أن المنع مطلقاً أولى، وأنه لا يشرع الكتابة على القبر لا إعلاماً ولا ندباً ولا مدحاً ولا ذماً، وإنما يفعل كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين من بعده، فتترك القبور دون حاجة إلى ذكر الأسماء أو الإعلام بعلامات.

الصورة الثانية: وضع علامة يتميز بها القبر لكي يزور الإنسان قريبة أو يدفن الأقارب بجانب هذا الميت، وقد ورد ما يدل على ذلك في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبره أمر بحجرٍ عليه حتى يُعلّم، قال: فأدفن إليه أهل بيته أو قرابته.

قال العلماء: في هذا دليل على مشروعية تعليم القبر للحاجة، حتى يدفن إليه القرابة، وفرقٌ بين التعليم وبين الكتابة، فالكتابة شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، ولا شك أن الكتابة فيها نوع من الإجلال والتمييز لهذا القبر عن بقية القبور، أما وضع العلامة التي لا تكلف فيها، فإنه لا حرج فيها إذا كانت على السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: حتى يدفن الإنسان إليه قرابته، كأن يكون والداً له أو ولداً، ويريد أن يدفن إليه قرابة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وفعله، فدل على أنه لا حرج أن يدفن الإنسان عنده قرابته بأن يضع علامةً على قبره.

ومن هنا قالوا: حديث عثمان رضي الله عنه فيه دليلٌ على مسائل:

المسألة الأولى: فضيلة عثمان وما له من منقبة؛ حيث خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة إذ أضاف إليه قبر قرابته.

والمسألة الثانية: أن فيه دليلاً على مشروعية إعلام القبر، وهي أن تضع علامةً عليه دون أن تكون شاخصةً بينة تصل إلى الحد الممنوع؛ بل تكون علامة واضحة بقدر، كالحجر الذي يوضع على رأس الرجل من باب الإعلام.

والمسألة الثالثة: مشروعية الدفن بجوار الخير والصالح، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ورود السنة به؛ فإن أبا بكر طلب أن يدفن إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر طلب أن يدفن إلى جوار صاحبيه، ومن هنا نص بعض العلماء على استحباب أن يكون الإنسان مقبوراً إلى جوار العلماء ونحوهم ممن عرف بالفضل والتمسك بالسنة والاستقامة على الطاعة، وهذا عُرِفَ من حال السلف رحمة الله عليهم، ونص شيخ الإسلام رحمةُ الله عليه على أنه درج على ذلك فعل السلف رحمهم الله، دون غلو ودون أن يعتقد أنهم ينفعوه أو يكون هناك غلو في الاعتقاد فيهم؛ وإنما يفعل هذا تأسياً بـعمر ؛ لأن عمر استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه؛ فإذا كان قصد الإنسان أن يصيب ذلك فإنه لا حرج فيه.

ولذلك قالوا: إنه لا حرج أن يطلب الدفن إلى جوار العالم ونحو ذلك ممن عُرِف بالتمسك بالسنة، وهكذا الشهداء من كانت خاتمته على الشهادة.

وهكذا الأرض المقدسة التي لها فضل؛ ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقربه إلى الأرض المقدسة؛ لأن القرب من الأرض المفضلة أولى من البعد منها، والدفن في المواضع المفضلة كبقيع الغرقد ونحوه من الأرض التي شُهِدَ بفضلها أولى من الدفن بغيرها، وهذا بالإجماع؛ فإن الدفن في البقيع أفضل لورود النصوص في تفضيله على غيره.

وأما بالنسبة لضم القرابة بعضهم إلى بعض: فحديث عثمان واضح في الدلالة على هذا؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (حتى أدفن إليه قرابتي).

قال المصنف رحمه الله: [والجلوس].

أي: ويحرم الجلوس على القبر، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يجلس الرجل على جمرة من نار فتحرق ثيابه وتخلص إلى جسده، أهون من أن يجلس على قبر) وقال: (لا تؤذه )، كما في حديث عامر بن حزم لما اتكأ على القبر، (فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الاتكاء وقال: لا تؤذه) أي: لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك.

ومن هنا نص العلماء رحمهم الله على حرمة الجلوس على القبور، وحرمة الاتكاء عليها، وحرمة النوم عليها، وهذه من الحرمة التي تتعلق بالقبر، وألحقوا بذلك الامتهان: كالبول وقضاء الحاجة بين القبور، ووطئها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت)، وأما حديث: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فهو إخبار، وقد كانت القبور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليست محوطة ولا محسورة؛ ولذلك يسلكون الفجاج بعد دفنهم.

فقوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فيه إشارة إلى السماع الخالي عن حكم القرع بالنعال على القبر، وفرقٌ بين الإشارة إلى حكم السماع وبين الحكم بجواز المشي بالنعال على القبور، فنهيه عليه الصلاة والسلام كما في السنن والمسند يدل على تحريم المشي على القبور بالنعال، إلا في أحوال مستثناه، ومن ذلك:

أن يكون الحر شديداً يؤذي الإنسان، أو تكون الأرض فيها ضرر من شوك ونحو ذلك؛ يضطر الإنسان معه إلى لبس حذاءٍ ونحو ذلك، فلا حرج في هذه الحالة أن يلبس حذاءه، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يشرع أن يمتهن القبر ولا أن يطأه بنعاله، وهذه من حرمة القبور وحرمة أهلها، فلا يشرع أن يسير بينها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت) فنص على وجوب نزع السبتية.

وقال بعض العلماء بتخصيص الحكم بالنعال السبتية التي لا شعر فيها، فيختص الحكم بهذا النوع من النعال.

والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه بوصفها، لا أن الحكم مختص بالسبتية، لقوله: ( فقد آذيتَ )، فدل على أن العبرة بالمرور بالنعال بين القبور، لا أن الحكم متعلقٌ بنعلٍ مخصوص دون غيرهِ.

وعلى هذا فإنه يحرم المشي بالنعال على القبور، ووطؤها بالنعال أشد، وإنما ينصح بحمل نعاله معه أو خلعه قبل دخول المقبرة.

وأما الطرقات التي بين القبور: فإن كانت خالية من المقابر فيجوز أن يمشي بنعله فيها؛ لأن الحكم يختص بالقبور، وأما بالنسبة للتحريم فيختص في حالة ما إذا دخل بالجنازة بين القبور، أو أراد أن يقبرها بين قبرين، فإنه يشرع أن يخلع حذاءه قبل أن يدخل في هذا الموضع أو يمر عليه.