أرشيف المقالات

دلالة لفظة الهبة في القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
دلالة لفظة الهبة في القرآن الكريم


تتكئ هذه المقالة العلمية في تبيان دلالة الهبة ومرادفاتها في القرآن الكريم على قوله تعالى: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4].

الصدقات: جمع صداق، ويعني المهر الذي يعطى للزوجة على وجه المكرمة، وأطلق على الصداق نحلة؛ لأنه يعطى للزوجة دون عوض مالي، ولا يجب في مقابلته أكثر من التمتع؛ فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة.
 
نحلة: عطية، يقال: نحلت فلانًا شيئًا: أعطيته، والنِّحلة أخص من الهبة؛ إذ كل هبة نحلة، وليس كل نحلة هبة، والنِّحلة مشتقة من النحل الذي يعطي العسل، ولما كان النحل موصوفًا بالعطاء جاءت منه كلمة نحلة، فكأنها عطيته.
 
ويقال لعطية الرجل لابنه: نحلة؛ لأنه يعطيه بدون مقابل أو عوض.
 
وقيل: النِّحلة: الديانة، والمعنى: أعطوا النساء مهورهن ديانة، فيكون إعراب نحلة: "مفعولًا لأجله"، وإن كان بمعنى الفريضة فيكون إعرابها حالًا.
 
الهنيء: هو الطيب المستساغ الذي لا ينغصه شيء.
 
والمريء: هو مجرى الطعام والشراب، ويعني في الآية: المحمود العاقبة، التام الهضم، الذي لا يضر ولا يؤذي.
 
وقد أشارت الآية إلى أنه يباح للزوج وغيره أخذ ما تهبه المرأة عن طيب نفس.
 
والهبة: هي ما يقدمه المسلم لغيره تبرعًا من غير مقابل، وتصبح ملكًا للموهوب له بمجرد التسليم، وله أن يتصرف بها متى شاء، وكيفما يشاء؛ بيعًا ووصيةً وهبةً.
 
والهبة كالهدية والصدقة والنقوط في العرس والحمل إليه، وما يردده بعض الناس من أن الهدية لا تهدى ولا تباع: لا أصل له.
 
الرجوع في الهبة:
ذهب جمهور العلماء إلى حرمة الرجوع في الهبة بعد قبضها[1]، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعود في هبته أشنع تشبيه؛ عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه))؛ رواه مسلم، (باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة) رقم 1622 ج 3 / 1241.
 
وهذا تشبيه قبيح؛ حيث شبه الذي يعود في هبته بالكلب الذي يعود في قيئه، وسر تخصيص الكلب بالتشبيه: انفرادُه بأكل قيئه دون سائر المخلوقات.
 
من يجوز له الرجوع في الهبة:
ولكل واهب أن يرجع في هبته قبل إقباضها؛ لبقاء ملكه، مع الكراهة؛ لحديث: ((العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه))، وبعد إقباضها يحرم ولا يصح، قال أحمد في رواية، قال قتادة: ولا أعلم الرجوع في الهبة إلا حرامًا، ما لم يكن أبًا؛ فإن له أن يرجع فيما وهبه لولده بشروط أربعة:
الأول: أن تكون باقية في ملك ولده.
 
الثاني: أن يتصرف الابن في الهبة؛ كأن يرهن الابن الهبة، أو يحجر عليه لإفلاس، فإن زال الحجر والرهن فله الرجوع؛ لزوال المانع.
 
الثالث: ألا يزيد الموهوب زيادة متصلة؛ كالسمن والتعلم، فإن زادت ففي الرجوع روايتان، وإن كانت الزيادة منفصلة لم يمنع الرجوع، والزيادة للابن؛ لأنها نماء منفصل في ملكه، فكانت له كنماء المبيع المعيب.
 
الرابع: ألا يتعلق بها رغبة لغير الولد، نحو أن يرغب الناس في تزويجه فيزوجوه من أجلها، أو يداينوه، فإن تعلقت بها رغبة، ففيه روايتان[2].
 
وأجاز الحنفية الرجوع في الهبة[3].
 
رجوع الأم في الهبة:
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأم كالأب في جواز الرجوع بالهبة؛ لأن لفظ الوالد يشملها، وحكي عن المؤيد بالله وأبي طالب والإمام يحيى: أنه لا يجوز لها الرجوع؛ إذ رجوع الأب مخالف للقياس، فلا يقاس عليه.
 
والمالكية فرقوا بين الأب والأم، فقالوا: للأم أن ترجع إذا كان الأب حيًّا دون ما إذا مات[4].
 
رجوع الزوجة في هبتها:
اختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها مهرها لزوجها:
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا بلغت المرأة واجتمع لها عقلها، جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها، بكرًا كانت أو ثيبًا، وليس للزوجة الرجوع في الهبة[5].
 
وقال مالك: لا يجوز أمر البكر في مالها، ولا ما وضعت عن زوجها من الصداق، وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها، ولا يجوز لغير الأب من أوليائها ذلك[6].
 
وذكر عن الإمام أحمد روايتان:
الأولى: أنه لا يجوز للزوجة الرجوع في الهبة.
 
الثانية: أن لها الرجوع في هبة مهرها لزوجها إن سألها إياه وطلبه منها، ثم أراد أن يلحق بها الضرر[7].
 
تملك الوالد في مال ولده:
روى الحنبلية أن للأب أن يتملك من مال ولده ما يشاء، بشرط ألا يضره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنت ومالك لأبيك))؛ مصنف ابن أبي شيبة 4 / 517 (22700)، سنن البيهقي الكبرى 7 / 481.
 
قال أحمد: ليس بين الرجل وبين ولده ربا، وقال: لا يمنع الابنُ الأبَ ما أراد من ماله؛ فهو له.
 
واشترط الحنبلية في أخذ الوالد من مال ولده شرطين:
الأول: ألا يجحف بالابن، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته.
 
الثاني: ألا يأخذ من أحد ولديه ويعطيه للآخر[8].
 
قال أبو جعفر: وذهب قومٌ إلى أن ما كسبه الابن من مال، فهو لأبيه، واحتجوا في ذلك بقوله: ((أنت ومالك لأبيك))، وذكر ابن مسعود رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أتاه أب وابن، والابن يطلب أباه بألف درهم أقرضه إياها، والأب يقول: إنه لا يقدر عليها، فأخذ عمر بيد الابن فوضعها في يد الأب، فقال: هذا وماله من هبة الله لك.
 
وعن علي بن أبي طالب نحو هذا، وأنه قضى بمال الولد للوالد.
 
وقال آخرون: ما كسب الابن من شيء، فهو له خاصة دون أبيه، وقالوا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد تمليك الأب كسب الابن، وإنما هو على أنه لا ينبغي للابن أن يخالف الأب في شيء من ذلك، وأن يجعل أمره فيه نافذًا كأمره فيما يملك، ألا تراه يقول: ((أنت ومالك لأبيك))، فلم يكن الابن مملوكًا لأبيه بإضافة النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فكذلك لا يكون مالكًا لماله بإضافة النبي صلى الله عليه وسلم إليه[9].
 
قال ابن حزم: ليس للأب من مال ابنه إلا ما احتاج إليه من طعام أو شراب أو لباس.
 
وعن الزهري قال: لا يأخذ الرجل من مال ولده شيئًا، إلا أن يحتاج فيستنفق بالمعروف، يعولُه ابنُه كما كان الأب يعوله، فأما إذا كان الأب موسرًا، فليس له أن يأخذ من مال ابنه[10].
 
وقال الحنبلية: إذا أخذ الوالد من ولده مالًا دون الحاجة إليه، فإنه يكون دَينًا يثبت في ذمته[11].
 
دلالة الكلالة:
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ﴾ [النساء: 12].
 
ترد كلمة الكلالة وتعني:
1 - الإعياء من الكلال، وكأن الميراث يصير إلى الوارث بعد إعياء.
 
2 - الإحاطة، مأخوذة من الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر؛ لإحاطتها بالقمر، ومنه الإكليل، وهو التاج، والعصابة المحيطة بالرأس.
 
وقد ذكر العلماء في الكلالة أربعة أقوال:
أحدها: أنها ما دون الوالد والولد؛ قاله أبو بكر الصديق، وقال عمر بن الخطاب: أتى عليَّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس.
 
وذكر ابن قتيبة: أن الكلالة مصدر، يقال: تكلله النسب إذا أحاط به، والابن والأب طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة، وكأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب مأخوذ منه.
 
الثاني: أن الكلالة من لا ولد له؛ رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس.
 
والثالث: أن الكلالة ما عدا الوالد.
 
الرابع: أن الكلالة بنو العم الأباعد؛ ذكره ابن فارس عن ابن الأعرابي.
 
ما يقع عليه اسم الكلالة:
اختلف على ما يقع عليه اسم الكلالة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم للحي الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصِّدِّيق.
الثاني: أنه اسم للميت؛ قاله ابن عباس والسدي.
الثالث: أنه اسم للميت والحي؛ قاله ابن زيد.
 
وسبب الاختلاف في الكلالة راجع إلى أوجه القراءة، فمن قرأ (يورث) بكسر الراء وتشديدها وتخفيفها تكون الكلالة بمعنى المال أو الورثة، وكلالة مفعول له، وكان بمعنى وقع.
 
ومن قرأ (يورث) بفتح الراء يكون معنى الكلالة: المال، والتقدير: يورث وراثة كلالة، ويكون إعرابها نعتًا لمصدر محذوف، وإذا كانت الكلالة بمعنى الميت تكون منصوبة على الحال، وكان تامة بمعنى وقع، والتقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت[12].
 
وقد ذُكرت الكلالة في القرآن الكريم في موضعين، ففي أول النساء يكون المراد من الكلالة الإخوة للأم، وفي آخرها الإخوة الأشقاء أو لأب.
 
قال الواحدي: أنزل الله في الكلالة آيتين:
إحداهما في الشتاء، وهي في أول النساء.
 
والأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها[13].
 
روى الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكفيك من ذلك الآية التي أنزلت في الصيف آخر سورة النساء))؛ موطأ مالك 2 / 515، رقم 1079.




[1] الجامع لأحكام القرآن 5 / 27، الكشاف 1 / 245، نيل الأوطار 6 / 116، مفردات القرآن 1/ 1422.


[2] الكافي في فقه الإمام أحمد 2 / 469.


[3] الهداية شرح البداية 3 / 227.


[4] نيل الأوطار 6 / 116.


[5] المبسوط للسرخسي 12 / 47، أحكام القرآن للشافعي 1 / 139.


[6] شرح معاني الآثار 4 / 351، أحكام القرآن للجصاص 2 / 353.


[7] كشف القناع 4 / 316، المغني 5 / 398، أحكام القرآن للشافعي 1 / 139.


[8] المبدع 5/381، الكافي 2/ 471، شرح فتح القدير5/ 55، منار السبيل2/ 28، مغني المحتاج 3/ 240.


[9] شرح معاني الآثار 4 / 158.


[10] المحلى 8 / 105.


[11] الفروع 4 / 493.


[12] زاد المسير 2 / 31.
الجامع لأحكام القرآن 5 / 77.


[13] شرح الزرقاني 3 / 148.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢